تدوين التراث
لم ولن تكون الميثولوجيا العبرية والتراث اليهودي حكرًا ووقفًا على اليهود؛ ذلك أنها الجانب التسجيلي المبكر لمجرى الأحداث المبكرة لتاريخ الشرق الأدنى القديم، بهجراته ومنازعاته ولاهوته ومعتقداته ونكباته، وأدق خصائص كل رهط وقبيلة ومدينة دولة وشعب، لأقوام الشعوب السامية أو غير السامية التي تنازعت الوجود على أرض هذا الجزء من العالم، وهو شرقنا الأدنى الموغل في القدم والعراقة والتجدد الدائم.
ودور اليهود في هذا التراث لا يعدو أنهم كانوا مُدَوِّنيه المبكرين وحَفَظَته من الضياع، ومن خلال دورهم فيه، مع عدم تناسي موقفهم الحلقي القبلي المغلق، الذي أبرز دورهم كقبائل عنصرية فاشية متفوقة «من الأولياء» كما يدعون، وهي مرحلة حتَّمت عليهم تلقي مجرى أحداث العالم الخارجي من حولهم، من خلالهم هم بالذات.
إلا أن ما يجدر تأكيده هو أن التراث العبري ملك مشاع مشترك لكافة شعوب الشرق الأدنى؛ نظرًا لكونه وثيقة مدونة مبكرة لها أهميتها في التعريف بماضي هذه الأقوام مجتمعة، تُضاف إلى بقية الوثائق، من حفرية أو تاريخية ونصية وشفاهية، في إلقاء المزيد من الضوء على ذلك الماضي؛ بهدف إعادة إنارة وجلاء مستقبله. فما أحوجنا اليوم إلى المعرفة شبه العلمية لماضينا ومكوناتنا الأولى، بالقدر الذي يسهم في إيضاح طريق المستقبل!
لذا فمن الصعب بل المستحيل أن يتكامل تاريخ حضاري شامل متكامل لشرقنا القديم بمعزل عن المدونات العبرية، من مقدسة وغير مقدسة ومحظورة أو ممنوعة وهكذا. من ذلك التوراة أو العهد القديم والتوراة الشفاهية؛ أي التلمودان البابلي العراقي والأورشليمي الفلسطيني، والتلمودان الحجازي، والأسفار المحظورة «الأبوكريفا».
وليس هذا برأي جديد؛ إذ إن كثيرًا ما ترفض حركة الأساطير والفولكور العالمية اعتبار التراث اليهودي العبري بعامة تراثًا متميزًا مكتمل الشخصية، على اعتبار أنه «في مجمله ينتمي لتراث البلدان المتاخمة»؛ أي إن هناك شرعية في ملكيتنا أيضًا لهذا التراث البالغ الأهمية الذي ينتمي في مجمله لتراث البلدان المجاورة، في فلسطين والشام، ومصر والعراق واليمن.
وكما يقول كامل زهيري، فإن اليهود قوم تكمن مأساتهم في أنهم يمتلكون تاريخًا دون جغرافيا، بمعنى وطن، أو قطعة أرض، فهم كجنس تراجيدي غريب، واصل طوافه المتصل الدائم، من مجتمع إلى آخر ومن قارة لأخرى، على طول تاريخهم — سواء القديم أو الحديث — مما أكسبهم لفولكلور ومعتقدات وثقافات تلك الشعوب التي عاشروها واتصلوا بها، منذ خروج القبائل الرعوية العبرية من أور الكلدانيين في دلتا العراق مع انتهاء الألف الثالثة قبل الميلاد، ونزولهم أول أمرهم جيرانًا في بادية الشام، ثم دخولهم أو مجيئهم إلى مصر، ثم نزولهم إلى فلسطين أو أرض كنعان، واتصالاتهم وتعاملهم مع الكنعانيين والأموريين، وامتصاصهم الدائم لتراث هذه الأقوام وغيرها.
