حكايات فولكلورية سوادنية ومصرية
مجموعة حكايات فولكلورية سوادنية، جمعها الدكتور الأستاذ عواد كامل، ونشرها في كتاب تحت اسم «قصص سودانية»، بعض هذه الحكايات الشفاهية يمكن تصنيفه تحت ما يُعرف بحكايات الجان أو الحكايات الخرافية، وبعضها الآخر من نوع حكايات الحيوانات، وبعضها الثالث قد يكون بقايا أساطير مهشمة أو «أشلاء أساطير»، كما سبق أن لاحظ الأخوان جريمي.
ورغم أن د. مراد كامل قد أعاد صياغة هذه الحكايات الشفاهية السودانية، ونشرها في شكلها الأدبي، إلا أنه بدا واعيًا ومدركًا في محافظته الدقيقة الرصينة على أدنى مقولاتها ووحدتها وتسمياتها كحكايات فولكلورية، قابلة للتجزئة والانقسام إلى سلسلة متتابعة من الأفكار والجزئيات، ربما يسمح لها بالمقارنة مع نظيراتها من حكايات مشابهة أو مشتركة في النمط أو النموذج.
والذي استوقفني بالنسبة لهذه الحكايات هو عثوري على نفس هذه الحكايات والحواديت، بكاملها، في حكاياتنا وحواديتنا الشفاهية المصرية، فما من حكاية مفردة لا تتفق أو تتوحد مع نظيرتها المصرية؛ وهذا يعني مدى الالتقاء غير العادي بالنسبة لتراثي الحكايات الفولكلورية السودانية والمصرية بأنماطها ونماذجها، بل وحتى تضميناتها وأدنى جزيئاتها.
وليس هذا بغريب بالنسبة للأسس والقوانين التي أمكن لعلم الفولكلور إرساؤها منذ مطلع هذا القرن، بل الغريب هو أن يحدث العكس فيحل التنافر والمخالفة محل التطابق والتوحد، بالنسبة لتراث الشعبين المصري وشقيقه السوداني.
ومرجع هذا التطابق أو التوحد للتراثين المصري والسوداني — بالنسبة للحكايات الشعبية — هو الالتقاءات والاتصالات؛ من تاريخية وجنسية ومكانية ولغوية، بين السودان ومصر.
وتصل علوم ما قبل التاريخ، بالعلاقة التاريخية لمصر القديمة بالسودان، إلى ما قبل عهد الأسرات، فعن طريق السودان، كانت تصل إلى مصر حاصلات بلاد بنط من بخور وعطور ومر، وكانت هذه الحاصلات جزءًا حيويًّا من أخص خصائص المعبد الفرعوني وشعائره الدينية؛ مما يؤكد نص حدوتة مصرية وسودانية، من بين هذه المجموعة من الحكايات والحواديت المصرية السودانية المشتركة.
ولقد تدعمت بين الدولتين منذ الدولة الوسطى ٢٠٠٠ق.م، حين بدأ ملوك الأسرة الثانية عشرة يُسَيِّرُون حملات إلى السودان، حتى تمكنوا من دخوله، ونشر ديانة آمون، وأقام قلاعًا ومعابد «بوهين ودابنارتي ومرجيسيا وشفلك وسمنة وأورونارتي … إلخ»، وأيضًا مسلات سيزوسترس الثالث (١٨٧٩ق.م)، ولوحة سنوسرت الثالث: «هذه حدودي الجنوبية وكل من يحافظ على هذه الحدود الجنوبية، فهو ولدي ومن صلبي، الابن الذي يحمي أباه.» كما أن كهنة آمون كانوا يقيمون في السودان، بالإضافة إلى أعداد كبيرة من المهاجرين المصريين؛ من حِرَفيين ورسَّامين وخطَّاطين وصُنَّاع وكهنة ومحنطين.
ولقد لعب السودانيون دورهم الشقيق في معاونة المصريين في طرد الهكسوس، خاصة قبائل البجة والكوشيون — منهم النوبيون — ويرى سلجمان أن البجة والمصريين من سلالة واحدة.
