مشاكل التراث العربي السامي
من المؤكد أن عديدًا من المشاكل تعترض الباحث في تتبع أصول أساطير وفولكلور هذه المنطقة التي نتنفس أحداثها، وهي منطقة الشرق الأدنى أو الأوسط، خلال الزمان والمكان، ومرجع هذه المشاكل عدة عوامل أو صعوبات؛ أولها: قلة الجهود التي بُذلت في هذا الحقل البكر، سواء منها ما يتصل بالبحث في المصادر الأولى أو المصادر الأم من وثائق ومدونات حفرية ونصية؛ أي ما أوضحته الكشوف الحفرية أو المسمارية للآثار العراقية وحضارتها المتعاقبة، من سومرية — لا سامية — إلى البابلية والأكادية والآشورية، وما أوضحته الحضارات القبائلية في الجزيرة العربية، بقسميها الشمالي العدناني البدوي — في السعودية اليوم — والجنوبية القحطانية الحميرية الزراعية — في اليمن والجنوب العربي، وما أوضحته الكشوف الحفرية للحضارة الكنعانية الفينيقية وطليعتها البحرية في لبنان وفلسطين، بالإضافة إلى ما ضاع وانقرض من مدونات نصية — غير حفرية — التي وردت في شكل نصوص مدونة في الكتابات المبكرة في كتب الكلدانيين والآراميين واليهود والسريان والأنباط والحرانيين، والتي منها انحدرت فِرَق ونِحَل الملل المنقرضة مثل الدهرية والصابئة والثنوية والديصانية والمجوسية والنشابة، والمئات غيرهم، هذا بالإضافة إلى المئات من كتب ومؤلفات العلماء والكتَّاب والرواة من العرب وغير العرب؛ مثل وهب بن منبه، والألوسي، وعبيد بن شريه الجرهمي، وكعب الأحبار، ومحمد بن إسحاق، والدميري، والأزرقي، والبلخي، والقزويني، والهمداني، والساجستاني، وابن وحشية الكلداني، والطبري، وابن قتيبة، وابن النديم، وابن كمونة … وهكذا.
وكتابات هؤلاء أصبحت اليوم مصادر شديدة الأهمية بالنسبة لدارسي حضارات وأساطير الشرق الأدنى القديم، تجيء أهميتها مباشرة بعد المدونات التاريخية الأركيولوجية.
وعلى سبيل المثال: فقد كان اكتشاف الجزء الثامن من كتاب «الإكليل» للعالم العربي الكبير محمد الحسن بن يعقوب بن يوسف بن داود المشهور بالهمداني، والذي يصف فيه قلاع اليمن القديمة وقصورها وجانبًا كبيرًا من حياتها الاجتماعية ومعتقداتها، وهو الكتاب الذي أجلى الكثير من الغموض والذي «يتضمن محافد اليمن ومساندها ودفائنها وقصورها، ومراثي حمير والقبوريات»، وكذلك اكتشاف الجزء العاشر من نفس الكتاب الذي يتحدث فيه الهمداني عن قبائل اليمن ومملكة سبأ وحمير التي دان لها العالم أجمع منذ بداية الألف الثالثة قبل ميلاد المسيح.
هذا رغم أن أربعة أجزاء كاملة فُقدت تمامًا من هذا المدون النادر؛ من بينها الجزء السابع الذي تناول فيه الهمداني الأساطير والخوارق — والحكايات المستحيلة — لليمن الغابرة، وكذلك جزؤه الثالث عن «فضائل قحطان».
بل إن خزائن كتب ومكتبات بكاملها قد ضاعت وانقرضت تمامًا، وكان يمكن لهذه الكتب والمدونات إلقاء بعض الضوء على ما انقطع من أحقاب تاريخية بكاملها أصبحت لدى الدارس الحديث مظلمة مسدودة قاحلة.
