الغيب والقدر والدهر في هذا التراث
يستوقف المتصدي لدراسة التراث الفولكلوري العربي المعاصر أول ما يستوقف؛ ذلك المدى الهائل المتمثل في الإغراق في القدرية، والقسمة والنصيب، وأفعال الزمان ومكائده، وهي القدرية التي قد لا يبرأ منها نص أو فكرة شفاهية، خاصة في تراثنا الفولكلوري المصري والعربي بعامة.
ولقد وصل الأمر إلى حد أن القدرية والدهرية أصبحت ملمحًا مميزًا لتراثنا الفولكلوري؛ أي إنه ما من جزئية أو «فكرة أو موتيفة» تصادف باحثًا فولكلوريًّا في أية منطقة من العالم عن القدر والقدرية، إلا ويمكن له إرجاعها إلى موطنها الأصلي الأم، وهو التراث السامي بعامة، والعربي بشكل أخص، والإسلامي بشكل أكثر دقة.
ولقد سبق لموضوع القدر أن احتل منزلة واسعة من الجدل والبحث، خاصة عندما يُعرف بعلماء «الكلام» من العرب المسلمين فيما بعد، خاصة المعتزلة وغيرهم، أو ما تفرع عنهم من الشِّيَع مثل الجبرية، والصابئة، والمختلطة، والقدرية، والمرجئة، والوعدية — نسبة إلى الوعد أو القدر والمكتوب — وكذلك الشيعة والخوارج.
وكان المعتزلة يُلقبون بالقدرية، وبشكل مجمل فقد كان القاسم المشترك الأعظم عند تلك الفرق وغيرها هو القدر، فقالوا إن «لفظ القدرية يُطلق على من يقول بالقدر، خيره وشره.»
ولقد تعاظم دور هذه الشيع والفرق، حتى إن النبي ﷺ قال عنهم: «القدرية مجوس هذه الأمة.»
والقدرية والدهرية والوعيدية والمنايا أفكار مترادفة وردت بكثرة شديدة جدًّا سواء في الشعر المنتسب إلى القبائل العربية البائدة أو عند لاحقيهم من العرب الجاهليين ثم الإسلام، وكذلك ترد بكثرة شديدة في الآلاف المؤلفة، بل الملايين من المواويل والشعر الشفاهي الشعبي المعروف بالمواويل الحمراء، أي تلك التي تتصل موضوعاتها بأفعال ونكائد الدهر والزمن وتقلبات الدنيا والأيام وإمساكها بالمصير الإنساني … إلخ.
ولقد عرفت شعوب غرب آسيا الأبدية التي أطلق عليها العرب الجاهليون مرادف الدهرية، والدهر، والمنايا، والحتف، والآجال، والحِمام، والمنون، والقضاء والقدر، والمقدر، والزمان، والأيام، والليالي، والخطوب.
ولقد وحد الساميون الأوائل من القبائل العربية البائدة بين القدر أو الدهر أو المنايا وبين الله، وكذلك تسمت آلهتهم باسم «منى» ومناة، وهي الأخت الثالثة من بنات الله الثلاث كما كانت معروفة بهذه الصفة والاسم منذ البابليين الأوائل (٢٨٠٠ق.م) وعنهم أخذتها بقية الشعوب والقبائل السامية، خاصة العرب الجاهليين فيما بعد.
وتؤدي لفظة «مناة» معنى القدر، ومنها «الماني» بمعنى القادر، نسبة إلى ابن ماني، الذي قتله الملك «بهرام» ملك الفرس وقال له: «أنت الذي تقول بتحريم النكاح، يستعجل فناء العالم»، ومنها جاءت تسمية المذاهب «المنانية» أو «الماناوية» نسبة إلى «ماني» وكان راهبًا بحران وأحدث «دين المنانية». والمنية تعني الموت، أو أن الموت مقدَّر محسوب. ويبدو أن لفظة «منية» كلمة سامية مشتركة، وردت في أغلب لهجات الشعوب والقبائل السامية، ويرى البعض أنها مرتبطة بالإلهة البابلية «مامانتو» وعنهم أخذها الكنعانيون ولقبوها «منى»، والإلهة الثمودية «منوات» ثم «منات» عند العرب الجاهليين، ومنها «عوض» وهو اسم صنم، وحده الشعراء مع الدهر، و«عوض» كان اسم صنم أو معبود قبيلة بكر بن وائل.
بل إن المستشرق «نولدكه» يرى أن كل هذه المترادفات للقدر والمنون والدهر والموت ما هي إلا أسماء لآلهة دهرية «وليست أسماء أعلام».
ولقد وحد قدامى العرب خاصة القحطانيين سكان اليمن بين الدهر وبين الموت الذي يلتهم الرجال، كما جاء في قصيدة تُنسب «لامرئ القيس» بن حجر المقصور بن الحرث آكل المرار الكندي، يذكر ذا القرنين الصعب ذي مرائد الحميري:
وروت أساطير الحميريين وأفاضت عن بحث ملوكهم عن ماء الحياة الذي يهب الخلود، ومنها مصاحبة الخضر لذي القرنين في رحلة عبورية جابا فيها ربوع الأرض، وعندما وافت «المنية» ذا القرنين دعا الخضر وأنشد:
ومن أشعارهم التي تُنسب لأحد ملوكهم «عبد المسيح بن بقيلة»، الذي وُجد على قبره أنه عاش مائة عام وقُتل في مبارزة:
كما أن من الأشعار المنسوبة لابنه «مضاض بن عبد المسيح» في رفضه وزهده عيشة الدنيا:
وتكشف قبوريات ومراثي أولئك الملوك الحميريين عن موقف غريب معادٍ في جوهرة للدهر كمرادف للموت، بل كثيرًا ما يسخط من قضية الباطشين التي تذهب بالإنسان وتغيبه، ولكنه كثيرًا ما يغرقه التساؤل، فبأي حق يكون دوام الدهر متمثلًا في تعاقب الليل والنهار دون الإنسان، وهو في النهاية يستصغر من شأن الدهر وعشوائيته ويصفه بأنه غير جدير بالمعاتبة، أي إن الدهر دون مستوى العتب:
وفي إحدى أساطيرهم ما يشير إلى أن سام بن نوح أبو كل الأقوام السامية كان جزوعًا مرعوبًا من الموت كما يقول وهب: «وكان سام جزوعًا من الموت، فسأل نوح الله ألا يميته حتى يسأل الموت — أي حتى يطلب سام نفسه الموت — فعاش أربعة آلاف عام، بنى ألفين وعمر ألفين، إلى أن سئم الحياة واعتل، فسأل ربه الموت فمات.»
