أساطير السومريين عند العرب الساميين
وإذا ما حاولنا تتبع المراحل التي قطعها تطور الآلهة والأساطير السومرية، بعد أن توارثها الكلدانيون والبابليون والآشوريون، أي الفرع السامي سكان الحضر في دلتا العراق، ثم كيف انتقلت عبرهم إلى القبائل العربية أو السامية الأخرى في مكة والحجاز واليمن والشام وفلسطين، وما لحقها وطرأ عليها من تغيير وتبديل وإضافات، نجد الآثار السامية قد كشفت أن الآشوريين واليمنيين كانوا يحتفظون بأوثان الآلهة السومرية التي توارثها الكلدانيون من أسلافهم السومريين اللاساميين القدماء.
فلقد كانت بابل وآشور هما بمثابة المنبع الأكثر خصوبة وتحضرًا والذي قاض على ما يجاوره من تخوم وقبائل، مثل القبائل العربية، على طول شبه الجزيرة، بل ومن نفس أور الكلدانيين بين النهرين خرجت ونزحت قبائل إبراهيم وآشور السامية إلى الشام وفلسطين قبل انتهاء الألف الثالثة قبل الميلاد.
وكشفت الدراسات الأسطورية المقارنة عن أن هناك أساسًا أسطوريًّا عقائديًا بل لاهوتيًّا مشتركًا لأغلب هذه الشعوب السامية منذ أكثر من ألفي عام قبل الميلاد، سواء فيما بين النهرين أو في مكة واليمن والشام وفلسطين. فإذا ما أخذنا مثالًا بسيطًا: فالإله الكلداني البابلي بعل الذي من اسمه تسمت بعلبك في لبنان، ظهر منذ بداية الألف الثالثة ق.م عند البابلين باسم «بل» وعنهم أخذه الكنعانيون ولقبوه بالسيد، أي «زوج»، وجمعها بعليم (قضاة ١١: ٢) والصيغة المؤنثة منه بعليت أو بعلاية.
وعُرفت ديانة البعل — كإله ولقب — في سوريا وفلسطين منذ بداية الألف الثانية قبل الميلاد. ثم تطورت ديانته ودخلت في اللاهوت المحلي بعد ذلك الزمن، فأصبح لكل مدينة بعلها أو ربها الحامي، وتنوعت ألقابه؛ فالإلهة «ميلكارت» كانت بعل طيرة، بينما أصبحت «عشتروت» هي البعلة الأنثى في بيبلوس، وعندما نزل الساميون الأوائل فلسطين، وجدوا عديدًا من الأماكن — غير السامية — المقدسة، مثل الأشجار والجبال وآبار الماء، فأطلقوا على كل منها اسم بعل، وعن هذا الطريق عبد سكان كل مدينة بعلها المتفرد كأنه محلي، وبتوالي العصور دخلت ديانة البعليم لدى كل شعوب الشرق الأدنى القديمة، فأصبح إلهًا للسماء، بل إنه توحد بالسماء، وإنزال المطر، وعُرف ببعل شيم عند شعوب آسيا الغريبة، كما توحد مع حرارة الشمس التي منها ينبت النبات ويكثر الإخصاب، كما أن من ألقابه التي عُرف بها إله التنبؤ، ومن اسم بعل جاءت تسمية البطل القرطاجني هانيبال، وقرطاجنة كانت من أقدم المستعمرات الفينيقية، كما أن من أسمائه الأخرى بعل قبيلة جاد، وبعل زيفون، وبعل زيبوب أو الذباب، كما أن البعل توحد بالإله السومري الذي توارثه الساميون وهو الإله ميردوخ أو مردوك، والذي أصبح الوريث الشرعي لسلطان الإله الآشوري آشور الذي تضاعف نفوذه عقب اضمحلال آشور، وكان يُعرف باسم «بعلو».
يقول «أورث» في كتابه «ديانة البعليم» إن بعل العبري هو بنفسه الإله «هبل» إله قبيلة قريش في مكة … وقال: وفي اعتقادي أن عبادة البعليم ليست بعبادة فلكية أو تنبؤية في منبتها الأصلي؛ ذلك لأن علم النجوم لم يُعرف في آسيا الغربية قبل عصر الآشوريين والكلدانيين.
ويرى المستشرق نولدكه: أن اللقب الإلهي بعل — أي السيد أو الزوج — كان معروفًا لدى الساميين الشماليين، وعنهم توارثه عرب شبه جزيرة سيناء، فعُرف عندهم باسم «بعلو»، ووُجد في النقوش عقب أسماء الأعلام مثل «عبد البعلي» و«أوس البعلي» و«جرم البعلي».
يقول ابن حزم إن في بعض كتب اليهود تفسيرًا لتيه بني إسرائيل مع موسى في سيناء «حتى ماتوا كلهم، إنما كانت لأن فرعون كان قد بنى على طريق مصر إلى الشام صنمًا سماه بعل صفون، وجعله طلسمًا لكل من هرب من مصر، يحيره ولا يقدر على النفاذ منه.»
