البناء القبلي … والفولكلور
يتضح سلسال أو نسق القرابة خاصة في سِيَرنا وملاحمنا مثل ملحمة حسان اليماني أو الزير سالم، وعنترة، وسيف بن ذي يزن، وسيرة الهلالية.
فالقبيلة حين تتحرك للحرب والمنازلة، تتحرك حافظة بكل دقة لنسيجها القاربي، كفرع من الشعب، الذي هو بالتالي قبيلة سالفة مثل عدنان سكان شمال الجزيرة العربية، وقحطان سكان اليمن والجنوب، حين تحالفهما وهجرتهما بحثًا عن الزرع والضرع من الجزيرة، إلى الشام ومصر والشمال الأفريقي في القرن الخامس الهجري، وهو ما أرخت له سيرة الهلالية.
فالقبيلة فرع من الشعب المتحالف — عدنان وقحطان — مثل قبائل ربيعة ومضر وعدنان، ومن القبيلة تنحدر العمارة أو البدنة.
والبدنة كما يعرفها الأستاذان إيفانز برتشاد وفورتس؛ وحدة دائمة تظل موجودة على مر الأجيال نتيجة لانضمام أفراد جدد إليها، أو تركهم لها بالموت أو أي سبب آخر، فالبدنة جماعة ترد انتسابها إلى جد واحد في خط واحد، ومنها يستمد الشخص مركزه السياسي والقانوني.
فيُلاحظ أن نظام القرابة يهتم بدراسة العلاقات بين الجماعات القرابية كالبدنات وفروعها والعائلات الكبيرة؛ من حيث هي جماعات، بغض النظر عن القرابة الفعلية بين الأفراد.
وعلى سبيل المثال، فإن قريشًا وكنانة ما هما إلا بدنتين من مضر.
ومن العمارة أو البدنة تجيء البطن، مثل بني عبد مناف من قريش، ومن البطن يجيء الفخذ، ومن الفخذ تجيء القبيلة، مثل بني العباس من هاشم أو الهاشميين وهكذا.
وإذا ما عدنا إلى الاستشهاد ببعض النماذج القرابية للهلالية، نجد أن العصب القبائلي الأم الممثل في صراعي عدنان وقحطان داخل التحالف، ينعكس على المستمعين الذين قد يتحمس العدنانيون منهم لخوارق أبي زيد الهلالي، والقحطانيون منهم للجد الزناتي خليفة، وابنته سعدى وابنة العلام.
بل إن السيرة تحفظ لقاتل الزناتي خليفة وهو قحطاني سلف بدوره، لهجرة يمنية سالفة — تابو — أن قاتله لا بد وأن يكون قحطاني مثله.
لذا كان قاتله هو دياب بن غانم، وهو القحطاني الذي لقبه الشعب المصري، نظرًا لغدره وعصبيته ﺑ «الزغبي»، ومنه تواتر مثل «هو أنت زغبي»؛ كما يقول د. عبد الحميد يونس.
كذلك يتضح في السيرة تقديس الخال عند القبائل العربية القمرية — الهلالية، مثل تقديس الشبان الثلاثة مرعي ويحيى ويونس لخالهم أبي زيد، ومثل تعرف كلًّا من سعدى ومي على خالتهم — الجدة — شوه، التي قد تكون طوطمًا أو مزارًا سالفًا، مثلها مثل الجازية، التي أتصور أنها كانت بمثابة إلهة قمرية، أو طوطم لمجموع القبائل المهاجرة المتحالفة.
كذلك يتضح مدى تقديس الخال المتواتر إلى اليوم المشاع بكثرة في الحواديت والشعر الشعبي مثل:
وكذا مسبة من لا خال له.
وهو ما تغرق فيه اليوم القبائل العبرية، السامية، التي انتهت في اليهودية، وتعريفها التشريعي الرسمي داخل إسرائيل إلى اليوم في تعريف اليهودي، وهو كل من يولد من أم — وليس أبًا — يهودية.