كبيت من بابين، دخلت من هذا وخرجت من ذاك.
ويورد «الساجستاني» تضمينة مرادفة للفكرة السابقة، نسبها إلى نوح: «فبعد أن عاش نوح ١٤٥٠ سنة، أتاه ملك الموت وسأله: يا نوح، يا أبا كبير الأنبياء، ويا طويل العمر، ويا مجاب الدعوة؛ كيف رأيت الدنيا؟ قال: كبيت له بابان، دخلت من باب وخرجت من الآخر.»
ومما تناثر حول خرافات لقمان ونسوره السبعة وتشبثه بالخلود، يُنسب لشاعر يُدعى «يثم اللات» شعر يقول فيه:
ولقد وحد العرب الأوائل في أشعارهم وأقوالهم بين نبيهم أو إلههم الأب «هود الذي كان قد أُرسل إلى قبائل عاد البائدة»، وهو الذي سلط على قوم عاد طوفان الرياح وأبادهم من الوجود.
وفي إحدى القصائد الأسطورية التي تُنسب إلى امرأة كاهنة تُدعى هزيلة، أجابت قومها حين سألوها عما حدث لقوم عاد، فقالت هزيلة: «سأقول شعرًا وأرويه الجرادة تسمعكموه»، وقالت:
وفي هذا الشعر يبدو واضحًا توحد النبي — الإله «هود» — بالدهر الذي خلف اسمه على قصور ومعابد وقبائل «دهر»، والذي من اسمه اشتق «جبل ضهر»، فيقال إن «من ضهر خرج سبعة فراعنة حكموا مصر.»
والغريب أن قائل هذا الشعر — التالي — يتحسر على أن «بنات الدهر» رَمَيْنَه غيلة فأصبن منه مقتلًا، دون أن يكون في مقدوره الرد على مغتاليه، «وكانوا يصفون الدهر بالرامي أي ذلك الذي لا يخطئ الرماية»:
كما تصوروا الدهر ساقيًا يسقي الإنسان كأس المنايا:
وعلى هذا أنكر هؤلاء الدهريون الخالق والبعث، وإن كانوا قد توسلوا من جانب آخر إلى الدهر والزمن والدنيا، والغريب أنهم كثيرًا ما ارتدوا، واندفعوا يسبون ذلك القادر أو المعطي أو «الماني»، فكانوا إذا وقعت بهم الكوارث يسبون الدهر ويلعنونه.
ومن هنا يتضح أن الدهر هو ذلك الإله القادر المهيمن والمتحكم في المصائر والأعمار واستمرار العالم.
وقال البعض إن الدهر اسم من أسماء الله الحسنى، وكذلك فقد تبدت هذه العقائد القدرية عند أغلب فحول الشعراء الجاهليين، مثل أمية بن أبي الصلت، وزهير بن أبي سلمى، ولبيد، وسويد بن عامر المصطلقي، وهو القائل:
والشاعر أبو ذؤيب الهذلي، الذي قال:
فيقال إن «الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء.»
ولقد درات حول الملك النبي «داود» عديد من الأساطير التي تكشف جزعه من الموت، مثل سلفه «سام بن نوح»، وترد هذه الأساطير والخرافات في صور ومصادر كثيرة ومتنوعة، منها أن آدم سأل الله عن «داود» فقال له الله: هذا ابنك داود. ولما سأل عن عمر داود، قال له الله: ستون سنة. فقال آدم: رب زد في عمره. فرفض الله قائلًا: لا، بل تزيده أنت من عمرك. ولما كان عمر آدم ألف سنة فقد وهب لداود من عمره أربعين عامًا، فكتب الله عليه بذلك كتابًا، وأشهد عليه الملائكة، لكن عندما حضرت المنية آدم وأشرف على الموت، جعل يخاصمهم في الأربعين سنة التي كان قد وهبها لداود.
وتنفرد إحدى أساطير «الخضر» معللة السبب في أن الخضر حيٌّ خالد لا يموت؛ لأنه هو الذي قام بدفن جثمان آدم؛ ولهذا أصبح الخضر أطول بني آدم عمرًا، و«الخضر» أو «الرجل الأخضر» هو الذي قال عنه الرب في العهد القديم: «أنت الخضر، وكلما مست قدماك الأرض اخضرت.»
