أساطير وفولكلور بر الشام
وإذا ما حاولنا التعرف على القسم الغربي أو الكنعاني للأقوام السامية في سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، الذي يرجعه البعض إلى هجرات سامية، جاءت بالأموريين إلى الهلال الخصيب، وتألفت من هذه الموجة الكنعانيون، الذين سكنوا غربي الشام وفلسطين حوالي ٢٥٠٠ق.م …
أما الساحليون منهم فهم الذين سماهم الإغريق بالفينيقيين، أقدم شعوب العالم اقتحامًا للبحار والمحيطات.
وهم كلهم الأحد عشر قبيلة أو سبطًا، أبناء كنعان الذين لحقتهم وطاردتهم لعنة جدهم حام، التي تحمل وزرها من بعده ابنه، فتعقبته في ذريته، وعلى هذا حولهم العرب والعبريون إلى سخرة «يقطعون الخشب ويحملون الماء»، كما يقول توينبي، على اعتبار أنهم أجناس واطئة.
بل إن العرب ساووهم بالبربر والنوبيين، فكان كنعان أخًا لهم كما يقول النسابة العرب، فبعد اللعنة «ولدت امرأة حام غلامًا، لونه أسود، وسموه كوشا، ووُلد لكوش الحبشة بن كوش، أما شقيقه الثاني الذي لحقته أيضًا لعنة أبيه، وهو ماريع بن حام، فقد ولد ثلاثة أولاد — أو أجناس — وهم كنعان وبربر والنوبة».
واستنادًا إلى أقدم المصادر العربية، وهو عبيد بن شريه الجرهمي، الذي يقول: «وما ولد كنعان بن كوش بن حام، فهم البربر، وساروا حتى نزلوا بفلسطين وبيت المقدس.»
ولقد اعتبر العرب واليهود أن المصريين القدماء منحدرون من نسل حام وأولاده من البرابرة، بمعنى أنهم أيضًا أجناس أدنى من أشقائهم الساميين، ومن هنا فقد وحدوا بين المصريين والكنعانيين.
والغريب أن الكشوف الحفرية الكنعانية جاءت فأثبتت هذه المعلومة الأسطورية، فقد أكدت هذه الكشوف الأثرية أو الحفرية أو الأركيولوجية أن الفينيقيين كانوا جزءًا من العالم الكنعاني الذي تشكل من الهجرات السامية منذ فجر التاريخ، وهي تشكل الكشوف التي عثر عليها في «بيبلوس» الإغريقية، ومكانها اليوم إحدى القرى الصغيرة الواقعة إلى الشمال من مدينة بيروت، وهي ما تُعرف اليوم بقرية جبيل أو جبل، وترجع هذه الكشوف إلى الألف الثالثة ق.م.
وكذلك دعمتها كشوف «رأس شمرا» في فلسطين التي ترجع إلى بداية القرن الرابع عشر ق.م والتي عُثر عليها عام ١٩٢٩، وكذلك أشارت إليه كشوف البحر الميت.
الغريب أن هذه الكشوف الكنعانية الفينيقية الفلسطينية جاءت فأكدت العلاقة الشديدة بين حام وكنعان، أو بين المصريين والشوام الكنعانيين؛ إذ إنهم اعتبروا أوزيريس أخًا لكنعان، «وكان كنعان أول من سُمي «فينقس»، فكانت أعياد — قيامة — الإله المصري أوزيريس تُقام في مدينة جبل الكنعانية أو اللبنانية، كما أن في مكان الإسكندرية القديمة، أو فاروس، كانت تُقام أعياد وشعائر أدونيس الفينيقي فقد جعلوا من كنعان أخًا لأوزيريس، دلالة على وحدة نسب الأمتين.»
وفي إحدى أساطير الخلق البابلية، التي تتفق مع أساطير مدينة صيداء يبدو كنعان أخًا لحام، فيقال «إن بعل — كرونوس — ولد بعلًا آخر هو كنعان، ومن كنعان جاء كنعان أبو الكنعانيين أو الفينيقيين، كما أنه أنجب حامًا، الذي يسميه اليونان أسبول، وكان أخًا لمصرائيم، وأبًا للأثيوبيين والمصريين».
ويمكن القول أنه بقدر ما ناسبت أو تقاربت الأساطير والتراث الحضاري بعامة لبابل وآشور أو حضارة ما بين النهريين بالإضافة إلى حضارة العرب القحطانيين من جانب وبين جيرانهم من الفرس الآريين من جانب آخر، حدث نفس القدر بالنسبة للحضارتين المتجاورتين، المصرية القديمة، ولاحقتها الحضارة الكنعانية الفينيقية في مدن — دول — الشام وفلسطين، وهي الحضارة التي ترجع إرهاصاتها إلى بداية الألف الثالثة قبل الميلاد، والتي عرفت إماراتها أو مدنها الدولة في مدن صور وصيدا وبيبلوس ودمشق وبعلبك، جوهر الهيلينية كمجتمع ثقافي مستنير هدفه الأخير الإنسان: حقوقه وواجباته، قبل أن يعرفها الهلينيون أنفسهم بقرون، تصل إلى ٢٠ قرنًا، كما يحددها د. توينبي. بل استمد اليونانيون عنهم تراثهم ودعائم حضارتهم، فمن المعروف أن فينيقيا استعمرت الجزر القرطاجينية في البحر الإيجي، ومركزها جزيرة كريت، في مرحلة ما قبل الهلينية بقرون طويلة، أي إن الميثولوجي الهليني جاء كنتيجة شبه مباشرة لنظيره وسابقه الفينيقي، بعد أن نقله الفينيقيون خلال تجارتهم البحرية الواسعة التي كانت مضرب الأمثال على طول تاريخ العالم القديم، إلى مستعمراتهم في جزر البحر الإيجى، والساحل الأفريقي عامة.