وكان الملك كشتا أول من عُرف من ملوك السودانيين، واتسع سلطانه حتى تعدى الأقصى، ولما مات خلفه ابنه الملك بعانخي في حكم السودان ومصر، ولما مات بعانخي هذا، خلفه أخوه وزوج ابنته شبكة عام ٧٠٠ق.م، وهو الذي نقل عاصمة ملكه إلى الأقصر، وحارب الآشوريين، وابنه ترهاقا صاحب الحروب المتصلة في غرب آسيا، وهو الذي هزم سنحاريب ملك آشور، وغزا أورشليم، واستولى على بيت المقدس.
ويُعرف هؤلاء الملوك السودانيون الأوائل بملوك نبتة العظام، وهم الذين جلبوا الصناع والفنانين والمعلمين المصريين، وساعدوا على نقل المؤثرات الحضارية والشعائرية المصرية إلى السودان، وتبدى هذا في عادات دفن الموتى والفن والعمارة، إلى جانب الكتابة الهيروغليفية.
وخرج ملوك السودان أو ملوك نبتة مرارًا لصد هجمات القرى وغيرهم من القبائل الليبية والسامية المغيرة على مصر.
وطبعًا فإن هذه الاتصالات المصرية السودانية المبكرة حملت مع ما حملت التراث الشفهي والعقائدي لكلتا الدولتين، ويرى البعض — ومنهم سلجمان — أن الختان الفرعوني ما يزال هو السائد في السودان، كما أكده المقريزي بقوله: «وأما النساء فمقطوع أشفر فروجهن، وإنه يلتحم حتى يشق عنه للمتزوج»، وهو الختان الذي ما يزال ساريًا في قرانا المصرية خاصة الصعيد الأعلى، حتى اليوم. كما أن كثيرًا من القبائل والبطون العربية قبل الإسلام كانت دائمة الهجرة إلى مصر عن طريق شبه جزيرة سيناء وبرزخ السويس، مواصلة صعودها إلى الجنوب؛ فالصلات بين شمال الوادي وجنوبه كانت دائمة الحركة موثقة سواء من ناحية الجنس والسلالة، أو من الناحية الثقافية التقليدية، أو من ناحية التراث الإبداعي الجماعي الشعبي، وسواء على طول عصور مصر الفرعونية، أو البطلمية والرومانية والقبطية والإسلامية وأخيرًا المعاصرة أو الحديثة؛ منها مثلًا توقيت قيام الثورة العرابية في مصر عام ١٨٨١ ونظيرتها الدعوة المهدية في السودان في نفس السنة … وهكذا.
•••
وقبل الانتقال والتعرض للموضوع الذي نحن بصدده، أَوَدُّ أن أشير إلى النقص الكبير الذي تعانيه حركة دراسة الفولكلور والأساطير، وتخلفها المجدب الشديد في عالمنا العربي، وهو التراث الذي يحفظ له العالم أجمع ثراءه الهائل والذي لا تدانيه أصالة تراث أية منطقة من مناطق حضارات وتراث العالم القديم، هذا على الرغم من الصعوبات والمشاكل التي تحبط وتعثر المتصدي لدراسته نظرًا لتعدد المصادر وكثرتها وتداخلها وتجدد النزاع القبلي على ملكيتها، من ذلك مثلًا أنه كان في الجزيرة العربية واليمن والشام وفلسطين آلاف مؤلفة من تراث القبائل والمِلَل والنِّحَل حتى الفترة المتأخرة التي لا تتعدى القرون الستة بين المسيحية والإسلامية.
ومن ذلك أيضًا متاخمة الشرق الأدنى لحضارتين مبكرتين هما الهند وفارس اللتين واصلتا تسريب تراثيهما إليه بشكل مخصب متواصل؛ مما دفع ببعض دارسي هذا العلم إلى اعتبار تراث الشرق الأدنى القديم، وبرغم ثرائه وعراقته «تراثًا غير مكتمل الشخصية».
وحتى فترة قريبة، هناك شبه إجماع من جانب جيل الفولكلوريين الأكاديميين والمستشرقين، منهم: بِنْفي، ونولدكه، والبارون دي ساسي، وكيث فالكونر؛ على القول بأنهم — أي الأوروبيون — تعرفوا على قصة نبع التراث الأوروبي في الهند، وكان من نتيجة هذا مثابرة طويلة على جمع ودراسة لاهوت وأساطير وحكايات وخرافات وفوازير الهند.