ويقال إنه عندما حضرت الوفاة آدم، جمع بنيه وقال لهم: إن الله منزل على الأرض عذابًا، فليكن جسدي معكم بالمغارة، حتى إذا هبطتم، فابعثوا بي وادفنوني بأرض الشام. فكان جسده معهم إلى أن بعث نوحًا، وضم الجثمان معه، إلى أن وقع الطوفان الذي أغرق الأرض زمانًا، فجاء نوح حتى نزل ببابل وأوصى بنيه الثلاثة، سام ويافث وحام، أن يذهبوا بالجثمان إلى المكان الذي أمرهم أن يدفنوه به، فقالوا: «الأرض وحشة ولا أنيس بها، ولا نهتدي الطريق.» فقال لهم نوح: «إن آدم قد دعا الله أن يطيل عمر الذي يدفنه إلى يوم القيامة.» فلم يزل جسد آدم حتى كان «الخضر» هو الذي تولى دفنه، «وهو يحيا إلى ما شاء الله أن يحيا.»
وتربط الميثولوجيا العربية بين أساطير الخلق والبدء وبين أفكار القدرية والجبرية والدهر الذي وحده وعبده الساميون بعامة، ثم العرب الجاهليون خاصة، الذين عبدوا الدهر والقدر والماني أو المنايا في هيئة أصنام، فكان الصنم منايا أو مناة من أقدم المعبودات الجاهلية.
ويضيف ابن الكلبي: أن العرب جميعًا كانوا يعظمون الإلهة «مناة»، ويذبحون لصنمها الذبائح، كما أنهم تسموا باسمها «عبد مناة، وزيد مناة، وتيم مناة» … إلخ.
ويشير الجمع بين هذين الإلهين، منى وجاد، إلى ارتباط المنايا والأقدار بالتنبؤ ومعرفة المستقبل، الذي ارتبطت المعرفة فيه بالإله «جد» أو «جاد» والذي من اسمه تسمت قبائل جاد العبرية.
كما أن الإله جد أو جاد كان من آلهة القبائل الثمودية المندثرة قبل منى أو مناة، وكهل … إلخ. ومن اسم جاد تسمى الإله «بعل جاد» عند اليهود والآراميين والعرب الشماليين في سوريا، وكان يُعرف بإله السعد والحظوظ والمستقبل عامة.
ومن هنا يأتي ارتباطه بالآلهة الدهرية والقدرية.
ومن هذه الآلهة الدهرية القدرية إلهة القمر السبئي نسر أو نسور، الذي ورد في نصوص المسند والسبئية باسم «بيت نسور»، بل لقد أُطلق على أهل سبأ بعامة «أهل نسور»، ويبدو أنه كان لهم مذهب ديني شبه مميز، نسبة إلى عبادة النسر أو النسور، وسُمي معه أيضًا أحد رموز السنة السبئية المتأخرة «ذي النسور».
وتشير الأسطورة التي أوردها عبيد بن شريه الجرهمي عن الحكيم لقمان بن عاد صاحب النسور أو «ذي نسور» الذي ارتبط موته بفناء نسوره السبعة، وكانت أسماء هذه النسور على التوالي: المصون، وعرض، وخلف، ومغبغب، واليسر أو الميسرة — أي الحظ — وأنسا — أي لقمان الأنس، وكان سابعها هو النسر لبد، وفسر عبيد الجرهمي «لبد» بمعنى الدهر، بل إن لقمان نفسه عرف «لبد» بالأبد أو الأبدية.
فحين وافت المنية ذلك النسر السابع «لبد»، وسقط مشرفًا على الموت، ولم يطق أن ينهض، وتفسخ ريشه؛ هال ذلك لقمان هولًا عظيمًا.
ووقع موته منه موقعًا جسيمًا، وناداه: انهض «لبد» أنت الأبد. وأنشد لقمان يبكي نفسه:
ويُلاحظ في الأسماء السبعة التي أطلقها لقمان على نسوره السبعة أنها من الأسماء التي تُطلق على الخلفة والذرية، مثل «خلف» و«المصون» و«عوض»، وعوض أيضًا اسم للإله الجاهلي — القدري — عوض.
كما يُلاحظ أن الإله القمري «نسر» الذي يتوحد بالدهر والزمن، هو ما أصبح رمزًا قوميًّا لدى أغلب الشعوب العربية والسامية عامة.
كذلك فإنه مما يثير الالتفات، تلقيب لقمان لنسره الخامس باسم الميسر، أو الميسرة، وهي كلمة مرادفة للحظ والسعد، ومنها جاء الميسر بمعنى القمار.
ومن المعروف عن المقامرة «أنها نوع من التكهن والاستشارة، أنها جواب الآلهة للسائل»، ولعب الميسر كان في منشئه شعيرة فلكية لاهوتية مثلها في هذا مثل القرعة.
فيقال إنه كان هناك اعتقاد شعبي شائع لدى المصريين القدماء مؤداه أن الأيام الخمسة النسيئة المنتزعة من السنة المصرية القديمة بحسب التقويم الفرعوني السنوي؛ ما هي إلا الأيام الخمسة التي كسبها الإله تحوت أو هرمس، إله الكتابة، حين لاعَب الإلهة القمرية الأم «إيزيس» الدومينو أو السيجة، وكسب منها، وكانت هذه الأيام الخمسة بمثابة ميلاد للآلهة المصرية الخمسة: أوزوريس، حورس، ست، إيزيس، نفتيس. فأصبحت بعد ذلك بمثابة أعياد سنوية — خارج الزمن أو الدهر — يجري الاحتفال بها في جزيرة البيت المضيء، التي عُرفت باسم فاروس، وهي ما أصبحت مدينة الإسكندرية فيما بعد.
والذي أود توضيحه هو أن ثمة علاقة دينية بين لعب القمار أو الميسر وبين التقويم الفلكي اللاهوتي، منذ فترات مبكرة جدًّا، عند أغلب الشعوب الآسيوية.