فالبانثيون الفينيقي هو نفسه البانثيون الإيجي، والآلهة الفينيقية هي بذاتها ما جاءت بها الكشوف الحفرية القرطاجينية في جزيرتي قرطاجنة في تونس وكريت، مثل بعل هامان والإله أشمون وأدونيس والإله المصري — بس — إله مصر وغرب آسيا، والبعلة، وكذلك بقية الحكايات والرموز الفينيقية السحرية مثل «خمسة وخميسة»، والعين الحاسدة، والنفس الخالق. فيقال إن مؤسس أثينا هو «مكروبس المصري» الذي استوطن في أثينا، وكان ذلك قبل الميلاد ﺑ ١٥٠٢ عامًا، وأثينا هي ما أصبحت موطنًا للعلوم والفنون، بعد أن ألقى فيها مكروبس المصري حياة التمدن، فعرَّفهم الدين وسنَّ لهم التزوج بعد أن كانوا لا يعرفونه، وأنشأ محكمة تُسمى أريوباجة وكذلك دانيوس، وهو مصري آخر، أدخل الفلاحة في مملكة أرجوس.
كما يُنسب لقادموس الصوري أنه هو الذي عمر مدينة طيرة بإقليم بيوتيا، وعلم أهلها زراعة العنب وعمل المعادن، كما علمهم الحروف الهجائية.
ويبدو أن الفينيقيين الساحليين سكان المدن الدول صور وصيدا، كانوا إلى جانب كونهم صيادين مهرة قد اقتحموا البحر منذ عصور قديمة، كانوا صناعًا حرفيين، نظرًا لعقم الأرض الزراعية، مما دفعهم إلى ركوب البحر وعدم النفور منه، كما حدث مع المصريين الذين كرهوا البحر، ونفروا منه، وأكثروا من طرائفهم ووساوسهم عنه، فعده «تابو» وحرم على الملوك والكهنة رؤيته أو الإقامة إلى جواره.
ومما ساعد الفينيقيين على اقتحام البحر وجود الخشب الذي تُصنع منه السفن في غابات جبل لبنان، فنزحت بعض القبائل الكنعانية إلى جزيرة قبرص ورودس وصقلية وسردينيا، وانتشروا في جزر اليونان البربرية، وحققوا مكاسب هائلة من تجارتهم الواسعة، فيُقال إنه لما كثرت عندهم الفضة، واستثقلوا حملها في بعض الأسفار، صنعوا منها هلوبًا — جمع هلب — لمراكبهم بدلًا من الرصاص.
والغريب أن هؤلاء الفينيقيين اتُّهموا من جانب جيرانهم القدماء بتسترهم وتكتمهم لما توصلوا إليه من علوم وخبرات بحرية، احتكروا معرفتها وحجبوها عن بقية جيرانهم المصريين والبابليين والآشوريين وغيرهم. ويقال إن أحد فراعنة مصر تبنى رحلة بحرية، قام بها البحارة الصوريون التجار، لاستكشاف قارة أفريقيا، فساروا في البحر ثلاث سنين وطافوا أفريقيا، وعادوا في نهاية السنة الثالثة من منبع النيل، حتى مصبه، لكنهم بخلوا بنتيجة رحلتهم الاستكشافية المبكرة هذه على المصريين.
فلقد كانت فينيقيا — في أغلب عصورها — واقعة كلية تحت النفوذ المصري، والبانثيون المصري، كما سنتناوله بتفصيل أكبر. فيمكن القول بأن مصر القديمة — كمؤثر حضاري — كانت المصدر الأم الذي عنه حمل الكنعانيون أو الفينيقيون تراثه الحضاري — وأضافوا عليه — إلى حضارة البحر الأبيض المتوسط، التي تبدت بعد ذلك في حضارة المدن الدول أو الحضارة الهلينية والرومانية فيما بعد.
وليس هذا بجديد؛ إذ إن أحد كبار مصادر الميثولوجيا أو الأساطير الفينيقية، وهو «فيلو الجبلي» حاول إثباته، إن لم يكن قد أثبته فعلًا، منذ منتصف القرن الأول الميلادي، أي منذ عشرين قرنًا، فلقد كرس هذا المؤلف حياته لإثبات أن الأساطير والتراث الشعائري الفينيقي هو ما أخذه اليونانيون وأقاموا عليه تراثهم قائلًا: «إن اليونان الذين يفضلون سواهم في التمدن والتحضر، انتحلوا جميع الأخبار والحكايات الفينيقية، ورغبة منهم في أن يخلبوا الألباب بمحاسن الحكايات الخرافية أضافوا عليها بكثرة لا حد لها كل ما أسعفتهم به مخيلتهم، ومنهم الشاعر هسيود، وبقية الشعراء الجوالين الذين مَلَئُوا العالم بخوراقهم وحكاياتهم، فهم الذين أخذوا عن الفينيقيين علومهم ومعارفهم عن الآلهة، وحروب الجبابرة وغير ذلك، أما عن اختلاقاتهم المتوالية التي نشروها في كل صوب فقد عودت الناس على الأكاذيب وخنق الحقائق.»
وكان «فيلو الجبلي» أو البيبلوسي هذا من سكان مدينة جبل أو جبيل بلبنان، ويرجع البعض أنه شخصية أسطورية مثل هوميروس، كما يقال بأنه استعار تاريخه أو أساطيره أو أعماله هذه من كاتب فينيقي سابق عليه بحوالي أربعة قرون، وهذا الكاتب هو «سنكن يتن»، بل إن فيلو البيبلوسي نفسه قال عن سلفه «يتن» إنه كان أول من دون هذا التاريخ «البعيد عن الخرافة»، كما قال «إن سنكن يتن قد وُفق إلى العثور على الكتابات السرية المنقوشة على الأساطين وحجارة الرقي، والتي تُخبأ وتُحفظ في أخفى أماكن الهياكل سرية».
وبعد أن انتصر إيل على أبيه وتمكن من اصطياده وحبسه في أعماق الهاوية، بنى مدينة جبل أو بيبلوس في فينيقيا، وعُرف بعد ذلك بإيل الوهيم، أو برب الأرباب، ويُقال إنه كان لإيل ولد وحيد يُدعى شديدًا، توهم فيه الغدر يومًا، فذبحه بيديه، وبعد ذلك فعل نفس الشيء بابنته، فكان أن «خافته الآلهة وامتلأت قلوبهم رعبًا»، وعندما سئم أبوه إله السماء منفاه أرسل إليه بابنته عشتروت وأختها رية أو «سميرنا» أو ديونا أو «بعلتي — أي سيدتي» للإيقاع به، لكن إيل تمكن من استمالتهن وتزوج بهن، ووُلد لإيل من عشتروت سبع بنات، يُعرفن في الميثولوجي الكنعاني بالطيطيات أو الترابيات، كما أنه أنجب من رية سبعة ذكور، وعاد فأنجب من عشتروت ابنين آخرين هما الشوق والعشق.
