خرافات الجن والشياطين والعفاريت والرياح
وقد ترجع أغلب معتقداتنا وتصوراتنا التي ما تزال تتواتر في مجتمعاتنا المعاصرة، عن الجن ومواطنهم ومصاهرتهم للإنس وقبائلهم، وكذلك الغيلان والسعالي — أو السلعوة — والعفاريت والرياح والندَّاهات والنفرات وسكان ما تحت الأرض … إلخ؛ ترجع بكاملها منحدرة من المتعرية البائدين — الألف الرابعة قبل الميلاد — وبشكل أخص سكان الجنوب (اليمن) القحطانيين؛ نظرًا لتيسر اتصالاتهم المبكرة بالفرس المجوس في إيران، والتي يرجعها البعض إلى الألف الثالثة ق.م، حين أخضع الملوك القحطانيون الفرس، ومنهم ملوكها مثل الضحاك بن مرداس، وذو الأذعار.
فلقد لعب موقع اليمن وقربها من البحر الأحمر جغرافيًّا على خط الاتصال بالهند وفارس والآريون؛ دوره في جلب هذه الأفكار والمعتقدات الخرافية عن الجان، ثم تسريبها فيما بعد إلى بقية شعوب العالم العربي، ومنه عبرت إلى أوروبا.
فيقال: «إن بيذخ ابنة إبليس كان لها عرش على الماء، وإن المريد لها متى فعل معها ما تريد سحرته.»
وبشكل موجز، فلقد كان للعرب — سكان الوبر — دور لا نهاية له في ترويج خرافات الجان هذه، على اعتبار أنها خرافات آرية هندوكية، حملوها مع فتوحاتهم إلى مصر وشرق أفريقيا والأندلس، وأوروبا عامة، وهي النظرية التي تبناها المستشرق تيودور بنفي.
وفي تقديري أن ما كان ينسبه الساميون الأوائل عامة لآلهتهم عادوا فأورثوه الجن، وبمعنى أدق فإن أساطير انحدار الملك — البشري — الابن من صلب إله، والتي تتبدى بشكل أخص في أساطير الملكات الساميات — التاريخيات — التي تجمع أساطيرهن على انحدارهن من رحم أمهات سماويات «اتصلن برجال بشريين ذكور، فجئن إلى الوجود» مثلما حدث مع الملكة البابلية سميراميس التي تنسب لها أساطيرها أن أمها معبودة سماوية أرادت أن تستر ذلتها، فتركتها في الخلاء، وأما جانب تطابقها مع عشترت فيرجع إلى قتلها عشاقها عقب الجماع، وكذلك سميرام السورية، وميرنا أو شميرنا، ملكة الأمازون الليبيات، التي ينسب لها المؤرخ ديودوس الصقلي أنها «عندما مرَّت بمصر، صادقت حور – حورس – ابن إيزيس الذي كان ملكًا متوجًا بها».
أما عن مراحل استبدال الأمهات السماويات بأنثيات من الجن، فيبدو واضحًا في نسب بلقيس ملكة سبأ، وأمها الجنية المشهورة «رواحة بنت مسكن»، وهو اسم ما يزال يتواتر على الشفاه في خرافات الجن المصرية، ومنها جنية جبل ضهر باليمن، والجنية التي انحدر من رحمها الملك الحميري الصعب «ذو القرنين» والصعب بن ذي مرائد الحميري.
بل إن العرب نسبوا لسابقيهم من القبائل العربية البائدة انحدارهم من أمهات جنيات مثل قبائل جرهم، التي قيل إنها جاءت إلى الوجود من نتاج ما بين الملائكة وبنات آدم، وكذلك قبائل جديس وثمود والعماليق أو العمالقة في الشام وفلسطين، وهو تصور ليس ببعيد طبعًا عن تصور العبريين، من أن الملائكة هم أبناء الله «بني إيلوهم»، أو عن عبادة العرب للجن، وتحريمهم لأماكن شاسعة بكاملها، لا يقربونها، و«الحجر» اعتقادًا منهم في أن هذه الأماكن كانت موطن الأسلاف من الجن مثل وادي «برهوت» و«يبرين» و«صيهد»، وكانت ديارًا لقبائل عاد وثمود وطسم وجديس وجرهم والعماليق، وغيرهم من القبائل المندثرة.