وتجيء بعد ذلك عصور اتصالاتهم بالبابليين والآشوريين والفرس منذ الألف الأولى قبل الميلاد، فمن بابل وآشور أخذوا أغلب معتقداتهم عن السحر والحيوانات الخرافية السحرية التي تتبدى بكثرة شديدة في رؤى دانيال ومراثي أرميا وحزقيال.
ومن الفرس جاءتهم كل تصوراتهم ومعتقداتهم عن الملائكة والشياطين والجن، بمعالمها وأسمائها الفارسية المجوسية، إلى جانب الثنائية الفارسية عن الخير والشر، أو الموجب والسالب، والتي تمير بها هذا التراث الآري المجوسي وسط حضارات العالم القديم عامة والتراث السامي بشكل أخص.
ولقد جاءت الكشوف السومرية اللاسامية في العراق، فأوضحت الكثير من الغموض بالنسبة للتراث السامي بشكل عام، والتراث العبري بشكل أخص؛ فلقد أوضحت هذه الكشوف السومرية — الألف الرابعة قبل الميلاد — عن حقيقة «أصل التوراة ذاتها ومنشئها، وأن هذه المجموعة من المآثر العظيمة لم تجئ إلى الوجود كالأزهار الصناعية وهي كاملة النمو، بمعنى أنها تنتشر انتشارًا واسع المدى في تراث الأقوام المجاورة».
وليس الغريب أن تراث العبريين هو على وجه التقريب تراث وحضارة أولئك السومريين اللاساميين وصل اليهود عن طريق الوساطة الكنعانية، مثلهم في هذا مثل بقية الأقوام والجماعات السامية، وذلك عقب انتقال ذلك التراث السومري إلى الورثة المباشرين، وهم الكلدانيون والبابليون والآشوريون والحثيون والكنعانيون.
وعن الكنعانيين الذين سبقوا العبريين في استيطان فلسطين، وبعض مدن الساحل الفينيقي، سرى إلى الوجود تراث تلك الحضارة اللاسامية المندثرة مثلما توارث العرب — خاصة القحطانيين سكان اليمن والجنوب العربي — حضارات لاحقيهم من القبائل العربية المندثرة التي ترجع إلى ما قبل الألف الثالثة قبل الميلاد، وهم قبائل عاد وثمود وطسم وجديس والعماليق، وغيرهم.
وقد لعبت الحضارة الكنعانية، وطليعتها البحرية فينيقيا — نظرًا لاقتحامها المبكر للبحرين الأبيض والأحمر — دور الوسيط في حمل تراثَي مصر وبابل، والإبحار به ونشره على طول سواحل البحر المتوسط.
لذا يرى البعض أن كلا التراثين العقائديين العبري اليهودي والفارسي المجوسي، بالإضافة إلى التراثين الهليني والمسيحي؛ جاء جميعه تحت التأثير المباشر الكنعاني، السوري أو الآشوري فيما بعد.
فيبدو أن خليطًا عريضًا من أجناس وأقوام شعوب البحر المتوسط قد استوطنوا المدن السورية على مدى تاريخها، مما ساعد على إثراء التراث السوري الكنعاني.
ويرجع السبب في تركيزي على الحضارات أو المنابع الأم أو حضارات الجيل الأول في دلتا العراق، حيث الحضارة السومرية الأكادية، وفي دلتا وادي النيل حيث الحضارة المصرية الفرعونية؛ إلى محاولة تعرف النبتة الأولى لكل موتيف أسطوري أو فولكلوري وإمكانية تتبعه؛ وذلك نظرًا لتعدد المصادر وتنوعها بالنسبة للفكرة أو الموتيف الواحد، مما قد يوقع الباحث في الخطأ وفقدان الطريق، وإعادة هدم ما أوشك في بدئه، وهو ما أصبح تقليدًا ساريًا بالنسبة لدارس تراث قلب العالم القديم.
فما من إضافة كشفية أثرية أركيولوجية أو نصية، أو شفاهية، لم تسهم في إعادة تكامل جزئيات هذا التراث الهائل، مما يترتب عليه دوام الهدم المستهدف — أصلًا — لتوالي البناء واستقامته.
