التابو والفولكلور
طبيعي أن لا تقتصر دراسة «التابو» على الباحث الاجتماعي؛ نظرًا لأنها تصادف جامع ودارس الفولكلور، سواء على المستوى الأدبي أو الشفهي، وعلى مستوى الممارسات والتقاليد عامة.
ومعنى التابو، ذلك الذي ينتمي في المجتمعات البدائية للقوانين الطقوسية الخالعة، الملحوظة بالملوك والرؤساء والكهنة المقدسين، والذين اتفقوا فيما بينهم على بعض الحالات، مثل ما يحكم قتل الإنسان وأحزانه وهواجس الأم عند طفلها، والصياد في مواجهة البحر والفريسة وهكذا، لكن الرجل البدائي لا يفرق بين حالة وما يخالفها، والمستقبل العادي بالنسبة له يمتد على مجمل حياته، وهو في مجمله مليء بالأخطار والمخاوف، فالخطر الذي يواجه به الآخرين قد تغلفه وتتملكه الروحانيات والأشباح، ومن هنا تتدخل التخيلات، فالخطر على أية حال لا يقل عن الواقع إذ إنه واقع يغذيه التخيل، والخيال — على أية حال — بالنسبة للإنسان له نفس الدور الجذاب الذي يلعبه الواقع.
وتغرق بحار التابوات وقنواتها مجمل حياتنا اليومية بشقيها الصاحي والنائم، فلكل حركة وكلمة وفعل تابواته ومحرماته.
للبدء تابواته وللنهاية، وهو ما تزايد خطره واستفحل إلى أن وصل في السنوات الأخيرة إلى حد طبع به مجمل حياتنا وعلاقاتنا على المستوى المدني والرسمي، فأصبحت تعويذاته تتصور الخطب والتقارير اليومية والوشايات، والشكاوى، وطلب الحاجات.
ومن هنا تفجرت شرايينه ونفذت دون سدود أو حدود إلى أجهزة الدولة وأنشطتها المختلفة، حتى أنشطة الإعلام الداخلي والخارجي.
فالبداية — أية بداية منذ الكلام والفعل والكتابة حتى الولادة — محرماتها وتابواتها.
وللنهاية — أية نهاية سواء أكانت وصولًا أو تذييل خطاب أو نص أو أكل أو وفاة — طقوسها ومحرماتها، وممنوعاتها.
ومن هنا أصبحت تنقسم حياتنا هذه المعاصرة إلى مباح ومحظور، أو حلال وحرام، وإذا ما عرفنا أن المباح والممنوع أو المحلل والحرام، قد مر بمرحلة طويلة من الدراسة والاجتهادات العلمية للتعرف على الكيفية التي قسم بها العالم القديم الحياة في لاشعوري تشكل بمقتضاه الذهن البدائي والغيبي وما يزال يواصل سريانه داخل مختلف المجتمعات، من متحضرة ونامية، خاصة مجتمعنا العربي، سالفه ومعاصره.
ويؤكد التقارب اللغوي الاشتقاقي بين تابو وتفو تعريف د. مارجريت ميد للتابو في دائرة معارف العلوم الاجتماعية: من أنه تعبير يشير إلى الموقف السالف.
ومنذ ذلك التاريخ دخلت هذه الكلمة إلى اللغات الأوروبية، فاستخدمها كُتَّاب عصر التنوير أو القرن ١٨ ومنهم جان جاك روسو.
إلى أن شغلت كلمة تابو فيما بعدُ عديدًا من المشتغلين بالعلوم الاجتماعية أو الإنسانيات زمنًا طويلًا، وهل المقصود بالتابو هو إتيان أفعال مباحة أو مقدسة، والإقلاع والامتناع عن أفعال أخرى محرمة أو ممنوعة، مثل لمس أشياء أو الذهاب إلى أماكن بعينها، أو حتى مجرد النظر أو الشم أو السمع إلى أشياء أو وجهات أو منازعات أو حروب بعينها.
واللافت أن مكتشفي القرن ١٧ للعالم خارج الغرب، مثل كوك وغيره، قد تحرجوا في المطابقة بين التابو وبين المقدس، وذلك لملاحظتهم أن النظام الذي يحدده التابو يتصل بمعاملات وممارسات الرجل ابتداء من الجنس، حتى عادات الولادة وتربية الأطفال، والحروب، وعادات الطعام، كان لا يسمح لشخصين بالأكل معًا على مائدة واحدة، وكذلك لا يسمح للمرأة مشاركة الرجل طعامه، بنفس ما كان يحدث داخل مجتمعاتنا اليوم إلى أيامنا هذه.
والملفت هنا أن تحريم أكل المرأة مع الرجل عندنا، على اعتبار أن المرأة — هنا في بلدنا — ككل كامل ما هي إلا حريم أو حرام أو حرمة أو محرمة — وهو ما يُطلق على طريقة أخذ الوش والبكارة.
عدم مشاركة المرأة الرجل الطعام، بل والكثير من الأفعال، محرمة كما سبق أن أوضحنا؛ أنها مدانة وأقل منزلة منه، كما يتبدى في أساطير الخلق والخطيئة والسقوط والسامية، وهو على عكس وضع المرأة في تلك المجتمعات البولونزية، التي فيها تحتل المرأة وضعًا أعلى منزلة من الرجل، بحسب ما تشير به أساطيرهم وتقويماتهم الأمومية إلى اليوم.