ونشبت معارك طويلة حول ما قال به المستشرق تيودور بنفي، وعالما الفولكلور والأساطير الفنلنديان آرني وكارل كرون؛ «من أن أصول حكايات وخرافات كل العالم مصدرها الهند» … وطبعًا لقيت هذه النظرية معارضة شديدة خصوصًا من بعض أصحاب ما يُعرف بالمنهج المقارن للبحث والتقصي عن المصادر الأولى الأم للمأثورات الشعبية، مثل مانهارت ويوسف بدييه وثومبسون.
فيرى ثومبسون أن دور الشرق الأدنى تتعاظم أهميته في السنوات الأخيرة؛ نظرًا لكونه المعبر الأساسي الذي عن طريقه تسربت كل الكلاسيكيات الهندية من الشرق إلى الغرب، ويمكن التعرف على ما اعترى التراث الهندي من تغيرات وإضافات، خلال الزمان والمكان، مثل «البانشاتانترا»؛ أي الأسفار أو الكتب الخمسة وما طرأ عليها من تغيرات وتحولات، وهي تأخذ طريقها من الهند إلى الفرس والعرب والسريانيين العبريين اليونانيين، إلى أن وصلت سَرَيانها في تراث وآداب الشعوب اللاتينية في العصور الوسطى، وينطبق هذا على «الجاتاكا» أو الحكم السبع، ومرادفاتها في محيط القصة.
ويضيف الأستاذ ثومبسون: هذا إلى جانب القيمة العظيمة لتراث الشرق الأدنى الفولكلوري في حد ذاته المدون والشفاهي «وحيث تُروى الحكايات الشعبية، بشكل دائم، كجزء من النشاط اليومي المتواصل للأسواق والبازارات».
كما أن على رأس مصاعب وتعثر التصدي لدراسة تراث الشرق الأدنى بأساطيره وفولكلوره؛ تقف صعوبات؛ أولها: ندرة الحصول على موارده المتواترة، بما يحقق تراكم أكبر كمية كافية أو ممكنة، قابلة للمقارنة من أنماط الحكاية أو الملحمة أو السيرة أو العادة الطقسية محل البحث.
لذا فإن محاولات الدراسين تُعد إلى الآن محاولات شبه عقيمة، والأكثر عقمًا وأخطارًا هو عدم تخطي المحاولة الجادة للتعرف على أنفسنا وأصول شعوبنا ومكوناتها وخباياها، عن طريق هذه العلوم الشابة التي حققت الكثير، أخصها زرع واستنبات فضيلة التسامح.
•••
وإذا ما عدنا إلى موضوعنا الخاص بمجموعة الحكايات والأحدوثات السودانية التي تنبه لأهمية جمعها من بعض مناطق السودان د. مراد كامل، وما يطابقها في حواديتنا المصرية، أسجل أن هذه المحاولة الدراسية هي أيضًا غير مكتملة؛ نظرًا لقلة النصوص المتعددة للجزئية الواحدة، وحتى يمكن التوصل إلى نتائج أكثر دقة، وسأضرب مثالًا لتوضيح أهمية التشدد على تعداد مرادفات المادة أو الحكاية أو الملحمة موضوع البحث، والمثال هو الجمعية الأدبية الفنلندية التي أُنْشِئَت في هلسنكي عام ١٨٣١، والتي تُعد أقدم جمعية فولكلورية في العالم؛ فعندما احتفلت هذه الجمعية بالعيد المئوي لنشر إحدى ملاحمهم القومية عام ١٩٣٥، وهي ملحمة «كلافالا»، وصل عدد التسجيلات والتدوينات من متنوعات هذه الملحمة من كل أنحاء إسكندينافيا إلى ألف تسجيل فولكلوري …
وكان أن بدأت بعد ذلك مرحلة الدراسة العلمية اليقينية لهذه الملحمة.
وإذا ما بدأنا بتناول واحدة من هذه الحواديت أو الحكايات السودانية، التي جمعها د. مراد كامل، ونظيرتها الشفاهية المصرية، وهي حدوتة تدور حول ملك واسع الجاه والثراء تحفظ له الذاكرة الشعبية في كلا النصين المصري والسوداني واسمه «الملك الأسد». وفي تقديري أن ما بقي من حكايات وحواديت الملك الأسد هذا يشير إلى أنها بقايا سيرة، تدور حول حياة هذا الملك، مثلها في هذا مثل الحكايات المتبقية من البقايا الشفهية لسير الملك معروف، وسيف بن ذي يزن، وحسان الغالبة؛ والملك الشاطر حجازي ووزيره البين … وسير التباعنة ملوك اليمن، في حكاياتنا المصرية.