منها على سبيل المثال: أخبار وأساطير القبائل العربية، التي يرجعها البعض إلى ما قبل الألف الثالثة قبل الميلاد، والتي بِيدت دون أثر ولم تخلف ما يدل على تراثها وملحمها، مثل قبائل عاد وثمود وطسم وجديس وجُرْهم وغيرهم من القبائل التي مضت من الوجود وانتهت بكامل أسمائها وأنسابها، وتعارف عليها باسم العرب البائدة، أو الغابرة، أو العاربة.
وعلى هذا تعارف المؤرخون والنُّسَّاب على بقايا القبائل العربية في شبه الجزيرة العربية باسم العرب «الباقية» أو المتعربة، أي عرب الجاهلية الأولى والثانية.
وقسموهم إلى قسمين: شماليين أو عدنانيين أو إسماعيليين — في نجد والحجاز — وجنوبيين هم القحطانيون، نسبة إلى قحطان — أبو اليمن — وهو قحطان بن عابر أو النبي هود أبو الملوك اليمنيين ملوك دول سبأ وحمير ومعين، والدولة الأخيرة امتد سلطانها حتى شواطئ البحر الأبيض المتوسط والخليج العربي وبحر العرب، إلى جانب استيلائها على جميع مناطق شبه الجزيرة العربية.
كانت الدولة والملك في بني قحطان متصلة من يعرب بن قحطان، وكان من أعالم ملوك اليمن، ثم تسلسل الملك إلى سبأ بن يشجب بن يعرب، ثم في دولة كهلان وحمير، ثم أولادهما.
وقبل التعرض بتفصيل عن ممالك سبأ وحمير، وما خلفته حضارتهما في تراثنا الشفهي المعاش اليوم، نعود إلى استكمال ما بدأناه عن مشاكل الدراسة شبه الدقيقة لتراث هذه الشعوب السامية التي اتفق علماء اللغات — الأثنولوجي — على تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:
يُعرف أولها بالقسم الشرقي أو البابلي الآشوري في العراق.
والثاني يُعرف بالقسم الغربي أو الكنعاني أو الآرامي في الشام وفلسطين.
ويُعرف الثالث بالقسم الجنوبي أو الغربي في الحجاز واليمن.
وقد اتفق اللغويون أو المستشرقون، نظرًا لظروف جغرافية واجتماعية وتطور طبيعي، على إعادة تقسيم المجموعة السامية إلى ثلاثة أقسام لغوية هي:
القسم الغربي ولغاته ولهجاته الكنعانية والأخلامية والفينيقية والبونية والآرامية والعبرية والسريانية والتدمرية والنبطية والموآبية والأمورية.
- أولهما: العربية ولهجاتها هي: العربية القديمة — أو الآرامية — والقحطانية والحميرية والمعينية والسبئية.
- وثانيتهما: الحبشية أو الجعزية،٢ وهي لهجة الحضارات القديمة التي نشرها اليمنيون في الحبشة منذ منتصف السنوات الألف قبل الميلاد، حين غزت جبالَ الحبشة جموع من حضرموت، واستوطنت فيها، ونشرت اللغة الجعزية التي ما زالت سارية، يمكن تلمسها في بقايا الطقوس الدينية للكنيسة الأثيوبية، بعد أن حلَّت محلها اللهجات التيجرية والتيجرانية والأمهرية والهررية.
وتندرج كل هذه اللغات واللهجات — التي اندثر مجملها ولم يبقَ منها سوى العربية والعبرية — تحت منطقة أساطير وفولكلور ما يُعرف بالشعوب السامية أو العربية بحسب ما يراه سبرنجر «من أن جميع الساميين عرب».
وإذا ما تناولنا القسم الشرقي للأقوام السامية أو العربية في العراق وما بين نهري دجلة والفرات عامة، وهي الأقوام أو الحضارات الأكادية والبابلية والآشورية، التي توارثت حضارة السومريين وأساطيرهم وآلهتهم ومعتقداتهم، وترجع أولى بدايات ممالك هؤلاء الساميين إلى منتصف القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد من حوالي ٣٣٥٠ق.م.