ونظرًا لكثرة تدخل التابو — من محلل ومحرم — في حياتهم، فقد استغرقت دراسته حيزًا كبيرًا داخل مختلف مجتمعات ومؤسسات هذه الجزر المتعددة.
فزارتهم عشرات البعثات المتعاقبة لدراسة مجمل أنشطة حياتهم وشعائرهم الحرية الدينية، التي يقيمها ويتحكم فيها التابو في المعاملات اليومية من تجارة واستثمار وعمل أُخضعت لنظام التابوت المتوارثة السائدة.
وما إن تجمعت المواد الميدانية أو الخام التي جمعها الرحالة والمبشرون في القرن الثامن عشر لدى الدارسين الأوروبيين حول ظاهرة، أو النسق البنائي للتابو في تسنده الوظيفي، وعلاقاته المتبادلة مع بقية الأنساق على البناء الاقتصادي والسياسي والقرابي، حتى نشطت حركة دراسات معه حول هذا النسق داخل مختلف المجتمعات، خاصة مجتمعاتنا العربية سواء في غرب آسيا أو الشمال الأفريقي أو بالنسبة للغات السامية، وأخصها المعاصرة العربية والعبرية، أو على مستوى الممارسات والنظم الاجتماعية والساسية ودورها في حماية الملكية والميراث والتوريث … إلخ.
فعن طريق الاستغراق في دراسة مختلف الأنشطة والتصورات التي يحكم ناصيتها التابو، داخل هذه المجتمعات البولنزية، أمكن التوصل إلى أن الكثير من مختلف العادات والممارسات التي ما تزال تواصل سيطرتها على مختلف أنشطة الذهن والمخيلة البدائية عند مختلف القبائل والشعوب — خاصة في عالمنا العربي — مثل طرق القسم — أو الحلفان — سواء بالآلهة أو الموتى أو الأشياء والأماكن المقدسة، ومنها أجزاء الجسم البشري، مثل الشعر والعينين والفرج، ومثل الدعاء والتوسل بحلول الكوارث والمصائب بالآخرين والأعداء، وهو ما كان يحدث بكثرة مفرطة وعلى مستوى مختلف مؤسساتنا في حروبنا الأخيرة مع — الأعداء — مثل الفرنسيين والإنكليز بل واليهود في أيامنا هذه.
فحين كان أئمة المساجد وشيوخها يواصلون تنغيم دعائهم على الأعداء — الإسرائيليين اليهود — على طول مساجد مصر والعالم العربي، وعلى مستوى أجهزة الإعلام الإليكتروني، كان المهتمون بدراسة الظواهر الاجتماعية ورصدها في مختلف عواصم الغرب — الإمبريالي — وعن طريق رصد مختلف طرق — تابو — الدعاء على الأعداء؛ توصلوا بالطبع إلى نتائج مخزية حقًّا، كما أشارت بهذا الصحف الغربية بكثرة.
بل إن دراسة طرق وقنوات التابو، كشفت عن أن الكثير من بقايا الممارسات السحرية التي ما تزال تواصل سريانها مثل الشبشبة، والكلمات السحرية، وحرق وإحراق وإفساد تماثيل الأعداء الورقية والطينية والمصنوعة من العجين، وهكذا …
بل إن متنوعات التابو شملت كيفية التعامل مع المواسم المختلفة والشهور، وأيام الأسبوع السبعة، وما يصاحب بعضها من ممنوعات — السبت عند اليهود، والأحد عند المسيحيين، والجمعة عند المسلمين، وهكذا.
فيلاحظ أنه على الرغم من الالتفات للتابو لم يُعرف فيما قبل العصر الفيكتوري بالنسبة للمجتمعات الأوروبية، إلا أنه واصل سريانه داخلها حتى فيما بعد الثورة الصناعية، بل هو أيضًا تحكم في مخيلة الطبقات الشعبية الأوروبية، ويمكن القول بأن العصر الفيكتوري كان واقعًا بدوره تحت تأثير «الذهن التابو»، فكانوا ينظرون للمرض على أنه جريمة أو خطيئة، وقالوا بأن «المريض مكانه السجن.»
•••
وبالنسبة للمرأة يشمل تابو النظر لها كمحرم عند مجمل الشعوب الشرقية إلى حد رفض الأنثى — في مطلقها العام كنوعية — وهو ما عبر عنه في الأخوة كرامازوف بطل ديستويفسكي، الأب الرافض «فيدور بافلوفتش» في حديثه التهكمي مع الراهب «هل تعلم أن زيارات النساء في — دير — جبل أتوس، ليست وحدها ممنوعة، وإنما يُمنع أيضًا وجود الإناث من أي نوع من أنواع الحيوان، فلا دجاجة ولا إوزة، ولا أية عجلة صغيرة يمكن أن يحتمل وجودها هناك؟»
ولعل أخطر التابوات عندنا — في مصر والمنطقة العربية — هو ما يتصل بالمرأة والجنس، سواء على مستوى الرجل بالمرأة أو الرجل بالرجل، أو المرأة بالمرأة.