وملخص الحكاية السودانية عن الملك الأسد هو أنه اشترى حمولة عشرين سفينة من «الزباد» — أو العصفر في الحدوتة المصرية — وطلى به جدران قصره؛ ليطيب أريجه وينشر رائحته الزكية في أرجائه، وكان هذا الفعل الذي أقدم عليه الملك الأسد بمثابة زلته أو سقطته، التي بمقتضاها زالت عنه نعمته وذهب جاهه؛ فأصبح «خاوي الوفاض لا ينضم مقره على شيء مما حوى، فقد ابتلع اليم سفنه بما تحمل، وانطوت رمال الصحراء على قافلته بذهبها وأحجارها الكريمة، وضاقت الدنيا في وجهه، وسُدت أمامه السبل، واستحال الناس — شعبه — يكيلون له اللعنات بعد أن كانوا أَلسنة حمد وثناء؛ فهجر الأهل والوطن، وأخذ يضرب في على غير هدى.» وكان أن عبر إلى مملكة أخرى، وعمل صبيًّا في حانوت حلاق، يعمل ليعيش.
وتتوالى الحكاية، حتى يصل إلى حانوت الحلاق ابن الملك الذي كان قد سبق أن شهد مجده وثراءه، حين باع له الزبد أو العصفر، فرآه وقد بالت عليه حمارته، فعرفه ابن الملك، ودفع لصاحب الحانوت دينه وأخذه إلى قصره، وساعده بعد ذلك في استعادة سلطانه ومجده، إلى أن عاد «ذابل الأمس في يده يانعًا، ويابسه مخضرًّا»، وهكذا ينتهي النص السوداني.
كان الملك الأسد أغنى ملك في الدنيا، ومكنش فيه في مملكته لا بيع ولا شرا ولا مقايضة، واللي محتاج حاجة ياخدها بالصلاة على النبي، لحد ما زار الهاتف في ليلة الملك الأسد في المنام وقاللو: يا ملك، الدنيا حاتزول عنك.
فترك مملكته، وركب حصانه، ومشى أرض الله لخلق الله، إلى أن صادفه في الطريق بحر غويط، نزل فيه الحصان عائمًا بالملك، وفي وسط البحر غطس الحصان والملك ممسكًا بشعره، إلى أن غاب الحصان تمامًا في أعماق البحر، ولم يتبقَّ منه سوى شعرتين في يد الملك، فقال: «لما تروح تقطع السلاسل، لما تيجي تيجي على زبيبة.»
واستبدل الملك ملابسه بجلباب قديم — خيشة — كان يرتديها أحد الشحاتين، ونزل المدينة، والتحق بخدمة رجل فطاطري «يولع النار تحت صينية الفطير»، وهكذا إلى أن يصل الملك الذي كان قد سبق له أن باعه العصفر، فأخذ منه حماره ليربطه، فبال الحمار عليه، فقال الملك: «أقبلت — أي الدنيا — لما باض الحمام على الوتد، وأدبرت لما شخ الحمار على الملك الأسد.»
وتتطابق نهاية الحكايات الأربع المصرية مع الحكايات السودانية في رجوع ملك الملك الأسد إليه مرة أخرى، بعد أن أوفى مكتوبه أو قدره أو وعده، الذي هو عقابه في ذات الوقت — مثلما حدث لأيوب — حينما استهجن «النعمة» التي هي الزبد أو المر أو الصفر: أقدس مقدسات المعبد المصري — والسوداني — والذي كان يُجلب من بلاد بنط، عبر السودان إلى مصر، منذ فجر التاريخ.
أن رجلًا هرب من مدينته بعد أن قتل الملك أخاه وابنه واستولى على أملاكه، وعاش الرجل في الغابة وأصبح حطَّابًا، وكان في هذه الغابة أسد وفأر، وكان الفأر يميل إلى معاكسة الأسد، فقال له الأسد يومًا: «كيف تجرؤ على معاكستي وأنا أقوى المخلوقات؟» فأجابه الفأر بأن القوي هو الذكي «فأنا أقوى منك بذكائي، وأقوى مني ومنك الإنسان.»