وبحسب نظرية التوالد الذاتي للموضوعات التي كان تيلود أول من أشار إليها، وسماها بالمورثات أو الروحانيات أو الأنيمزم بمعنى إضفاء صفة الروحية على مظاهر الطبيعة المحيطة بالإنسان داخل مجتمعه، مثل تقديسه لأماكن بعينها، قد تكون أضرحة لطواطم، وقد تكون آبار ماء — راكدة — وقد تكون أشجارًا وأحجارًا ومغارات وكهوفًا وقمم جبال، وما ارتبط حولها من أساطير وطقوس وتحريمات وحكايات، أو لنقل أساطير قديمة واصلت توالدها اليوم تحت جلد الحكايات والأحجية، ويحضرني منها آلاف مؤلفة نذكر على سبيل المثال موالًا — من نوع الصد والرد — يطرح فيه قائله لغزًا أسطوريًّا، أو قد تخالط الأسطورة التاريخ فيه؛ فيقول:
والمقصود مكان مسته الشمس ونفذت فيه أشعتها مرة واحدة، وهو يشير بالطبع إلى حدث خروج القبائل الإسرائيلية من مصر، حين ضرب موسى بعصاه فانشق البحر، وكان أن مست الشمس قاعه أو أرضه لمرة واحدة فقط.
كما أن منها مفاهيم وأمثلة وأحجية مثل: «الضربة الواحدة للرجل»، «ضربة الرجال ماتتنَّاش»، و«الثالثة ثابتة»، وعلاقتها بأساطير خلق العالم، حين بعث الله برسله الثلاثة لإحضار طين العمق — اللازب أو الصلصال — لخلق الإنسان «يوم خلق الله الإنسان على شبه عمله» وكذا ما يدور حول مفاهيم أشهر الحمل التسع، وخلق حواء من ضلع الرجل، والسبب في حيض النساء — بالوجع تلدين أطفالًا — وكذلك سيادة الرجل الذكر على الأنثى، والسبب في أن الكذب يسود الوجه، وكذا أفكار وتعويذات مثل: الخمسة وخميسة، العين الحاسدة، النفس الخالق، والعائن أو العيون أو النفس الخالق.
ومع استمرارية أبنية أو أنساق المجتمع، تظل هذه الظواهر والموروثات تواصل توالدها الذاتي، بنفس ما يحدث في الأساطير والملاحم والحكايات والأمثال، بل والنكت والأسماء والأحاجي، أو الخدور والأدعية، وجميع هذه الأبنية التي كانت المدرسة الأنثروبولوجية بريادة تيلور وتلميذه أندرولانج، أول من أشار إليها، بالنسبة لدراسة الفولكلور.
ومن هنا يمكن القول بإسهام جيل الفولكلوريين الأنثروبولوجيين في المساهمة إلى المنهج البنائي، الذي غرضه النهائي إلغاء الحواجز التقليدية بين مختلف النظم والعلوم، وتكوين منهج يعتمد على كل العلوم والدراسات، بل إن للباحث البنائي الحق في التعرف على مستويات الحقيقة أو الظاهرة التي لها قيمة استراتيجية من وجهة نظره ويعزلها.
فمهمة الباحث الفولكلوري لا تقف عند مجرد جمع النصوص والكشف عن مصادرها وأصولها، بل إن مهامه تسجيل ما يحيط بها من ظواهر وأبنية مختلفة من اقتصادية، وقرابية، ومهنية، وبالإضافة إلى ما تعكسه هذه الأبنية في مجموعها من شعائر وسلوك، قد تبدو لغير البنائين غير ذات أهمية، من ذلك مثلًا تربية الأطفال وتنشئتهم وكيفية التعامل مع المرأة والمراهقين والشيوخ، والعلاقات الأساسية والمتغيرة بين شخص وآخر، فمثل هذه النظرة المتكاملة أو البنائية، تصبح أكثر فائدة، وأكثر اقترابًا من معرفة الظاهرة أو الحقيقة.
فما من شك مثلًا في أن لخرافات الجان والنداهات ملامحها المحلية ما بين قرية وما يجاورها على طول بلداننا في مصر، ووهاد وجبال وصحاري بقية البلدان العربية، ونفس الشيء بالنسبة للتعامل مع المرأة والطفل، والأب الذكر، أو مثلث العائلة الخالد، كما سماه فيرث.