فنحن ما نزال ننظر للمرأة تبعًا لتواتر النظرة الحجرية أو الطوطمية، أو الأسطورية السالفة، على اعتبار أنها منبت الخطيئة الأم، كذا شملها التحريم أو الحرام أو الحريم والحرمة (فاعتبرت من المحرمات) وربط التابو بين النظر إليها والخطيئة على اعتبار أن «العين تزني».
وفي تقريري أنه لو كان هناك دراسات علمية جادة تغطي تابو المرأة على مختلف مراحله وأبعاده، لأصبح في الإمكان التوصل إلى نتائج مفزعة سالبة، تتصل بأفرع النشاطات الإبداعية والإنتاجية والعقلية، لعل أبسطها هنا تصورنا لمدى التخلف الذي انتهت إليه، نتيجة لظروف القهر والإدانة المنحدرة الممتدة من عصور ما قبل العلم، وبالطبع والضرورة يواصل هذا التخلف تفريخه داخل الأسرة التي هي نواة وركيزة المجتمع الأولى.
كذلك ستقودنا الدراسة إلى مدى العلاقة الوثيقة بين تابو المرأة والجنس، وبين آفة الانفجارات السكانية المهددة التي تعانيها شعوبنا خاصة في مصر.
وبمعنى آخر، هل يؤدي تابو المرأة والجنس المتواتر منذ منبعه على طول منطقتنا العربية وأخصها مصر، إلى خدمة النسق أو البناء السكاني، أو أن ما يحدث وتؤكده إحصاءات الأمم المتحدة هو العكس؟
بل إن في الحلول المتعسفة التي مداها التحلل الجنسي، في اتجاه عقلنة هذه العلاقة، والتي يلجأ إليها الغرب ومجتمعات ما فوق التصنيع، هدفها الأخير بالطبع هو التوصل إلى انضباطات سكانية بالغة الدقة.
كذلك ستوقفنا مثل هذه الدراسة إلى الارتباط الشديد بين معوقات وتابوات الجنس وبين تخلفنا العقلي والحضاري.
ولا يمكن تصور مدى الارتباط بين حلول تابوات وموروثات الجنس، وبين الاندفاعات العقلية والحضارية في العالم المتقدم من حولنا بشقيه الاشتراكي العلمي، والرأسمالي الإمبريالي، فما يحدث حولنا من ارتباط بين الجنس والثقافة، ممثلًا في مختلف الأنشطة من نوادي، لمجلات ودوريات وكتب وأفلام ومسرح وسينما وتلفزيون، وتربية وشارع وسرير … إلخ؛ لا يحدث اعتباطًا أو انحلالًا كما يدعي الجهلاء الفاشست المخربون.
ولعل في ظاهرة انفكاك وتفجر تابوات الجنس في الخفاء والظلام والزحام، بالشكل والكم الذي نشهده ونعرفه جميعًا؛ ما يشير بوضوح إلى ظواهره المرضية، وكلنا يعرف إلى أي مدى تتحول وسائل المواصلات — خاصة في القاهرة — إلى حالات جنسية جماعية.
ففي الوقت الذي يصعب جدًّا على الرجل أو الشباب التعرف بامرأة أو فتاة، خلال زحام الأوتوبيس، يمكن له بسهولة ممارسة عملية أو علاقة جنسية شاذة دون عناء سواء تمت هذه العملية ظهرًا لوجه أو ظهرًا لظهر، فيشترط في هذه الحالة الغامضة — المرادفة لممارسة الجنس في الظلام والخفاء — أن لا تلتقي العيون، ويتعرف الواحد على الآخر، أو يتعارف الطرفان، أو حتى تتلاقى عيونهما في نظرة خاطفة.
•••
ولعل أكثر الحالات أمنًا، والتي لا يعيرها الكثيرون التفاتًا، هي حالة الشذوذ النسائي أو البناتي — السحاق — وهي أقل حالات التابو عندنا، وتبدو كما لو كانت طبيعية أو غير متصورة، على عكس ظاهريتها في الغرب الملفتة جدًّا — كتابو — خاصة إنكلترا وأميركا.
فإذا ما تعمقنا قليلًا في جدلية العلاقة بين تابوات الجنس والزحام في مدننا، لهالنا ما وجدنا أنها ردة — لا شعورية — لمراحل الإباحة — وليس القباحة — التي مرت بها مجتمعاتنا التي قدست عشتار والتعشير منذ ٦ آلاف عام.
ولوجدنا أيضًا أنها حالة يمكن تصنيفها مع ظاهرة الثقافة أو المواقف المضادة التي تتمثل أول ما تتمثل في النكت والنكت الجنسية بشكل خاص، في تلخيصها لرغبات دفينة، وفي مجابهتها الضغوط — الفوقية — والممنوعات أو التابوات، ممثلة في الموقف الرافض المضاد للعرف — المثالي أو العاطفي — للمجتمع المغلق.