ومن هنا جاءت فكرة اعتبار القبور والأماكن المهجورة والخرابات بعامة مواطن للجن والعفاريت … وأن تحية العربي القديم لساكني المقابر من الجن والعفاريت، والتي كانت اتقاء لشرورهم هي «عموا ظلامًا»، وهي ما أصبحت اليوم «مسيكم بالخير» ومرادفاتها المختلفة، ومنها إجابة الجني أو الغول على البطل الإنسي: «لولا سلامك غلب كلامك، لكنت كلتك ورميت عضامك» وهكذا …
وقد لا يقبل المرء بسهولة ادعاءات المستشرقين وعلماء الآرية مثل «نولدكه» و«بنفي» تصورهما للشرق الأدنى القديم كمجرد معبر حضاري ثقافي اتخذه التراث الفولكلوري الآري — الهندو إيراني — إلى أوروبا والعالم الجديد، ذلك أن الكشوف السومرية العراقية الأكثر قدمًا من الآرية — بداية الألف الرابعة ق.م — جاءت فأجلت الكثير من الغموض، من ذلك مثلًا ما جاء عن العفريتة الشيطانة «ميليث» التي تسكن الخرابات والأماكن المهجورة، وهي الفكرة المتواترة اليوم عن سكنى العفاريت الخرابات، وهو ما كشفه وأوضحه نص القصيد السومري المعنوي «جلجاميش وأنكيدو والعالم الآخر»، أو «جلجاميش وشجرة الصفصافة».
وتبدأ هذه القصيدة هكذا: «في قديم الزمان، كانت شجرة الصفصافة مغروسة على شاطئ الفرات، وحدث أن هبَّت عليها العواصف الجنوبية، وفاضت عليها مياه الفرات، فأخذتها الإلهة «أنانا» إلى مدينتها «أرك» — أو الوركاء — وغرستها في بستانها المقدس، حتى إذا كبرت الشجرة صنعت من خشبها سريرًا أو كرسيًّا، وعندما حاولت «أنانا» قطعها لتصنع من خشبها سريرًا وكرسيًّا أعجزتها حية شيطانية «ليليث» اتخذت منها مسكنها، إلى أن جاء البطل الإلهي جلجامش فقطع الشجرة وذبح الحية، وفرَّت الشيطانة «ليليث» إلى الأماكن الخربة المهجورة.»
وبالقطع هذه أول فكرة تاريخية أو حفرية، عن سكنى العفاريت الخرابات.
ومع انتقال تراث السومريين إلى خلفائهم وورثتهم البابليين، الذين عُرفوا بالأكاديين نسبة إلى أكدو عاصمتهم، انتقلت فكرة الشيطانة «ليليث» إليهم، وليليث كلمة بابلية آشورية، ومعناها أنثى العفريت أو الريح، كما أنها ذُكرت مرة أخرى في إحدى القصائد الجلجاميشية البابلية — حوالي ٢٠٠٠ق.م — وتُحول هذه اللفظة بعد ذلك من «ليليث» إلى «ليل» … وهي ما أصبحت تظهر ليلًا، وعُرفت بالجنية ليل، تسكن الأماكن الخربة وموارد المياه، وتظهر كخارقة ليلية يغطي الشعر كل جسدها العاري، في الفولكلور السامي المعاش اليوم بعامة.
ويبدو أن الليليث أو ليلي أو ليل السومرية هذه — ٤ آلاف عام ق.م — هي نفسها التي أصبحت تصادفنا في الشعر والأغاني الشعبية — يا ليل يا عين — كما أن الليليث أو ليلي، توجد بكثرة هائلة في الأغاني الدينية الشعبية، المعروفة بأغاني التخمير، والزار.
ويبدو أن العبريين كانوا قد أخذوها عن الكنعانيين الذين سبقوهم في استيطان فلسطين، فليليث في اللغة الكنعانية أو الفينيقية معناها إناثا أو إناث — ومفردها أنثى — وهي ما تتوحد مع عشترت، خاصة في طقوس العرس المختلط.
ففي أغلب الأساطير والشفاهيات العربية خاصة يغوي الشيطان المرأة زوجة الإله أو البطل، مثلما حدث مع زوجة نوح، حين مكنته من تخريب الفلك ثلاث مرات، وكذلك فقد تسلل الشيطان إلى الفلك خلال الطوفان عن طريق زوجة نوح، عقب زواجه منها.