وعن هذا القسم الشرقي السامي، أي البابلي، سرى تراث الأقوام السومرية الأكادية المندثرة — مثلها في ذلك مثل العرب البائدة — إلى بقية الأقوام السامية الأخرى، من أمورية وكنعانية وآرامية وعبرية وعربية في ربوع الشام وشبه جزيرة العرب بقسميها الجنوبي القحطاني في اليمن، والشمالي العدناني في الحجاز ونجد، إلى جانب بقية الأقوام السامية المتأخرة في الشام وما بين النهرين، مثل قبائل كهلان المتفرعة من صلب سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان أبو اليمن — أول من تكلم العربية — والذي منه جاء الحميريون التباعنة ملوك اليمن، وآخر ملوكهم كان الملك سيف بن ذي يزن الحميري، بطل السيرة والملحمة الشفاهية المعروفة.
ومن كهلان — شقيق حمير — جاءت أشهر بطونها قبائل الأزد — الذين تفرقوا عقب خراب سدود اليمن، وكان أهمها سد مأرب، وسد الخانق بصعدة الذي بُنِيَ في عهد الملك سيف بن ذي يزن، وسد ريعان «لابن ذي مازن»، وسد سنان وعنس وجيرة، وسدود يحصب، التي يقول عنها الهمداني: «وهي على ما كنت أسمع ثلاثون سدًّا، وقيل ثمانون، ومنها سدود سحر، وذي سمال، وذي رعين، ولحج، ومفاضة، وهران، والشبعاني، والمنهاد، وألطاف» … إلخ.
ومن قبائل كهلان جاءت قبائل الغساسنة ملوك الشام، وأيضًا قبائل الأوس والخزرج الذين هاجروا من اليمن ونزلوا المدينة، ومنهم جاءت قبائل خزاعة — ملوك الظهران — الذين نزلوا الظهران وأصبحوا ملوكها.
كما أن من قبائل كهلان جاءت همدان، ومن أصلاب الهمدانيين انحدرت قبائل كندة وطيء وخثعم وبجلة ولخم وجذام، ونصر بن ربيعة أبو الملوك الناذرة بالحيرة.
ويقال إن النخل أو التمر كان من أعظم العوامل التي اجتذبت هؤلاء الساميين الرعويين المعدمين من شبه الجزيرة العربية إلى أرض بابل، وبناء على ما رواه المؤرخ سترابون الذي ذكر أن الفارسيين قالوا في النخيل شعرًا «عُد فيه نحو ثلاثمائة وستين طريقة مختلفة لاستخدامها والانتفاع بها».
على أن بابل كمصر؛ كثيرة الترع والقنوات، ومنها ما كان كافيًا لتسيير السفن المتجهة جنوبًا من الفرات إلى دجلة حيث تقع «نينوى» الشهيرة بخصبها ووفرة حنطتها، ولشدة الخصب كان عرض ورقة النبات يبلغ أربعة قراريط.
ولقد اتصلت الجزيرة العربية منذ فترات مبكرة بما يجاورها من حضارات زراعية أو نهرية، مثل الحضارات البابلية والفارسية وحضارات جزر البحر الإيجي ثم الرومان، وأخذوا عنهم الكثير من تراثهم الحضاري والعقائدي، ولعب قيام مملكتي الحيرة والغساسنة على أطراف الدولتين الفارسية والرومانية أثره بالنسبة لهاتين الحضارتين المتمايزتين، أي حضارة النهر والزرع والاستقرار، وحضارة البدو والوبر والإغارة واللااستقرار.
ولقد تبدى هذا التمايز أو التناقض بين الحضر والبداوة في كلا التراثين المدون والشفاهي، وكذلك تبدى بشكل متواصل في الحياة الاجتماعية للشرق الأدنى عامة، مثل الصراع بين العرب العدنانيين أو المعديين سكان الحجاز، والقحطانيين سكان اليمن.
