عَبَدَة القمر
ويتبنى العرب العدنانيون أي المنحدرون من نسل إسماعيل بن إبراهيم الخليل، فكرة أو رواية، مؤداها أن عرب الجزيرة العربية كانوا حنفاء؛ بمعنى أنهم كانوا على دين إبراهيم الخليل، موحدين لا يعبدون الأصنام والأوثان، فمن «كان على دين إبراهيم فهو حنيف. فلقد كانوا يختتنون ويحجون البيت ويغتسلون، ويتجنبون الأوثان … إلخ».
ويرى بعض الباحثين أن لفظة «حنيف» أو «حنف» من أصل آرامي، وعنهم أخذها اليهود العبريون والسريان والعرب، وخاصة سكان اليمن. ويقال إنه كان من الموحدين الحنفاء: قس بن ساعدة الإيادي، والشاعر الجاهلي العظيم أمية بن أبي الصلت، وأرباب بن رئاب، ووكيع بن سلمة بن زهير الإيادي، والشاعر زهير بن أبي سلمى، وخالد بن سنان العبسي، وسيف بن ذي يزن، وورقة بن نوفل القرشي، وغيرهم، وهو ما أورده القرآن في سورة آل عمران آية ٦٧ وما بعدها. وكان هشام وابنه محمد الكلبي على رأس المروجين لهذه النظرية التي شغلت عددًا كبيرًا جدًّا من المستشرقين وعلماء السامية المحدثين.
وينسب ابن الكلبي لشخصية ملك أو حاكم خرافي، هو عمرو بن لحي الجرهمي، أنه أول من جلب الأصنام ونصبها حول الكعبة؛ «فكان أول من غيَّر دين إبراهيم، وسيَّب السائبة، ووصل الوصيلة.»
ويبدو أن عمرو بن لحي الجرهمي هذا كان منتسبًا إلى واحدة من القبائل العربية البائدة أو المندثرة، وهي قبائل جرهم، فأمه «يُقال لها قمعة بنت معاف الجرهمي».
وتنسب المصادر الميثولوجية العربية المتمثلة في الرواة العرب لقبائل جرهم المندثرة مثلها مثل قبائل عاد وثمود وطسم وجديس؛ أنهم — أي جرهم — كانوا أخوالًا للعرب العدنانيين، وأن إسماعيل بن إبراهيم تزوج منهم بعد أن كبر حين تركه أبوه إبراهيم «بوادٍ غير ذي زرع»، فآنس الله وحشته وأمه هاجر، بقبائل جرهم والعماليق. يقول عبيد بن شريه الجرهمي: «فكنا نحن جرهم أصل البلد الحرام، فنشأ إسماعيل فينا، وتكلم العربية، وتزوج منَّا، فجميع ولد إسماعيل من بنت معاف بن عمرو الجرهمي، فإسماعيل وأبوه منا، وأنتم يا قريش منا، والعرب منا.»
ويقول الهمداني عن رواية لوهب بن منبه إنه «لما أخذ جرهم التابوت — أي تابوت عهد الرب — وبه جثمان آدم، وهم قبائل عدنان ومن معهم من العرب العماليق، طسم وجديس؛ أنهم واروه ودفنوه في مزبلة، فنهاهم عن ذلك الحارس بن معاف الجرهمي، والنبي إسماعيل بن الهمبسع بن ثابت بن فيدار بن إسماعيل بن إبراهيم، فلم ينتهوا، فأهلك الله الفريقين جرهم وعدنان، والذين هلكوا مائتا ألف ونيف، أرسل الله عليهم الرعاف، فحزن الحارس بن معاف على قومه لما هلكوا، وسار على وجهه يسيح في الأرض ثلاثمائة سنة، حتى ألمَّ به الكبر والهرم والعمى»، وهو القائل هذه الأشعار المكتوبة في مقام إبراهيم:
فيبدو أن ثمة صراعًا قد نشب بين القبائل العربية البائدة والباقية، أو بين قبائل جرهم وقبائل إسماعيل أو الهاجريين — وبقاياهم إلى اليوم بالسعودية — بنفس ما حدث مع عرب الجنوب القحطانيين، وأسلافهم من العرب البائدة عاد وثمود وطسم، وما حدث مع الكنعانيين والعبريين والعمالقة أو العماليق في ربوع الشام وفلسطين، بمعنى حلول أحقاب تاريخية أو حضارية بحسب تفسير هذا التاريخ الأسطوري التخميني.