ويذكرنا هذا على الفور بمدى سيطرة عائلة اللغات السامية، التي انتهت اليوم في العربية — الفصحى — والعبرية، وكيف أنهما ما زالتا إلى اليوم مكبلتين أو هما حارستين للتراث أو الأساطير، أو الوهم كما يسميه كافكا.
كما أن هذا يذكرنا بمدى اكتمال اللغات السامية في الفصحى، واتساع رقعتها، لدرجة أنهت بها، أو هي اكتملت فيها مجموع الحضارات السامية.
وقد يكون في تابوات الفصحى ومنمنماتها اللغوية ما يحفظ إلى اليوم إضفاء صفتي القداسة ومعاكسها من نجاسة وشؤم، على الجهات الأربع الأصلية، والتي في أدنى صورها ما هي إلا أربعة أركان التابوت — العهد — وملائكة العرش الأربعين المكلفين بالخلق والموت والقيامة والرسالة، وهو ما يتواتر إلى اليوم في الموروث الشعبي، بالأقطاب الأربعة، وهم: قطب الغوث، والبلاوي، والرجال، والمتولي.
ويصل الأمر إلى إضفاء شطري التابو من مباح ومحظور على بقية أضلاع — المكعب — من ارتباط أسفله بالسفالة أو الواطئ الواطي، وأعلاه، كما يعلو الهامة والرفعة — من ارتفاع — مرادف السمو، والتسامي أو السامي، بما قد يذكرنا بتسمية الساميين — سمو وسماء — من عرب وعبريين.
بل إن أخطار التابو — اللغوي — على التنمية من بشرية أو عقلية أو حضارية، تصل إلى حد اعتبار طريقة أو أسلوب نطق الكلمات ومقاطع الحروف في اتجاه الحفاظ على اللهجات المحلية، أو لنقل المغرقة في المحلية إلى حد اعتبار كل قرية أو كفر أو عزبة أو أدنى أشكالها تجمع سكاني له لهجته وتعابيره الخاصة به، الحافظة له أدنى أصوله وجذوره الطوطمية.
ومن هنا يكون التابو كعيب أو شيء معيب أو ممنوع دوره الحافظ، المتسق الإخلاص مع المجتمع المحلي القبلي التعصبي، حتى في حفاظه على لهجته، وإيقاعاته اللغوية، مثل عدة نطق نهايات الكلمات في بني سويف مثل: عايزا، ومنا، ويا، بدلًا من ياه، أو طريقة قلب حرف الياء إلى ألف في واحة إقليم الفيوم المتاخمة، مثل قول: «عايز آه»، و«فا» و«مناه»، بدلًا من «عايز إيه»، و«فين»، و«منين» … إلخ.
وعلى هذا يصبح عيبًا وتابو مثلًا لمواطني بني سويف وقراها النطق على الطريقة المعتادة في تأكيد نهايات الكلمات، كما يرى نفس العيب على قرويي الفيوم حين يتساءل قائلًا: «ليه؟» بدلًا من «لا»، وهكذا، بل إن تابو الحفاظ على — عادة — اللهجة، يصل إلى حد إدانة كلمة حضارة أو الحضور، فحين يقدم متحدث مثلًا على تغيير طريقة نمطه، قد يخجله آخر على الفور قائلًا: «إنت بتتكلم زي الحضور»، أو«عاملي «حضري».»
ومن هنا فالحضري أو المتحضر أقرب إلى الرفض خاصة في مصر الوسطى، وقد يقول له سائله ساخرًا: إنت بيتهلي. ويبدو أن أصل كلمة «تيهلي» متواترة من «توهني» بمعنى التيه والتوهان.
فالحضري أو التحضر غير مُستحَب، أو هو أنموذج لا يصح التمثل به، وتحفل الحواديت والحكايات والأمثال بآلاف النماذج مثل «من نسى قديمه تاه».
وفي قصص الشطار وخرافات الجان، عادة ما يأخذ ابن زوجة «الملك» الحضرية أو المتحضرة، جانب الخصم الظالم المعتدي، بل هو يقف في صف أبناء الظلام والشر، في مواجهة بطل الحدوتة — الموعود — أو المكشوف عنه الحجاب، المضطهد ابن الزوجة الفلاحة، أو البدوية، ابن النور المنتصر.
وطبعًا واصل مثل هذا الموروث، المدعم بسلطة العادة والتابو، نموه داخل عديد من أنظمتنا الثقافية، كأفلام السينما، ودراما الراديو الرخيصة، منذ «زينب» حتى الليلتان، «ليلى بنت الفقراء»، و«ليلى بنت الأغنياء».
•••
ولعل التكنيات والاستعارات هي آفة اللغة — أية لغة — وبالنسبة للغتنا تصل إلى إخفاء اسم الإناث عامة خاصة الأم والخالات، أو في حالات التخوف من الحسد، كأن يُكنى عن المولود الذكر واسمه بالأنثى واسمها، أو في حالات الترفق — شيمة اليوتوبيا السامية بعامة والإسلامية بخاصة — كأن يُكنى عن الأعمى بالضرير، والعوراء بكريمة العين، والأصم بثقل السمع، والمريض بالعائف أو المعيون أو المنفوس؛ أي المحسود. وقد يقال في بعض المناطق حين السؤال عن مريض بأن «أشيته — شيئه — بعافيه» أو أنه «بعافية» فقط، وفي المدن: راقد، وتعبان. وكذا عن الميت، بالمتوفي، وتعيش أنت، والمرحوم، والبقية في حياتك.