فيمكن اعتبار الدراسات الفولكلورية — محتوية أو متضمنة الأساطير — أحد المراكبات الهامة اليوم، في إعادة بناء تاريخ الجسد الحضارة، لأي شعب أو مجموعة من الشعوب.
مثل هذه الدراسات قد قطعت شوطًا كبيرًا، خاصة فيما يتصل بالتصنيف؛ أي تجميع وتراكم عينات الفكرة أو المقولة الواحدة، ثم بعد ذلك إعادة تعرف تاريخ حياة كل فكرة على حدة، والأخذ بمبدأ أن أي فكرة أو مقولة أو شعيرة تصبح بلا قيمة ما لم يتحدد أصلها وفصلها، وما طرأ عليها من تغيرات وإضافات من عصر لعصر.
وبمعنى آخر فإن فكرة خلق حواء من ضلع الرجل — مثلًا — ترد منحدرة من التراث السومري اللاسامي، متبدية في التراث السامي عند الورثة البابليين والحثيين، منتقلة إلى الكنعانيين الفينيقيين، متبدية في أسطورة الإله «موت»!
فكان أن نقلها العبريون إلى أسطورة الخلق أو سفر التكوين، وكذلك طوف بها الكنعانيون وطليعتهم البحارة الفينيقيون إلى الحضارة الإيجية، ومنها دخلت هذه الجزئية إلى التراث الهليني اليوناني، ثم الروماني فيما بعد، ثم اللاتيني في العهد المتأخر.
وبشكل مجمل يمكن القول بأن أسفار التكوين الأحد عشر الأولى، تنتمي بكاملها إلى الميثولوجيا الكنعانية المتوارثة مباشرة من الحثيين والبابليين.
ثم يعقب هذا سلسلة الأنساب المفقودة، أو المفتقدة، لحين مولد الجبابرة أو العماليق أو النماردة، ملوك بابل والشام، فمن المعتقد أن أولئك الجبابرة البادئين أو المندحرين، هم بذاتهم الذين حاربهم العرب والعبريون على السواء.
وسطروا عن عاد وثمود والعمالقة في ذلك أخبارًا عريقة في الكذب، من أغربها ما يحكون عن عوج بن عناق، رجل من العمالقة الذين حاربهم بنو إسرائيل في الشام، فزعموا أنه كان لطوله يتناول السمك من البحر ويشويه في الشمس.
كما يقال إن أولئك الجبابرة هم الذين استأصلهم وأبادهم العمونيون والموآبيون سكان الأردن، المنحدرون من نسل لوط، والذين سبقوا — الإسرائيليين بالتحديد — في استيطان شرق الأردن.
من نتاج ما بين الملائكة وبنات آدم، فكان الملك من الملائكة إذا عصى ربه في السماء أهبطه إلى الأرض في صورة رجل، كما صُنع بهاروت وماروت، وما كان من شأنهما وشأن الزهرة — أناهيد — فحين هبط جرهم في صورة الرجل تزوج أم جرهم فولدت له جرهمًا.
وهم المنحدرون من نسل شيث بن آدم «وإلى شيث تنتهي أنساب جميع أبناء آدم.»
وكان الصابئة يقولون بقدم الأصلين «الله والشيطان»، أو الخير والشر، والموجب والسالب، مثلهم مثل المجوس، ويعتقدون في «الكواكب السبعة والبروج الاثني عشر، ويقربون الذوابح، ويصلون خمس صلوات في اليوم والليلة، ويصومون شهر رمضان، ويستقبلون في صلواتهم الكعبة، وحرموا الميتة ولحم الخنزير، وكان الذي يدين به الصابئة أقدم الأديان على وجه الدهر والغالب على الدنيا، وبقاياهم بحران يُسَمُّون الحنفاء، ويتفقون مع النصارى في التثليث وفي أن خالق الخلق ثلاثة».
ويبدو تقديس الساميين «أصحاب الوبر» لهؤلاء الأسلاف من الجبارين «بني إلوهيم» أو العماليق، في تلك الأسطورة التي تكشف عن أصل منشئهم. ويلاحظ جيدًا في هذا التراث الأسطوري السامي أنه ما من شعب أو قوم أو قبيلة أو رهط لم تصاحبه أسطورته التي دفعت به إلى الوجود وجاءت به إلى العالم ورسمت له أرض ميعاده.
