هذا التراث الجبري السامي
وإذا ما كان الهدف الأخير لهذا الكتاب وسابقه محاولة الدفع بدعوة إعادة تفهم هذا التراث — العربي والعبري — السامي، الذي ما يزال يلعب دورًا دافعًا لحركة التاريخ، لتحقيق أغراض ومصالح مؤكدة، لعل أبسطها سلسلة القهر والاضطهادات والحروب المتوالية — تاريخيًّا ورياضيًّا — من اضطهادات عنصرية، ونوعية، وعرقية، وتجييلية تتصل بالفواصل والمسافات بين أطوار العمر المختلفة، وهو ما نشهده أو نقرأ عنه عنفًا داميًا على طول شرقنا العربي.
وقد يكون الاسترسال في التعرض لسلبيات هذا التراث هو في حد ذاته تابو أو مناطق لا يصح اجتيازها أو إخضاعها للتعرف والمناقشة، فكيف يمكن مناقشة المقدسات والتراث الخالد، أو هو الحافظ والحارس والمهيمن على مصالح واضحة متسلطة لها تكاملها الطبقي السياسي.
وعلى هذا فلا مجال هنا للأخذ بنهج دفن الرءوس في الرمال، ونحن نتعرض لموضوع التعرف على موروثاتنا الثقافية بهدف عقلنتها، وفي اتجاه الامتثال لحتميات العصر العلمي التكنولوجي الذي نعيشه، بشقيه الاشتراكي الشيوعي، والاستعماري الإمبريالي.
فلعل أبسط وأجدى إيجابيات المعرفة وتفهم هذا التراث فيه إنهاء لكافة أنماط وأشكال المزالق الحضارية وأزماتها في المحل الأول بمفهومها العقلي الديموقراطي السلوكي، منذ علاقات وممارسات الشارع على طول مجتمعاتنا العربية الإسلامية، حتى حروبها وأزماتها السياسية، ولعل أبسطها هنا على مدى السنوات العشر الأخيرة — كمثال أقرب — هو سلسلة حروب وغارات الشرق الأوسط منذ سنة ٦٧ تتقابل وتتعاصر معها حروب شبه القارة الهندية — الإسلامية — للهند وباكستان وبنجلادش، وهي جميعها حروب أقرب إلى الهزات والتشكلات الإقليمية العنصرية، منها إلى الحروب التحررية، ولنقل الطبقية، وبالطبع هنا استثناء واحد، هو حالة ردود أفعال التحرر الوطني واسترداد الأرض.
وبالنسبة لاستخدام هذا التراث، خاصة جانبه الأنيزمي، على المستوى الداخلي، فإنه إذا ما أخذنا مثالًا واحدًا أقرب، ولتكن النتيجة المزرية الملفقة لانتخابات مجلس الشعب المصري، والاستخدام — الدنيء — لأسلحة الإرهاب الديني، إلى جانب التحالفات العرقية والقبلية العرقية، وما من مرشح في ريف مصر لم يستهدِ بأشجار وفروع العائلة — والنسق القرابي — من سلاسل نسب وعشائر وبطون مكونة للبنيان السكاني للدوائر الانتخابية، وبطرق تدعو إلى كل تهكم، برغم النتائج السياسية.
فلعل من منافع إعادة تفهم تراثنا هذا، فيه إنهاء وإعادة تصحيح للكثير من أنماط وأشكال القهر والإدانة والتجبر الطبقي والتعصب والاضطهادات بمختلف أشكالها.
من أهم هذه الاضطهادات بالطبع هو الاضطهاد النوعي، بمعنى تفوق وتسيد الرجل الذكر على المرأة الأنثى، وما يستتبع هذا من إرث وحقوق شرعية وحجز وتنكيل، والذي يلعب بالتالي دوره في تخريب الأسرة، مواصلًا توالده — الذاتي — التخريبي، بما لا نفع منه إلى ما لا نهاية.
كما أن من المفيد معرفة أن أي شكل من أشكال الثورة أو الحركة النسائية لاستعادة تعقيل وضع المرأة في بلادنا — بما يفيدها ويفيد الإنتاج بعامة — سيوئدها هذا التراث السامي — الذَّكَرِي — الضاغط المتجبر.
واللافت هنا أن معظم علماء المصريات يأسفون أشد الأسف، للوضع المتقدم الذي كانته المرأة المصرية منذ الدولة القديمة، والذي أخذ في التدهور التدريجي في العهد المتأخر نتيجة لانفتاح مصر على تخومها السامية الآسيوية، فيترحم د. فلاندرز بيتري، أول من أنشأ فرعًا خاصًّا لدراسة المصريات بجامعة لندن، وهو ما أصبح تقليدًا في معظم جامعات العالم فيما بعد، على ذلك المدى المتقدم الذي تكشف عنه برديات الدولة القديمة، والذي واصل انحطاطه على مدى عصور اتصالات مصر بالساميين إلى آخر مداه.
ولعله من الأليق تسجيل هذه الملاحظة الصحيحة بالنسبة لاحتفاظ المرأة المصرية بتفوقها النسبي على زميلتها وجارتها — العربية — سواء بالنسبة للتخلص من الحجاب، أو المشاركة العامة في الحياة المعاصرة، أو — حتى — بنسق التابو، ومنه «تابو» الذبح من طيور وحيوانات، وهو ما يحرم على معظم نساء مجتمعات العالم العربي ممارسته، على اعتبار أنها — أي المرأة — كائن نجس.