وبالطبع يمكن الاستطراد إلى حد الأدعية سواء بهدف جلب الخير أو الشر، بتعاويذها وأعمالها السحرية، والتي يعتبرها «كراب» مادة مثقفة متهافتة هبطت إلى أوروبا غازية مستشرية من البحر الأبيض حملها اليهود والعرب الساميون.
ويمكن الاستطراد إلى تابوات وأسماء وممارسات بلاد وأماكن بعينها على طول بلداننا العربية، وكذلك بالنسبة للأوقات، وفصول السنة وأشهرها، مثل شهر طوبة «خلَّا الصبية كركوبة»، وازدهار المحاصيل في برمهات «روح الغيط وهات».
وبالنسبة للقسم — أو الحلفان — أفرد الشاعر عالم الأساطير روبرت جريفر مؤلفًا هامًّا من ٣٤٠ صفحة، يُعاد نشره إلى أيامنا هذه، منذ أن نشره جريفر وجمع معظم مواده من مصر وبقية بلدان الشرق الأدنى.
وقبل الاستطراد لكتاب جريفز الشيق، يمكن القول بأن القسم في معظم أحواله أقرب إلى التابو ونظامه ومغلقاته ومحرماته، وهو أيضًا في معظم أحواله قد يكون مضحكًا.
ويبدو أن أقدم نماذجه موجودة في حضارات الشرق الأدنى السامية، منذ الفراعنة والبابليين والعبريين، مثل القسم على جثث الموتى والتفرس في وجوههم، والقسم بالآلهة، والقسم بالطواطم من نباتات وكواكب وليل ونهار، والقسم بأجزاء الجسد البشري من بطن لفرج لعينين لشعر ومقاصيص، ومن أقدمها قسم الإله — يهوه — لنوح وبنيه من الساميين: «وضعت قوسي في السماء لتكون علامة ميثاق بيني وبينكم»، وقسم يعقوب — أو إسرائيل — لابنه إسحاق بأن وضع يده تحت فخذه مقسمًا، وهو ما لا يزال شائعًا إلى اليوم.
ولا حاجة هنا إلى تأصيل القسم، فكما يقول روبرت جريفر فإن القسم قديم قدم اللغة.
وفي رأي جريفر أن الإيمان والاعتقاد في القسم مرتبط بفكرة إدانة أو — قباحة — المرأة الأنثى الأم.
وعلى هذا فكثير من الحضارات والأقوام، لم تعرف القسم، مثل حضارات الهنود الأمريكيين الحمر، في بيرو والمكسيك، ومثل الأستراليين، وقبائل البوشمان في أفريقيا، وبعض المجتمعات ذات الميول الثقافية.
ولعله في الإمكان القول بأن مركز الثقل بالنسبة للدراسات ونتائجها أو تقنينها العلمي المختصة بالتابو، قد انتقل منذ أواخر القرن الماضي بشكل مطرد إلى اليوم، من الجزر البدائية – البلونزية — إلى عالمنا العربي، سواء الشمال الأفريقي خاصة — اللغة والريف — المراكشي، أو في الجزيرة العربية، والجذور الحضارية — واللغوية — السامية، وهي دراسات شارك فيها جيش من الرواد الأوائل أمثال: ماريت، وفريزر، وتيلور، وفرويد، ودافيدسون، وسبنسر، ورادكليف براون، وسنيث، وروبرت سميث، والأخير هنا هو فرانز شتينر ١٩٠٩–١٩٥٢، وأهميته هنا أنه أنثروبولوجست متخصص في الساميات … أو عالمنا العربي السامي متضمنًا الجانب العبري.
ووجه شتينر أقسى نقده ومعارضته لنظريات سميث التي ضمنها موسوعته الهامة عن الأديان السامية، أما شتينر في دراسته عن التابو، فيرى أنه «ليست كل التابوات تنتمي لأغراض دينية» كما ذكر روبرت سميث.
ولقد شارك أيضًا في هذا البحث اللغوي رائد التحليل النفسي فرويد متصورًا هو أيضًا أن كلمة حرام العربية هي بذاتها قادش أو المقدس اليهودية. بينما قدس أو المقدس هي أيضًا كلمة عربية كما هو معروف، فهي كلمة سامية استُخدمت بكثرة في النص العبري للأسفار الخمسة — البنتاتوك.
ولقد لاحظ روبرت سميث أن قادش بمعنى المقدس في اللغات السامية على عكس تابو التي تشير إلى الحرام والتحريم والمحرم أو الممنوع، عند البولونزيين.
فعند العرب الأراضي المقدسة حرم مكة أو حمى الطائف، ومن حمى القبيلة، تواترت كلمة حمية أو الحمية وحماية.
ولا يصح هنا إغفال ما توصل إليه روبرت سميث الذي أولى اهتمامًا فائضًا للتابو في موسوعته الكبرى عن الأديان السامية خاصة فيما يتصل بمفهومه عن «عدوى» التحولات الأممية.