وسنحاول توضيح هذا عند التعرض لكل مجموعة أو حضارة أو شعب بقدر من التبسيط، ونظرًا لأن هذه الحضارات أو المجموعات أو القبائل المتجانسة هي ما ستطالعنا بشكل متوالٍ يفضي بنا إلى متاهات علوم الأنساب، أو الكوزمولوجي.
فيرجع سفر التكوين الأسطورة المصاحبة لمولد ووجود هؤلاء الجبابرة إلى أن اتصالًا كان قد تم بين الملائكة وبنات الناس «حين دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولادًا، وهؤلاء هم الجبارون الذين منذ الدهر ذوو اسم.» وتذكر أغلب المصادر السامية أن هذا الاتصال وقع على جبل «حرمون» أو جبل الشيخ بلبنان وتحت ظلال أشجار أرز لبنان، شجر عشتروت إلهة الإخصاب الجنسي، «وهناك وُلد الجبارون المذكورون الذين كانوا في البدء الطوال القامات الحاذقين بالقتال.»
وعلى هذا فرقت الأقوام السامية بينها وبين أولئك الجبابرة، بل إنهم حاربوهم واعتبروهم خارج النسل السامي.
ومن نسل سام جاء عيلام — أبو العيلاميين — وآشور ولد آرام — أبو الآراميين — وشالح وعابر، «ولعابر وُلد ابنان اسم الواحد فالح؛ لأن في أيامه قُسمت الأرض، واسم أخيه يقطان.»
ويقطان هو قحطان — أبو القحطانيين — ومنه جاء العرب القحطانيون الجنوبيون سكان اليمن، كما أنه أبو العرب العاربة. وابنه يعرب بن قحطان «أول من تكلم العربية»، ومن نسله جاء ملوك سبأ، وكان أولهم الملك عبد شمس بن سبأ، الذي سُمي سبأً لأنه كان يسبي أعداءه، وبحسب ما يشير به نسابة العرب، فإن من نسل سبأ انحدر ملوك حمير، وكهلان.
فمن حمير ملوك بني قضاعة، وبنو كلب بن وبرة — وهم الكلبيون — ومن كهلان انحدرت سبعة بطون، تضخموا إلى قبائل وحضارات كبيرة فيما بعد، وهم: طيء، ومذحج، وهمدان، وكندة، ومراد، وأنمار، والأزد، ومن الأزد انحدر الغساسنة ملوك الشام — عقب خراب سد مأرب — وكذلك انحدر منهم قبيلتا الأوس والخزرج ملوك يثرب، ومنهم أيضًا انحدرت قبائل خزاعة، سَدَنة أو كهنة الكعبة قبل الإسلام.
ومن نسل الأخ الثاني عابر انحدر العبريون، ويقال إنه إنما سُمي عابر لأنه كان أول من عبر الأرض، وهو أبو القبائل العبرية، بمعنى أن لفظ عبري تشمل معنًى أوسع وأشمل من لفظ إسرائيل أو يهودي، فإسرائيلي ترتبط بشكل خاص بيعقوب الذي سُمي إسرائيل، ويهودي نسبة إلى ابنه يهوذا، وهم ما سنتعرض له في حينه.
ويبدو أن عابر كان هو أبو القبائل الرعوية أو البدو الرحل أصحاب الوبر سكان الصحراء؛ إذ إن عابر أنجب «رعو»، بما قد يشير إلى رعى أو رعاة، ومن رعو جاء تارح الذي أنجب بدوره «إبرام — إبراهيم — وناحور وهاران، وولد هاران لوطًا»، وهكذا تكتمل بداية أصول إبرام أو إبراهيم الخليل، حين هاجرت من العراق الأعلى منطقة الجزيرة بين دجلة والفرات المعروفة إلى اليوم في العراق ﺑ «أور الكلدانيين».