ولعل ثاني هذه الاضطهادات التي قد ينهيها عقلنا هذا التراث القبلي الفاشي في مجمله، هو اضطهادات أطوار العمر المختلفة بعضها لبعض، في مجتمع يقدس الشيخوخة، ويركل بالتالي ما عداها من أطوار، من شباب ومراهقة وطفولة.
ويمكن هنا ملاحظة الاشتقاق اللغوي بين مشايخ وشيخ، وهو ما يستوجب صفة القداسة، وقد تكون مئات الألوف من الأضرحة المنتشرة في قرى مصر والبلدان العربية بالملايين، ما هي إلا مقابر لرفات شيوخ قبائل وعشائر وعائلات سالفين، يتبرك بهم أسلافهم إلى اليوم، مع ملاحظة أن السلفية، ومرادفاتها في الشعر العربي، البكاء على الأطلال، يُضاف إليها أغاني أو مراثي ديبورا — أول شاعرة في العبرية — وأرميا ودانيال، بالنسبة للشق الثاني من التراث السامي، وهو العبري، هذه السلفية أو الآفة الحضارية نقيضة الواقعية والمستقبلية، كانت على الدوام ملمحًا تراثيًّا ساميًّا، مثلها مثل القدرية والدهرية والوعيدية، وعن طريقها كان علماء ما قبل التاريخ — الحفريون — يتعرفون نوعياتهم الحضارية.
وعلى سبيل المثال، يصل تقديس الساميين لموتاهم — أو أسلافهم — إلى حد دفنهم معهم في بيوتهم وسكناهم أو على مقربة منها، وذلك حتى يتسنى لهم تعرية وجوههم واستشارتهم في كل ما يعن لهم من تصرفات مصيرية، كالحرب والهجرة والزواج وهكذا، وعن طريق هذه العادة بالطبع يتعرفهم الحفريون، مثلما حدث بالنسبة لبعثة جامعة فيينا التي عملت في الدلتا حتى وقت قريب، بحثًا عن أصل الهكسوس، ورجحت أنهم خليط قبائلي سامي متحالف.
كما أن من سلبيات هذا التراث اضطهادات وقهر أطوار العمر بعضها لبعض على طول تاريخ العالم القديم، وكيف كان «شيوخه» يتلذذون بمصمصة عظم الأطفال، وطبيعي وبالتالي اضطهاد المراهقة منذ الصغر، ثم تجبر التراث عامة في طاعة الوالدين.
ولعل في احتفاظ اللغة بالمكونات الأسطورية لهذا النسق — أطوار العمر — في تسميات: جد وكهل وبعل — زوج وأب — وعم؛ ما يغني عن الكثير؛ ذلك أنها كانت أسماء ونعوت لآلهة وأصنام وطواطم سالفة في منزلة الأرباب، وهو ما يتضح أكثر بالنسبة لتراث الجزيرة العربية، وبالتحديد تراثها الحفري منذ الألف الثالث قبل الميلاد.
ويمكن طرح مفارقة ملفتة بين ما يتملكنا عقائديًّا، وما يحدث في العالم من ثورة شبابية مستقبلية، تفرض اليوم علمًا جديدًا تمامًا عن خصائص ومكونات واحتياجات أطوار العمر المختلفة من طفولة ومراهقة وشباب وشيخوخة يُعرف بعلم الأجيال.
كما أن من إيجابيات هذا الاتجاه وهو إعادة تعرف أصول وخصائص تراثنا الفولكلوري، وفي اتجاه عقلنته؛ إنهاءً للاضطهادات العنصرية والدينية، التي تتحين فرص انطلاقها الدموي على رقعة العالم العربي بين وقت وآخر معبرة عن مصالح وضغوط، تجيء عبر دورات متناسقة، وفي أوقات الحروب والكوارث القومية، بل هي في ذاتها تشكل الكيان الكلي لمختلف أبنيتنا أو أنساقنا البنائية، ودراسة مثل هذا النسق، لا يمكن أن تتم وتكتمل بمعزل عن دراسة بقية الأنساق التي تؤلف البناء الاجتماعي بعامة.
وطبعًا لا يمكن إنكار مدى ثقل ما يشكله هذا التراث الغيبي اللاعقلاني — كما عرفه د. فؤاد زكريا — أو العاطفي — كما عرفه للمرة الأولى ماينوفسكي — من اضطهادات عصبية سامية تتمثل عند اليهود، في شعب الله المختار، وعندنا في الاعتصام، واعتبارنا خير أمة أُخرجت للناس كما هو مكتوب بخطوط قبيحة عند مداخل مدن الدلتا بالذات، واللافتات الخطية لتزيين البيوت والقاعات، ومنها قاعة اجتماعات الجامعة العربية.