ويبدو أن هذا النزاع بين القبائل البائدة والباقية، الذي قد يكون — على سبيل التخمين — نزاعًا ذا طابع حضاري مغرق في القدم، وأنه كان متبوعًا بانقلاب أبوي، أي نقل السلطة من الأم إلى الأب، أي من ساره وهاجر إلى إبراهيم وإسماعيل، أو من «بنت مضاض بن عمرو الجرهمي إلى إسماعيل وابنه قيدار وثابت … إلخ» وهذا ما دعا عبيد بن شريه الجرهمي إلى القول بأن «جميع ولد إسماعيل من بنت مضاض الجرهمي، وأيضا إسماعيل وأبوه إبراهيم وقريش والعرب من جرهم» نسبة إلى الإلهة الأم القبلية.
بل إن الصراع على التابوت — تابوت العهد الذي أخذته قبائل جرهم كما يقول وهب — يشير أكثر إلى طبيعة ذلك الصراع، ومعناه أن هذه القبائل السلفية كانت من عبدة جثمان آدم؛ فيقال إن الجثمان كان مخبوءًا في كهف ماكبيلا، وأن قبيلة كالب عبدته، ويقال إن قبائل كالب «العربية والعبرية» كانت تعبد جثمان آدم.
وكالب اسم لقبائل عربية وعبرية وكنعانية، ومن أسمائها ابن كلب بن وبره، و«بني كلب» بن «ربيعة بن صعصعة»، و«الكلبيين» و«كليب» … إلخ كما يقال بأن الأشياء التي كانت قد سرقتها راشيل — أم النبي يوسف — الإلهة القمرية الأم لقبيلة يعقوب «ولابان بن ناحور» بعد زواجها من يعقوب، كان من بينها رأس آدم، وراشيل — أو الكاهنة الحمامة — هي الإلهة الأم التي من اسمها جاءت إسرائيل.
وكانت قبائل كالب عشائر أدومية، ومنها جاءت تسمية آدم بمعنى الرجل الأحمر، وتوجد إشارات في التلمود إلى أن رأس العيص بن إسحاق أبو الأدوميين، كانت بدورها مجالًا لصراع متواصل، ويقال إن يوسف الصديق تمكن من انتزاع رأس عيسو أو العيص ودفنها في عبرون.
وإذا ما كانت لفظة «الآدم» تعني أديم الأرض، فقد يشير هذا إلى علاقة بين تابوت العهد أو التابوت الذي به جثمان آدم، بالإضافة إلى رأس العيص بن إسحاق «الرجل الأحمر» أبو الأدوميين، مما يؤكد أكثر أن تلك القبائل السالفة البائدة قد أورثت لاحقيهم من العرب الجاهليين عبادة أسلافهم الأول: آدم عند الهاجريين والعبريين، وابنه شيث بن آدم أو أخنوخ أو إدريس عند الصابئة، وإبراهيم عند الحنفاء، وحفيده العيص بن إسحاق عند الأدوميين أشقاء العبريين.
بل إن أحداث الصراعات المتوالية حول ما يُعرف في أساطير الشرق الأدنى بعصا شعيب أو يثرون يجعل من تلك العصا رمزًا سلفيًّا مرادفًا أو متطابقًا مع جثمان آدم ورأس العيص بن إسحاق وقباب الخمس، فيُقال عن تلك العصا: «إنها هدية الرب لآدم عقب طرده من جنة عدن، وإنها توارثت من أب لابن، إلى أن وصلت إبراهيم، فأورثها ابنه مدين وأمه قطورة بنت مقطور من العرب العاربة، فأورثها مدين شُعَيب، الذي أورثها بدوره لموسى عقب زواجه من صفورة ابنة شعيب.»