وفي رأي سميث أنها كلمة سامية مشتركة، قبل أن تكون بولونزية، وأنها مرادفة لكلمة — مقدس — في اللغات السامية ومنحدرة من جذرين لغويين ساميين.
ومنها اسم قاديشا، وهو ما كان يطلق على معابد البغايا في إسرائيل، فكان لسميث فضل طرح المقارنة اللغوية بين الكلمة البولونزية «تابو» والعبرية السامية عامة «قدس» أو مقدس … إلخ.
وتعرض سميث للجزيرة العربية حيث يوجد الكثير من الأماكن المقدسة، وحيث كان يُحرم المساس بأي شيء طبيعي مثل الجبال والأشجار، بل وحتى الممتلكات الشخصية كأن ينظر إليها على أنها ممتلكات الله التي خص بها ممثليه أو من اختارهم، وهو ما يتبدى بخاصة في تراثي الحرمين مكة والطائف، أم حرم مكة وحمى الطائف: حيث حتم إلغاء الممتلكات الشخصية داخل القبيلة، فللقبيلة حماها الذي قد تحدده تلال أو جبال، وداخل الحمى الأرض والزرع والكلأ وموارد الماء، مشاع للجميع.
كما تعرض «لنذور» النوق أو الجمال السائبة، وضرب مثلًا بناقة صالح والرعاف كعقاب.
فكان المفروض في الأماكن المقدسة أن تترك الأشياء والممتلكات والنذور، فقط لاستخدامات الآلهة، محاطة بالشعائر التي تمنع من أن يستخدمها — الناس — الآخرون، إلا بطرق معينة، وكثيرًا ما يحرم استخدامها نهائيًّا.
فليست كل التابوات تنتمي إلى أغراض دينية كما يقول شتينر معارضًا سميث.
واستخدم قوانين النظافة بتوسع منذ الاستنجاء والوضوء حتى تابو المرأة الطامث ومن لمس جثة ميت، ويرى سميث الذي استغرقه المنهج أو البحث المقارن، أنه استطاع خلال أبحاثه الطويلة المضنية في الأديان السماوية المقدسة، التوصل إلى نوعين من التابو رصدهما بالتحديد من الكتاب المقدس.
فالإنسان — السامي أو العربي — يحتم التابو ألا ينظر إليه كمقدس، بقدر ما هو يتقي أخطار قوى ما فوق الطبيعة، وكاتقاء لغير المقدس والأشياء غير المتطهرة أو النظيفة أو المباح استخدامها، وضرب لذلك عشرات الأمثلة التي نعيشها ونعاشرها بالطبع وبالضرورة دون التفات كافٍ لها، نكتفي منه بهذا المثال المتصل بحتمية الطهارة بعد الجماع وإلا ظل الإنسان غير نظيف وبالتالي محرم أو غير مقدس.
كما تعرض لمفهوم النجاسة وعدم لمس أشياء بعينها مثل الكلاب والخنازير وأجساد الموتى والمرأة الطامث، ومن لم يتطهر بعد الجماع من الجنسين، على اعتبار أنهما نجسين.
كذلك عدَّد روبرت سميث، خلال دراساته على مختلف المجتمعات السامية، كثيرًا من الأشياء التي لا يجب أو يصح المساس بها، والتي هي في حكم التابو مثل: الرداء الكهنوتي، والأواني والأوعية؛ لأنها في حكم الممنوعة أو الخطرة، ومن المدهش اكتشافه بأن هناك طريقتين متناقضتين مختلفتين تؤديان ذات الغرض أو المسلك، وهو إضفاء صفة القدسية التي تستوجب التحريم المحاط بأخطار التابو، التي قد تستوجب — حتى — أبشع أنواع القتل والاغتيالات.
ويمكن القول بأن تنبه روبرت سميث لفكرة العلاقة بين التابو والمقدس، كان له التأثير المشع في عديد من أفرع الدراسات الإنسانية، من اجتماعية لأنثولوجية لتوراتية خاصة بالنسبة للأسفار الخمسة، بالإضافة إلى جهوده في دراسة الأديان — السامية — البدائية.
أما الدراسات التوراتية لهربرت سبنسلا وآرثر تيلور «الثقافة البدائية»، وفريزر في «الغصن الذهبي»، والمجلدات الثلاثة عن الفولكلور في «العهد القديم ونظريات العهد القديم» لدافيد سون.
والأخير أولى اهتماماته لكلمة «قادش» وعلاقتها بالبابلية والبوبية، وتوصل إلى أنها تعني «فصل» أو انفصال. فالأشياء — والممتلكات — التي تنتمي للآلهة وخص بها البشر، تشير وتؤكد الانفصال أو الاختلاف بين الله والإنسان.
ثم تعرض دافيد سون لعلاقة المقدس بالعادي (صمويل ٢٢-٢١) وعلاقتها بحلل وحلال واختلاف بينهما، خاصة في «حزقيال ٢٢–٢٦»، ثم علاقة حلل بالكلمة العربية، حرر (أعطي الحرية) في عدد ٢٠–٦ «وأرميا ٣١–٥».