ولعل في توارث هذا التراث في تكامله البنائي، المحكم التنسيق والدقة، والحافظ في المحل الأول لمصالح الإرث والميراث والتوريث، يقابله من الجهة الأخرى تكامله المحكم التنسيق البنائي مع مجاوره وهو التراث الآري — في الهند وإيران — وكلاهما واصل امتزاجه وسريانه أو تدفقه إلى أوروبا والعالم الجديد مع موجات وفتوحات العرب واليهود فيما بعد، حاملًا بذوره القبلية الفاشية التي أباحت شريعة — أو شعيرة — الحرب والإغارة والقتال، دفاعًا عن «التراث الخالد» وما يحرسه من مصالح، بما يعيد إلى الأذهان بشكل مؤكد عصر الحروب الدينية التي تكونت عبرها الدول والدويلات القومية، التي فيها تشكلت النظم الرأسمالية والتي كانت تعبيرًا عن تقلص وموت نظام هرم، والآلام المصاحبة لمولد نظام جديد، لحين مجيء عصر التنوير — القرن ١٨ — وانحسار الكثير من هذا التراث الخالد، لكن دون أن يتخلى كلية عن مكوناته الفاشية الملازمة للإغارة والحرب، كما سنها وأباحها بل فرضها التراث السامي، للحفاظ على كلا التركيبين السفلي والعلوي أو المادي الطبقي والعلوي الثقافي العقائدي.
ولعل في شرعية الحرب القبائلية، والذود عن الحمى، في مرحلة العشائر المتحالفة والمهاجرة المغيرة، ما يبرره منذ الجاهلية — ٥ آلاف عام — وعصور الظلمات.
أما اليوم فلنا أن نتصور اللامحدود الذي صاحب تطور الأسلحة، من عصا ومقلاع وخيول وسيوف، إلى مدافع وذرة وهيدروجين وميكروبات وأجهزة إنذار مبكر.
وبحسب نهج المنظمة الدولية للثقافة وشعاراتها، فإنه إذا ما كانت الحروب تنشأ أو تومض في مخيلة البشر، فإن من الإمكان إقامة حصون السلام، وهذا يستلزم بالطبع إعادة صيغ المخيلة، خاصة السامية، ونظيرتها الآرية التي أبلت العالم بشرور حربين عالميتين في مدى النصف الأول من هذا القرن، إلى أن انحسرت وانكسرت شوكتها، مسلمة دورها ومخيلتها — القبلية — لتوأمها المتاخم والمتوازي — السامية.
بل كان للسامية والساميين — الذين يدعي اليهود أنهم طلائعها — دورهم أيضًا في مسببات ودوافع هاتين الحربين العالميتين الشنيعتين.
ويجيء اليوم الدور على السامية، بعد إفلاس النظريات الآرية القبلية الفاشية التي تبلورت في النازية الهتلرية، التي كان أحد بلاياها ومسبباتها المفهوم اللاهوتي الغيبي في تدوين وتفهم التاريخ — الثقافي — والتي لم تنظر أبدًا للفرد على اعتبار أنه كائن سياسي، وأن الهدف الأخير للاهوت والمنزلات والمعتقدات — قد يكون — خلاص الفرد، لا المجتمع والدولة، كما يرى توفيق الحكيم ويحيى حقي ولويس عوض، ومن مدخل ومفهوم أن الهدف الأخير للتاريخ هو التوصل إلى طبيعة العقل، فالتاريخ ما هو إلا صراع دائم من أجل الحرية — مرادفة العقل — التي أدرك زعيمنا الراحل جمال عبد الناصر أنها — الحرية — لا تتحقق بمعزل عن التحولات الاقتصادية والاجتماعية ولقمة عيش الناس خاصة في مصر؛ حيث مشاكل الانفجار السكاني العاتية المستعصية.
فهذه القبائل التي حملت ونشرت تراثها الطوطمر، وخزعبلاتها عبر كل مداخل أوروبا، بدءًا من جنوبها، إلى غربها وشمالها، حتى هولندا والسويد؛ قد حملت بالطبع تراثها هذا الدامي، وأورد فريزر حكاية أو خرافة عن ملك السويد الشيخ الذي أخبره عرافوه بأنه سيموت بموت آخر أولاده التسعة، فكان يضحي بقتل ابن سنويًّا، إلى أن قُتل أو هو اغتال آخر أبنائه التسعة، وبموته مات الملك الشيخ، ودُفن في «أبسالا» (وهي المدينة الشهيرة حتى أيامنا في السويد).
وهي حكاية عن قتل تسعة أبناء، تتطابق مع ما حدث لسالفه السامي العربي لقمان الحكيم مع نسوره التسعة الذين كانوا بمثابة آلهته أو طواطمه، فهو لقمان ذي نسور، وكان يُطلق على اليمن — متضمنة الشام ولبنان وفلسطين — بلاد ذي نسور، فكانت أنسر لقمان في منزلة أبنائه كما يتضح من أسمائهم: خلف – والمصون – وعوض – وآخرهم النسر لبد. وبموت آخر نسوره — لبد ذاك — مات الحكيم لقمان.
والذين يموتون من مدى ثقل وخزعبلات هذا التراث السامي للشرق الأدنى القديم، الذي حُمل إلى أوروبا موجات إثر موجات، يمكنهم تعرف مدى هذا الثقل من آلاف المصادر الكلاسيكية العربية منذ ابن الكلبي — هشام ومحمد — والطبري، والشهرستاني، وابن حجر، وابن وحشية الكلداني، والهمداني، وابن إسحاق، ووهب بن منبه، والقلشندي، وابن قتيبة، وابن ديصان، والكندي، والدميري.