ويرى نولدكه أن عرب شبه الجزيرة العربية، أخذوه عن عرب شبه جزيرة سيناء وعنهم «عرفوه لفظًا ومعنى»، ووُجد في التنزيل أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ.
ويقال إن أول من استقدمه إلى مكة هو عمرو بن لحيِّ الجرهمي، فقد قدم بصنم يُقال له «هُبل»، وكان هبل من أعظم أصنام قريش، فنصبه على البئر في بطن الكعبة، وأمر الناس بعبادته، فكان الرجل إذا قدم من سفر بدأ به على أهله بعد طوافه بالبيت، وحلق رأسه عنده، وكان اسم البئر التي في بطن الكعبة «الأخسف»، والعرب تسميها «الأخشف»؛ كما يقول الأزرقي في أخبار مكة.
ونظرًا لأن الساميين بعامة قدسوا موارد المياه، واعتبروها مهبط عرش الله، فإن إقامة هذا الإله الجديد، بعل أو هبل، على بئر ماء يشير إلى علاقته بالرزق والإخصاب عند العرب، كذلك عُرف بكونه الإله واهب النعم، لدى القبائل العبرية.
وكان العرب يقسمون به كرب للأرباب، كما كانوا يضربون القداح عنده قبل إقدامهم على حفر بئر جديدة، وضرب القداح عند العرب يشير إلى القضاء والقدر والمكتوب والوعد والحظ والقسمة والنصيب، وغلبة الزمن والدهر، كما كان عندهم آلهة للبخت أخذوها عن الحرانيين.
ويُنسب لعمرو بن لحي الجرهمي أنه أول من جاء بأصنام هذه الآلهة من الكلدانيين — العراقيين — والأنباط، ونصبها حول الكعبة.
كان — فيما بلغني — من عقيق أحمر، على صورة الإنسان، مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش فجعلوا له يدًا من الذهب.
وفي إحدى الملاحم الشعرية الكنعانية عن صراع البعل، كإله للسماء، يتبدى البعل كإله للسماء «متلحفًا بالسماء لباسًا»، وتروي قصته كيف أنه أُغري بالنزول إلى العالم السفلي، واحتجزته الشياطين من أعدائه، لكنه قاومهم بنبوته المطلسم، واستطاع أن يعود ثانية إلى عالمه العلوي «عند قمم أشجار السنط المرتفعة»، كما يتبدى البعل الكنعاني في هذه القصيدة وهو يحيا في خوف دائم من أن تتمكن حيتان البحر من اختطاف بناته الثلاث وهن «اللات والعزى ومناة».
واللافت أن هذه الملحمة الأسطورية ما تزال تعيش على الشفاه إلى اليوم، باسم حدوتة «سعد الدين».
وفي بعض المصادر العبرية — المدراش — يتبدى البعل كقرين للريح، والبعل هو أصل الإله العبري «يهوه»؛ «فالإله يهوه هو أيضًا كان ريح الشمال في الأزمان المبكرة، أي قبل أن يصبح إلها ساميًا رفيعًا.»
وظل على صورته هذه حتى عصر الملك داود حين خاطبه: «عندما تسمع صوت أقدام في رءوس أشجار البكاء حينئذ احترس؛ لأنه إذ ذاك يخرج الرب أمامك.»
ويبدو أن العبريين كانوا قد استعاروه من الكنعانيين — الشوام — الذين عبدوه كإله حاكم على العالم الآخر الشمالي، أما فلسطينيو «عكرون» فقد اتخذوه إلهًا للتنبؤ، كما أن من ألقابه «سيد الشمال»، ومن اسمه تسمت قبيلة زبولون، وزار وحيه الملك إشعيا ملك إسرائيل في عقرون (الملوك الثاني: ١٠).
كما يرى البعض أن البعل هو الأصل الذي منه جاء الإله آشور في المثولوجي الآشوري، وكان يُصور على هيئة نسر له رأسان وجناحان مقدسان، في هيئة المحارب، وتظهر عشترون كثيرًا كزوجته وشريكة حكمه. كما يرى البعض أن عاشوراء — أول شهور السنة الإسلامية — أو أهورا الفارسية من بقايا شعائر الإله آشور، الذي من اسمه تسمى الملوك الآشوريون.
وبعل أو هبل هو الإله الذي عناه الملك الكاهن الجاهلي الشاعر عمر بن لُحي الجرهمي بقوله: «إن ربكم يتصيف باللات لبرد الطايف، ويشتو بالعزى لحر تهامة.»
فلقد كان للإله بعل أو هبل، رب الأرباب في الميثولوجي البابلي؛ بنات ثلاث؛ هي «إيرشكيجال» إلهة العوالم السفلى أو الجحيم وأخواتها الأنثيات «مامناتو» و«عشتر» أو «عشتروت» وهي الأمهات الثلاث اللاتي عُرفن ﺑ «بنات الله الثلاث».