ووردت هذه الفكرة أيضًا في الأسطورة الفلاشية عن تسلل الشيطان إلى جوف الحوت الخالق، مواصلًا نشر كوارثه.
وتكشف النصوص المدونة والشفاهية لأسطورة الطوفان استعانة الشيطان بزوجة نوح، للإيقاع بنوح، وتحطيم فلكه، وفي أحد النصوص الأيرلندية التي جمعها الأستاذ «جيمس ديللارجي» مدير عام الجمعية الإيرلندية للفولكلور عام ١٩٥١ يقول هذا النص: «إن بناء فلك نوح استغرق ٨١ عامًا؛ إذ إن الشيطان كان يدمره مرة كل سبع سنوات، مستعينًا بالزوجة.»
وفي أحد النصوص الشرقية التي جمعها أبيفانيس اليوناني: «أن برها زوجة نوح أشعلت الفلك نارًا عندما دخلتها.»
وفي عديد من النصوص يأخذ نوح مكان آدم ويتطابق معه، ويروح إبليس يغري الزوجة، ويدفعها إلى أن تدفع نوح بدورها للأكل من الشجرة المحرمة، مما يدفع الله لأن يسلط عليهم الطوفان كعقاب.
إنه كان ﻟ «أيوب بن رازح بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل؛ زوجةٌ اسمها رحمة، وكان أيوب صاحب أموال عظيمة، وكان له ملك البثنية جميعها من أعمال دمشق، فابتلاه الله بأن أذهب أمواله حتى صار فقيرًا، وهو مع ذلك صابر على عبادته وشكره، ثم ابتلاه الله في جسده، حتى تجذم ودوَّد، فبقي مرميًّا على مزبلة لا يطيق أحد أن يشم رائحته، فكانت زوجته تخدمه وهي صابرة على حاله، فتراءى لها إبليس وأراها ما ذهب لهم، وقال لها: اسجدي لي لأرد مالكم إليكم. فاستأذنت أيوب، فغضب وحلف ليضربها مائة، ثم إن الله — تعالى — عافى أيوب ورزقه وردَّ إلى امرأته شبابها وحسنها، وولدت لأيوب ستة وعشرين ذكرًا، ولما عوفي أيوب أمره الله بأن يأخذ عرجونًا من النخل فيه مائة شمراخ، فيضرب به زوجته، لِيَبرَّ في يمينه.»
وما يمكن ملاحظته في ذلك النص، هو أن إبليس أرى الزوجة «رحمة» ما ذهب لهم، بمعنى أنه هو الذي كان قد سلب عنهم أموالهم وعزَّهم، وأصاب أيوب بالداء، وفي مقدوره رد ما أخذ، لو أن المرأة سجدت له.
فالعلاقة بين المرأة والشيطان تتواتر بكثرة شديدة، خاصة في نصوص وأساطير الخلق الأولى عند عديد من ملل ونِحَل الشعوب والقبائل السامية العربية.
وما يهمنا هنا هو هذه الفكرة السومرية، وهي فكرة توحد الشيطانة ليليث بالحية، وليليث هي ما عُرفت عند السومريين بحواء الأولى، والتي عادت بدورها فتوحدت بالحية، خاصة عند القبائل العبرية، ففي التوارة أن أصل الإنسان من الحية، والحية من الجن. وترددت هذه التضمينة في عديد من أسفار الخلق والبدء عند أغلب ملل ونحل الشرق الأدنى.
فعندما قرر الله أن يهب آدم أنيسًا، طلب منه أن يسمي كل حيوان بهيم وطائر وكل مخلوق حي، فكانت الحيوانات تمر به — ذكر أو أنثى — فسماهم آدم واختبر نفسه مع كل أنثى منهم، وعندما عجز صرخ باكيًا: لكل مخلوق قرينة إلاي. فكان أن خلق الله الليليث أو حواء الأولى، ويُقال إن الله استعمل في خلقها القاذورات والرواسب الطفيلية بدلًا من مياه العمق، أو الطين اللازب أو الصلصال الذي خُلق منه آدم.
ويُلاحظ طبعًا أن هذا التراث الأبوي القبلي، يحط من قدر المرأة حتى في مادة خلقها.