وفي رواية أخرى يُقال إن يوسف سرقها من شعيب وزرعها في حديقة بيته، إلى أن جاء «الغلام الجعد» موسى فانتزعها. ويُقال إنها كانت من آس الجنة، كما يقال بأنها كانت في طول قامة موسى، وأنها هي بعينها ما أصبحت بعد ذلك بقرون بمثابة الصليب الذي صُلب عليه المسيح.
وإذا ما انتقلنا إلى نقطة تالية وهي تبعية القبائل البائدة أو المندثرة من عاد وثمود وطسم وجديس وعملاق وجرهم للآلهة «الأنثى» القمرية — ذات الأطوار الثلاثة — أو الثالوث الذي أصبح أهم رقم مقدس فيما بعد عند الساميين بعامة؛ فكان لقبائل عاد أصنام يعبدونها تسمى صداء وبغاء وصمود:
وتؤكد النصوص الحفرية التي خلفتها هذه القبائل المندثرة ودُونت بالخط المسند «أنها لم تتجاوز في عبادتها آلهة ثلاثة هي القمر والزهرة والشمس».
ويدل هذا الثالوث الفلكي في رأي الباحثين في أساطير العرب الجنوبيين على أن القمر كان هو الإله الذكر الأب، والابن هو الزهرة، والأم هي الشمس.
ويُلاحظ أن هذا التعريف النوعي ما يزال محفوظًا في اللغة العربية؛ «فالقمر مذكر بينما الشمس مؤنثة.»
أما الزهرة فكانت تُسمى «عثتر» أي عشترت أو عشتار أو عشار بالمعنى الواسع للإخصاب من أرض وإنسان وحيوان.
ويفسر الأنثروبولوجيون الأطوار الأربعة التي طرأت على تلك القبائل خلال تحولها من الأمومية إلى الأبوية؛ ففي أغلب المجتمعات البدائية عُبد القمر كأسمى آلهة ثلاثية أطلقوا عليها اسم «نجم» وعند الساميين «هلال»، ولعبت كاهنة الآلهة نجم دورًا في قيادة الهاجريين والانتقال بهم إلى طور جديد، فأصبحت القاضي والكاهنة والملكة أو الأميرة الأم، وأقيم لها مزار، كما أنها اتخذت لنفسها حيوانًا أو نباتًا طوطميًّا كان يُحمى بالتابو أو «المحرم».
ويلقي هذا بعض الضوء على التكونات أو الاتحادات القبلية العشائرية «القديمة»، وهي تواصل تكوناتها وتشكيلاتها، بحيث رفعت وعممت الشعيرة — أو الشعار — التي سادت أقوى قبيلة لتصبح شعارًا عامًّا لآلهة الولاية أو مجموع البطون والعشائر.
وتمثل الانتقال الثاني في ظهور الإله الأب — الذكر — أو المذكر الذي تبنى أيام الأسبوع السبعة عند السومريين — اللاساميين — وكأسطورة شبه متفق عليها عند أغلب المجتمعات البدائية، فقد تزوجت الإلهة الأم — نجم أو هلال من مخلوق وهمي أو سماوي — ومن هنا أصبحت كل شعيرة قبيلة مرتبطة بواحدة من القوى السبعة للكواكب السبعة السيارة، وقُدم لطوطم الإلهة القمرية — نجم أو هلال — زواج مقدس سنوي، يقتل فيه الكهنة التجسيد البشري للإله الذي هو الملك زوج الإلهة القمرية الأم، يقتله الكهنة في نهاية كل عام.