وقد يلقى المسعودي تفسيرًا أوضح للعلاقة المبكرة بين الميسر أو لعب القمار أو الزهر — الطاولة — وبين «اللاهوتي» الفلكي أو الزمن الذي هو الدهر، يقول: «وقد ذُكر أن أردشير بن بابك، أول من صنع النرد، ولعب بها، وجعل بيوتها اثني عشر بيتًا، بعدد الشهور، وجعل كلابها ثلاثين كلبًا، بعدد أيام الشهر، وجعل الفصين مثلًا للفوز وتقلبه بأهل الدنيا.»
وكان منوطًا بالإله هبل، الذي استقدمه الكاهن عمرو بن لحي الجرهمي، ونصبه في جوف الكعبة؛ ضرب القداح، وما من أمر قام به العربي الجاهلي لم يستشر فيه هبل، فكان في جوف الكعبة، قدامه سبعة أقداح، مكتوب في أولها «صريح» والآخر «ملصق»، فإذا شكوا في مولود أهدوا إليه هدية، ثم ضربوا بالقداح، فإن خرج «صريح» ألحقوه، وإن خرج «ملصق» دفعوه، فكان لكل مطلب قدح: قدح على الميت، وقدح على النكاح، وقدح للاختصام والسفر والعمل.
ويبدو أن الجاهليين كانوا قد استقدموا صنمه من خارج الجزيرة العربية، ويُرجع أنهم جاءوا به من العراق؛ إذ إن تمثاله بحسب وصف ابن الكلبي كان «من عقيق أحمر على صورة إنسان، مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش، فجُعلت له يد من الذهب»، وكان قربان هذا الإله مائة بعير.
ويبدو أن العرب الجاهليين قد أحلوا لشعائر الحظ والميسر والبخت أن تتحكم وتشرع في معظم حياتهم وأفعالهم، وهو ما نهى عنه الإسلام بعد ذلك، مثل ما كان يُعرف عندهم بالبحيرة والسائبة والوصيلة والميسر والحام والاستقسام بالأزلام، وكانت تشريعاتهم التي أخذ بها أصحاب الوبر غير تلك التي اختصت بأصحاب الحرث أو الزرع؛ فكانت البحيرة والسائبة والوصيلة والحام شعائر متصلة بأصحاب الوبر، كأن يسيب أو يندر للآلهة البهائم أو البشر، فتصبح في حكم المحرمات، منافعها للرجال دون النساء، وهو تعبير ما يزال متواترًا حتى الآن، ويُطلق على البغايا من النساء، فيقال مثلًا: «إن ابنة فلان سايبة»، بمعنى أنها حق مشاع للرجال.
ولجأوا إلى ضرب القداح أو «الاستقسام بالأزلام» في كل صغائر وكبائر حياتهم، مثل الخصومات والحرب وانتساب الأطفال، وكل ما يتصل بعلاقة الرجل بالمرأة.
وأطلقوا على طريقة تقسيم الذبائح اسم الميسر، والبدء، والنصيب، وعلى هذا تحكمت الحظوظ والبخوت، في كل مصائر الناس.
وكانت تلك الأقداح التي كتبوا عليها «العقل» و«السعد» أو «نعم» و«لا»؛ هي المتحكم الأخير، في الحروب والإغارات وحفر الآبار وتقديم الهبات واختيار الحكام والكهنة وسدنة الكعبة، وهكذا.
وأغلب هذه الشعائر والأفعال والمعتقدات ما تزال محفوظة متداولة في الفولكلور المصري والعربي عامة، منها الحكايات الخرافية التي تدور حول «خروج العقل» و«إحلال السعد» و«ضرب الزهر وانكساره»، ومنها أن شعيرة ضرب الأقداح تحولت إلى إحدى ألعاب الحظ والزهر، يمكن التعرف عليها في الموالد الموسمية الشعبية، في لعبة الكيزان.
وكثيرًا ما كان المتعقلون من الشعراء العرب يسبون آلهتهم، ويسخطون على ما تشير به من إتيان الكوارث والخراب، ذلك الذي يخضع بكامله لتلك الحظوظ العشوائية، التي تحكم نواصيها الصدفة، مثلما يتضح من هذه الأبيات التي تُنسب لامرئ القيس يسب فيها الصنم الإله ذا الخلصة، وكان قد نهاه عن الحرب طلبًا لثأر أبيه القتيل:
ولا حد لخصوبة معتقداتهم التي ما تزال تتلمس طريقها خلال حياتنا المعاشية اليوم، مثل «الهامة» التي تخرج من رأس القتيل في شكل طائر هائم مرفرف، يبتغي القصاص، يظل يصرخ ويندب: «اسقوني اسقوني»، إلى أن تُراق دماء مغتاليه، فيُروى ويسكن.
وتتبدى هذه الفكرة أو التضحية عند اليهود في أحد أسفارهم الممنوعة، وهو سفر الحكمة، ويرى البعض أن مصدرها القبائل العبرية العربية: بني القريظة، وبني النضير، وبني قينقاع.
ومنها ما يتصل بتقاليد الموت المتوارثة، مثل «النعي» العلني، أي أن يركب كل ناعٍ أو معزٍّ فرسه، يصرخ بعلو صوته: «أنا فلان الفلاني أنعى الميت فلان»، والرَّثَّاءة أو النَّدَّابة أو النَّوَّاحة، وما يتبع مراسم الموت والدفن والمأتم، مثل شق الجيوب، وجنازات النساء، وتعقير التراب، وحلق الشعر، وهي تلك العادات الواسعة الانتشار لدى كل المجتمعات السامية، بل والمصرية القديمة، مثل احتراف الندب، وسبعة أيام للعزاء، واستئجار الندابات، وهو ما كان معروفًا لدى المصريين القدماء والعبريين والبابليين.