وبينما الأسد يواصل احتداده مدافعًا عن أنه أقوى المخلوقات، جاء — الإنسان — الحطاب، قفز إليه الأسد قائلًا: «أيها الإنسان، هل لك في مصارعتي لنرى من منا الأقوى؟»
فقال الحطاب: «هذا حسن، ولكني تركت قوتي في البيت، فانتظرني إلى الغد، حتى أحضر قوتي.»
وبهذه الحيلة التي ستكون موضوع بحثنا، نجا الحطاب من الأسد؛ نظرًا لأن بقية الحكاية دخيل على هذه الجزئية الهامة، التي هي في الأصل حكاية حيوان متطابقة مع نظيراتها المصرية، بل إن البعض يعتبرها أشهر حكاية حيوان من فولكلور شعوب كل العالم.
ويكتمل الجانب — الاستطرادي — في الحكاية السودانية، بسلسلة من الحيل المتوالية، التي يهزم بها الإنسان — الحطاب — الأسد، ويخضعه لسيطرته، بل هو يتمكن في النهاية من ترويض كل أسود الغابة، وبهذا يصبح شيخ الأسود، ويتمكن في النهاية من الانتقام لما لحقه من جور الملك الظالم، الذي كان قد قتل أخاه وابنه وشرده من البلاد.
ومثل هذا الاستطراد دخيل تمامًا على الجزئية السابقة، التي هي في حد ذاتها حكاية مكتملة، وكما يرى عالم الفولكلور، الأستاذ لويس جنزبرج: «أن القصص الاستطرادية المتعرجة الأحداث، جديدة تمامًا ودخيلة على الفولكلور الأوروبي المبكر، وفولكلور الشرق الأدنى عامة.»
مرات التمساح — وليفته — زعلت واتقهرت وغارت من الديب.
وفي ليلة عملت عيانة، ولما جاء التمساح يسألها: عيانة بإيه؟ قالتلو: الحكيم قللي دواكي على قلب ديب.
التمساح قاللها: بسيطة؛ الديب صاحبي، وبكره الصبح حايجيني وأجيبلك قلبه.
وتاني يوم الصبح، لما الديب جا يزور التمساح، نط ركب على ضهره زي عوايده، التمساح جابو في وسط البحر، وحكالو حكاية مراته، فالديب قاللو: «لا مؤاخذة يا تمساح، أنا النهاردة سايب قلبي في البيت، رجعني تاني للبر، وأنا أروح أجيبلك قلبي من البيت وآجي حالًا.»
التمساح رجع الديب على البر، والديب أول ما حط رجله على البر فطس على روحه من الضحك، ولما التمساح سأله: «بتضحك ليه؟»
الديب قاللو: بضحك عليك؛ عليل ما دويت، وصاحب ما بقيت.
والاختلافات بين النصين السوداني والمصري لهذه الحكاية هي مجرد متنوعات أو اشتقاقات مرجعها التواتر الشفاهي الذي يعتري التراث غير المدون عامة، أما النص الأم المدون لنمط هذه الحكاية فيرجع إلى أكثر من أَلْفَي عام.
وسأورد هنا النص العربي لهذه الحكاية، والذي يُعد أقدم نص مُدوَّن، كما يجمع على هذا ثلاثة من كبار علماء الفولكلور، هم: د. موسى جاستر، الذي أورد هذا النص العربي في كتابه «قصص الطيور والحيوانات»، والبروفسور لويس جنزبرج، وبازل ف. كرتلي، وملخص النص العربي المدون كما يلي:
ما إن انتهى الله من خلق العالم، حتى أمر — عزرائيل — ملك الموت، أن يلقي في البحر بمجموعة متنافرة من الحيوانات لكي يعيش كل حيوان مع ما يخالفه من حيوانات.
وتمكن الثعلب بمكره ودهائه من الإفلات من قبضة ملك الموت، وحتى لا يلقي به في البحر.
وفي نهاية العام، أحصى الحوت «ملك البحر» جميع حيواناته، لكنه افتقد الثعلب، فأرسل الحوت برسله من سمك البحر لإحضار الثعلب، وكان قد سمع بمكره وشدة دهائه، فرغب في أن يحصل على قلبه ويلتهمه؛ حتى يصبح له ما يمتاز به الثعلب من حنكة ودهاء.