ولقد مرت القبائل اليونانية والإيجية — وأبناء عمومتهم اليبيون — بهذا الطور، كما أن د. مرجويت مري، تضيف بأن مصريي ما قبل التاريخ مروا بهذا الطور؛ فأراق الكهنة المصريون دم الملك الإلهي الذبيح، ونشروا رماده بالأرض «قبل موعد شقها بالمحاريث» أي مع موعد الحرث. ويقال إن الرماد المتخلف من حرق جثمان الملك الإلهي كان يُوزع على أقاليم مصر بالتساوي.
وكان الحثيون القوة الرئيسية الكبرى الموازية للمصريين على طول الشام وفلسطين، والورثة الموازون للبابليين في مناصفة التراث الحضاري السومري بعامة — بحسب ما يراه أرنولد توينبي.
وتمثل الانتقال الثالث في أن عشيق الإلهة الأم أصبح ملكًا، ووُقر على اعتبار أنه الهيئة الذكرية للإله الذكر — القمر.
وجاء الانتقال الرابع متبديًا في تضخيم قوة الملك واكتساب هذه القوة من الملوك المحليين الذين يعبدون القمر، فلقد اعتبر هذا الملك الأب نفسه ممثلًا أو متقمصًا لإله القمر، واتخذ من نفسه ملكًا شمسيًّا في اللاهوت المصري القديم، وواصل زواجه السنوي المقدس محررًا نفسه أكثر من الاعتماد على القمر.
بل إن الملك سلب الملكة أو الإلهة القمرية سلطتها، «فكان يرتدي ملابس نسائية ويضع أثداء صناعية ممثلًا الملكة.»
وفي هذه المرحلة حل الزواج الأبوي بدلًا من الزواج الأموي، وتسمى الناس بأسماء آبائهم بدلًا من أمهاتهم، ووُحدت القبائل ببطل ذكر سالف ليُقدس، وهو ما حدث مع معظم شعوب العالم القديم، ومنه يونانيو ما قبل التاريخ، والبلاسجيون، والليبيون، وغيرهم، وحل بالتالي التقويم الشمسي بدلًا من القمري، وأصبحت السنة ٣٦٥ يومًا بدلًا من ٣٦٠ يومًا.
ولقد كشفت نصوص المسند عن أن القبائل العربية أو المتعربة البائدة، وهي قبائل عاد وثمود وطسم وجديس وجرهم والعماليق والصفوة … إلخ كانت تتبع الإلهة القمرية والانتساب الأموي، على أي الأحوال فإن دراسة التراث العربي أو تراث القبائل العربية الجاهلية بمعزل عن دراسة أسلافهم من هذه القبائل المندثرة؛ أمر غير مجدٍ وغير علمي خاصة إذا ما عرفنا أن تراث المندثرين قد تواتر كالعادة، فتوارثه الأحفاد من العرب العاربة، أي ما تعارف على تسميتهم بالجاهليين كما حلا لهم أن يتسموا ويتميزوا، فمثلا ظلت تقويمات المتعربة الأول أو البائدة سارية لدى الأحفاد حتى إلى ما بعد الإسلام، بل وإلى اليوم.
فظلت أسماء شهور قبائل ثمود يجري استعمالها في جنوب الجزيرة العربية حتى وقت لاحق للإسلام، هذا رغم أن نصوص المسند كشفت عن أن التغيير الوحيد الذي طرأ على تقويمات وأسماء الشهور العربية أو الهجرية لم يقع إلا في عام ١١٥ قبل الميلاد؛ إذ بدأ ظهور أول تقويم ثابت تعاملوا به حتى قبيل ظهور الإسلام.
من أسماء الأشهر التي ظلت سارية منذ العرب البائدة حتى وقت ظهور الإسلام، وهي فترة تصل إلى أكثر من ألفي عام؛ شهور: ذي حجتن أي «ذي الحجة» ومعناه: شهر الحج، وذو تمنع، وذو أثرات، ومؤتمر، وربى، وعادل، وناطل، وورنة، وموجب، ومورد، وهوبل أو دابر، وذي مر، وهو شهر رمضان أول شهور السنة عند المتعربة أو العاربة المندثرين، أما شهر موجب فهو ما سُمي شهر محرم، ومورد هو شهر صفر.