وبعد أن حكم إيل ٣٢ عامًا، عاد فأوقع بأبيه بعد أن نصب له الفخاخ التي أوقعه فيها، وحين أصبح بين يديه مزق أطرافه وأعضاءه، وألقى بها مع دمه في مياه الينابيع والآبار والأنهار، ثم إن إيل وزع ملكه اللامحدود على أبنائه، فأعطى عشتروت ملك أتيكه، وهي جزء من بلاد اليونان، وأعطى مدينة جبيل للإلهة بعلتي، ووهب بيروت لبوصيدون إله البحر.
وعندما تفشى الوباء في ممالكه المترامية ذبح ابنه الوحيد ترضية لأبيه السماء، ويُقال إنه كان أول من اختتن، وأمر جميع أهله أن يحذوا حذوه ويختتنوا، كما يُنسب لإيل أنه كان أول من تزوج بجِنِّيَّة مائية اسمها «عين عبريت» أو عفريت، وأنجب منها ولدًا وحيدًا؛ ولذلك لا يزال الفينيقي يسمي ابنه الوحيد يحيد أو وحيد … إلا أنه عاد فذبحه، وبعد ذلك وهب حكم مصر للإله توت أو تحوت، إله الفكر الذي اكتمل في الملاك الرسول جبرائيل.
•••
ولقد اختلف المؤرخون البيزنطيون — بخاصة — في التعرف على نسب إيل إله آسيا الغربية أو الساميين الأوائل الجبار هذا؛ فنسبه البعض إلى سام، ونسبة البعض الآخر إلى حام، ووحده البعض الثالث مع إبراهيم الخليل، ذلك أن جميع الشعوب والقبائل السامية ادعت انتماءها إلى هذا الإله، فظهر في آخر أسمائهم مثل عموائيل وإسماعيل — أي سمع إيل — ورفائيل وميخائيل وصموئيل … إلخ.
ولقد حدد بلوتارخ مكان إقامة إيل «في جزيرة» أو في «المجدبة، التي هي خلف الأوقيانوس الكروني»، وفي بعض أساطيره أن حيتان البراري أَسَرته واحتجزته في إحدى الجزر القريبة من الجزائر الإنكليزية.
ويُنسب لإيل الذي أصبح كرونس عند اليونان كما يقول فيلو؛ أنه كان يملك أربع عيون: عينان إلى الأمام، وعينان إلى الخلف، عينان مفتوحتان، وعينان نائمتان، ومعنى هذا أنه كان في مقدور هذا الإله إيل «أن ينام متيقظًا، ويستيقظ وهو نائم».
ولقد أدى استغراق ذلك الكاتب الفينيقي فيلو دفاعًا عن فكرته أو وجهة نظره في إثبات سبق الآلهة والأساطير الفينيقية لنظيرتها ولاحقتها الهلينية اليونانية؛ وهو ما أكده بعده سلفه سنكن يتن الذي نقل عنه، دفاعًا عن فكرته هذه التي حاول إثباتها منذ ٢٠ قرنًا، وهي أن الميثولوجي الكنعاني هو الأصل الأم الذي اشتُق منه لاحقه الإغريقي.
رغم أنه فاته التعرض لبقية التراث الشعائري والأساطير الفينيقية، التي كشفت عنها بالفعل كشوف رأس شمرا — اللاذقية — عام ١٩٢٩، عن أساطير الإله البعل، أو جوبيتر، وأدونيس أو تموز ودانيال … إلخ.
هذا على الرغم أن كشوف رأس شمرا التي حُدد عمرها بالقرن الرابع عشر قبل الميلاد جاءت فجلت الغموض الكثيف الذي اكتنف كوزومولوجي فيلو الدمشقي الذي ركز أغلب جهوده على أسطورة الإله إيل أو كرونس ولم يتعداها إلا قليلًا؛ فمثلًا أكدت هذه الكشوف الحفرية التي عثر عليها في رأس شمرا أن الإله عليون جد إيل الذي كان قد تزوج بالحسناء بيروت أو عشتروت، وأنجب منها إلهي السماء والأرض، لكنه مات خلال صراعه مع الوحوش، فكان أن مزقته أنياب الوحوش الضارية … فهذا الإله الممزق لم يكن سوى أدونيس، إله آسيا الغربية ومسيحها الممزق، المتوارث من السومريين — ٤ آلاف عام ق.م — اللاساميين.
ولقد جاءت نصوص رأس شمرا بأسطورة أدونيس، الذي أصبح السلف المباشر للإله هابونيجا، وحل بعد ذلك محل إلهتي الأخضر «آلين» أو «عليين» و«موت»، وليس هناك خلاف كبير بين نصوص رأس شمرا الأدونيسية، وبين نصوص تموز البابلية، فكلاهما — أدونيس وتموز — وُلد من أمه التي سحرت نفسها إلى شجرة المر، ومن جذعها وُلد، وعشقته أفروديت وخبأته من أختها إلهة العوالم السفلى عند الآسويين بعامة «بروسربين» أو «برسيفون» أو «اللات» عند عرب الجاهلية الأولى.
ويتوالى الصراع بين الأختين ويحتدم إلى أن يصل مسامع كبير الآلهة زيوس، فيحكم بأن يقضي أدونيس نصف العام على وجه الأرض ونصفه الآخر تحت الأرض.
وقد تبدت شخصية أدونيس في القرن السادس ق.م، متوحدًا مع الإله الدمشقي أشمون، ويرجع إلى مدينة بيبلوس التي كانت مركزًا للاهوت الأدونيسي إشاعته في مجمل العوالم الكنعانية والفينيقية في سوريا ولبنان وفلسطين.
أما الإله البعل في نصوص رأس شمرا، فلم يكن سوى بعل تعفون — الذي تبدى في المفهوم الشعبي على هيئة جوبيتر أو بعل لبنان وسيدها، وهو الإله حداد إله المطر والرعد، وكانت أمه إلهة الإخصاب البحرية عشتر.