وكان اسم امرأة إبرام ساراي، وكانت ساراي عاقرًا ليس لها ولد … وما يهمنا هنا هو هجرة قبيلتي إبراهيم ولوط ابن أخيه هاران، «فخرجوا من أور الكلدانيين ليذهبوا إلى أرض كنعان، فأتوا إلى هاران، وأقاموا هناك.»
ويُؤرخ لهذه الهجرة ابتداء من الألف الثانية قبل الميلاد، حوالي ١٩٢٠ق.م …
وهنا تمهد الأسطورة «اللوطية» إلى خروج القبائل الموآبيين والعمونيين إلى الوجود، سكان الأردن الذين نازعوا القبائل الإسرائيلية بعد ذلك على طول تاريخ الإسرائيليين في فلسطين، فبعد أن احتمى لوط بالمغارة مع ابنتيه «قالت البكر للصغيرة: أبونا شاخ، وليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة أهل الأرض، هلم نسقي أبانا خمرًا ونضطجع معه.» وهكذا تعاقبتا الاضطجاع مع أبيهما، فولدت البكر ابنًا ودعت اسمه موآب وهو أبو الموآبيين إلى اليوم، وولدت الصغيرة أيضًا ابنًا ودعت اسمه بن عمى وهو أبو بني عمون إلى اليوم.
وهي تضمينة أسطورية مهاجرة من أصل مصري، وترد في الميثولوجيا المصرية مرتبطة بآلهة الموت «ونيك» ومن ألقابها «سيدة القصر»، وجاء مولدها في اليوم الخامس النسيئة.
وتروي أساطير هذه الإلهة نفتيس: «أنها كانت تتمنى أن تنجب طفلًا من أخيها الأكبر أوزوريس؛ ولهذا الغرض أسكرته وضاجعته، وكان ثمرة هذا اللقاء الدنس إنجابها للإله أنوبيس.»
ويُعتبر هذا الإله المصري أنوبيس بمثابة النبتة الأولى للملاك — الرسول جبريل أو جبرائيل — في الميثولوجيا السامية.
•••
وكانت القبائل العمونية — بالأردن — قبائل زراعية، قريبة لهجاتها من العربية، بينما كان الموآبيون بدوًا صحراويين رحلًا، وهي فكرة ستتكرر بشكل متوالٍ فيما بعد، وموجزها الصراع الأزلي بين الزراعة والبداوة، وبين الفلاحين والبدو.
وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا، فلا تستبقِ منها نسمة، بل تحرمها تحريمًا، الحثيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين.
وكانت زوجة إبراهيم الثالثة، التي تزوجها عقب وفاة سارة، امرأة كنعانية تُدعى قطورة، فمن رحمها انحدر ستة ملوك أو أقوام هم: زمران ويقشان ومدان ومدايان ويشباق وشوحا، ومنهم جاء ملوك شبا أو سبأ، وددان أو ديدان، وسيناء … إلخ.
ويُقال إن هذه الأقوام والقبائل العربية من آدوميين وموآبيين وعمالقة وعمونيين ومديانيين، وغيرهم من أعراب سوريا؛ تحالفوا عام ٢٠٠٠ قبل الميلاد وغزوا مصر تحت اسم «الهكسوس» أو ملوك الرعاة، وأخضعوها لمدة قرنين.
وطبعًا كان لكل من هذه الأقوام والقبائل التي تكاثرت بدورها متمددة متطاحنة؛ كان لكل منها أنبياؤها وطلائعها ومشرعوها.
فإلى قبائل الجبابرة — أبناء الله ومنهم قبائل عاد البائدة — أُرسل النبي هود، الذي يمكن توحده مع الدهر أو المنايا أو المنون أو القدر.
وإلى ثمود أُرسل صالح، وطوطمه المتمثل في الناقة، أو الإبل، كما كان أيوب نبيًّا للأدوميين، أهل أدوم، في بادية الشام بسوريا.
وكان مثلهم مثل بقية الأقوام الكنعانية، بل السامية بعامة، يقدمون التضحيات البشرية وغير البشرية «قدس لي كل فاتح رحم من الناس والبهائم»، «وأطلب أنا دمكم لأنفسكم فقط، من يد كل حيوان أطلبه، ومن يد الإنسان أطلب نفس الإنسان.»