وعلى هذا فإذا ما اتفقنا على أن الملمح الرئيسي لفولكلور وأساطير منطقتنا العربية أو السامية، هو أنه فولكلور قبائلي، ووحدتها القبيلة، ويعبر عن ذلك بأنها مجموعة من الناس لها بناء اقتصادي محدد، ينتج عنه بناء ثقافي متكافئ أو لِنَقُلْ متوازٍ.
وإذا ما عرفنا أن من أهم الأساسيات التي تقوم عليها المجتمعات البشرية مبدأ القرابة أو سلسلة روابط الدم أو الزواج، أي نسق الروابط الاجتماعية القائمة على الاعتراف بالعلاقات الجنيالوجية، أي العلاقات الناتجة عن الارتباط الجنسي الشرعي، وإنجاب الأطفال، كما يحددها ريموند فيرث الذي يرى بأن النسق القرابي يتحكم — حتى — في الأوضاع الاقتصادية والسياسية.
وإذا ما عرفنا أن القرابة شيء أساسي لكافة المجتمعات البشرية، فما بالنا بالنسبة للقبيلة، التي وكما قلنا هي الملمح الأساسي لفلكلور وأساطير منطقتنا بعامة، المحاط إلى اليوم بسياج قوي من الأنيمزم، كما سماه تيلور.
وبكل تأكيد ممكن، فإن في دراسة بنية أو نسق القرابة والانتساب على مستوى المنطقة العربية أو السامية في مجملها، وعلى أدنى الافتراضات داخل كل مجتمع عربي أو سامي، أو البدء من منطق الجزئي بهدف المعرفة والاستيضاح للكلي، وبمعنى أبسط، يمكن القول بأن في الإمكان التوقف طويلًا أمام تقليد أو ظاهرة النعي العلني الذي نشهده في صحف موتانا صبيحة موت المرحوم، وكيف أن الميت ينتمي إلى عائلة، ويتناسب مع عائلة كذا من حيث الأم، وكذا من حيث الأب، وكذا من حيث — ميكانزم — التزاوج العائلي من داخلي وخارجي.
في دراسة مثل هذه الظاهرة أو النسق، انفتاح على بنية كاملة، ووصلت العلوم الأنثروبولوجية والأثنولوجية في دراستها لهذا النسق أو البناء القرابي، سواء على المستوى البدائي أو القبائلي في مجتمعات العالم خارج الغرب، خاصة أستراليا وأميركا اللاتينية أو داخل المجتمعات الغربية المعاصرة، وصلت إلى حد من الدقة الرياضية، فمثل هذا النسق — القرابي — مثل بقية الأبنية الاجتماعية في تساندها الوظيفي من الاقتصادية والسياسية، بل إن في دراسة أي نسق أو بنية اجتماعية على حدة، خاصة أضلاع هذا المثلث الثلاثة التي تتحكم في المجتمع — أي مجتمع — من قرابية واقتصادية وسياسية، لن تحقق غايتها إلا في تساندها مع بقية الأنساق.
فدراسة أي نسق لا يصح أن تجري بمعزل عن بقية الأنساق والأبنية التي تؤلف البناء الاجتماعي كنسق متكامل هدفه تحقيق التساند الوظيفي والطبقي، وهو ما عرفه دوركايم بالتركيبات المورفولوجية، وعرفه ماركس بالتركيبات السفلى والتركيبات العليا.
ومن السهل تصور أن التركيبات العائلية بل لنقل القبائلية، تتبدى بوضوح في — نص — نعي الميت من تشابك أو اتصالات عائلية أو قبيلية أو بدنته أو فخذته أو بقية الأعضاء العائلية القبائلية يقود إلى شجرة العائلة — أو نخلتها — عند العرب الساميين.
هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن في دراسة البناء القرابي في علاقاته المتبادلة مع بقية الأنساق، تبصير البنية الطبقية الاقتصادية والسياسية، كما قلنا.
ومن هنا فليس مدخلنا إلى دراسة النسق القرابي، على مستوى العالم العربي أو المنطقة السامية، بهدف التوصل إلى نتائج عنصرية أو إزكاء النعرات القبائلية الطوطمية في معظم حالاتها.