وعُرف بعل تعفون في الأساطير المصرية باسم ستخ، وهو رمز أو أنموذج سمى به المصريون الآلهة الأجنبية، كما أنهم سموا الإلهات الأجنبيات هاتورات، كما أن العرب عرفوه باسم بعل تعفون.
وكان لبعل حداد الفينيقي بنات ثلاث، هن روح الحصاد «موت»، وروح الربيع «عالين»، و«أنات» أو أناث أو أناثًا بمعنى الأنثى، آلهة المحاصيل العذراء، التي كان يُضحى لها في موسم الحصاد، وهي الآلهة التي حملها الهكسوس إلى مصر وقُدست في أحيان أخرى، ويُنسب لهذه الآلهة أنها هي التي تغطي وجه الأرض بالندى أو الطل «أنها هي — أنات — التي تهب الأرض دسمها»، وكان من ألقابها عند المصريين «قادش» أو المقدسة، وكان الأسد حيوانها أو شعارها المقدس.
إن الملك الذي كان دانيال في زمانه قد تنبأ له عرَّافوه بأن طفلًا سيُولد في تلك الليلة، يفسد عليه ملكه؛ فأمر بقتل كل من يُولد من الأطفال في تلك الليلة، ولما وُلد دانيال وضعته أمه في أجمة أو حظيرة أسد ولبؤة، فبات الأسد ولبؤته يلحسانه، فنجاه الله. ويقال إن أبا موسى الأشعري، لقى خاتمًا نُقش على فصه أسدان، بينهما رجل وهما يلحسان ذلك الرجل. والمقصود به دانيال.
ولما كان قابيل قد أقام منزويًا في أعلى جبل حرمون أو الحرمان، فقد عشقت الملائكة بناته، وأباحوا المعاصي والمحرمات.
وذكروا أن جرهمًا كان من نتاج ما بين الملائكة وبنات آدم، وكان الملك من الملائكة إذا عصى ربه في السماء أهبطه إلى الأرض في صورة رجل، كما صنع بهاروت وماروت، وما كان من شأنهما مع الزهرة، وهي أناهيد، فحين هبط جرهم في صورة رجل وتزوج بامرأته — البشرية — أنجب جرهم.
وأما عن الآلهة عشتروت، التي وُجد هيكلها بالقرب من نهر إبراهيم، وهو النهر الذي عرفه القدماء بنهر أدونيس. وكان من أسماء عشتروت وألقابها المتعددة اسم بيروت الذي أُطلق فيما بعد على العاصمة اللبنانية، ويُقال إنه كان لعشتروت ثلاثمائة لقب، منها «يو – ياه – ديدا – عنت – تنيت – الزهرة – أرتميس – أوروبا – بعلتي – اللات – الفرقد – حنه – نعمة» وهكذا.
وعندما تملك صيدون ابن كنعان المدينة الدولة صيدا أصبح ملكًا على كل فينيقيا، وتزوج «صور» وأنجب منها بدوره أبناء «كثيرين كرمل البحر»، منهم قدم، وفينق أو فينكس، وفيليق، وسور، وتاس، وسيبول، وفيني، ودريال، وأوروبا، وتملك هؤلاء الأبناء الآلهة بدورهم على كل الممالك الكنعانية ومصر وآسيا الصغرى؛ بحسب ما تشير به أساطيرهم.
ونظرًا لأن هذه المجموعة من الأقوام أو القبائل الكنعانية كانت شبه مبددة، أي إنها لم تصل إلى الدرجة من التوحد والالتئام الذي سارت فيه حضارات الشعوب الزراعية، أو حضارة دالات الأنهار المتاخمة، في دلتا مصر والعراق وفارس والهند؛ فهي لم تتخطَّ حضارات المدن الدول، وهو ما كانته الحضارة السومرية التي ترجع إلى الألف الرابعة ق.م في مدن لجش ونينوى والأركاء أو الورقاء، أو ما أصبحته الحضارة المينوية الموكونية في جزر الأرخبيل أو البحر الإيجي، والتي توراثتها حضارات المدن الهلينية الدول في أثينا، وآرجوس، وطروادة، فيما بعد. وعلى هذا، فلقد كان لكل مدينة من هذه المدن الكنعانية الفينيقية تراثها الأسطوري المتميز والمتوحد — إلى حد — في ذات الوقت.
فمثلًا أيدت الكشوف الحفرية في جزيرة قرطاجنة بتونس أنه كان للفينيقيين سكان مدينة صيدا إله يُسمى صيدا، وآخر يُعرف بصيدون، كان يُكتب اسمه على نقود المدينة الدولة صيدا: «وهو من نسل صيدون ابن أجبت «أي الأجبتيين»، أو «المصريين» كما يُقال إن صيدون هذا جاء من مصر إلى فينيقيا أول ما جاء، وهزم القبائل الكنعانية التي تُسمى بأرض فلسطين، واستوطنها وبنى فيها مدينة صيدا.»
أما أساطير مدينة صور فتتركز حول إلهها الحامي «بعل شميم الذي أقام بمدينة صور وصنع الأكواخ من القصب والخيزران والبردي، وجرت له مع أخيه عوس منازعات طويلة، فعوص أو العيص — كما يسميه العرب — أول من اهتدى إلى اتخاذ الثياب من جلود الحيوانات التي كان يقتنصها ويقتلها بيديه».
وفي سلسلة النسب العبري يتبدى عوس أو عيسو أو العيص كشقيق توأم ليعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل، وهو الرجل الأشقر، كما تحدد أوصافه أساطيرهم المتعددة، التي قد تتشابه أو تتطابق مع قصتنا المصرية المعروفة منذ الدولة الوسطى بقصة الأخوين.
وتحكي أساطير هذين الإلهين الشقيقين التي عُثر عليها بمدينة صور أن حريقًا هائلًا شبَّ في مدينة صور، فأقام هذان الأخوان الهياكل لآلهتي الريح والنار، وبعدما مات هذان الأخوان — أو الكبيران — عبدهما أبناؤهما بعد ذلك.