وباتحاد آدم مع هذه الشيطانة ومع أخرى على شاكلتها تُدعى «نعمة أو نعامة» ونعمة هي أخت قابيل القاتل وقرينته، ويُنسب لها نشر ما لا يُعد ولا يحصى من الشياطين والجن التي هي آفة ووباء الجنس البشري، ومنها الجنون، المشتق لفظيًّا من الجن.
وتنسب الأساطير لهاتين الأنثيين أو الجنيتين ليليث ونعمة أنهما هما اللتان جاءتا إلى كرسي عدالة الملك سليمان متنكرتين في هيئة زانيات أورشليم.
فإذا ما كانت الحية قد توحدت صراحة بالشيطان حين تسلل إبليس إلى الجنة داخل الحية، والحية هي التي أغرت حواء بالأكل من شجرة المعرفة أو الشجرة المحرمة أو شجرة التين، فكان أن استجاب آدم بإغراء من حواء.
وعلى هذا فإن الثلاثة: الحية والشيطان والمرأة، ما هم إلا وجهًا واحدًا لنفس البطل.
وترى بعض أساطير الخلق — العبرية — أن أول صراع نشب بين آدم وحواء، جاء بسبب استياء حواء من وضع المضاجعة؛ «لما حتم علي الاضطجاع إلى جانبك»، وعندما حاول آدم إرغامها نطقت باسم الله الخفي أو التابو — وكانت على معرفة به — وانفلتت طائرة في الهواء، فأقامت إلى جوار البحر الأحمر، في إقليم تتكاثر فيه الشهوات الشيطانية، وهناك أنجبت آلاف الأبناء من الشياطين.
وعندما شكا آدم حواء أو ليليث إلى الله: لقد هجرتني زوجتي، لحمي. «وأرسل الله الملائكة في طلبها والبحث عنها، وعندما هددها الملائكة بالموت، قالت لهم: كيف لي أن أموت وقد وكلني الله برعاية الأطفال المولودين، الذكور منهم حتى يومهم الثامن، والإناث حتى العشرين!»
وبينما راحت الليليث وأختها نعمة تخطف الأطفال المولودين وتخنقهم، عاقبهما الله بقتل مائة من أطفالهما يوميًّا.
ومن أساطير الخلق الأولى اكتملت المعتقدات التي ما تزال شائعة، حول إضرار العفاريت والأرواح الخفية بالأطفال الحديثي الولادة، فكان من المنبع رسم دائرة سوداء على حائط حجرة العرس، يكتب داخلها: «آدم وحواء، اغربي يا ليليث.» أما عندما تتمكن الليليث من الاقتراب من الطفل الوليد، وتشغف به حبًّا، فلا بد من أن يضحك الطفل في نومه، ولتجنب الخطر ينبه الطفل بوضع أصبعه بين شفتيه، حينئذ تختفي العفريتة، وهو ما شاع كثيرًا في تماثيل وتمائم الإله الطفل في كلا التراثين الهليني والروماني، ووُجد من آثاره ملايين التمائم.
كما أنهم اعتقدوا في أن الطهور هو الحماية الحقيقية للطفل من العفاريت.
وكان من المعتقد «أن العفاريت تسكن الصحراء الأدومية بسوريا، مخلفة الرعب والبجع والبوم والغربان وأبناء آوى والحيات والحداءات، والنعام الذي اشتق اسمه من اسم نعمة».
وقد ارتبطت هذه الشعائر عند تلك الملل الكثيرة المتلاطمة، بأساطيرهم وأفكارهم الأولى عن الخلق، والصراع بين آدم وبين الشيطان، أو الصنديد الذي «علم حواء» رطانة السحر لتسحر آدم وتسلبه أطفاله، فكان آدم يتضرع إلى الله: ما ذنب المولود؟
ومعتقد الخوف على حياة الأطفال حديثي الولادة وأمهاتهم النفساوات منتشرة بكثيرة في فولكلور شعوب العالم القديم، وكان العبريون اليهود والرومان والجرمان يعتقدون في مقدرة «روح الحديد» على طرد هذه الأرواح الشريرة، فيذكر المؤرخ «بيليني» أن الرومان اعتقدوا في قدرة الحديد على طرد الشياطين، كما ذكر الأخوان جريم: «إن الجرمان كانوا مؤمنين بالدم والحديد في طرد الأرواح الشريرة.»