وهو ما تتوسع فيه الدراسات العبرية اليهودية، ربما بإيقاع قرن إثر قرن منذ كوزمولوجي سفر التكوين — إصحاح ٤ — بدءًا بآدم أبي البشر «يوم خلق الله الإنسان على شبه الله عمله» فأبناؤه من بنين وبنات حتى نعمة أو نعيمة في البلاد الشفاهية الشعرية — ثم سلسال نوح وأبنائه وأخصه سام أو شام المطلق على بلاد الشام والساميين بعامة وما توالى من نسله، لحين بنيان مدينة بابل، حين قال بعضهم لبعض: «هلم نصنع لبنًا ونشويه شيًّا، فكان لهم اللبن محل الحجر، وكان لهم الحجر مكان الطين» لحين تبلبل الألسنة خلال بناء برج بابل.
فيلاحظ هنا أنه بالنسبة للكوزمولوجي السامي، أو نسق القرابة، تبدأ شجرة العائلة، منذ آدم، حتى تارح — الذي يجمع الكثيرون على أنه طوطم سلف — ونوح، منسقًا ومقربًا بين حضارات النسل السامي، وخارجه مثل عيلام — أبو العيلاميين — وكاشور، وآرام، وابني عامر فاتح وأخيه يقطان، الذي هو بذاته قحطان أبو العرب اليمنيين القحطانيين، ملوك دول سبأ ومعين وابنه حضرموت.
وقحطان طبعًا ما يزال يتردد إلى اليوم، وإليه تُنسب عديد من القبائل العربية سواء في اليمن والجنوب العربي، أو في بقية أقطار عالمنا العربي المعاصر.
بل لقد ظل نسق القرابة متواصلًا داخل التراث العربي متواترًا، وتصر على تدعيمه وإحيائه كثير من القبائل العربية الحاكمة، خاصة في الكويت والسعودية واليمن والجنوب العربي.
ومرة ثانية، من مدخل تنشيط دراسات نسق القرابة وعلى مستوى بلداننا العربية بهدف استيضاح البنيان الطبقي والقبلي، لا بهدف التأصيل العنصري المفضي بالضرورة إلى الفاشية، ستوقفنا مثل هذه الدراسات على واقع بنياننا السكاني.
فليكن الهدف هنا هو الدخول إلى أحد ميادين العصر الكبيرة، وهو ميدان الاتصال.
فكما يقول شترواس: «يجب أن تخضع دراسة القرابة والزواج لبعض المناهج التي تنبع مباشرة من نظرية الاتصال.»
ولعل الملمح الأساسي لتقدم الأنثروبولوجيا الاجتماعية منذ القرن الماضي، كانت زيادة الانتباه إلى البناء أو النسق القرابي، ويرجع هذا التقدم إلى عبقرية لويس مورجان في كتابه الرائد في هذا الميدان عن «أنساق روابط الدم والمصاهرة في العائلة الإنسانية» عام ١٨٧١، وساهمت هذه الدراسة في وضع أسس الدراسات الأنثروبولوجية والقرابية، إلى أن اكتملت هذه الدراسات في علوم الاتصال، ثم ما تلا ذلك من جهود العلماء الاجتماعيين في هذا المجال البكر، مثل لوفي عام ١٩٤٨، ومردوك عام ١٩٤٩، وسبوشر عام ١٩٥٠، ودراسة العالمين الكبيرين راد كليف بروان وفورد، وجميعها بالطبع تعتمد اعتمادًا كبيرًا على الدراسات الميدانية، أي التوسع في جمع المعلومات والبيانات، وهو ما نطالب به بالنسبة لقيام مثل هذه البحوث في مصر والعالم العربي، على أن تجيء مثل هذه الدراسات مستهدية ومرتكزة على الجهود الضخمة التي بُذلت منذ مطلع هذا القرن، والتي يرى ليفي شتراوس أنها لم تثمر كما يجب رغم غزارة مواردها وبياناتها الأنثوجرافية المتصلة باختيار الزواج، وأنماطه من داخلي وخارجي ومن أبوي وأموي، بالإضافة إلى كيفية تنظيم العائلات والعشائر والقبائل وبقية النظم والمعتقدات الطقسية والدينية واللغوية، بل ويمكن القول بأنه حتى لعب الأولاد، أو نظرية الألعاب التي كان كروبير أول من لفت الأنظار إلى أهميتها عام ١٩٤٢ فساعد في إيضاح النسق القرابي.