وكانوا يقولون للميت وهم يوارونه التراب: «لا تبعد»:
وكانوا يعظمون أو هم يعبدون موتاهم وأسلافهم، فيحجون إلى القبور، ويحلقون شعرهم عندها، ويذبحون لها، ويعقدون المناحات والإشادة بفضائل الميت، ويسكرون ويسكبون بعض الخمر ليشرب الميت، ومثلهم كان يفعل العبريون؛ «إذ كانوا يخرجون حصة مما يأكلونه لتكون من نصيب الموتى.»
فكان العرب الجاهليون مثلهم مثل العبريين، مفرطين في هذه المعتقدات، ومن هنا جاء دور العراف والعائف والساحر، وراقي الرقى، والتمائم، وسائل الجن والتوابع.
كما أن من معتقداتهم الخرافية الجاهلية التفرس في وجه الموتى من الأسلاف، وتصنيف الجن، وإحلالها بين قرني الثور، وهو ما اتخذته الأرض الأم — بعد ذلك — التي تستقر على أحد قرني الثور الإلهي، كما أنهم أفرطوا في اتخاذ العرافة والقيافة وزجر الطير والأحلام وخطوط الرمل، وسكك الحصى، والتكهن والحدس والتنجيم، وكذلك التنبؤ والفراسة والاستقسام بالأزلام عند الأصنام، وهي في مجملها معتقدات عرفها البابليون والكنعانيون والقبائل العبرية.
فمثلًا عرفت القبائل العبرية العيافة بمعنى التنبؤ عن طريق ملاحظة حركات وسكنات الطيور والحيوانات، وسموها «الشاق»، أي شق أجساد الحيوانات والطيور لدراسة أحشائها، واستخلاص النبوءة، كما كان زجر الطيور والحيوانات في العربية يقابله اﻟ «ليحوشيه» في العبرية، ومنها نحش، وحنش، وهو ما يشير إلى العلاقة بين التابوت والثعبان. وكان الكاهن يُلقب بالزاجر، والتكهن يُقال له «طِيَرة» في العربية والعبرية، والتطير بمعنى التشاؤم والتفاؤل، ويُنسب لسليمان وذي القرنين والحكيم لقمان معرفة لغة الطير، وطرق التطير، وإمكانية إحكامه والسيطرة عليه.
وكان للكلدانيين — العراقيين — شهرة لا تُبارى في معرفة أساليب التطير، عن طريق قراءة رئة الطيور وأكبادها وأحشائها.
وترد أعظم الأساطير المتصلة بالأحلام عند الساميين في قصص يوسف الصديق، وكيف أن سبب مأساته مرجعها إلى أحلامه، حين «حلم يوسف حلمًا وأخبر إخوته، فازدادوا أيضًا بغضًا له، فقال لهم: اسمعوا هذا الحلم الذي حلمت، فها نحن حازمون حزمًا في الحقل، وإذا حزمتي قامت وانتصبت فأحاطت حزمكم وسجدت لحزمتي. فقال له إخوته: لعلك تملك علينا ملكًا أم تتسلط علينا تسلطًا.» وكان أن حقدوا عليه واحتالوا ليميتوه، حين أرسله أبوه لهم: «اذهب انظر سلامة إخوتك وسلامة الغنم ورد لي خبرًا.» فلما أبصره إخوته قادمًا احتالوا ليقتلوه: «فقال بعضهم لبعض، هو ذا صاحب الأحلام قادم، فالآن هلم نقتله ونطرحه في إحدى الآبار ونقول وحش رديء أكله، فنرى ماذا تكون أحلامه.»
وتتوالى هذه القصة، متجمعة، لتثبت صحة حلم يوسف وتفوقه على إخوته بل وبيت أبيه بعامة، وإنقاذه لهم من القحط والمجاعة.
بل إن دور يوسف في مصر لم يتعدَّ أنه كان موهوبًا في تفسير الأحلام، منها حلم خَصِيَّيْ فرعون؛ رئيس السقاة، ورئيس الخبازين، ثم تفسيره حلم فرعون مصر، فكان أن جعله فرعون نائبه: «أنت تكون على بيتي، وعلى فمك يقبل جميع شعبي، إلا أن الكرسي — الذي أكون فيه — أعظم منك.»
كما أن الكلدانيين والعرب العبريين تشاءموا من بعض الثيران ومن الحية والثعلب والأعور والمرأة الطامث، والرأس المستطيلة، مثل الشمامة.
كما قد يتوحد «الهاتف» مع الدهر والقدر والزمن والماني — بمعنى القادر والعاطي — والدنيا … إلخ ولقد شبه العرب «الهاتف» بمعنى الرائي، وكان العبريون الجاهليون يلقبون النبي بالرائي الذي يهتف للإنسان والكهان بشكل أخص، وهو ما قد يتطابق مع الإيحاء والوحي.
وما يمكن إضافته هو أن صوت الهاتف لا يُرد، بمعنى أنه لا خيار — وبالتالي مرد — لذلك الذي يزوره الهاتف ويحط عليه ويتكشف له، فالموعودة أو البغي التي يجيئها الهاتف ويأمرها بترك بيتها وزوجها، والنزول إلى الوعد والمكتوب، أي أن تصبح سائبة — أو سايبة — مشاعًا «للرجال دون النساء»؛ ليس في مقدورها الإفلات من صوت «الهاتف».
وفي «شفيقة» ومتولي بشكل أخص، يزور «الهاتف» شفيقة في قبرها، بعد أن تموت — أو هي تنتحر — ويهتف بها أن تقوم، لتواصل قدرها وتفي ما كُتب عليها، قائلًا: «اللي عليك ما خلصش.» وكما هو معروف، تقوم شفيقة من قبرها، وتعود بعد قيامها من عالم الموتى إلى معاودة الحياة المخططة المقدورة لها.