فخَلْق حواء من ضلع الرجل أسطورةٌ مستقرة منتشرة بكثرة على طول الشرق الأوسط، تؤكد سيادة الرجل الذكر، منكرة قدسية حواء، منقصة من مساواتها الرجل، موحدة بين المرأة والحية والشيطان والجنية.
•••
وكان الكلدانيون فلاسفة وكهنة حران يقولون بأن للجن إلهًا، يضحون له بنحر الخرفان، ويطبخون ماء يستحمون به سرًّا لرئيس الجن، وهو الإله الأعظم، كما كان من عاداتهم التضحية بصبي طفل حين يُولد بذبح الصبي، ثم يُلصق حتى يهترئ، ويؤخذ لحمه فيُعجن بدقيق السميد وزعفران وسنبل وقرنفل وزيت، ويُعمل منه أقراص صغار مثل التين، يخبز في تنور جديد، ويكون لأهل السر في الشمال، ولا تأكل منه امرأة ولا ابن أمه ولا مجنون.
وعن ابن عباس قال: «كانت حواء تلد لآدم فتعبِّدهم؛ أي تسميهم عبد الله وعبد الرحمن، ونحو ذلك، فيصيبهم الموت، فأتاهم إبليس فقال لها: لو سميتما بغير هذه الأسماء لعاش ولدكما، فولدت حواء ولدًا فسمَّته عبد الحرث، وهو اسم إبليس.»
ويورد ابن النديم أن مصر وبابل أكثرت من هذه المنفرات قائلًا: «فأما السحرة فزعمت أنها تستعبد الشياطين والجن بالسحر والقرابين وارتكاب المعاصي والمحظورات واستمالتها بترك الصلاة والصوم، وأباحت الدماء، ونكاح ذوات المحرم، وغير ذلك من الأفعال الشريرة، وهذا الشأن شائع ببلاد مصر وبابل.»
وأضاف: «وقال لي من رأى السحرة بأرض مصر: وبها بقايا ساحرين وساحرات، وزعم الجميع من المعزمين والسحرة أن لهم خواتيم وعزائم ورُقًى وصنادل وغير ذلك.»
وكانت خرافات الغيلان منتشرة بكثرة شديدة في الجزيرة العربية، ويُنسب لكائن خرافي يسمى «تأبط شرًّا» أنه قتل غولة بضربة واحدة من سيفه فقتلها، وأن الغولة عندما ضربها أول ضربة، طلبت منه أن يضربها ثانية، لكنه رفض، وهي تلك التضمينة الأسطورية المعروفة في خرافات الجان، والتي مؤداها أن «ضربة الرجال ماتِتَّنَّاش».
وممن تزوج بالجن من العرب عمر بن يربوع بن حنظلة التميمي، وجذع بن سنان، وعمرو ذي الأزعار بن أبرهة ذي المنار وأمه الجنية العيوف ابنة الرائع.
كما أن قبائل بكاملها عبدت الجن، مثل رهط طلحة الطالحات من خزاعة، ولقد اعتقدوا في أن للجن عشائر وقبائل، تربط بينها صلة الرحم كما هو حادث عند بني الإنس القدماء.
ولقد كُتبت مؤلفات بكاملها في هذا المعنى، نسبة لابن هلال، وابن الإمام، وأبو خالد الخراساني، وابن أبي رصاصة، ولوهق بن عرفج، وله مؤلفات عن طبائع الجن ومواليدهم، و«آريوس الرومي» وكان من علماء الروم بالعزائم، وله من الكتب كتاب يذكر فيه أولاد إبليس وتفرقهم في البلاد، وما يختص به كل جنس منهم في العلل والأرواح، كما أن منهم ابن وحشية الكلداني وكتبه عن السحر والجن على مذاهب الأنباط والكلدانيين والحرانيين وغيرهم.
كذلك فلا نهاية لمن عشق الجن من الإنس، وخاواها في العلن والخفاء.
وكان كلما أوقعت الجن ببشري بعد ذلك خاطبها قائلًا: «يا معشر الجن، أنا رجل من بني سهل، وبيننا وبينكم عهد وميثاق.» فتعرفه الجن وتهابه.