أما الشهور التي ثبت استعمالها قبل الإسلام وبعده، فهي: المحرم، وصفر، وربيع الأول، وربيع الثاني، وجمادى الأولى، وجمادى الآخر، ورجب، وشعبان، ورمضان، وشوال، وذو القعدة، وذو الحجة. ويُقال إن أسماء هذه الشهور جاءت مستمدة من أحداث أو شعائر أو انتقالات حضارية رُئِيَ تمجيدها وحفظها.
كما يُنسب لكلاب بن وبرة أنه أول من سماها، وكان منها الأشهر الأربعة الحرم أو المحرمات التي اتفق عليها لتحريم الغزو والحروب والقتال والمنازعات بعامة، لهذه القبائل المتطاحنة لدرجة الإبادة.
وكان أهم اكتشاف أوضحته نصوص المسند بالنسبة للاهوت وتقويم الجزيرة العربية بقسميها الشمالي العدناني — الرعوي — والجنوبي القحطاني — الزراعي؛ هو أنه بينما كانت القبائل الحجازية أو العدنانية تتبع الإله والتقويم القمريين، كان القحطانيون سكان اليمن يعبدون الشمس ويتعاملون بتقويمها، بأيامها، وأسابيعها، وأشهرها.
أي إن الانتقال الحضاري الذي تمثل في ظهور الملك الأب الذكر جاء عند اليمنيين بشكل أسبق من سكان الحجاز البدويين الرعويين، ربما بأكثر من ألف عام.
ومن أسماء القمر عند العرب البائدة «سين»، وهو نفس اسمه عند السومريين اللاساميين، ويعتقد البعض أن البائدة أخذوه عنهم، و«شهر» كان من أكثر أسمائه شيوعًا، خاصة في الحبشة، فكلمة شهر، هي أحد أسماء الإله القمري.
في العربية ما يشير إلى أنها كانت اسمًا للإلهة القمرية بعد انتقالها إلى الطور الثاني، أي طور الإله الأب الذكر.
ويرى البعض أن لفظة «قمر» كانت الاسم المتأخر الذي أخفى به الساميون اسم «رب الأرباب»؛ أي بعد أن تحولت الإلهة القمرية الأنثى إلى إله ذكر أب بظهور الملك الإلهي الذي وقر على اعتبار أنه الهيئة الذكرية للقمر، فخوطب من أتباعه ومن عبدته «ود أب» أو «أب ود»، كذلك فقد أصبح من ألقابه «عم» وهو ما يشير أكثر إلى الانتساب الأبوي.
فالإله «ود» أو «ود شهر» معناه «ود القمر»، ويرى البعض أن لفظة قمر «هي تسمية متأخرة أطلقها الساميون من أبناء الجيل الثاني لإخفاء الاسم الحقيقي لرب الأرباب».
كذلك فقد تسمت بإله القمر قبائل كهلان باليمن؛ إذ إن من ألقاب إله القمر في نصوص العرب البائدة في اليمن اسم «كهل»، كما أنه عُرف بهذا الاسم «كهل» في النصوص أو النقوش التي خلفتها وتركتها القبائل البائدة للعرب الشماليين في الحجاز ونجد أو السعودية اليوم.
كما كان من ألقابه عند هؤلاء البائدة «صدق وصديق وحكم وحكيم وعلم وعليم ورحمن ورحيم ونهى ومحرم»، والاسم «محرم» وُجد بكثرة في النصوص الحبشية.