فالهاتف هنا هو إله كامل، يحقق قيامة البغي، ولا مرد لقضائه.
فكان يمكن للهاتف الأمر بوأد البنات، كما كان في مقدوره منع وتحريم وأدهن.
وفي إحدى الحكايات التي صاحبت مولد كاهنة قريش الأم «سوداء بنت زهرة بن كلاب»، أنه كان من عادة العرب وأد البنات إذا ما جاءت إلى الوجود ناقصة التكوين، كأن تكون كسيحة أو عوراء أو برصاء أو زرقاء، ولما كانت تلك الكاهنة «سوداء»، قد وُلدت على بعض هذه الصفات ورآها أبوها كذلك أمر بوأدها، فأرسلها مع من جهز لها في الخلاء، وهمَّ بدفنها، وأهال التراب عليها، فسمع هاتفًا يقول: «لا تئد الصبية، وخلِّها البرية.» فالتفت الحفار فلم يرَ شيئًا، فعاد ليدفنها، فسمع الهاتف يسجع سجعًا كهنوتيًّا، يمنعه من وأدها، فكان أن عاد بها إلى أبيها، وأخبره بما أشار به الهاتف، فتركها حتى كبرت وأصبحت كاهنة قريش، التي أُنيط بها بعد رؤية البنات عقب ولادتهن، وقول رأي أخير فيما يتصل بوأدهن أو العكس.
ويُقال إن هذه الكاهنة هي التي منعت وأد آمنة بنت وهب.
كما يقال بأن سوداء بنت كلاب هذه كانت أول من ذكر «جهنم» في العرب.
وليكن واضحًا أن مثل هذه الأفكار الميثولوجية عن جهنم والسعير والفردوس أو جنة عدن، باختصار كل ما يتصل بأفكار الموت والقيامة؛ هي أفكار دخيلة، جلبتها هذه الكاهنة العرافة، وغيرها من الشعراء الجاهليين، مثل عمرو بن لحي، وأمية بن أبي الصلت؛ من الشام، فيما بعد القرن الخامس الميلادي.
ويبدو أن مفهوم الساميين — والعالم القديم عامة — عن الحلم كان هو بعينه الهاتف، ذلك لا مرد لأمره، فهو الذي كان يدفع بالملوك إلى قتل الأطفال الذكور، مثلما حدث مع نماردة بابل والشام وملوك الفرس وفراعنة مصر لقتل الأطفال، بحسب روايات العرب والعبريين أصحاب الوبر.
ونسب العرب الرؤى أو الأحلام أو الهواتف لأرواح خبيثة شيطانية، وأخرى مصدرها الإلهام الإلهي، وكثيرًا ما يأخذ الإلهام شكل متنبئات أو نساء قدريات، مثل كاهنة سبأ طريفة، وسوداء بنت كلاب التي مر ذكرها، ومنهن أربع فتيات، لهن هيئة الإيرانيات في الميثولوجي الهليني، ينشدن نبوءاتهن بطريقة شعرية كهنوتية، ويُعرفن في الميثولوجيا العربية ﺑ «صواحبات مصاد بن مذعور القيني».
وعرفت الميثولوجيا الفرعونية «الهاتف» بحسب الرواية التي أوردها هردوت «بشأن الهاتفين اللذين يُوجد أحدهما عند اليونانيين، والآخر في ليبيا»، وحكى هردوت عن هذين الهاتفين أو «الوحيين» حكايات تدور أحداثها حول مصر وليبيا وفينيقيا واليونان. وفي إحدى هذه الخرافات يكون الهاتف على شكل كاهنة مقدسة، وفي رواية أخرى يكون على شكل حمامة سوداء، لها صوت آدمي، فيقول هردوت: «طارت حمامتان سوداوان من طيبة التي في مصر، فذهبت إحداهما إلى ليبيا، وجاءت الثانية إلى اليونانيين، وعندما حطَّت هذه فوق سنديانة، أعلنت — في صوت آدمي — أنه يجب إنشاء هاتف لزيوس هناك، وأدرك القوم أن هذا نبأ جاءهم من إله، وتصديقًا له أقاموا الهاتف. أما الحمامة التي توجهت إلى ليبيا، فتقول العرافات إنها أمرت الليبيين بإقامة وحي «آمون».»
ويبدو أن أماكن التزين بالحلي والاحتفاء عامة بالأشياء، وهو ما يتبدى أكثر عند النساء والأطفال، مثل العنق والأذن والأنف والجبهة والصدر؛ كانت أماكن لشعائر ورُقًى وأحجبة وتعاويذ ومنفرات؛ اعتقادًا فيما يكمن فيها من قوى سحرية خفية، تجلب البخت والسعد، وتطرد النحس والشؤم، فالساميون من العرب عبدوا الأشياء من تمائم وأحجار وشجر ونبات وجبال ووهاد، اعتقادًا فيما يكمن ويسكن هذه الأشياء المادية من قوًى غيبية، وعلى هذا علقوا الأجنحة اليمنى لطيور بعينها على صدور الأطفال، واعتقدوا في رأس الهدهد وسن القطة والذئب والخنزير، ذات الشكل الهلالي، نسبة إلى «الهلال» أو الإلهة الأم القمرية.
كما أنهم أكثروا من استعمال هذه الطلاسم والرقى والمعوذات والتعاويذ لدفع الأوبئة، مثل الحمى ولدغ العقارب والحيات، بالإضافة إلى أغراضها الجنسية والعاطفية، ومنها ما كان الغرض منه اتقاء الحسد و«النفاثات في العقد»، وشرور العين، و«النفس» الشريرة.