وخلف عوس ابنه دامور — أي النخيل أو التمر — ثم أعقبه هركل أو هرقل «أول من اخترع الأرجوان وقلد به عشتروت». ويبدو أن هرقل هذا هو أول من غزا جزيرة قبرص وفتحها، «وكان تحت إمرته مقاتلون من الفينيقيين والعرب والإفريقيين واليونان، وغيرهم»، وبعدها فتح بلاد اليونان وصقلية، وقتل «فونا ملك إيطاليا الذي كان يذبح الغرباء»، ووهب لابنه «سرد» جزيرة سردينيا التي تسمت باسمه، وغزا هرقل بلاد الغال — أي فرنسا — وإسبانيا، «حيث التقط تفاحات الذهب.» وخلال صراعات هرقل الصوري هذا وفتوحاته لدغه التنين ذو الرءوس السبعة، فأشارت عليه إلهة دالفي بأن يدهن جروحه بورق شجرة تشبه التنين ذا الرءوس السبعة، موجودة في مدن الشرق. ويُنسب لهرقل الصوري أنه أول من بنى عكا، وذلك بعد أن عُثر بها على النبات الذي شُفيت به جروحه الدامية.
•••
أما عما وصل إلينا من تراث وأساطير مدينة دمشق أو ما كان يُعرف قديمًا بسوريا العليا؛ فجاء تراثًا مخالفًا — إلى حد ما — لتراث العالم الكنعاني أو الفينيقي؛ ذلك لأن سوريا كانت تنتمي إلى القسم الشرقي أو البابلي الآشوري، أي حضارة ما بين نهري دجلة والفرات بعامة في أغلب أحقابها التاريخية، كذا تواتر إليها وساد تراث ومعتقدات التراث البابلي المتأثر بدوره بتراث العالم الآري، وبشكل أخص التراث الفارسي المجوسي، أكثر من تأثرها بتراث القبائل الفينيقية الكنعانية في ربوع الشام وفلسطين، والواقع بدوره تحت النفوذ الإشعاعي للحضارة المصرية القديمة.
لذا لم يكن هناك اختلاف طويل بين ما وصل من آلهة ومعتقدات متوارثة من حضارات ممالك كلدة وآشور وبابل ونينوى في العراق، وهو التراث الحضاري بعامة الذي توارثته هذه الحضارات من سابقتها الحضارة السومرية اللاسامية، وبين تراث مدينة دمشق.
فكان الإله هدد — أو حداد — هو إله سوريا، وكانت سميرنا التي اتخذت اسمها لقبًا — فيما بعد — الملكة الإلهة سميراميس، التي حكمت وتملكت على بابل.
وهي الملكة التي خالطت الأساطير التاريخ في منشئها واختفائها على السواء، وكان طائرها المقدس هو الحمامة، ونُسب لها تشييد مدينة بابل والحدائق المعلقة، كما نسب إليها السوريون الأقبية التي عُثر على بقاياها بالقرب من نهري بيروت وإبراهيم في لبنان، كما نسب إليها القديس صفرون الدمشقي أنها هي سميراميس التي سورت مدينة دمشق، ويقال إن سميراميس كانت ملكة سوريا في منشئها، ثم تملكت بعد ذلك «بلاد آشور وآسيا الصغرى والجزيرة العربية».
ومعنى اسم الآلهة سميرنا؛ أي: أم الحمام، التي منها جاء اسم الملكة سميراميس، أو كاهنة الحمام؛ ذلك أنها حين وُلدت من رحم أم سماوية كانت قد تركتها في الخلاء عقب ولادتها، فتعهدها بالرعاية سربٌ من الحمام، كما أنها حين ماتت تحولت إلى حمامة؛ ولهذا تتوحد سميراميس مع راشيل زوجة يعقوب، وأم النبي يوسف، التي تسمت أيضًا بالكاهنة الحمامة.
ولعل هذا يفسر لنا مدى احتفاء الأدب الشعبي بالحمام والغناء له: «ما تطخي يا بندقية، ورا الحيطة حمام»، وحمام الحما، وعبد العال في ملحمة السيد البدوي يتحول إلى حمامة.
وعندما كبرت سميراميس أحبها وتزوجها حاكم سوريا ورئيس مجلس شيوخها، ولما كانت سوريا جزءًا من العالم الآشوري، فقد رآها الملك نينوس ملك آشور وأحبها خلال إحدى حروبه ببلاد بقطريانه، حين كانت برفقة زوجها القائد حاكم سوريا. وأحبها ملك آشور وهام بها لأنها لعبت دورًا حربيًّا هامًّا رجح كفة الآشوريين في الحرب، فطلب من زوجها حاكم سوريا التخلي له عنها ليتزوجها ملك آشور الشيخ، على أن يهبه ابنته بدلًا منها زوجة له، ولما رفض زوجها القائد: «إنني أرفض أن أصبح صهرًا لملك آشور الذي يسلبني زوجتي»، هدده الملك بخرق عينيه، فكان أن انتحر زوجها القائد، وتزوجها الملك نينوس، وبعدها قتلته انتقامًا لزوجها السابق، واتسعت فتوحات سميراميس بعد ذلك في فارس والهند وأرمينيا، إلى جانب كل شواطئ البحر المتوسط، وكما يقول أسطفان البيزنطي، فإن سميراميس فتحت مصر، وزارت الإله آمون — المشتري — لكي تستوضحه نبوءة عن نهاية حياتها، فأنبأها آمون بأنها ستختفي مثل حمامة، وتفوز من أكثر الشعوب الآسيوية بتقدير لا يُمحى.
وخلاصة القول أن هذه الإلهة السورية سميرنا أو سميرام السورية هذه التي نسب إليها المؤرخ سترابون أغلب خوارق غرب آسيا؛ تتشابه إلى حد كبير، خاصة في تضمينه قتلها لعشاقها عقب الجماع، مع الملكة البابلية سميراميس.
إن ميرنا ملكة الأمازون الليبيات جندت جيشًا قدره ثلاثون ألفًا من المشاة — الأمازون — واثنا عشر ألفًا خيالة، وطافت أفريقيا، وعندما مرت بمصر صادقت حور بن إيزيس، الذي كان ملكًا متوجًا بها، ثم زحفت من هنا على العرب وذبحتهم ذبحة عظيمة، وعادت بطريق الشمال وغزت سوريا.