فأنت تجد في خِضَم هذا التاريخ الأسطوري، أو هذه الأساطير التاريخية، ما يهم الحفري أو الأركيولوجي، من أطلال وآثار بقايا الحضارات اليمنية الغابرة، منذ حضارات قحطان أو يقطان التي يعتقد بأنها هي بذاتها ما حُملت فيما بعد إلى أميركا اللاتينية منذ منتصف الألف الثاني قبل الميلاد إلى المكسيكو وبيرو، وعُرفت بنفس اسمها السامي يقطان إلى اليوم.
تجد أماكن أطلال حضارات قحطان وحمير، وعاد وثمود وجرهم والعماليق ورائش؛ محددة بدقة تخدم الحفري الأركيولوجي موصوفة في اليمن والجنوب العربي في كتب الهمداني ووهب بن منبه، كما تجد نفس الشيء بالنسبة لتاريخ أبو الفدا حاكم حماة، في سوريا.
كذلك يجد الباحث في الأساطير خصائص كل إله من آلهة أو أصنام مكة وعددها ٣٦٠ بعدد أيام السنة القمرية موصوفة بكل دقة في مؤلفات هشام وابنه محمد الكلبي اللذين عاشا في القرن الثالث الهجري — العاشر الميلادي — ووضعا موسوعتهما المهمة عن آلهة وطواطم الجزيرة العربية خاصة السعودية اليوم، المعروفة بالأصنام.
وبالطبع يجد باحث الفولكلور ما يغنيه من حكايات وخرافات الجان والنداهات عند كل هؤلاء بلا استثناء، بعائلاتهم وقبائلهم وبطونهم وأفخاذهم وأسمائهم — أقصد طبقات الجن. أما في حالة تخصصه في حكايات الحيوان والطيور والزواحف مثل الضب والجرد المباح أكلهما — كتابو — في معظم المناطق الصحراوية في الشرق الأوسط — المعاصر — خاصة الجزيرة العربية ودويلات الخليج، بينما يحرم أكلهما نفس التابو في بعض المناطق الزراعية والساحلية؛ تجد معينًا لا ينضب من أنماط هذه الحكايات — الطوطمية — التي يُقال بأنها أكثر قِدَمًا من الأساطير، عند الجاحظ، والدميري، عن حكايات الحيوان والطير والنبات والحشرات والهوام.
وبالطبع فأنت محظوظ، لو أنك تبحث فيما انتهت إليه الحضارات السامية من سومرية وبابلية وكلدانية المعاشة في العراق، حيث بقايا سومر وجلجاميش وبابل — وسورها الشهير — ما تزال موجودة بأسمائها إلى اليوم.
أما في سوريا فسيصادفك بقايا الآشوريين والكنعانيين والفينيقيين، في رأس الشمرا، وقادموس — اسم إله — وبانياس — اسم شاعر أسطوري أسبق من هوميروس — ثم بقايا حضارة أفاميا وتل مرديخ — أو الإله ماردوك — التي تثير باكتشافها الأخير — عام ١٩٧٣ — الْتفاتًا علميًّا ملحوظًا في الأوساط العالمية.
ولماذا نذهب بعيدًا، وبقايا هذه الحضارات ما تزال تعيش إلى اليوم! من آشوريين وفينيقيين وآراميين وحورانيين وسريان، بلغاتهم وأبنيتهم الثقافية والفولكلورية في عالمنا العربي، وما تفرع منهم من مدن ونحل بالمئات، عدَّدها القحطاني والشهرستاني والنوابري وابن كمونة وابن النديم، من مرجئية — ميدان المرجه بقلب دمشق الحالية — وزورية بدير الزور، وحرانية – أو كلدانية – وهيلانية، وبهانية، وأسحفية، وباقورية، ومئانية، وغنزوية، وأمهرية، وديصانية، ومهاجرية، وشيلية، ومغتسلة … وغيرها من بقايا الحضارات والأقوام والأقليات التي يُنظر إليها اليوم كمواد طريفة لفرجة السياح والدارسين، مثل السريان النساطرة بالقرب من دمشق بسوريا، والموارنة والدروز بلبنان، والحرانيون الكلدانيون بالعراق، وهم أول من قسَّموا اليوم إلى ٢٤ ساعة، والساعة إلى ٦٠ دقيقة، كما أنهم أول من سمَّوا أيام الأسبوع بتسمياته اللاتينية الفلكية إلى اليوم نسبة إلى الكواكب السبع السيارة؛ فجعلوا يوم الأحد للشمس وسموها إيليوس، ويوم الإثنين للقمر واسمه سين، ويوم الثلاثاء للمريخ واسمه آريس، ويوم الأربعاء لعطارد واسمه نابق، ويوم الخميس للمشتري واسمه بال، ويوم الجمعة للزهرة واسمها بلتي، ويوم السبت لزحل واسمه كرونس — قرونس.
وإذا ما كانت «الأرض الموعودة» أو الخلاص، يمكن في المستقبل، بالنسبة لمفهوم المستقبلية عند توينبي وغيره مثل د. مارجريت ميد.