ومن المفيد الإشادة بالدور الذي أصبحت تلعبه بعض الدراسات الميدانية في التبصير بأهمية جمع ودراسة لعب الأطفال في بعض بلدان العالم العربي، مثل العراق والكويت.
وقد يكون للدور الكبير الذي لعبه رادكليف براون بشكل خاص للدراسات البنائية في عمومها، وبالنسبة للنسق القرابي خاصة، أهمية جديرة بالتوقف عندها، ففي دراسته الميدانية ومنهجه في التصنيف بالنسبة لنظم القرابة في أستراليا، أو في اكتشافه للقوانين المتحكمة في نظام القرابة عند قبائل كاييرا، والتي كما يقول شتروس: «ستبقى إلى الأبد واحدًا من أعظم النتائج في الدراسات الاجتماعية البنائية ١٩٣٠-١٩٣١»، كما تُعتبر مقدمته الرائعة لكتاب «أنساق القرابة والزواج في أفريقيا» خطوة متقدمة نحو إخضاع نظم القرابة في العالم الغربي، لنظرية عامة في التأويل على مستوى عالمي، كذلك دراساته المتفرقة عن مصطلحات القرابة وسلوك الأقرباء: السلوك المصاحب لأطوار العمر الثلاثة من ولادة وموت وزواج، كيف تتصرف الأم والأعمام والخالات خلال زواج ابنة أو طلاقها، أو موتها أو حَمْلِها … إلخ.
السلوك المصاحب لعادات الاقتتال والثأر، أو المصاحب لتصرفات الأسرى أو العشيرة في حالات مولد الإناث والذكور.
ففي أهمية دراسة السلوك داخل النسق القرابي — كما يقول لوي — ما يشير ويكشف عن جوهر النسيج الاجتماعي، مثل ملاحظة ظواهر التزاوج الخارجي الأكسوجامي، وارتباطه من جانب آخر بظواهر وسمات محددة، مثل تأثير مكان الإقامة أو الحقل الميداني موضوع الدراسة سواء أكان قرية أو مدينة، أو كانت بيئته يدوية أو زراعية على البنوة، وعلى عادات المباح والمحظور من التزاوج والعلاقات الجنسية.
ولقد اعتبر شتراوس أن من أغراض نظم القرابة وقواعد الزواج التي يسودها تناسق وظيفتها في اتجاه حفظ بناء الجماعة عن طريق الربط بين علاقات الدم وعلاقات المصاهرة، بل ومن أهدافها إخراج النساء من العائلات التي ينتمين إليها بروابط الدم، وإعادة توزيعهن على جماعات أخرى.
ففي رأيه أن النساء في أحسن حالاتهن، أحد مستويات الاتصال، وعلى ذلك فمن الزواج إلى اللغة يمر المرء من سرعة اتصالية منخفضة إلى سرعة اتصالية مرتفعة.
كذلك استطاع براون أن يصل في دراساته إلى وضع مصطلحات أو قوانين لها عموميتها، ولها ميكانيزماتها المحددة، سواء بالنسبة للزواج والاحتفالات وسلوك أبناء العمومية في المجتمع الذكوري وأبناء الخالات في مجتمع أموي، وكذا أوضاع الحموات وأقارب الزوجة والعكس.
ويتفق براون مع مالينوفسكي في أن الروابط البيولوجية وروابط الدم هي في ذات الوقت الأصل والأنموذج لكل نمط من أنماط القرابة، وإن كان لم يرفع نظرية القرابة إلى مستوى نظرية الاتصال، كما فعل شتراوس.
إلا أنه يتفق مع ماكلينان ومالينوفسكي في أن «تنظيم العائلة الذي يسود فيه حق الذكر في كل مكان، قد تم بفعل قوة أساسية هي حق الملكية».
وبالنسبة إلى البناءات الطبقية، وصكوك الملكية، ونظم التوريث وعلاقتهم بالبناء القرابي والمصاهرة، فإن الأمر يصبح أكثر وضوحًا، فكما يقول وارنر فإنه من المستحيل في بعض الحالات أن ينتمي أي فرد تلقائيًا لطبقة معينة، ووصل الأمر بلويد وارنر إلى حد أنه افترض أن الأهالي يدركون ويفطنون إلى العلاقات البعيدة جدًّا بالنسبة لنظام القرابة، داخل أنموذج أو طرز «مورنجن»، الذي انتهى به إلى علاقات رياضية أو قوانين، أثارت الكثير من الجدل، كنظام محقق لحاجات ومطالب الزواج والنظام الطبقي، على اعتبار أن أولهما في خدمة الثاني.