أما ما تبقى من تراث وأساطير المدينة الدولة هليوبوليس، أو بعلبك، التي استمد اسمها من الإله الشمسي بعل، فإنه يؤكد أكثر فأكثر سيطرة التراث العقائدي والأسطوري المصري على فينيقيا، وبحسب ما يقول عالم الأساطير المقارنة ماكروبولوس، الذي أشاد به فريزر في أكثر من مكان في موسوعته الفولكلورية الأنثروبولوجية «الغصن الذهبي»؛ فإن أصل هذا الإله الشمس قد جاء إلى بعلبك من مصر: «حُمل من مصر ومن المدينة التي تُسمى أيضًا بهليوبوليس.» وما عناه ماكروبولوس هو الإله الشمس المصري رع، الذي كان مركز عبادته مدينة هليوبوليس، أو عين شمس.
وكان الإله تيفون واحدًا من الآلهة الهامة التي ورد ذكرها في الميثولوجي الفينيقي الكنعاني. وتيفون إله مشئوم لا سامي؛ إذ إنه كان إله القبائل الرعوية اللاسامية، الذين عرفوا بالهكسوس.
ويرى روبرت جريفز — أحد علماء الأنثروبولجي — أن الهكسوس قبائل رحل رعوية، جاءوا من أرمينيا وما يجاورها، فغزوا سوريا وفلسطين، ثم دخلوا مصر حوالي عام ١٧٨٠ق.م، وأقلموا أنفسهم على الاستقرار في دلتا النيل وشمال مصر عامة، وجعل الهكسوس من إلههم الحامي تيفون أخًا لأوزوريس، إلا أن المصريين وحدوا تيفون بست، قاتل أوزوريس ومغتصب عرشه، فكان تيفون الاسم المستعار لست من ألد أعداء أوزوريس. ولقد رمز به المصريون إلى عالم الظلام والشر؛ إذ إنه عندما رأى قدر أصدقائه جدف منزعجًا بكلام أشبه بنهيق الحمار، وبسبب كلماته الخبيثة أصبح شيطانًا، وظل خصمًا للابن حورس، وسببًا دائمًا لموته السنوي أو الموسمي، ويذكر بلوتارخ عن طرد الهكسوس من مصر، بقهر أوزوريس لتيفون وطرده من مصر، بل من غرب آسيا عامة: «أن تيفون بعد أن غُلب وفرَّ من المعركة ركب حمارًا، ولم يصب الأمان إلا في سابع يوم لهروبه.»
فلقد لعب هذا الإله الشرير الذي وحده الساميون مع الحية «فتن»، التي من صدرها رضع تيفون «أدوارًا متعددة لدى الشعوب الآسيوية بشكل مجمل، فتروي عنه الخرافات الفينيقية أنه كان تنينًا هائلًا»، وعندما ضُرب بالصاعقة ضربات هائلة غاص في قاع الأرض، فحفر مجاري الأنهار، وفجر الينابيع، حتى فاضت مياهها فملأت مجاري الأنهار؛ لذا سُمي النهر طيفون.
وفي حكاية أخرى نقلها سترابون عن المؤرخ السوري «بوصيدون»، يقال إنهم «عثروا في سهور مقره بفينيقيا على حية ميتة شغلت جثتها فدان أرض، وأما ضخامتها فشيء عظيم، فيمكن لفمها أن يبتلع حصانًا براكبه»، وفي حكاية فينيقية أخرى «أن تيفون تسبب في إشعال حريق هائل بإشعاله غابات أرز لبنان، حتى عمَّ الحريق آسيا بأسرها، ووصل إلى الهند»؛ وذلك بسبب ما كان ينفثه حلقه من لهيب.
وارتبطت بعلبك بالاحتفالات السنوية الماجنة، بعيد قيامة الإله الممزق أدونيس، ثم ديونيوس خلال حكم اليونان، وأخيرًا باخوس بعد مجيء الرومان، وكانت الاحتفالات تُقام في السهول الممتدة حول بعلبك، حيث الكروم والخمر التي «أسكرت الناس، وثنيات السهول الخصيبة».
ولقد وحد الفينيقيون بين النخلة، التي اعتبرها الساميون بعامة شجرة الحياة في جنة عدن وبين آلهة الإخصاب الجنسي والتعشير عشتروت أو عشار؛ فالنخلة كانت شجرة الميلاد أو شجرة العائلة عند كل شعوب غرب آسيا، في مصر وبابل وفينيقيا والجزيرة العربية، كما أن من اسمها جاءت تسمية فينيقيا أو فينيق أبو الفينيقيين، بمعنى «الدامي»؛ إذ إن شعوب البحر الأبيض ربطت بين عمليات إخصاب النخيل، أو ما يعرف ﺑ «الطلوع» أو التلقيح التي بدونها لا تطرح النخلة أو تثمر، فهناك علاقة بين النخيل، وبين الموت ثم القيامة، أو توالي الولادة والاستمرار.
وكانت النخلة هي شجرة عشتروت المقدسة، فمن ثمرها — أو تمرها — تسمت عشتروت، كما أن من اسم ثمرها جاء اسم الإله «دامور» أو «تامير» أي التمر، ووُجدت آثار هذا الإله في جزر البحر المتوسط التي استعمرها الفينيقيون، فكان يُصك على النقود في شكل أو شعار نخلة وافرة الثمار.
ودخلت النخلة الميثولوجي الإغريقي، فكل من الآلهة أبولو، ونبتون، وذيلين، وُلدوا تحت نخلة، وكذلك المسيح في الميثولوجي السامي.