فإن مفهوم العالم السالف أو القديم وبؤرته شرقنا العربي عن الخلاص والمستقبل، يجيء بالضرورة غيبيًّا أسطوريًّا يوطوبيًّا أشبه بانتظار جودو، وذلك حين «ينزل عيسى إلى الأرض، وكان رأسه يقطر ولم يُصِبْهُ بلل، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويفيض المال، وتقع الأمنة في الأرض، حتى يرعى الأسد مع الإبل، والنمر مع البقرة، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات»، كما يقول الدميري وغيره من الكلاسيكيين من العرب.
وإذا ما كانت الإنسانية التي نحن جزء من حركتها العامة، خاضعة تمامًا لقانون تطورها العقلي؛ ولهذا حققت انتقالاتها — على كلا العالمين الشرقي الاشتراكي، والغربي الإمبريالي — من الفكر اللاهوتي الطوطمي — الأنيزمي — إلى الفكر الميتافيزيقي الفلسفي، ثم من الفكر الميتافيزيقي إلى الفكر الوضعي النفعي، طمعًا في تحقيق أقصى منفعة ممكنة، تعود بالنفع على الناس وواقعهم، وفي اتجاه تملك الإنسان — العاقل — لواقعه وجدلية وجوده.
وعلى هذا يصبح من المفيد إعادة تفهم واقعنا والوقوف على حقيقة متناقضاته، بنفس النهج الذي حققته المجتمعات الصناعية، وما فوق الصناعية، منذ عصر التنوير، فهدفي الواضح من هذه الدراسات، لا يقف بحال عند صدى الماضي وسحره وجاذبيته الخارقة، ممثلًا في الموروثات والممارسات والمقولات الفولكلورية والأساطير، أو بمعنى تأصيل الحاضر بخلفية الماضي، حيث مولد الحضارات المصرية الفرعونية — خاصة الدولة القديمة — ونظيرتها — تاريخيًّا — الحضارة السومرية اللاسامية، التي توارثتها الشعوب السامية — اللغوية — التي اكتملت اليوم في العربية والعبرية.
وأعترف أنه تراث شديد الغنى متدفق، ذلك الذي ابتدعته مخيلة تلك القبائل السالفة القديمة التي بؤرتها وبوتقتها شرقنا الأدنى القديم أو الأوسط المعاصر، ذلك الذي انصهرت عبر بلدانه روافد كلتا المخيلتين الهائلتين، السامية والآرية، التي وهبت العالم — المعاصر — عقائده الروحية الكبرى، مثل اليهود والمسيحية والإسلام، بالإضافة إلى البوذية وإلى التراثين الفارسي المجوسي، والهليني — الأسطوري العقلي — وهو ما أُقيمت على أشلائهما الحضارة الرومانية والتي وجهها المعاصر أوروبا اللاتينية اليوم.
فالإغراق في سحر وجاذبية ذلك الماضي، يوقع الباحث بالقطع ويقوده إلى حيث براثن التعقب السوفيتي، والنعرات القومية.
وهي بالطبع تلك النظرة المثالية، التي صاحبت مولد علم الفولكلور وملازمته للطموحات القومية والإحساس العنصري والتفوق القومي، ذلك الذي اكتمل في الدعوات السلافية والآرية — الهندو أوروبية — ووصل ذروته في النازية الهتلرية.
بل إن اهتمامي ينصب في المحل الأول على مدى انعكاس طرق وميكنزمات واحتياجات وحتميات الحياة السالفة، على مفهوم الحياة والعالم في حياتنا المعاصرة.
ويمكن طرح السؤال على النحو التالي: إلى أي مدى جاءت استجابة هذا التراث — لحتمية — التغيير والتشكل بما يحقق التوافق والاستجابة للحتميات العلمية والعقلية، وبما يوفر المزيد من الإنتاج والتقدم، ويتوهم مع عصر ما بعد العلم أو فوق التصنيع كما يقولون ويعلنون؟ وعلى الأقل، ليكن هذا التساؤل مطروحًا بالنسبة لعالم ما خارج — العالم الثالث أو النامي. ليكن هذا التساؤل مطروحًا بالنسبة للعالم المتحضر على كلا الصعيدين الديموقراطي الشعبي، والإمبريالي.
ذلك أن تكبيل تركة الماضي الغيبية البدائية القبائلية، المتوارثة منذ عصور ما قبل العلم والعقل، وتوارثها من جيل لجيل — تحت تأثير العادة — ما تزال تتحكم في مخيلة شعوبنا وتطبع حياتنا — حتى — المعاصرة.
ولنتذكر جيدًا مدى إحباط ولا جدوى العمل الثوري في أرض هذا التراث، ما لم نعاود الالتفات الجاد المحايد إليه.
وهو ذلك المنهج الذي بصرت به المدرسة التطورية الديمقراطية الثورية الروسية، التي وإن ركزت — أو هي تمادت — في استخلاص عوامل الاحتجاج الاجتماعي والميول الثورية أو الإيجابية في الفولكلور، إلا أنها بصرت بمدى عرقلة هذه الموروفات التي تعيش، وتتوالد تحت تأثير وسلطة العادة مدعمة بخدمة أغراض طبقية، في حجم الاستعمار بل هي كل الاستعمار اليوم، وهذا هو بعينه ما يشكل أظلام وشرور الموروث من فولكلور وأساطير، خاصة شقها الغيبي البدائي التي قامت على أساس ما عرفه تيلور بالأنيمزم، بمعنى إضفاء صفة الروحية على الظواهر الطبيعية المحيطة بالإنسان وأفعاله الشعائرية، وفي اتجاه الامتثال لحتمية مسار التاريخ الإنساني.