•••
وكما هو واضح يتبدى مدى تأثير المجتمع الأموي داخل تراثنا العربي والسامي بعامة، والعبري — من حيث الدلالة اللغوية الأنثولوجية — نظرًا لأن التعريف السائد لليهودي إلى اليوم داخل إسرائيل المعاصرة، هو من جاء من رحم أم يهودية.
وتنقصني معلومات عن نظام التوريث والميراث الإسرائيلي، ذلك أن خط التوريث شديد الارتباط بسيادة مجتمع نوعي ما، سواء كان أبويًّا أو أمويًّا، كذلك يرتبط التقويم بهذه السيادة، ومن المعروف أن الارتباط — بالتقويم — القمري عند كلا العرب واليهود الساميين ما يزال إلى اليوم تقويمًا قمريًّا مثل السنة أو التقويم الهجري القمري، المرتبط بالقمر ورؤية الهلال عند كلا المجتمعين — البدويين — الساميين.
وفي حالة التوريث يمكن الرجوع إلى فكرة الفصل بين الأبوة البيولوجية والأبوة الاجتماعية، كما حققها إلى حد الحسم مالينوفسكي خلال دراسته الميدانية على بعض قبائل أستراليا وسكان جزر الثروبرياند في غينيا الجديدة — قبل أن تحقق انقلابها الثقافي الحضاري الأخير — حيث إن الرجل لا علاقة له بإنجاب الأطفال، ولا يُعتبر أبًا، بل مجرد زوج للأم، كل دوره هو أن «يحمل الطفل بين ذراعيه» ويرعاه ويحميه، ومن هنا لا يرث الابن أباه، بل إن وريث الأب هنا يشترط أن يكون ابن أخته، فالتوريث يتم عن طريق سلالة الأم، وبذلك يرث الرجل خاله وليس أباه، كما أنه يورث أولاد أخته وليس أولاده.
ويمكن القول بالنسبة لعالمنا العربي أن كلا التوريث والانتساب للجدود يسير في خطين، صحيح أن السلطة للرجال في هذا المجتمع الذكوري، إلا أن الجنة تحت أقدام الأمهات، إلا أنه من حيث الميراث والتوريث يسير في خطين.
وكان لريموند فيرث سبق التوصل والتبصير بهذه الطريقة الثالثة التي لا هي بالأبوية الذكورية، ولا هي بالأمومية الأنثوية، وإنما هي تجمع بين النظامين، وعرفها فيرث بالقرابة المزدوجة؛ أي التي يمكن تتبعها إلى أناس آخرين عن طريق كل من الأب والأم، كما يمكن تتبع ملامحها عبر مختلف الطرق والأبنية أو المداخل، من لغوية، واقتصادية، أو قرابية تتصل بالميراث والتوريث، بالإضافة إلى رواسب نظام التابو والطوطمية.
ومن المفيد هنا الإشارة إلى أنه من الصعب علينا كمجتمعات عربية أبوية، تصورنا لإمكان استمرار مجتمعات أخرى كثيرة مخالفة يتم نقل السلطة والامتيازات فيها عن طريق الأم، أو السلسال الأموي، وهو ما يحدث فعلًا عند كثير من الشعوب خصوصًا البدائية في ميلانيزيا وشمال أميركا وقبائل وسط أفريقيا وشمال روديسيا وكثير من الولايات الهندية وجزر الهند الشرقية عامة.
وتذكر مسز أودري ريتشاردز التي سجلت دراساتها الميدانية الأنثروبولوجية داخل قبائل البامبيا في شمال روديسيا، أن الحكومة العنصرية شجعت عن طريق الإرساليات منع انتساب الشبان إلى أمهاتهم، وتشبهًا بالأقلية الإنكليزية، عليهم أن ينتسبوا لآبائهم.
كما أن رحيل الرجال للعمل في مناجم النحاس قضى على عادة أو نسق مبدأ إقامة الرجل في موطن زوجته، وحتمية أن يجيء من قريته الأصلية وهي المكان الذي وُلدت فيه أمه وأخواله.
