كلمة أخيرة
ترددت لفترة في إصدار وجهة نظر، أو كلمة أخيرة، يمكن أن تحيط هذه المجموعة من الدراسات النظرية حول تراثنا الفولكلوري والأسطوري المعاش اليوم، والذي عن طريقه تتكيف معاملاتنا وحركتنا ومُثلنا اليومية على طول هذه المنطقة العربية التي يوحدها الأصل اللغوي الواحد المتجانس، وطبيعي وبالضرورة تعيد اللغة تشكيل وصياغة الذاكرة والوجدان، وبالتالي هذا التراث.
ولا يمكن بحال الإمساك بآفاتنا وسلبياتنا وما يفتُّ في عضد أمتنا، من المحيط إلى الخليج كما يقولون، ما لم نُعِدْ النظر العاقل إلى الخلف أو الوراء، فما أحوجنا إلى إعادة النظر الهادئ العاقل إلى الوراء … في غضب.
ولا يمكن بحال تحقيق ما نرجوه ونأمله من انفتاح، ما لم نعد نعرف مواطئ أقدامنا، أين نقف من عالمنا الذي نعيشه بضروراته وحتمياته العقلية العلمية التكنولوجية، أين نقف من إعادة تدخل وصياغة العقول العلمية الإليكترونية والتكنولوجية الأبعد من الاجتهادات الأدبية، لمثل هذا التراث الطوطمي المنحدر من الأنتيكات!
وما أبلغ الثقافة الشعبية المضادة، التي تسخر من كل ما هو فعلًا أنتيكي أو أنتيكة أو متحفي أو تحفة.
بمعنى أن كل ما هو قديم أو سالف أصبح اليوم مدعاة للسخرية، في عصر يحتم ممارسات وأفكارًا ومقولات وميكنزمات جديدة.
ومن الصعب جدًّا تصور حجم الكم من موروثات العالم القديم أو عالم ما قبل العلم، ومعايشتها لنا عبر أدق دقائق حياتنا اليومية، وأن القطاع الغالب من هذا الموروث العالق أو المعايش لنا يرجع إلى آلاف مؤلفة من السنين، كما لا يمكن تصور مدى السالب أو العادم الذي يسببه هذا الاستمرار، ومدى عرقلته لطاقاتنا العقلية والإبداعية والإنتاجية بل والثورية.
ولنا أن نتصور أن همَّ أوروبا والعالم الجديد عامة الأول ومعاناتها، تكمن في محاولة التخلص من براثن وموروثات هذا العالم القديم، الذي نحن بؤرته الرئيسية، هنا على أرض شرقنا العربي، أو الأوسط.
كما أن لنا أن نتصور، وما أشقاه من تصور، أنه بينما لم نبدأ نحن بعد في نقل وهضم وتفهم ما أنجزه العالم المتحضر في مجال حركة العلوم الإنسانية التي هدفها الأول بناء واستثمار الإنسان، بما يحقق توافقه وتكيفه مع حتميات العصر العلمي الذي نعيشه وما يصطرع فيه من أفكار اشتراكية، وهي الإنجازات التي حدثت على مدى القرون الثلاثة الأخيرة.
فبينما يدخل العالم الجديد مراحله المذهلة في التوصل إلى مقدمات ونتائج إلكترونية في مجال دراسة الإنسانيات، لم نبدأ نحن بعد.
ففي الوقت الذي خلع العالم من حولنا أرديته ممثلة في تراثه وموروثاته الجمعية، ووضعها في حجمها ومكانها وواقعها الصحيح، ربما منذ ما بعد عصر النهضة الأوروبية، والثورة الفرنسية، وثورات عام ١٨٤٨، وعصر التنوير أو العقل وهو القرن ١٨، بظهور واكتمال الطبقة الوسطى، والتحول من عالم إقطاع القرون الوسطى إلى عصر التنوير، أو من عصور ما قبل العلم والعقل، إلى العقل وإعادة النظر للإنسان وتناوله، على اعتبار أنه حيوان عاقل، لكن جانبه الحيواني أعمق جذورًا من جانبه العقلي.