مع الأخذ في الاعتبار بأن تشابه المادة الخام — من بيئة وظروف اقتصادية واجتماعية — يؤدي بالإنسان إلى الاستجابة للتشكيل العقائدي والعقلي، وبالتالي السياسي.
فمثل هذه الدراسات كما يقول لينين مهمة وضرورية في دراسة النفسية الشعبية في أيامنا.
«ولم يكن شغف ماركس — وانجلز بشكل خاص — ولينين، بالفولكلور، والأساطير، في دراساتهم عن العائلة وأصلها، لمجرد المتعة، بل على اعتبار أنه سجل تاريخي حتمي للمعرفة بالعمل السياسي وإدراك مساره ووجهته الصحيحة.»
فعن طريق التحليل الجدلي — للواقع والموروث الثقافي — نصل بالطبع إلى توجيه العمل الثوري توجيهًا سليمًا، فالقوانين الطبيعية للمجتمع التي جاءت وعبرت عن غيبته ولاعقلانيته العمياء لم تَجِئْ اعتباطًا أو هي وُلدت وتكاثرت ووُجدت لمجرد الصدفة العشوائية كما يرى — مثلًا — كراب ومعظم الدارسين الليبراليين، فهي إنما جاءت وتكاثرت وازدهرت لتؤدي وتحفظ وتقدم خدماتها لصالح الطبقة صاحبة السلطة وبالتالي أدوات «الإنتاج» والثقافة، حتى ولو اقتصرت هذه الأدوات — الثقافية — في العصور الحجرية والطموطمية على النص الحجري أو الشفاهي المتواتر بدءًا من الحفظ والتحفيظ والإنشاد وسحر اللغة الشعرية — الشعائرية — التي زاوجت أو هي اشترطت توحد الكاهن بالملك بالمداح ممثلة، وخادمة لأوضاعه الطبقية، منذ عصور الظلمات أو الإظلام، وهي بذاتها ما تواصل سريانها وفرض سلطتها، لخدمة أغراض طبقية جديدة باستخدام «أدوات» الإعلام والثقافة — الجديدة — من راديو وتليفزيون، والفرق هنا ليس غامضًا أو بعيدًا بين شيوخ القبائل العربية البائدة والقديمة، وشيوخها الجدد من ملوك البترول، أو بين دعاة الإغارة والإبادة القدماء، والمتشددين — جدًّا — في حروب اليوم — على كلا الجانبين — ودون فهم للواقع والبقاء الموضوعي، وما يستلزمه من توافق متوازٍ بين وسائل الإنتاج من ناحية، وعلاقات الإنتاج وما تتطلبه من بنيان علوي يتمثل في السياسة والتراث والفكر القائم عليهما من الناحية الأخرى.
فدفاعًا عن المصالح الطبقية، تشرع الأسلحة دفاعًا عن التراث — الأنيمزمي — الذي سماه كافكا بالوهم، أو حراسة الوهم، وبالطبع، فإن الهدف الأخير هنا هو حراسة مصالح الملوك الكهنة أو السدنة الجدد، وكيف يقومون بتأدية شعائرهم تحت عدسات التليفزيون والصحف الصفراء، بنفس ما عُرف عن أول ملك كاهن مداح جاهلي، وهو عمرو بن لحي الجرهمي، وكان شاعر أسطوري يُنسب له: «إن ربك يتصيف باللات لبرد الطائف، ويشتو بالعزى لحر تهامة.»
ولا شك في أننا أصبحنا هنا في عالمنا العربي في مسيس الحاجة إلى هجرة محققة من نقيض إلى نقيض، أو من السلفية إلى المستقبلية، أو كما يحدث في أوروبا نواصل تحولنا من الزراعة إلى الصناعة، أو من الماضي إلى المستقبل. ذلك أننا ونحن ندخل مجتمع التصنيع في مسيس الحاجة إلى حتميات ثقافية وعقلية موازية أو متعادلة مع مستلزمات وحتميات العصر الذي نعيشه. ربما بنفس المعدل الذي حدث بجزيرة مانوس، في مواجهة غينيا الجديدة، كما تقول العالمة الأنثروبولوجية الأميركية د. مارجريت ميد، وهي الجزيرة التي انتقلت من العصر الحجري إلى القرن العشرين في جيل واحد.
ولما كانت الأساطير — في منشأها وغاياتها — تأليهًا لعناصر الطبيعة من برق، ورعد، ورياح، وسُحُب، ورعود جوية أي فينومولوجية، بما يشمله التعريف من ظواهر مناخية، وإحيائية بيئية؛ أي تأثير الظواهر المحيطة في مخيلة الإنسان البدائي، الشبيه بولد يتفتح على العالم، وهو ما يتبدى واضحًا في تراثنا القديم، وبقاياه المسايرة في تراثنا المعاصر من إغراق في إضفاء مظاهر القدسية على الجبال وقممها، والصحاري ومجاري الماء من بحور لآبار لعيون ماء راكدة عفنة، لا تخلو منها مدينة أو قرية على طول مصر والعالم العربي، وما يُشاع حول هذه — المزارات أو الأضرحة — من الآلاف العطنة من تدمير للصحة العامة من بدنية بخاصة وعقلية.