كما أنهم اعتقدوا في الجن والشياطين والعفاريت والأرواح الشريرة والخبيثة.
ويرى بعض المستشرقين مثل «نولدكه» أن معتقداتهم هذه عن الجن والشياطين جاءتهم من الإيرانيين.
فانتقال العرش من شاول — أول ملوكهم — إلى بيت داود خطيئة مرجعها طلب شاول هذا إلى الجن للسؤال، ولم يسأل من الرب، فأماته وحول المملكة إلى داود بن يسى.
وهي نفسها الخطيئة التي بسببها جز الفلسطينييون رأس شاول هذا «وسمروها في بيت إلههم داجوان، إله الحبوب».
ويبدو أنها فكرة أو تضمينة أسطورية متوارثة منذ السومريين.
كما أن منها الربط بين الخطايا ومداخل البيوت وأعتابها في الميثولوجيا المسيحية: «خطيئة رابضة عند الباب، وإليك اشتياقها.»
كما حلت القباب الحمر محل تابوت العهد عند العرب، ومنها «قبة مصر الحمراء» أو «القبة الحمراء وهي من آدم» أو «أهل القباب الحمر»، وهو ما مر الحديث عنه. وكذلك المنازعات الطويلة حول رأس عيسو أو العيص أبو الأدوميين.
ويُلاحظ أنه منذ بضع سنين — يوليو١٩٧٤ — اكتشفت إحدى البعثات الإنكليزية أطلال مدينة أدوم بالأردن، وترجع إلى ٢٧٠٠ق.م …
ومع تسيُّد الإسرائيليين على جيرانهم ومتاخمتهم، تسيَّد — بالتالي — طوطمهم، أو تابوت العهد، فكانوا يقدمون له القرابين «واحد لأشدود، وواحد لغزة، وواحد لأشقلون، وواحد لعقرون وفيران الذهب — بعدد جميع الفلسطينيين، وشاهد هو الحجر الكبير الذي وضعوا عليه تابوت الرب».
ومع انتصار داود على سلفه وغريمه الملك شاول — أول ملوك إسرائيل — وانتقال الملك إلى سبطه أو عائلته، نقل داود التابوت إلى مدينته «مدينة داود، بفرح، وكان كلما خطا حاملو تابوت الرب ست خطوات يذبح ثورًا وعجلًا معلوفًا، وكان داود يرقص بكل قوته أمام الرب»، ويبدو أن انطلاق داود وتهتكه أمام التابوت لم يرضِ الأرستقراطية الإسرائيلية الجديدة؛ إذ إن زوجته ميكال ابنة الملك شاول الذي خلفه داود — وكان كلاهما من القاع — على عرش أورشليم، لم ترضَ ميكال عن تصرف داود هذا حين أطلت من الكوة ورأت الملك داود يقفز ويرقص أمام الرب، فاحتقرته في قلبها.
ونصب داود التابوت «في وسط الخيمة التي نصبها له»، والخيمة هي ما أصبحت بعد ذلك «خيمة الاجتماع»، مثلما كانت «بيوت الحَلْفاء» أو المعابد المجدولة من الحَلْفاء نواة للمعبد المصري القديم، ومثلما كانت الكعبة في أدنى أشكالها يسمونها «الأخشف» أو «الغبغب»، وهي المكان الذي نصب عليه الكاهن الخرافي عمرو بن لحي الجرهمي أصنام مكة التي قيل إنها بلغت ٣٦٠ صنمًا، بعدد أيام السنة القمرية.
وكانت خيمة الاجتماع هذه بمثابة التمهيد لإقامة المعبد الإسرائيلي أو الهيكل الذي بناه المهندسون والفنانون الفينيقيون على نمط المعابد المصرية من حيث المعمار، والنحت، والتصوير الآشوري البابلي من حيث التشكيل.
ولقد حدثت حكاية طريفة حول إقدام داود على تشييد أول معبد عبري، حين قال الملك داود لناثان النبي: «أنا أسكن القصر، وتابوت الله ساكن داخل الشقق.»