كما تسمى باسم «ود» العرب الجاهليون — عبد ود — وعبدته قريش وكانت توعده إذا. وفي إحدى الروايات التي تُنسب للاهوتي العربي ابن الكلبي أن والد مالك بن حارثة كان يعطيه اللبن ويكلفه بالذهاب إلى الصنم «ود» ليسقيه ويستغفره، فكان مالك يشرب اللبن سرًّا ويبخل به على الصنم أو الإله القمري «ود».
ووُجد في النصوص المعينية والسبئية والثمودية مثل: «أموت على دين ود»، و«يا إلهي ود»، و«يا إلهي ود احفظ لي ديني وأيده».
وذهب البعض استنادًا إلى لفظة «ود» العربية التي ما تزال متواترة بمعنى المودة أو التودد؛ إلى أن هذا المعبود الذي هو القمر يعني الود أو التحية، كما وردت صراحة في أشعار النابغة الذبياني «حياك ود».
فالإله القمر «ود» هو أيضًا الإله «المقة»، ومن هذا الاسم جاءت تسمية مكة، كما أنه عُرف وبالتحديد في ممالك سبأ، وكذلك عُرف بنفس اسمه السومري في الألف الرابعة ق.م «سين» عند الحضرموتيين، كما أنه عرف باسم أو لقب «عم» عند القتبانيين أو العمونيين، ومن اسمه جاءت تسمية العاصمة الأردنية عمان.
وكان هذا الإله القمري «سين» ابن الإلهة عشترت في كتابات المسند الحضرموتية.
كما كُني عن الإله القمري «المقة» بثور في اليمن؛ أي الإله «ثور»، وكان هذا هو اسمه في كتابات المسند، كما أن من ألقابه «ثور» بالإضافة إلى أن الثور كان حيوانه المقدس، ووُجدت صور رأس الثور في الجزيرة العربية بكثرة شديدة، فكانت الثيران من أكثر الحيوانات التي يُضحَّى بها لإله القمر «المقة»، كما أن قبائل وعشائر بأسرها تسمت باسم «ثور».
كذلك كان من اسم إله القمر اسم «الساهور» أو «السلطيط» أو «التغرور»، فلقد عرفه بهذه الأسماء عرب الجاهلية، ووحد مع الله تحت نفس هذه الأسماء في شعر أمية بن أبي الصلت.
ومما يضاعف تأكيدنا في أن ثمة انقلابًا حضاريًّا أو اجتماعيًّا من مرحلة الأمومة إلى مرحلة الأبوية أو البطركية، قد يقف فاصلًا متممًا لنزاعي القبائل البائدة أو العاربة وخلفائهم من العرب العاربة أو العرب الجاهليين، ويتمثل هذا الانقلاب الحضاري في أن النصوص التي خلفتها القبائل المندثرة، والتي ترجع إلى منتصف الألف الثالثة قبل الميلاد، جاءت فأكدت أن أهم وأعظم الآلهة السامية مثل إيل وبعل، وأدون أي أدونيس، وملك إله ثمود، وملك الإلهة المومس عند العمونيين؛ كانت تُطلق عليهم بصفتهم إلهات إناثًا، وأصبحت بعد ذلك تُطلق عليهم كآلهة ذكور لدى كل الشعوب والقبائل السامية في آسيا الغربية بل وآسيا الصغرى كما هو معروف.
ومن المهم معرفة أنه بالقدر الذي حفظت به نصوص المسند لعرب اليمن البائدة الذين توارثهم القحطانيون، وهم قبائل عاد وطسم وجديس ورائش، كذلك فقد حفظت النصوص الثمودية واللحيانية والصفوية؛ آلهة ومعتقدات قبائل الشمال المندثرة (الصفويين).
ومما جاءت به النصوص الثمودية — في نجد والحجاز — تركيزها على أعظم الآلهة الساميين بعامة وهو الإله إيل، مثل «يعذر إيل – صنم إيل – عزرائيل – سعد إيل – ود إيل».