فيترتب على تأليه وتقديس الظواهر الطبيعية والبيئية المحيطة، وما يستتبعه هذا من صراع النور أو الخير مع الظلام والشر، وهو المنهج التطوري الذي اكتمل بعد الدارونية والذي أكده، بالنسبة للأنثروبولجيا تيلور ومعاصره أندرو لانج، وفريزر، (خاصة تفسير تيلور أو سبقه إلى اكتشاف مدى سيطرة العادة داخل المجتمعات الغيبية، بما يحقق ثوراتها لأدق دقائق حياتها وطفولتها الأولى)، حين أراد تفسير ظواهر الطبيعة القاسية من حولهم، خاصة هنا في شرقنا الأوسط الحديث أو شرقنا الأدنى القديم، فلعل الاختلافات البيئية والظواهرية والجوية هي المخصب الرئيسي لهذا التراث الذي اكتملت فيه الأديان الثلاثة الرئيسية في عالمنا: اليهودية والمسيحية والإسلامية.
فجغرافية المنطقة كما يشير د. جمال حمدان، تجمع ما بين دالات الأنهار في دلتا مصر والعراق، أي المجتمع الزراعي، الذي قدم تفسيره الأزلي السائد إلى اليوم عن الموت والقيامة ممثلًا في أساطيره عن الآلهة الممزقة التي اكتملت في المسيحية.
والمجتمع الصحراوي المجدب القبلي، مجتمع الإغارة واعتبار الحرب نوعًا من الصيد، وبالطبع يصل هذا المدخل القبائلي الفاشي عند الجبليين سكان الجبال إلى حد أن تاريخ المنطقة، قديمه وأوسطه ومعاصره، لا يعدو أن يكون تاريخ حرب وإغارة وتنكيل ممتد، خاصة في بؤرة هذه المنطقة الشام وفلسطين، وأينما وُجدت موارد المياه أو «الأيلات» — نسبة إلى إيل أو كبرونس — ومنها ميناء إيلات. وبالنسبة لميناء جبل أو جُبيل بلبنان الذي يتعاظم دوره السلفي المتخلف في حالة الكتائب، فهي على طول تاريخها مجال نزاع دائم للمئات من القبائل والحضارات والأجناس المتطاحنة.
ويُلاحظ أن اقتصاد غرب البحر المتوسط بعامة عبارة عن بنيان مقسم الأجزاء لأقاليم — أو مدن دول — يصل فيه الجبل حتى البحر الذي يصنع كثيرًا من الأجزاء المنفصلة المعزولة التي يوجد فيها سهول صغيرة غارقة في الجبل، فالماء بالضرورة كان هدف الإغارة والحرب الأول، طالما أن الأرض قد تتحول إلى مستنقع إن لم تُوضع وسائل تصريف المياه، أو إلى صحراء إن لم تُرْوَ بالماء، وعلى هذا فأساس حياة الفرد والقبيلة في الشام وفلسطين هو البستان، وليس الحقل.
وكما يقول الجغرافي الفرنسي فرناند موريت، فهي بلاد تجبر فيها تضاريس الأرض سكانها على العمل والصبر والدأب، كما أنها بلاد يُعتبر البحر فيها الطريق الأسهل للتجارة، والترحال، فجغرافية الأرض المقسمة إلى دويلات متناحرة، نتيجة لحدودها الطبيعية من سهول وجبال وصحاري، أي مناطق جفاف، وفيضانات ماء ورياح، ومساحات شاسعة خربة، كل هذا فرض نظام القبيلة والعشيرة وما يتبعهما من إغارة وإبادة، وفقدان للأمن، وهو ما تبدى واضحًا في أساطير وفولكلور هذه المنطقة المغرقة في القبلية العصبية، التي عرفت شارة الصليب المعقوف قبل أن تعرفه ألمانيا الغاربة الفاشية، بأكثر من ٣٠ قرنًا من الزمان.
وعلى هذا فأساطير وفولكلور منطقتنا هي في المحل الأول أساطير وفولكلور القبيلة.
وبالطبع يمكن القول بأن الجسد الفولكلوري لمختلف فولكلور العالم، هو في أدنى أشكاله قبائلي، أو هو ما يزال إلى اليوم يحتفظ بملمح القبيلة، بمعنى أن القبيلة هي أدنى أشكال أي مجتمع بشري، ومن تجمع عدة قبائل واصلت اتحادها، تحت أقوى شعاراتها أو شعارها، أو طواطمها أو آلهتها إلى أن تصل في مجموعة القبائل — المتحدة أو المتحالفة — إلى درجة الأمة أو الحضارة.
ووصل البعض من أصحاب النظريات الطقسية أو الشمسية — مثل روبرت جريفز ورفائيل بتاي — إلى حد الدفاع عن أن انقلابًا تقويميًّا عامًّا قد صاحب معظم قبائل العالم القديم من خلال تحولها من عبادة القمر — أو الآلهة الأنثى القمرية — والسير بتقويمه — القمري أو الهجري — إلى عبادة الشمس — أو الإله الأب الذكر — والأخذ بتقويمها — الميلادي — فيما بعد واعتبار السنة ٣٦٥ يومًا.