وكانت نِحَل وشِيَع الحابطين، أصحاب أحمد بن حابط بنواحي البصرة، وأحمد بن نانوس، وأيوب بن نانوس — الذي أباح النكاح؛ كانت هذه الفرق والشيع تقول بأن «الله نبأ أنبياءه من كل نوع من أنواع الحيوان، حتى البق والبراغيث والقمل»؛ مستندين إلى قول الله: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ.
وكذلك أساطير خلق المغتسلة سكان البطائح، والكشطيين، والمنسطوريين، والصامية، والغولية، والأدومية أو الأدوميين الذين منهم اشتُق اسم آدم أبو البشر.
وكانت أسطورة الخلق القريشية — فيما قبل الإسلام — وقريش كان طوطمها الحوت، تقول: «إن الله خلق الأرض على حوت، والحوت في الماء، والماء على ظهر صفاة، والصفاة على ظهر ملك، والملك على صخرة، والصخرة في الريح.» ويقال: «إنها هي الصخرة التي ذكرها الحكيم لقمان، ليست في السماء ولا في الأرض، فتحرك الحوت، فاضطربت، وتزلزت الأرض، فأرسى عليها الجبال.»
وفي خرافة قريشية متأخرة، كان لها السيادة فيما بعد: «أن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرض، فوسوس إليه، وقال له: أتدري ما على ظهرك يا لوتيا من الأمم والدواب والشجر والجبال وغيرها؟ إنك لو نفضتها أو ألقيتها عن ظهرك، لكان ذلك أريح لك.»
ويرى رفائيل بتاي أن العبريين استعاروا أفكارهم عن الحيتان والحيوانات البهيمية ذات الجثث الهائلة من العرب الأوائل — أو البائدة — وهو ما كان يطلق عليه العرب تعفون — أو التعفن — ومنها بعل تعفون، وهو ما يشير إلى البهيمية، وصراعات الحيوانات الخارقة الوحشية، مثل الثيران والبقر الوحشي والحيتان.
كما وردت هذه الخوارق البهيمية في الميثولوجي البابلي، ومنها الحوت متعدد الرأس والإله ذو الرءوس السبعة بمثابة الصولجان السومري، منذ الألف الخامسة قبل الميلاد.
وبحسب ما ذكره هردوت وديودورو الصقلي، فقد «أكل فقراء الشرق الأوسط عامة لحم الحيتان وفرس النهر والبهائم الوحشية، خلال أعيادهم الموسمية، احتفالًا بأكل اللحم.»
وطبعًا كان الحيوان الطوطم يدافع عن القبيلة ويحميها، مثل هدهد سليمان وبلقيس، وحادث تلصصهما أو تجسسهما على أحدهما الآخر، وأيضًا ضباع قبائل الضبعيين والكلبيين وكذلك بنو هلال أو الهلالية — أصحاب سيرة بني هلال — وبنو عبد شمس ونسر وغيرهم، وهو ما أصبحت شعائرهم — الطوطمية — مثل الهلال والنسر، رمزًا موحدًا للعالم الإسلامي فيما بعد، مثلما أصبحت نجمة داود المسدسة شعارًا موحدًا للقبائل العبرية.
يقول المسعودي: «وقد زعموا أن الحيوان الناطق ثلاثة أجناس؛ ناس، وبنتاس، ونسناس، وقالوا: إن وجوههم على نصف وجوه الناس.»
وتركز الميثولوجيا السامية بشكل مجمل على أن خطيئة إبليس الأولى تمثلت في استكباره للمادة التي خُلق منها، وهي النار، على المادة التي خُلق منها آدم، وهي الطين أو التراب، هذه أول شبهة أو خطيئة وقعت في الخليقة.
وفي إحدى الروايات: «إن إبليس كان له ملك سماء الدنيا، وكان ينحدر من قبيلة من الملائكة، يُقال لهم الجن، وسُموا الجن لأنهم خُزَّان الجنة.»
ويبدو أن الصراع كان ملتهبًا بين مادتي النار والطين، أو بين الملائكة والبشر؛ إذ إن الله «خلق خلقًا — من الملائكة — وقال: اسجدوا لآدم. فقالوا: لا نفعل. فبعث الله عليهم نارًا فأحرقتهم، ثم خلق خلقًا آخر، بشرًا من طين، وطلب من الملائكة أن يسجدوا لآدم، فأبوا، فبعث الله عليهم نارًا فأحرقتهم».
الدميري، ص٢٢٧-٢٢٨.