فإلهة العوالم السفلى والموت والظلام إيرشكيجال عند السومريين والتي أخذها خلفاؤهم وورثتهم الساميون البابليون، ولُقبت باسم «اللات» للمرة الأولى في إحدى قصائد الفروسية البابلية، وهي ملحمة الملك أزدوبار الذي يرى البعض أنه هو بعينه نمرود الجبار، الذي ما تزال تتواتر حواديته على طرق الشرق الأدنى، مع الخليل إبراهيم.
وإيرشكيجال هي بروسربين ملكة المناطق السفلى أو عالم تحت الأرض عند الآسيويين، سكان غرب آسيا، أو الشرق العربي بعامة، كما أنها برسيفون عند الإغريق، وهي اللات عند البابليين والقبائل العربية، من مكية ويمنية ونبطية، ويبدو أنها كانت عند منشئها آلهة شمسية، مما يؤكد قول عمر بن لُحي الجرهمي: «ربكم يتصيف باللات» من أنها كانت آلهة فصل الصيف والقيظ والشمس المحرقة بجدبها وعطشها، عند العرب المكيين.
كما أن اللات عندما دخلت الميثولوجي السوري أصبحت قرينة الإله «حداد»، إله المطر، ولُقبت بربة البيت عند الأنباط، كما تشير بهذا حفريات بعلبك، وباختصار فإن اللات كآلهة الشمس، كما يرى «ولهوسن» دخيلة على العرب المكيين، كما يرى ابن الكلبي «هي أحدث من مناة»، ويقال إن عمر بن لحي قد جاء بها من النبطيين، وكانوا يعتبرونها إلهة الشمس.
أما الأخت الثانية من بنات الله الثلاث، فهي «العزى»، وعُرفت بدورها تحت هذا الاسم في الميثولوجيا البابلية، وقيل إن معناها ملك أو إله النار، فالعزى هي النار في اللغة البابلية، ومعناها في العبرية الشدة أو القوة (تاريخ كلد وآشور، مجلد ١، ص٨).
وبحسب رواية تيودوروس بركوني، هي نجم الصبح، ولها أسماؤها المختلفة باختلاف الألسن؛ «فطيء دعتها عوزى، واليونان أفروديت، والقدشيون طشقميت، والكلدانيون بلتى أو بلثى، والآراميون استيرا، والراداتيون ملكة شعيا، والعرب ناتي.»
ويمكن القول بأن العزى عند العرب هي في منبتها الأصلي «إينانا» عند السومريين، والتي اشتهرت باسمها الأكادي عشتروت عند البابليين، وأناثا — أي أنثى — عند الكنعانيين، وإيزيس في مصر، وأفروديت عند اليونان، وفينوس عند الرومان، وكوبيلا عند الحثيين.
يقول نولدكه: «إن الشاعر السوري إسحاق الأنطاكي الذي كان يعيش في أوائل القرن الخامس الميلادي ذكر احتفاء العرب بعبادتهم العزى أو نجم السباح أو الزهرة — فينوس، كما يقال إنهم كانوا يقدمون لها التضحيات، فالمنذر ملك الحيرة قدم لها قربانا من الأسرى، وقيل إنه — أي المنذر — ذبح ابن حليفه المسيحي الملك الحارس قربانًا لها.»
فكانت العزى آلهة للجنس والإخصاب عند العرب، كما كانت عند البابليين، ويُعتبر الحمام والغزال من طيورها وحيواناتها المقدسة، وهما نفس شعائرها عند البابليين والسوريين والنبطيين، وكان العرب الجاهليون مغرمين بتشبيه النساء الجميلات بالغزال.
يقول الألوسي: «كانت المرأة من العرب إذا عسر عليها خاطب النكاح نثرت جانبًا من شعرها، وكحلت إحدى عينيها، وحَجَلت إحدى رجليها، ويكون ذلك ليلًا، وتقول: يا نكاح أبغي النكاح قبل الصباح.» أي إنها تريد الزواج أو المخالطة الجنسية قبل ظهور نجم الصباح أو الزهرة. وتحفل المواويل والأغاني الشعبية بآلاف القطع الشعرية التي تتغنى إلى اليوم بنجمة الصبح.
ويضيف سميث: أن عبادة الزهرة — أو نجم الصباح — انتشرت في اليمن، وخلال إقامة شعائر أعيادها كانت تُقام الاحتفالات والأفراح المختلطة، أو ما عُرف عند معظم الشعوب والأقوام السامية بالعرس المختلط، وما تزال بقاياه سارية حتى وقت قريب، خلال الاحتفالات بالموالد المحلية، على طول مصر والعالم العربي، وربما ما تزال أيضًا تقويمات العرس المختلط سارية يجري التعامل بها.
يتضح من هذا أن منابع الميثولوجيا العربية تضرب بجذورها على مدى ٦ آلاف عام، أي منذ السومريين غير الساميين، الذين توارثهم العرب واليهود الساميون.