وذهب البعض الآخر من أصحاب النظرية الأنثروبولوجية في تفسير الأساطير، إلى مدى أكثر عمومية تحت تأثير التطور — النوعي — الدارويني، والاستفادة من المادية التاريخية، على اعتبار أن معتقدات وأفكار الناس إلى تطورها التاريخي تجيء — مجبرة أو حتمية — لتطور بيئتها ووسائل إنتاجها وعلاقاتها الاجتماعية. أي إن تغير البناء التحتي — الاقتصادي والاجتماعي — يستوجب بالضرورة تغيير أفكار ومعتقدات وأساطير وعادات وممارسات وأخلاقيات ونظم قرابة وتزاوج وشعائر وقوًى غيبية؛ أي كل ما يتحكم في حياتهم من أبنية اجتماعية.
وعلى هذا فمجتمعات العالم القديم، في مراحل التكون القبلي أو العشائري، قد عاشت في مختلف البيئات والمناخات الجغرافية — من مجتمعات زراعة ورعي وجبل وبحر — والمقصود بالعالم القديم هنا هو مجموعة الحضارات والقبائل العربية أو السامية القديمة، وهو ما يتضافر في الكشف عنه اليوم، مجموعة مترابطة من العلوم، أهمها طبعًا علما الأنثوجرافيا، والتاريخ.
وعن هذا الطريق يمكن تعريف الحضارات التي شهدها شرقنا الأوسط وتحديد معالم وخصائص كل منها؛ ذلك أن الحضارة كما يعرفها عالم ما قبل التاريخ جوردون تشايلد، تقوم على ما يستخلصه الإنسان من غذائه ومجتمعه الإنساني وكافة نواحي السلوك الإنساني، من لغة ودين وفلسفة وأخلاق وقانون، بالإضافة إلى أدوات الإنتاج التي يستخدمها، فعن طريق التكيف مع البيئة أو قوى الإنتاج أو مصادر الثروة الطبيعية تتحدد الحضارة، ومن هنا وبالضرورة تدين سماتها ومعالمها للبيئة وطبيعة المكان.
وهذا هو هدفنا، البيئة واختلافاتها وتنوع مصادر القوى الإنتاجية لعالمنا العربي، أو منطقة الشعوب السامية.
وكما سبق أن أوضحنا فإن الاختلافات البيئية وبالتالي المناخية، تظهر بوضوح على طول هذا التراث وهذه البقعة من العالم منذ فجر التاريخ، من صراع بين الحضارة «الزراعية» في دالات الأنهار، وبين البداوة ومجتمعات الرعي والصيد والإغارة.
ويتركز هذا الصراع بأجلى معانيه في الأسطورة — الأم — التي حددت أجناس شعوب وقبائل المنطقة السامية، حين قدم ابنا نوح حام وسام — بعد الطوفان — قربانهما إلى الرب، وكان أحدهما وهو حام صاحب زرع، والثاني وهو سام صاحب رعي، فتقبل الله قربان صاحب الرعي، ولم يتقبل قربان صاحب الزرع، فكان أن حقد الفلاح — قابيل — على شقيقه — هابيل — وأقدم على اغتياله.
وهي تضمينة أو فكرة أسطورية تتوالى بكثرة شديدة جدًّا في هذا التراث الطوطمي القبائلي.
ولعل أقدم أشكالها — ٣ آلاف سنة ق.م — جاء بها النص السومري لملحمة جلجاميش، في صراعي جلجاميش — الفلاح المتحضر — وأنكيدو، الراعي الوحشي الذي تربى مع حيوانات الغابة وشعر رأسه كشعر امرأة.
كما وردت بنصها في صراع ابني إسحاق: يعقوب — الذي سُمي إسرائيل — وشقيقه توأمه عيسو أو العيص العربي السوري الأردني، موطنه الأول أرض أدوم أو الصحراء الأدومية — التي اشتُق منها تسمية آدم أبو البشر — بالأردن.
كما أنها تتوالى متوارثة إلى ما لا نهاية في ضواحي عرب الجزيرة العربية، بقسميها الشمالي الرعوي العدناني أو الإسماعيلي، والجنوبي الزراعي — فيما قبل تخريب سدود اليمن — وهي ٣٠ سدًّا أهمها سد مأرب.
كما تطل برأسها على طول التاريخ القديم السابق للإسلام، وحتى فيما بعد مجيء الإسلام، مثل صراعي قبائل الأوس والخزرج، من فلاحين ورعاة.
بل إن هذا الصراع حول الزراعة والبداوة يتبدى بشكل واضح جلي في معظم الملاحم والسير والأساطير، خاصة في سيرة أو ملحمة بني هلال، التي لا تعدو أن تكون امتدادًا للصراع بين الفلاحين والبدو أو اليمنيين «والسعوديين» إلى اليوم.
فأبو زيد الهلالي بدوي رعوي عدناني، بينما خصمه الزناتي خليفة حميري أو قحطاني يمني.
لذا وعلى هذا لم يتمكن أبدًا أبو زيد الهلالي — قاتل آلاف الأبطال — من قتل الزناتي خليفة، ولم يتمكن من قتله — كما تحفظ الملحمة أو السيرة — إلا قحطاني أو حميري على شاكلته، وهو دياب بن غانم، الذي تعارف عليه الشعب المصري بالزغبي.