وهذه المعتقدات في مجملها، أمكن التعرف على منابتها الأولى منذ السومريين اللاساميين — الألف الرابعة ق.م — منها الرقى والطلاسم والأحجبة، والعين الحاسدة أو القاتلة، والنفس أي النفس الخالق الذي وهب به الإله الإنسان، حين نفخ في حلقه فخرج من دبره وهو — نفسه — النفس القاتل المميت، فيقال عن المصاب والمريض والمعلول، أنه «منفوس»، كما قد يقولون «عائن» و«عيون» مثل عين الآلهة الإناث عند السومريين والبابليين «حين سلطت عليه نظرة الموت»، التي أردت بها ابنها قتيلًا، وعين الأم سارة الحاسدة، التي كادت أن تقتل بها إسماعيل حين سلطتها عليه فأرادته قتيلًا، حتى أن أمه هاجر وارته تحت الرمل، وصلَّت لأصنامها.
فالنفس الخالق هو نفسه النفس المميت.
وتنسب إحدى أساطير القحطانيين، وما أكثرها وأخصبها، لكاهنة عريقة تُدعى «طريفة»، أنها هي التي وهبت الكاهن المتنبئ الخرافي الذي لقبوه بسطيح، ورووا عنه أنه عاش ثلاثين قرنًا؛ النفس الخالق.
وهي أسطورة قحطانية عريقة، تستوجب التأني، تُنسب أحداثها لهجرات حميرية مصيرية بالنسبة لمجرى وتاريخ أحداث الشرق الأدنى، ويؤرخ لها بما أعقب خراب سد مأرب.
فعندما وافت المنية الملك الكاهن عمران بن عامر، دعا أخاه عمرو بن مزيقيا، وأنبأه بخراب البلاد، وبأهمية الزواج بالكاهنة طريفة، ومات عمران.
وعمرو سُمي مزيقيا لأنه كانت تُنسج له في كل سنة ٣٦٠ حلة من الذهب الأحمر، وكان يأذن للناس في الدخول، فإذا أرادوا الخروج خُلعت حلته ومُزقت؛ ولذلك سُمي مزيقيا، ويُقال إنه أخذ سنته أو شعيرته هذه من ذي القرنين «يوم هتك عرشه ومزق حلته»، هذا ويبدو أنها كانت بمثابة عيد أو شعيرة، تتصل بالآلهة الزراعية الممزقة.
وترد بكثرة شديدة في ذلك التاريخ الأسطوري للملوك اليمنيين، مرة في كيفية تمزيق الملك لثيابه على مرأًى من قومه، ومرة في طقوس هتك العري للشعب أو الملك — أو التبع — لعرشه، بطريقة موسمية محدودة.
والملفت أن هذه التقليدة ما تزال سارية في الحواديت والبلاد الشفاهية المصرية والعربية.
وتزوج عمرو بن مزيقيا الكاهنة طريفة، «وكان عمرو أعظم ملك بمأرب، وكان له تحت السد من الجنات ما لا يُحاط به، فكانت المرأة تمشي وعلى رأسها «مقطف»، فلا تصل إلى بيت جارتها إلا وهي تملؤه من كل فاكهة، من غير أن تمس منها شيئًا، حتى أنهم دعوا على أنفسهم «ربنا باعد بين أسفارنا»، إلى أن أرسل الله عليهم السيل، فخرب السد، وهو ما هتف به الهاتف أو «الآتي» وأخبر به طريفة في المنام، حتى زارها وقال لها: «ما تحبين يا طريفة، علم تطيب به نفسك، أو مولود تقر به عينك؟» فقالت: بل علم تطيب به نفسي. فمر بيده على صدرها، ومسح بظاهر كفه على بطنها، فعقمت، فكانت لا تلد، واتسعت في العلم وأُعطيت منه حظًّا عظيمًا.»
وكان زوجها عمرو بن مزيقيا، يُكنى ﺑ «ماء المزن» أو مأرب، أو «ماه رب» وهي كلمة آشورية بمعنى البلد والسهل والوادي، كما أن «ماه» بالفارسية تعني القمر.
وكان ابن عمرو بن مزيقيا يُدعى ثعلبة العنقاء، وهو «جد الأنصار من الأوس والخزرج».
وأمرت هذه الكاهنة قومها من العرب الغساسنة بالنزول إلى الشام، فتملكوا عكاء، بعد أن هادنوا ملكها «سملقة بن حباب العكي» ونزلوا غربي عكاء.
ورفض ثعلبة العنقاء قتالهم، متمثلًا قول سلفه يعرب بن قحطان: «ويل للمنزول عليه من النازل.»
إلى أن تروي هذه الخرافة عن تدخل «جذع بن سنان» وهو من الجن، فأوقع بين الغساسنة وأبناء أعمامهم أهل عكاء إلى أن قتلهم الغساسنة ونفوهم من الشام، ثم أشارت عليهم الكاهنة بالمسير إلى همدان، فتملكوها، وهكذا سارت بهم إلى نجران، تستحثهم على القتال وتخطب في المحاربين، وترسم الخطط، وكانت تسكنهم قبيلة قبيلة، فملكت قبائل الأزد عمان، وملكت الأوس والخزرج «يثرب ذات النخل» أو المدينة، وأنزلت همدان «نو العراق بابل»، ونزلت علبة أو جفنة بن عامر بن غسان دمشق، وأنزلت قبائل السراة بن غسان تهامة.