كذلك تعرض لقادش وحرام، ولاحظ أن في طنجة لو لمس أحد الأهالي جثة ميت، يظل تابو ١٠ أشهر، كما تعرض بالنقد لنظرية رادكليف براون عن القيم الشعائرية والعقاب، مرورًا بدائرة الخطيئة والعقاب، كأن ينظر للأطفال حديثي الولادة على أنهم غير نظيفين متطهرين، ويتم التطهر بإلقائهم في النيران المشتعلة، فالوليد الحديث مثله مثل الميت الحديث، ومن يحمل جثة في نيوزيلندا، يُدهن باللون الأحمر، فالأحمر هو اللون التابو هناك. في جزر هاواي وتاهيتي وطنجة يحرم على الرجل التابو أن يقرب امرأة أو يطهو طعامًا.
ويتفق دافيد سون مع فريزر في النظر للتابو خاصة من خلال الشعائر الدينية بالإضافة إلى المدينة، أنه منحدر من الحيوانية ونظم الكهف ورؤساء القبائل بما يخدم أغراض حقوق الملكية والتوريث وحفظهما ونظم الزواج.
أما فرويد في «الطوطم والتابو» فربط بين قانون الملكية — على المستوى الطبقي — والملكية الجنسية بما يحتم إطاعة الأوامر.
أما ماريت، أهم نقاد فريزر، فقد أشار إلى أن فضيلة فريزر تمثلت في الربط بين السحر والتابو، على اعتبار أن السحر يحتم تجنب وتحريم إتيان أفعال وأشياء محددة، لكنه عاد ثانية فأشار إلى أن أول من حقق هذا الربط بين السحر والتابو، هو د. تيلور في أبحاث في التاريخ المبكر للجنس البشري عام ١٨٦٥.
فلقد كان تيلور أول من أشار بوضوح، خلال تعرضه بالدراسة لبعض المجتمعات المحددة، للعلاقة بين التابو ثم ذلك الارتباط والخلط في الربط بين الموضوعي والذاتي. وأورد تايلور قائمة طويلة بأفعال وأعمال، تتصل بالفوز والنشاطات الجنسية والشعائرية، وكما يقول تيلور فإن كثيرًا من الأطعمة البدائية الأصل، تعتمد في شيوعها على ما يشاع عنها وحولها من أكداس من الخزعبلات.
وهو ما لا يزال عندنا حول الفواكه والأطعمة، مثل «النث» أو الفحومة المرتبط بطهارة الفم، عقب — تابو — الشخير، ومثل العلاقة اللغوية بين الجوع، وبين الجوع ضاع، ومثل نبات القرع — المقدس — عند العرب الساميين، وكذا الجميز والجوافة، وتحليل أكل الضب والزواحف الصحراوية عند البدو، والقبائل العربية، وتحريم نفس هذه الزواحف في البلدان الزراعية، والجبلية.
فالاعتقاد منصب على أن قيم الأكل تسري خلال الأكل.
واستنادًا إلى ما يقوله د. تيلور فقد وصلت إباحة الأطعمة وتحريمها إلى حد الاعتقاد عند كثير من القبائل الأمريكية — اللاتينية — بتحريم أكل لحوم الحيوانات الأليفة أو الجبانة، اعتقادًا في أن خصائصها الجبانة ستتسرب لآكلها؛ ولهذا فضلوا أكل لحوم النمور، والأيائل أو المهر البري المتوحش من إناث الخيل البرية، والخنازير البرية، لشجاعتها وسرعتها وما تتميز به، خصال تسري خلال جسد آكلها، وحرموا الحيوانات الجبانة من ماعز وأبقار.
ويقودنا هذا إلى العلاقة بين السحر والتابو عند فريزر، خاصة في مقاله بدائرة المعارف البريطانية ونشره بالطبعة الثالثة من المجلد الثاني لموسوعة «الغصن الذهبي»، وفيه يقول: حوالي عام ١٨٦١ عندما كلفني صديقي وليام روبرتسون سميث، أن أكتب مقالًا عن التابو للطبعة التاسعة من البريطانية، كتبت من وجهة النظر السائدة للأنثروبولوجيين والتي كانت قاصرة على دراسة الجنسين الأسود والبني لشعوب الباسيفبكي، وسرعان ما انتشرت الملاحظات الدراسية والميدانية للبولونزيين، وكان من واجبي أن أعدل وجهة نظري، فالتحاليل التي طرأت على نظام الخزعبلات بعامة لا تقتصر على المجتمعات الهمجية بقدر ما هي ممتدة داخل المجتمعات المتحضرة، فالتابو ما هو سوى واحد من الأنظمة المعادية للخزعبلات داخل مختلف المجتمعات والأجناس تحت مختلف المسميات والتفاصيل لأبنية المجتمعات المركبة من مختلف الوجوه من دينية واجتماعية وسياسية، وأخلاقية واقتصادية، ولقد ضمنت هذه النتيجة مقالتي، ولقد ضمن آرائي بعامة عن الموضوع صديقي روبرتسون سميث، والمنشورة في موسوعته عن الدين السامي، ومن هنا فإن أهمية التابو ونظامه في التغيير الديني والأخلاقي في نظم الحكم والميراث، أصبحت موضع الملاحظة، واتخذت مكانها الجديرة به داخل الأنثروبولوجيا المعاصرة.