فكان أن غضب «يهوه» أو «التابوت» أو «الطوطم السلف»، ورد إليه ناثان قائلًا: «اذهب وقل لعبدي داود: هكذا قال الرب، أنت تبني لي بيتًا لسكناي؛ لأني لم أسكن في بيت منذ يوم أصعدت بني إسرائيل من مصر إلى هذا اليوم، بل كنت أسير في خيمة وفي مسكن»، كما قال يهوه لداود: «أنا أخستك من المربض من وراء الغنم لتكون رئيسًا على شعبي إسرائيل.»
وكثيرًا ما كان أنبياؤهم يمنعونهم من «مضاجعة النساء المجتمعات في بيت خيمة الاجتماع».
وفي تلك المرحلة الطوطمية كانوا يلقبون النبي ﺑ «الرائي»؛ أي الذي يرى حجب المستقبل، وكان «الكهنة من بني لأول، حاملي تابوت عهد الرب» يمنعونهم بحسب وصايا موسى من مضاجعة البهائم والحيوانات، من على قمم الجبال، فكانوا يقولون: «ملعون من يضطجع مع امرأة أبيه؛ لأنه يكشف ذيل أبيه وأمه، ملعون من يضطجع مع حماته» … إلخ.
ومثلهم مثل بقية الأقوام والقبائل الطوطمية، كانوا يقدسون الأحجار والشواهد.
ويرد ذكر الأصنام أو الأحجار — المقدسة — أو الشواهد، خلال ذكر تاريخ ذلك الطور الطوطمي — الأنيمي — الذي مرَّت به هذه القبائل أو الأقوام المتنافرة في بعض مدن الشام وفلسطين.
ولعل «اختيار» داود للأحجار الخمسة التي نازَل بها خصمه الفلسطيني جالوت؛ له دلالته.
فلقد كانوا يقدسون مظاهر الطبيعة من حولهم؛ من آبار ماء وحيوانات وكهوف أو مزارات وأماكن مقدسة، لكل منها بعله أو سيده أو حاميه، فيقال: «بعل المكان الفلاني»، «أي إله ذلك المكان» أو حاميه.
وأورد سير جيمس فريزر كثيرًا من الشواهد على تقديسهم لمظاهر الطبيعة من حولهم، ومنها تلك الحيوانات والطيور والأشجار التي ترد بكثرة شديدة عندهم؛ مثل حكاية أشجار «يوثام» التي حكاها لهم من فوق أعلى جبل: «اسمعوا يا أهل شكيم، يسمع لكم الله، مرة ذهبت الأشجار لتمسح عليها ملكًا، فقالت للزيتونة: املكي علينا. فقالت لها الزيتونة: أأترك دهني الذي به يكرمون بي الله الناس، وأذهب لكي أملك على الأشجار؟ ثم قالت الأشجار للتينة: تَعَالَيْ أنت واملكي علينا … فقالت لها التينة: أأترك حلاوتي وثمري الطيب وأذهب لكي أملك على الأشجار؟ فقالت الأشجار للكرمة: تعالي أنت واملكي علينا … وقالت لها الكرمة: أأترك مسطاري الذي يفرح الله والناس، وأذهب لكي أملك على الأشجار؟ ثم قالت جميع الأشجار للعوسج: تعالَ أنت واملك علينا … فقال العوسج للأشجار: إن كنتم بالحق تمسحونني عليكم ملكًا، فتعالوا واحتموا تحت ظلي، وإلا فتخرج نار من العوسج وتأكل أرز لبنان.»
وتكشف الكيفية التي اختار بها جدعون — في المرحلة الطوطمية لشيوخ القبائل — رجاله لقتال الميدانيين «سكان سيناء» الذين استعمروهم، عن كيف أن هذه القبائل كانت مغرقة في الطوطمية.
وقال الرب لجدعون: كل من يلغ بلسانه من الماء كما يلغ الكلب فأوقفه وحده. «وهكذا فرز جدعون هؤلاء — الكلبيين — وأخذهم وقاتل بهم الميديانيين «العرب» وأمسكوا أميري الميدانيين غرابًا وذئبًا، وقتلوا غرابًا على صخرة غراب، وأما ذئب فقتلوه في معصرة ذئب.»