كذلك كان لفيرث سبق الريادة في دراسة نظام أو نسف الزواج بأكثر من زوجة واحدة، وهو المثال الشائع في العالم الإسلامي والصين وأجزاء كثيرة من أفريقيا خاصة الأوقيانوسية، وسجل ملاحظاته على النحو التالي، بأن مثل هذا الزواج عادة ما يمارسه الأثرياء، وهم عادةً رجالٌ تخطوا الخامسة والأربعين.
كما أن من أسبابه الإشباع الجنسي، لا على اعتبار أنه مجرد شهوة، ولكنه إشباع لما يمكن اعتباره رغبة طبيعية، بالإضافة إلى ما يتصل بالمحارم الجنسية، وتابو تحريم ونجاسة المرأة بعد الولادة الذي قد يمتد لعدة شهور، ويستلزم منع الاتصالات الجنسية بها.
بالإضافة إلى علاقة تعدد الزوجات بارتفاع عدد الإناث عن الرجال لأسباب اقتصادية، وهجرة الزراعة، وزيادة القوة المنتجة، وارتفاع صيت الرجل، فالعائلة المتعددة الزوجات هي عبارة عن عدد من الأسر الصغيرة المتميزة، والتي يكون فيها الزوج ملتقى عدة مثلثات لها أب واحد مشترك، في موقع الجد السالف.
وبالنسبة للسلفية، تلك التي عرفها شيخ المؤرخين وأحد فلاسفة التاريخ، أرنولد توينبي، بأنها سباحة ضد تيار الزمن والتاريخ، فيبدو أن جدلية الحياة، أو لنقل حركة التاريخ اليومية، تدعو إلى تزيين السلفية ومن وجوه عدة، لعل أبسطها جاذبية الرخاء القديم الغابر «حين كانت البيضة بمليم، ورطل اللحمة بكذا»، وتتمثل عند العرب عامة في الإفراط بكاءً على الأطلال والزمن المنقضي.
ومن جانب آخر تتمثل السلفية في سحر اللغة ورونقها، ولنقل سحر عصور وأحقاب بعينها لأزهى عصور الخلافة العباسية، والتوقد العقلي للهلينية، والشوامخ من فحول الشعراء العرب، ومشكلي عصر النهضة العظام.
كما أن أقصى جاذبيتها تتبدى في الأساطير والتحليق في رومانتيكية العقل الغيبي، المضاد والمعادي في ذات الوقت للعقل كهدف أخير للتاريخ.
ويا له من عالم — من حيث جمالياته البحتة — عالم الأساطير المكبل بسلطان العادة والتوارث.
منذ أساطير خلق العالم والإنسان الأول أو القديم أو الأديم، المصاغ من طين العمق ولازبه.
فالسلفية هنا جزء من التصور القبلي، ذلك الذي لا يقف عند الأحياء، بل هو يمتد خلفًا في أغوار الماضي التاريخي الأسطوري خاصة تراثنا العربي السامي، شاملًا الموتى قبل الأحياء، فالأرض هي أرض الأسلاف والجدود، وهو ما لا يزال يشاع بكثرة في أغانينا المعاصرة خاصة في ربع القرن الأخير، كما أن مثل هذا التصور لا يبعد كثيرًا عن التصور الطوطمي الأفريقي؛ حيث إن طوطم العشيرة البدائية كان رمزًا وشعارًا للعشيرة الخالدة مشتملًا على الطوطم السلف والخلف في وحدة شاملة تعبر عنها أساطير وأغاني وأمثولات القبائل البدائية.
ومن هنا فكلا الأحياء والأموات يوجدان الجماعة أو الأمة، مع ملاحظة الانتساب اللغوي إلى الأنثى الأم، بل إن أدنى الوحدات الاجتماعية للأمة أو القبيلة، يطلق عليه البطن والفخذ، والرحم.
ويمكن القول بأنه حالة الانجذاب هذه نحو السلفية، سماها الكثيرون بحق بحالة الهستيريا، ومحاولة استحضار الماضي وطبعه على الحاضر، وهو ما يتمثل في التصورات الشمولية إلى النازية والفاشية والصهيونية.