المهم أن هذه المرأة، التي بيدت قبيلتها عن آخرها، عادت فحملت انتقامها، وسارت بولديها لاجئة إلى «أختها من قبائل ثمود بن عابر بن إرم بن سام، وهم يومئذ أمنع العرب وأعزمهم»، وتسببت هذه المرأة في إشعال لهيب حرب جديدة انتقامية بين عاد وثمود، «فقتلتهم ثمود جميعًا حتى أفنوهم عن وجه الأرض.»
وطبعًا كان لهذه القبائل المندثرة التي نحن بصدد الحديث عنها بقايا أساطيرها العرقية الضنينة، التي يقول بأن الصحيفة التي أنزلها الله على آدم ثم نوح وابنه سام وابنه عابر أسلمها بدوره لابنه يعرب، قائلًا: «أنت يا بني صاحب الصحيفة، سيُقال لك وتقول فاضرب بما في يديك»، إلى أن تبلبلت الألسن في حادث بناء مدينة بابل وبرجها الكبير، «وانقسمت الألسن إلى ٧٢ لسانًا، وأجرى جبريل على لسان كل أمة لغتها»، فنطق الناس بالألسن العجمي والعربي، وأفصح يعرب بالعربية، وهود أبوه، «أما قبائل عاد وثمود وطسم وجديس وعملاق ورائش؛ فإنهم نطقوا مع ابن عمهم عابر بالعربية، فأدركتهم بركتها، وشرفوا وتغلبوا على جميع من كان معهم من الألسن، حتى زهوا على الناس، وظهروا فيهم الطغيان، وأشرفوا على الناس، وكانوا كذلك إلى حين والناس إذ ذاك ببابل.»
يقول الطبري مؤكدًا قِدَم هذه القبائل إنه وبعد أن خلق الله العالم «خلق مدينتين (عاد وثمود) بالسريانية، ومرقيسيا وبرجيسيا، ولكل مدينة منها عشرة آلاف باب بحراسهم، ولولا جلبتهم وضجيجهم، لسمع الناس من جميع أهل الدنيا هدة وقعة الشمس حين تطلع وحين تغرب، ومن ورائهم ثلاث أمم: منسك، وتافيل، وتاريس، ومن دونهم يأجوج ومأجوج».
يقول المسعودي: فآنس الله وحشتهم بجرهم والعماليق، وجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم.
ومعنى هذا أن بقايا هذه القبائل المندثرة، أي جرهم والعماليق، كانت موجودة بزمن سابق على وجود أشقائهم العدنانيين، وكذلك العبريون نسبة إلى الفرع الأنثوي أو الأموي.
وتواصل أسطورة أرض ميعاد يعرب بن قحطان ابن النبي هود، الذي أرسله الله إلى أرض بابل نبيًّا وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا وكيف أن هودًا رأى رؤيا «كأن آتيا أتاه فقال له: يا هود، إذا ضربت رائحة المسك إليك وإلى أحد من ناحية من نواحي الأرض، فلتتبع تلك الناحية من رائحة المسك، ذلك النسيم، حتى إذا كف عنه نزل، فذلك مستقره.»
يقول وهب بن منبه الحميري: «وإن يعرب بن قحطان بن هود وجد رائحة المسك، فقال له هود: أنت ميمون يا يعرب، أنت أيمن، ولدي مر، فإذا سكن عنك ما تجده، فانزل بأرض اليمن لا تمر، فإنها لك خير وطن.»
خلاصة القول أنه ما من شعب أو رهط أو قبيلة لم يحفظ لها تراثها وتاريخها أسطورة أرض ميعاد، تحدد لها أرضها ووطنها.
لكن مشكلة المشاكل هي في ضياع وافتقاد هذا التراث، على مر عصور الاضمحلال الطويلة الثقيلة القاسية.