فلقد جاء عصر التنوير أو القرن ١٨ بأكبر ثورة في اتجاه تسيد العقل، والنظر للإنسان على اعتبار أنه نتاج طبيعي تطوري بعد دارون، ومنذ ذلك القرن إلى اليوم اعتُبرت العلوم الاجتماعية، متضمنة الفولكلور والأساطير فرعًا من العلوم الطبيعي، بل إن البعض — ومنهم رادكليف براون — تعاملوا مع العلوم الاجتماعية، على أنها العلم الطبيعي النظري للمجتمع الإنساني، أو علم المجتمعات الإنسانية — أو علم دراسة الإنسان وأفعاله — أو علم دراسة الثقافة، بل وتوصلوا إلى اعتبار الظواهر الاجتماعية، أيًّا كانت سواء في السلوك اليومي للشارع ومطباته المقلقة لأصحاب السيارات، والأوتوبيس، والدعارة، أو سلسلة النسب والقرابة أو الرشوة أو العلاقات العامة، باختصار كل ما يمكن أن يشكل ظاهرة داخل المجتمع، مثل الأمية، والانفجار السكاني، وأزمة المساكن، وأزمة التعليم، والبطالة؛ كل هذه الظواهر تجيء كنتيجة مترابطة للبناء الاجتماعي المعين.
باختصار أكثر فإنه إذا ما كان لكل داء دواء، فإن دواءنا وشفاءنا هو في إعادة التدقيق في تراثنا وعاداتنا، في تركة الأسلاف الغيبية الطوطمية، وإعادة تعرفها — تَفْلِيَتِهَا — بنفس القدر والمعدل الذي حققه العالم المتقدم.
وطبعًا توصل العالم المتقدم، أو المستهدف للعقل، لمثل هذه النتائج بعد الجهود المضنية التي أرساها العلماء الاجتماعيون أمثال تيلور، ولانج، وفريزر، ومورجان، وجوردون تشايلد، ويوسف بيديه، خاصة في موسوعته الكبيرة عن النوادر والنكت والفوازير.
فيُلاحظ أنه حتى النوادر والقفشات اليومية، لها موسوعاتها ودراساتها المضنية منذ عصر التنوير. كما يُلاحظ أن الاهتمام بمثل هذه العلوم الاجتماعية وتاريخ الثقافة ازدهر في أوروبا الاستعمارية، كل هذا الازدهار، كنتيجة للدور الإيجابي والتطبيقي وجانب المنفعة الذي أسدته هذه العلوم في علاج الظاهرات الاجتماعية، وأحكام تملكها والسيطرة عليها، من ذلك كل ما يتصل بآفات الأمية، والمساواة بين الجنسين، وكذلك بالنسبة للجنس وتابواته أو محرماته، وقضايا العلاقة بين المرأة والرجل والتوصل إلى نتائج أكثر إيجابية، وأكثر ارتباطًا بالحضارة وإثراء لها، والتفوق في برامج التربية، والانضباطات السكانية البالغة الدقة، فمعظم الدول الأوروبية تحتفظ بأحجامها السكانية بالقدر الذي تتطلبه بالضبط، منذ مطلع القرن الأخير حتى اليوم.
كذلك استفاد العالم المتقدم من تملكه ومعرفته بهذه العلوم، في تفجير أقصى طاقاته الإنتاجية، وإرساء القدر الكبير من التسامح. كذلك التوصل إلى ميكانيزمات وممارسات جديدة متمشية مع الحتميات العلمية التكنولوجية — موازية لها في حركتها وثورتها العامة.
وبالطبع لا يمكن إنكار أن جانبًا كبيرًا من النشاطات والنتائج التي توصلت إليها هذه العلوم، قد سُخر لخدمة الأغراض والمصالح الطبقية والاستعمارية.
فمنذ مطلع هذا القرن، أكثرت الدول الاستعمارية من استخدام الخبراء الاجتماعيين، وتعيينهم مستشارين في إداراتها الحكومية، ومن هنا استفادت الطبقات الاستعمارية من معارف ومهارات أولئك الخبراء، في دراسة العلاقات الاجتماعية، والصناعية، والعرقية.