وتضيف أساطير بعلبك، ذات الأصول أو المنابع المصرية، أن طائرًا يُسمى فينيق أو النخيل كان يحج إلى هليوبوليس، أو بعلبك، فيموت بها ثم يعاود الحياة من جديد … فيقال إن فينيق هذا هو بعينه الطائر المصري الخرافي «بينو»، وهو طائر خرافي لم يتشكك الأقدمون في الإيمان به، فعبدوه في هليوبوليس كروح لأوزوريس، كما رُبطت عبادته بعبادة رع، وعُدَّ في أغلب الأحيان صورة ثانية له، ووحده الفينيقيون بطائرهم فنيقس، الذي وصفه هردوت بأنه كان يشبه العنقاء، وقال بأنه يظهر في مصر مرة واحدة كل خمسمائة عام، وما أن يُولد «فينقس» في أعماق الصحراء أو الجزيرة العربية حتى يطير رأسًا حاملًا جثمان أبيه، ليحط على مذبح معبد هليوبوليس، وهناك تحرقه أعشاب المر، ويتم هذا في احتفالات ضخمة هائلة تُحشد لدفنه، وتتم في جو جنائزي كبير، ويُعد موت هذا الطائر فينقس أو بينو أهم حادث لاهوتي في كل مصر.
وفي إحدى الحكايات التي أوردها القديس هيرونيم عن هذا الطائر، الذي لقبه الفينيقيون باسمهم فينيق: «أن هذا الطائر يعيش في الهند لمدة خمسين عامًا، ثم يجيء إلى فينيقيا ليجمع طيوب لبنان، ويُصنع منها أعشاب، فيغطي كاهن معبد هليوبوليس هيكل الأسرار، الذي يلقي عليه فينيق بطيوبه الممزوجة بالعنبر، لكن، ومع شروق الشمس يخفق فينيق بجناحيه، فيلتهب العنبر بواسطة أشعة الشمس، وتشتعل الطيوب فتحرق فينيق، لكنهم في اليوم التالي يرون دودة متولدة من رماده، وفي اليوم الذي يليه ينبت للدودة أجنحة، وفي اليوم الثالث يطير «فينيق» عائدًا إلى وطنه.»
وفي الأساطير العبرية: «أن فينيق طائر يعيش ألف سنة، وبعد انتهائها ينبعث في عشه لهيب فيحرقه، لكن تبقى فيه بيضة يعاود منها فينيق الحياة، وإن هذه القيامة أُعْطِيَتْ لفينيق من عند الله؛ لأنه كان الطائر الوحيد الذي استنكر أكل حواء من الثمرة المحرمة.»
وواضح أنها هي بعينها فكرة تقديس الجعران في اللاهوت المصري القديم؛ من حيث المغزى المتمثل في الموت ومعاودة القيامة.
وبحسب تفسير د. مرغريت مري، فإن الجانب الصلد الذي كان يتبقى من الجعران الميت يصبح بعد ذلك وعاء يبيض فيه جعران جديد، أي إن من الموت تنبت الحياة.
ولقد لعبت هذه الشعيرة الفينيقية ذات الأصل المصري أهم أدوارها بعد ذلك فيما يتصل بمعتقدات الموت والفناء، ثم معاودة الحياة، أو الولادة، أو القيامة؛ فلقد امتدت مناقشات لاهوتية لا حصر لها حول هذه الفكرة الزراعية عن الموت والقيامة، وموجزها البذرة التي تفسد لتنبت وتزهر، واتسعت هذه المناقشات والمجادلات في القرون السابقة على ظهور المسيحية بل وعقبها، واشترك فيها من المؤرخين والمفكرين — فيما قبل المسيحية — بليني وسولون الأبدري وفيلسترات، ومن اللاهوتيين المسيحيين إقليم الإسكندري، وأوريجان، وأوساب، والقديس غريغور النزنزيري، والقديس كيرلس الأورشليمي، والقديس هيرونيم، والكثيرون غيرهم.
ويبدو أن احتفالات موت فينيق وقيامته الهائلة كانت تُقام بمدينة بعلبك، لمشاهدة شعائر موت واحتراق ذلك الطائر فينيق، ثم قيامته المظفرة «حيث كان يرتقي الأعشاب العطرية ارتقاءه عرش الخلود، فتحرقه أشعة الشمس على مرأًى من الملوك والعظماء، والكبراء والكهنة والأحبار، وعدد لا يُحصى من الشعوب المتقاطرة، لمشاهدته من جميع جهات آسيا، ولا يلبث قليلًا حتى يحيا ثانية من بين رماده، ويطير مجددًا شبابه السماوي الخالد».
كما يبدو أن ثمة علاقة غريبة، لم يتنبه إليها أحد بالدرجة الكافية، وهي العلاقة بين الاسم فينيق أبو الفينيقيين، وبين نباته أو شعاره المقدس أو طوطمه، الذي هو النخلة، وكذلك بين معتقدات الموت والفناء، ثم معاودة البعث والقيامة التي كان يمثل أطوارها ذلك الطائر المقدس المسمى فينيق.
والذي أود أن أتلمسه وأشير إليه هو من ثمر النخلة أو بلحها كان سكان الشرق الأدنى القديم يصنعون خمرهم المعروف بالجعة أو العرقي، وكانوا يشربون ويسكرون، قرى بأسرها تشرب وتسكر وتنام كلما خيم الليل «ولك مخافة الانزلاق والتفكير في معميات الحياة والموت والفناء».
وهي واحدة من لمسات أبو التاريخ هردوت وتفسيراته التي دوَّنها في كتبه التسعة خلال طوافه بشعوب شرقنا الأدنى القديم الغابر.
ولقد تداخلت الممالك أو المدن الدول الكنعانية الفينيقية مع ما يتاخمها ويجاورها من شعوب وقبائل سامية، أي الآرامية المنحدرة من نسل آرام أكبر أبناء سام، في ممالك … آرام دمشق «التي يُقال إن مؤسسها هو عوص بكر آدم، وممالك صوبه وحماه وحمص ورحوب في سهل البقاع، وكذلك جشور، ويطور، نسبة إلى يطور بن إسماعيل بن إبراهيم من هاجر».
فالكنعانيون: «ملعونو العهد القديم، جابوا البحار ونشروا تجارتهم الواسعة، على عكس ما فعله الآراميون سكان الجبال الذين خافوا ركوب البحر واقتحامه وعدوه محرمًا أو تابوا، كالمصريين القدماء.»
ولقد واصل اليونان والرومان بعد ذلك اتهام هؤلاء الكنعانيين بالخسة والوضاعة، مثلما فعل جيرانهم الساميون من العرب واليهود، فقال عنهم شيشرون: «إنهم وُلدوا للعبودية»، وكذلك نظر إليه سقراط. وكان من بين أمثلتهم: «سوري ضد فينيقي» بمعنى: خبيث ضد خبيث.