وكانت في كل مرة تقول هذه الكاهنة كلامًا مسجوعًا، كأن تقول: «خذوا البعير الشدقم، فانحروه وخضبوه بالدم، حتى تأتوا أرض جرهم.» ثم حاربوا قبائل جرهم وبني إسماعيل، «فهزموهم حتى أدخلوهم مكة واستغاثوا بالحرم.»
وكانت مكة آخر مطاف تلك الهجرة القحطانية التي تزعمتهم هذه الإلهة الكاهنة الأم المدعوة «طريفة»، مثلما تزعمت سارة الإلهة الأم لقبيلة إبراهيم القبائل العبرية الرعوية، وضرتها هاجر قبيلة الهاجريين والإسماعيليين، وعبرتا الأمازون الليبيات القبائل الليبية … إلخ.
وقبل موتها تنبأت لخليفتها بعد ذلك بقرون، الكاهن الجاهلي الخرافي «شق الذي يعلم ما حل وما دق»، والذي تنبأت طريفة بمجيئه قبل أن يُولد، مقسمة ﺑ «الاسم والربا، والعلم والأبا، والنور والضيا، إنه يُولد في — قبائل — تميم ابن عم، ليس له مفصل ولا عظم، يخرج ممسوخًا، ثم تموت أمه لسبع ليالٍ، وينبئ — أي شق — بالزيادة والنقصان إلى فراغ الحق والزمان، وأقسم بالنور والفلق، ما له رأس ولا عنق.»
وبعد أن ماتت أمه لسبع ليالٍ، أتوا به طريفة: «ففتحت فمه، فنفثت فيه، وقالت: لا تسقوه لبن امرأة إلى بلوغه. ثم قالت: أنت خليفتي من بعدي.»
ويُنسب لطريفة هذه أنها أول من سمت العروبة، قبل موتها:
وماتت طريفة في «ليلة الجمعة، في عقبة الجحفة، فقبرها هناك مشهور».
وهذا ما دعا د. محمد عبد المعيد خان إلى الربط بين تصورهم لشكل شق وسطيح، وبين القردة، وبقية أفكارهم عن السعلاة أو السلعوة، المتواترة حتى الآن في المعتقد الخرافي المصري.
ويبدو أن ثمة علاقة بين القردة وبين معتقد العرب الجاهليين عن الدهر أو القدر، الذي وحدوه بالخالق والقادر والماني الذي هو في آخر المطاب الله، فقالوا إنه «في آخر الزمان، تأتي المرأة فتجد زوجها قد مُسخ قردًا؛ لأنه لا يؤمن بالقدر.» كما يُقال بأن الجاهليين كانوا يسجدون للقرد.
ورووا الكثير من الخرافات حول أناس خلطوا اللبن بالماء، فمُسخوا قردة، ومنها حكاية عن رجل حمل معه خمرًا في سفينة ليبيعه ومعه قرد، وكان يغش الخمر بالماء مناصفة، فسرق القرد صرة نقوده وصعد أعلى السفينة، وراح يلقى بدينار في البحر ودينار في السفينة، حتى قسمها نصفين.
ويبدو أنهم اعتقدوا في أن القردة والخنازير ما هم إلا أناس بشريون؛ فلقد تواترت خرافات كثيرة عن أن الجاهليين كانوا يرجمون القردة الزناة، ورُوي عن الأزدي قال: «رأيت في الجاهلية قِرْدة زنت اجتمع عليها قِرَدة فرجموها، ورجمتُها معهم.»
وقالوا: «إن الله لم يُهلك قومًا أو يعذب قومًا فيجعل لهم نسلًا، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك.» وربطوا في خرافاتهم المتعددة بين سكنى الجن والشياطين والسعالي لديار وخرائب القبائل العربية المندثرة، عاد وثمود وطسم وجديس والعماليق وغيرهم، ومسخ هذه الأقوام إلى قردة. وفي خرافة تروي بعض الأقوام الإسرائيلية بهذا المعنى عن: «القرية التي كانت حاضرة البحر»، وهي قرية سماها ابن عباس ﺑ «أيلة»، كانت تطل على البحر ويسكنها أناس من اليهود، حرم الله عليهم صيد الحيتان يوم السبت، فكانت الحيتان تأتيهم في يوم سبتهم بيضًا سمانًا، وفي غير يوم السبت لا تأتيهم إلا بمشقة، وحدث أن اصطاد أحدهم حوتًا يوم السبت، وشواه، فوجد جيرانه رائحة الشواء تملأ القرية، وأحل نصف القرية أكل لحم الحوت، ورفض نصفها الآخر، وأقسموا: «والله ما نساكنكم في مكان أنتم فيه.» وخرجوا من السور، وصرخ: «قردة الله ولها أذناب تتعاوى. ثم نزل ففتح الباب، وتدافعت الناس عليهم، فعرفت القردة أنسابها من الإنس، ولم تعرف الإنس أنسابها من القردة، فكان يأتي القرد إلى نسيبه وقريبه ويختلي به، فيسأله الإنسي: أنت فلان، فيشير برأسه؛ أي نعم، ويبكي.»
وفي قول آخر: «فُقدت — أو مُسخت — أمة من بني إسرائيل، لا أدري ما فعلت، ولا أراها إلا الفأر، ألا ترونها، إذا وُضع لها ألبان الإبل لم تشربها، وإذا وُضع لها ألبان غيرها شربتها.»
ولعل موجز هذا الفصل أن أفكار القدرية والدهرية التي كانت تغرق ماضي بلداننا العربية منذ منبت الإنسان المستهدف للعقل على أرض هذا الجزء من العالم؛ هي بذاتها لا تزال تحكم مخيلة شعوبنا، وتكبل إرادتنا، وبالتالي تشل طاقاتنا الخلاقة. أليس كذلك؟