وكانت النخلة شجرة الميلاد المقدسة عندهم كما كانت عند أغلب الشعوب السامية، مثل نخلة نجران عند عرب الجنوب، ونخلة تدمر أو تمر عند القحطانيين. وكانت النخلة هي الشجرة المقدسة عند الكاهنة دبورة أقدم شاعرة عبرية، «ودبورة امرأة نبية، وهي جالسة تحت نخلة دبورة بين الرامة وبيت إيل.»
ومثلهم مثل بقية القبائل والشعوب السامية البدائية، أكثروا من الإغراق في المعتقدات الغيبية، مثل السحر والتنجيم، والإيمان بالحظ أو الميسر مثل الجاهليين، فكانوا يحتكمون إلى القرعة في أغلب ما يخصهم من أمور مثل الحرب والإغارة، فبعد أن شاخ يشوع وتقدم في الأيام جمعهم وقال محذرًا من الاستغراق في الخرافات، ذلك رغم أن موسى كان قد حذرهم في وصاياه من العيافة والعرافة واستثارة الموتى، وغير هذا: «لا يوجد فيك من يجيز ابنه أو ابنته في النار، ولا من يعرف عرافة ولا عائفًا ولا متفائلًا ولا ساحرًا ولا من يرقى رقية، ولا من يسأل جانًّا أو توابعه، ولا من يستثير الموتى.»
ويبدو أن معتقداتهم عن التشاؤم والتفاؤل والعرافة والعيافة، قد انتقلت إليهم من جيرانهم الفينيقيين؛ إذ إن هذه المعتقدات كانت جزءًا حيويًّا من كيان المعبد الفينيقي، حيث خُصصت الحجرات السفلي من هذا المعبد لممارسة هذه الطقوس الخرافية، بنفس ما كان متبعًا بالنسبة للمعبد البابلي.
فما من أمر لم يحتكموا فيه إلى القرعة قبل تعيين الكهنة والخزنة والقضاة والحروب واختيار رؤساء الجيوش والغزو وجهاته، وهكذا …
وكان يشوع عاتيًا في إرسائه لتشريعاتهم المغرقة في القبلية، مثل رجم السارق، وإبادة بيته، بل وعشيرته؛ من ذلك أن أحدهم ويُدعى عخان اعترف له بإخفائه بعض الأسلاب عقب إحدى الغزوات، فكان أن «أخذ يشوع عخان بن زارح والفضة والرداء أو لسان الذهب وبنيه وبناته وبقره وحميره وغنمه وخيمته، وكل ما له، وجميع إسرائيل معه، فرجمهم جميع إسرائيل بالحجارة، وأحرقهم بالنار، وأقاموا فوق رجمهم حجارة عظيمة إلى هذا اليوم».
فكانت خطايا الآباء تحل بالأبناء، ويقع وزرها على رءوسهم، ويرد هذا صراحة في وصاياهم: «وقد أخبرته بأن أقضي على بيته إلى الأبد، من أجل الشر الذي يعلم أن بنيه قد أوجبوا اللعنة على أنفسهم.» فلعنة نوح لابنه حام وقعت مباشرة على رأس كنعان بن حام، وهكذا.
وكانوا يرجمون الابن الذي يعصي والديه؛ بحسب وصايا موسى لهم في سيناء.
كما كانوا يشهرون دم العروس «أخذ وِشَّهَا»، وإذا لم تكن للبنت العروس عذرية «يرجمها رجال مدينتها بالحجارة حتى تموت؛ لأنها عملت قباحة».
باختصار هو تراث طوطمي قبائلي، لا يختلف كثيرًا عن تراث العرب البائدة، وورثتهم الجاهليين.
ومن هنا، فمن العبث دراسة هذه المنطقة — قلب العالم القديم — بمعزل عن هذا التراث العبري السامي.
وبنفس هذا المنهج يتلقانا العالم المتحضر، على اعتبار أننا منطقة متوحدة التراث.