- (١) الأفعال المحرمة، الأشخاص، والأشياء، والكلملت بالنسبة لممارسات التابو أو المحرم، نجد تابو يتعامل مع الغرباء.٥
- (٢)
خلال الطعام والشراب.
- (٣)
خلال رؤية الوجوه.
- (٤)
المنازل وخراب المنازل — خلال الصيام عن الطعام.
- (١)
الرؤساء والملوك.
- (٢)
الندابون.
- (٣)
حيض النساء والولادة.
- (٤)
المحاربون.
- (٥)
القتلة.
- (٦)
صيادو الوحوش والأسماك.
- (١)
الحديد.
- (٢)
الأسلحة الحادة.
- (٣)
الدم.
- (٤)
الرأس.
- (٥)
الشعر.
- (٦)
احتفالات الحلاقة.
- (٧)
تقليم الشعر والأظافر.
- (٨)
البصاق.
- (٩)
الطعام.
- (١٠)
الخبط والطرق والأجراس.
- (١١)
حيوانات التوراة المحرمة مثل الجمال والخنازير.
- (١)
أسماء الأشخاص.
- (٢)
أسماء الأقرباء.
- (٣)
أسماء الموتى.
- (٤)
أسماء الملوك والأشخاص المقدسين.
- (٥)
أسماء الآلهة.
- (٦)
كلمات عادية.
وعلى هذه الأفعال والأشياء والممارسات التي حددها، أقام فريزر نظريته في الربط بين السحر والتابو، والانتهاء إلى أنه — أي التابو — نوع من السحر السالب.
وهي النظرية التي تعرضت لأشد الهجوم وأقساه، خاصة من مارييت وغيره؛ مما دفعه إلى تعديلها مرات، كما حدث في خطابه لروبرت سميث.
•••
وأخيرًا فإذا كان هناك من قول بأن للتابوات، كنظام أو مؤسسة، دورها الوظيفي أو النفعي داخل المجتمع — على اعتبار أن التابو، كنسق أو بنية اجتماعية يحقق مع بقية الأنساق، ويتساند معها في دورها الوظيفي أو النفعي لتحقيق مضمون البناء الاجتماعي كنسق عام متكامل، وهو ما يدعو بالنسبة لمجتمعاتنا المعاصرة إلى سخرية — فلعل في إغراق المجتمعات القديمة في تابوات المرأة والجنس، جانبه النفعي الدافع في اتجاه تحديد النسل البدائي مثلًا، لكن ومن الصعب تصور مدى العادم، الخسارة التي يسببها التابو بالنسبة للانفجارات السكانية اليوم ونقص الانتاج ومشاكل نقص الطعام التي تعاني منها شعوبنا.
وإذا ما أخذنا مثلًا بسيطًا، وليكن التابوات المصاحب لطرق ذبح الحيوانات والطيور عن طريق إراقة دمائها، وعدم الاستفادة من هذا الدم، بنفس الطرق المتوارثة منذ الكلدانيين العراقيين أي منذ ٥ آلاف سنة إلى اليوم.
ولعل الكثير من تابوات ومعتقدات أولئك الكلدانيين الذين انتهوا في فلاسفة وكهنة حران بسوريا العليا، ما تزال سارية في تراثنا إلى اليوم، منها أنهم كانوا أول من ربطوا بين أعمدة الحكمة السبع، وبين أيام خلق العالم، وسبعة أيام الأسبوع، والكواكب السبعة السيارة؛ فقد جعلوا يوم الأحد للشمس واسمها إيليوس أو شمس، ويوم الإثنين للقمر، وهو نفس اسمه البابلي والكلداني سن، ويوم الثلاثاء للمريخ، ويوم الأربعاء لعطارد، واسمه نابق (ميركوري) ويوم الخميس للمشتري (جوبيتز) واسمه بل أو بعل، ويوم الجمعة للزهرة واسمها بلتي أو بعلتي أو عشتار، وهي ما أصبحت فينوس عند اليونان، ويوم السبت لزحل واسمه كرنس؛ أي ساترن أو كرونس.
كما أنه من الصعب تصور السالب والعادم الذي يسببه التابو بالنسبة للصحة العامة، مثل إخراج طعام الملائكة ووضعه في أريافنا إلى جوار جدران المنازل، وبدلًا من أن تلتهمه الملائكة يتحول بالطبع إلى حشرات وأوبئة وجراثيم يعاني منها ريف مصر خاصة، والريف العربي عمومًا أشد المعاناة.
كما أنه من الصعب أيضًا تصور مدى سيطرة التابو على الذهن البدائي ممثلًا في عادات حفظ النصوص والترنم بها لتحقيق غايات واحتياجات قد تكون عصبية، إلا أنها في نفس الوقت منافية ومعرقلة لكثير من الطاقات الإبداعية.
فالسكينة أو الطمأنينة التي تضفيها مثل هذه الترنيمات، أقرب إلى السكون منها إلى الحركة والبحث، والديناميكية والاقتحام، وهو ما يتنافى كلية مع أهداف التربية — البيداجوجيا — المعاصرة والحديثة.