والواقع أن الامبراطوريتين الإغريقية والرومانية استفادتا أشد الاستفادة من تمزق هذه الشعوب القبلية العرقية المتنافرة في الشام وفلسطين؛ من فينيقيين وآراميين وسريان وعبرانيين وأنباط وعرب.
إلا أن الشيء الهام الذي خلفه النسل أو الرهط — اللعين بحسب اعتقاد القدماء — هو اللغة الكنعانية، التي منها جاءت العبرية القديمة لغة الكتاب المقدس، والتي لم تكن الأبجدية الفينيقية سوى إحدى أفرعها، والأبجدية الفينيقية «هي ما أصبحت اللغة اليونانية، التي كتب بها اليونانيون منذ القرن الثامن ق.م. كما يقول توينبي».
ولقد خلفت هذه الشعوب السامية أسماء أسلافها، وأسماؤها على كل مكان وطئته.
كما تُنسب تسمية أرمينيا — بالاتحاد السوفياتي اليوم — إلى هجرات آرامية يُقال إنها وقعت في القرن السابع قبل الميلاد إلى أرمينيا التي كانت تُعرف قبلًا بأرض أراراط.
بها عين البقر، وهي بالقرب من عكا، يزورها المسلمون واليهود والنصارى، ويعتقدون أن البقر الذي ظهر لآدم فحرث عليه لأول مرة أُخرج من هذه العين، وهي نفس العين التي سماها الفرنسيون بعد ذلك في القرن السابع عشر ﺑ «عين العذراء مريم».
ونهر القاسمية، كان يُسمى نهر الليطاني أو الممنوع أو الملعون أو الحرام، وكذلك نهر قديشا أو المقدس الذي سموه «ليطا» وفسروه بالشرير، أما نهر الأولى، أي نهر المدينة الأولى، فقد سماه العرب قديمًا بنهر الفراديس، وكذلك فقد استبدل العرب نهر أدونيس باسم إبراهيم، ويشير «رينان» إلى وجود علاقة بين إبراهيم وإيل إله جبيل، بل إن العرب خلطوا بين إبراهيم وبين الإله «بل» إله الكنعانيين.
ومن أماكن اليمن المشئومة جبال ختا أو خياف، والجبل الأشيب سيد جبال النار، وقطب اليمن، فيُقال إن ذلك الجبل يظهر عليه أهل النار والخراب، وتعوي فيه الذئاب، كما أن من بين الأماكن الملعونة نجران وصعدة، وبكلى، ويُروى عنها الكثير من الخرافات، وأما جبالها المقدسة فهي جبال حضور، وحنين، ورأس جبل علي، ورأس صبر، وتعكر … إلخ.
وباليمن وادي يُعرف بوادي عشار «كثير الإخصاب»، نسبة إلى الإلهة إيشار أو عشتروت، كما أن اليمنيين نسبوا أقدم قصور اليمن، وهو قصر «غمدان»، إلى سام بن نوح الذي «ابتدأ بناءه واحتفر بئره»، وتنسب حوله الخرافات، أن طائرًا اختطف المقرانة وطار بها، وتبعه سام لينظر أين أوقعها الطائر، ثم أقام البناء.
ويُقال إن هذا التقليد كان منتشرًا بكثرة في أيام الحروب الصليبية، كما يقال بأن باني دمشق هو «اليعازر» خادم النبي إبراهيم، في نفس الحقل الذي قتل فيه قابيل أخاه هابيل.
فيبدو أن أدوم كانت تشمل أيضًا جزءًا من الأردن، ويؤكد هذا الكشوف الحفرية التي توصلت إليها البعثة التي أعلنت بعض نتائج اكتشافاتها في يوليو ١٩٧٤.
وينتشر بين سكان جبل قاسيون شمال دمشق اعتقاد بأن جريمة «القتل الأولى وقعت في أعلى قمم الجبل»، وينسب القزويني لإحدى صخور دمشق الكبيرة أنها كانت المكان الذي قدَّما عليه قربانهما «حين تُقبل من صاحب الزرع، ولم يُتقبل من صاحب الرعي»، وهناك حجر عليه مثل آثار الدم، اعتقد الدمشقيون القدماء في أنه الحجر الذي هشم عليه الأخ أخاه؛ لذا سُميت المغارة المجاورة لهذا الحجر «مغارة الدم».
ولقد وحد الأقدمون بين قابيل والشيطان «أشمودي» الذي يُنسب له تشييد مدينة بعلبك، التي اعتبروها أول مدينة في العالم؛ إذ إن قابيل بن آدم عندما اعتراه الارتعاش أمر ببنائها، ولقبها باسم ابنه أخنوخ — النبي إدريس — وأسكن فيها الجبابرة والمهترجية. ولكثرة فواحشهم أرسل الله عليهم طوفان الماء «أو طوفان نوح».
ويُسمى وادي البقاع بسوريا بسهل نوح، وبه قبر نوح بالقرب من زحلة، وإن ملكًا هو الملك الظاهر — عام ١٢٥٨م — أعاد بناء القبر فجعله «واحدًا وثلاثين مترًا».
ويعتقد سكان قرية كفر ناحور بلبنان أن قبر كنعان موجود على إحدى الصخور الموجودة هناك، كما يُقال إن النمرود بن كنعان هو باني قلعة بعلبك، وفي بعلبك بقايا آثار قصر سليمان، ودير إلياس، وجبل سعيد الذي على قمته أقدم إبراهيم على ذبح ابنه وبكره إسماعيل.
وفي مدينة عكا توجد قبور «عك» باني المدينة، وعيش، وشمعون، وذي الكفل، وهود، وعزيز، وشعيب، وابنته زوجة النبي موسى، وفي قرية إربل أربعة قبور لأربعة من أبناء يعقوب، وكذلك غار وُجد به قبر أم موسى، ويشوع بن نون، بالإضافة إلى سبعين نبيًّا.
موجز القول أن الأقوام السامية قد خلفت أساطيرها ومعتقداتها الخرافية في عصور الظلمات أو عصور ما قبل العالم على آثارها ومنشآتها ومعالمها الطبيعية بشكل غاية في الإفراط.