وكذلك أسماء آلهة الخصب «عشتر» إلى جانب الآلهة «تيم» و«يغوث» و«هدد» أو الإله الفينيقي «حداد» إله المطر، وشمس، وعزيز، والآلهة «منى» أو مناة، وكهل، واللات، و«جد» أي السعد، وكذلك الإله «رضى» الذي يقول عنه العالم العراقي الكبير الدكتور جواد حسني إنه هو ما أورده الميثولوجيون أو الأخباريون العرب باسم «رضى» أو رضاء، وإنه كان في منزلة عشترت عند العرب المتأخرين الجنوبيين. وأيضًا وُجدت أسماء ملوك الرها المندثرين، الذين تسموا بأسماء الآلهة مثل أبجر ومعن، بمعنى النعيم أو اﻟ «منعم» وعزيز وعبد الملك و«ملك» الذي كان في منشئه اسمًا للإله ثم أصبح لقبًا سياسيًّا فيما بعد كما هو واضح.
كذلك جاءت الكشوف اللحيانية والصفوية بأسماء الآلهة والإلهات التي عرفها العرب الجاهليون فيما بعد، مثل «اللات – العزى – مناة – عوض – ديدان – بعل سمين – احرام أو التحريم – جد – صالح – ذو الشرى – رضى – رحيم – سمع – نصر – نسر – مناف – ديان»، وهكذا.
وكانت الفرس أو المهرة من أقدم الحيوانات المقدسة للشمس عند هؤلاء البائدة من قدامى الساميين، وهو ما تردد طويلًا في الشعر العربي، من جاهلي ومعاصر.
كما أن للأنباط سكان البتراء آلهة مثل: «ذو الشرى، واللات — وكانت إلهة مؤنثة لجميع الآلهة — ومنتوا أو مناة، وهبل، وشيع القوم، أو حامي القوم»، وهو إله القوافل والسواقين فيما بعد إلى اليوم.
وكانت آلهة ممالك تدمر في اليمن هي الإلهة بل أو بعل أو الناقة، وإله القوافل «شيع القوم، وشمس، واللات، وإيل»، كما كان من ألقاب وصفات أو نعوت هذه الآلهة التي حفظتها نصوص المسند «رب العالم» و«الله المحسن» و«رب العالمين» و«الرحمن» و«المتجبر» … إلخ.
ويُلاحظ عند مقارنة نصوص المسند التي خلفتها القبائل العربية البائدة بقسميها اليمني والحجازي أو الجنوبي والشمالي، مع ما تناقله الرواة والمثولوجيون والأخباريون العرب؛ أنه لم يكن هناك اختلاف كبير طبعًا بين التراثين المدون والشفاهي، ومعنى هذا أن القبائل المندثرة أورثت لاحقتها من العرب العاربة أو عرب الجاهلية الأولى تراثها فأفاضت الأخيرة اللاحقة عليه.
كما يُلاحظ أن الاختلافات ليست كبيرة بين تراث المندثرين وتراث السومريين فيما بين النهرين عن طريق وساطة البابليين والحثيين، كما يقول أرنولد توينبي وغيره.
كذلك يمكن ملاحظة أن تطور القسم الجنوبي اليمني القحطاني، عن شقيقه العدناني والحجازي في نجد كان أسبق وأنضج؛ إذ إن اليمن واصلت انتقالاتها من عبادة الإلهة الأنثى القمرية إلى الانقلاب — الشمس الذي تسمى به ملوكهم مثل عبد شمس بن يشجب بن سبأ.
أما الملاحظة العامة أو المجملة فتتركز حول عبادة تلك القبائل المبكرة التي ترجع إلى ما قبل الألف الثالثة قبل الميلاد، للآلهة الفلكية أو السماوية، مثلها هذا مثل بقية الأقوام السامية الزراعية في مصر والعراق والشام وفلسطين.
كما يلاحظ بشكل أخير أن معظم هذا التراث ما يزال يواصل نموه وسريانه في تراثنا المعاصر أو في مجمل حياتنا اليومية، الآن وفي هذا المكان.