فمثلًا عن طريق دراسة أحد علماء الأنثروبولوجيا المعاصرين وهو د. شتاين، على الفروق العرقية في الأسنان وحجم وشكل الفك، استغلت الشركات التجارية الأميركية تصميم أطقم أسنان مناسبة، وحققت أرباحًا هائلة، كذلك بدأ الخبراء يدرسون استعداد الجماعات البشرية المختلفة، لتقبل أمراض معينة، وألوان معينة، وسلوك محدد، وموسيقى محددة، وأفلام سينما بعينها، وكتب، وسلع استهلاكية … وهكذا.
ولعب الخبراء الاجتماعيون دورًا هامًّا في الكشف عن استعداد الجماعات المتباينة لتقبل سلع ومنتجات متلائمة مع استعداداتهم حتى لتقبل أمراض بعينها.
أي إن في الاستفادة من هذه العلوم المترابطة تحقيقًا لمنافع ومصالح تدخل حتمًا في الاستثمار العام، كذلك لعبت هذه العلوم الدور الحاسم في التبصير بعنصري الطاقة والمبادرة وأهميتها في نقل مراكز الحضارة. وهو نفس ما حدث بالنسبة لكل من الولايات المتحدة واليابان، ففي أميركا — لا يغيب عن ذهن القارئ — أنها قامت على فكرة أو أيديولوجية أميركا أرض وموطن العالم الجديد، وهي الفكرة التي لم تتخلَّ عنها إلى اليوم وحاولت جاهدة خلع أردية كل ما يربطها بالعالم القديم، بموروثاته وميكنيزماته وعاداته ومُثُله المكتسبة منذ عصور ما قبل العلم، وهذا بذاته هو موجز الحلم الأميركي أو الأيديولوجية الأميركية القومية، ومثل هذا الفكر وهذا التطور هو بالتحديد ما جعل من أميركا أميركا، حيث لا جاذبية تشدها نحو الماضي التاريخي حتى بالقدر والمعدل الذي تكونه أوروبا عبر الأطلنطي.
ولنا أن نتصور حجم ومعدلات الاندفاع نحو المستقبل بالنسبة لهذا العالم المستقبلي الجديد، بالمقارنة مع العالم الثالث أو العالم القديم أو عالم السلف والأسلاف.
فاستنادًا على فهم شيخ المؤرخين أرنولد توينبي بالنسبة لعاملي الحضارة، من مستقبلية يأخذ بها العالم الجديد، في أميركا واليابان وصين ما بعد الثورة الثقافية، ومن سلفية، تغرق العالم القديم، فتطغي ماضيه على حاضره، وتحيل شعوبه إلى سباحين ضد تيار ومسار الزمن.
ورغم أن توينبي — خاصة في آخر كتبه أو مذكراته «خبرات» — قد عمم فهمه عن المستقبلية والسلفية، بشكل أبعد من الأيديولوجيا والنظم العقائدية، على اعتبار أن كلًّا من الدول الاشتراكية والإمبريالية تأخذ بالقطع بالمستقبلية وتغرقها أحلامها ومخاطرها واقتحاماتها حتى للفضاء الخارجي.
إلا أنني لا أشك أن غاية تجري متزايدة في جميع العصور وأن أفكار الرجال تتسع كلما دارت الشموس، وما من عبث تلك الأبعاد التي تفصلنا عن منارة الوصول، فَلْنَسِرْ قدمًا وليَدُرْ العالم العظيم في دروب التغير ذات الرنين، فإن خمسين سنة من أوروبا أفضل من ألف في الصين.
وطبعًا كتب تنيسون أبياته هذه، مبشرًا الانفتاح الإمبريالي، عن أن خمسين سنة في أوروبا تفضل ألفًا في الصين، قبل كلتي ثورتيها العظيمتين، السياسية الاجتماعية الاشتراكية، ثم ثورتها الثقافية، التي انتزعت جذورها السلفية، لتحيلها إلى الصين المستقبلية.
وهذا هو بالضبط مفهوم الثورة الثقافية: نفض تراث العالم السالف أو القديم، وهو طبعًا ما لم تفعله أوروبا — بالقدر الكافي — ومن هنا يمكن قلب مفهوم تنيسون رأسًا على عقب، فإن خمسين سنة في الصين اليوم، تعدل ألفًا في أوروبا وآلافًا مؤلفة في عالمنا العربي.
أليس هذا صحيحًا؟