وعندما وصلت الأسماك، رُسُل الحوت إلى الشاطئ، والتقت بالثعلب، احتالت بدورها عليه، فقالوا له إن الحوت ملك البحر قد مات، وإنهم جاءوه لينصبوه ملكًا عليهم عوضًا عنه، وكان أن امتطى الثعلب ظهر إحدى الأسماك، لكنه وبعد أن غوطت به الأسماك داخل البحر، خاف وتشكك في الأمر، ولما طلب منهم إيضاحًا لحقيقة ما يحدث، أخبرته إحدى الأسماك بحقد الحوت عليه؛ نظرًا لما يتمتع به من دهاء وسعة حيلة؛ لذا رغب في التهام قلبه، ليصبح وريثه في الدهاء.
هنا أجاب الثعلب للأسماك، بأنه كان من واجبهم تذكيره وهو على الشط لكي يحضر معه قلبه؛ نظرًا لأن من عادة الثعالب أن تترك قلوبها في منازلها قبل الخروج إلى الخلاء.
وكان أن أعادته الأسماك إلى الشاطئ، لكي يسرع ويحضر قلبه، لكن ما إن وضع الثعلب قدمه على البر، حتى سخر من غباء الأسماك التي تعتقد أن مخلوقًا بدون قلب يمكن أن يعيش.
وكان أن فتك الحوت برسله من الأسماك الأغبياء، والْتهم قلوبهم.
ولقد عكف اثنان من كبار علماء الفولكلور، هما د. موسى جاستر ود. جنزبرج، على دراسة هذه الحكاية أو الفابيولا؛ للتعرف على مصدرها المدوَّن الأم، ونظرًا لأنها تُعد من أوسع حكايات الحيوان في شفاهيات كل العالم؛ إذ تمتد متنوعاتها الشفاهية المتواترة من قرى زانزبار حتى موسكو، سوى أن اختلافات طفيفة تعتريها، في كوريا واليابان والفليبين والملايو وأندونيسيا.
واتفق الباحثان على أن النص العربي الذي نقله اليهود إلى العبرية، وأورده أحد كتابهم وهو ابن سيرا، في إحدى موسوعاته عن الحكايات الشعبية، وتُعرف بألفيه «ابن سيرا».
واتفق الباحثان على أن النص مستمد بدوره من منابعه الهندية، وبالتحديد من حكاية «القرد والتمساح» التي يمكن أن تتبعها في كتاب «كليلة ودمنة» تحت اسم «القرد والسلحفاة البرية»، كما أمكن التعرف على ثلاثة متنوعات لنفس الحكاية في «الجاتاكا» التي يعتبرها البعض الأصل الذي انحدرت منه «كليلة ودمنة»، والتي تحوي أقدم المدونات الفلولكلورية التي تسري في شفاهيات كل العالم، ومن المعتقد أن «الجاتاكا» دُونت للمرة الأولى في شمال الهند، قبل عصر الملك «أسوكا» — ٢٧٠ق.م — وامتصت هذه الشرائع الشفهية أو «الجاتاكا» أغلب الجسد الفولكلوري للهند، ومع انتشار البوذية خارج الهند سرت الجاتاكا وبها حكاية القرد والتمساح، والتي يُستبدل فيها الديب محل القرد في النص الشفهي المصري الذي أوردته، والصياد أو الإنسان في نظيريهما النص السوداني الذي أورده د. مراد كامل.
ويحتفي دارسو الفولكلور بحكايات الحيوانات والطيور والنباتات والزواحف، احتفاءً خاصًّا، هذا على الرغم من إيجازها الشديد، بل وواقعيتها الشارحة المحددة، وهناك من يرى أن حكايات الحيوان هي بداية الأساطير، وأنها أكثر قدمًا وبدائية منها؛ إذ إنها وعاء لشرح وتقديم الأفكار والمعتقدات، أي إن أكثر هذه المعتقدات، كان يتجسد في شكل حيوانات وطيور، «فالإله زيوس كان نسرًا، والإلهة أثينا كانت بومة، وهيرا كانت بقرة، والإله النوردي نور كان طائر جنة صغير، والإله تير كان ذئبًا، مثله في هذا الإله الروماني مارس، وضريبه السيتي ديناتر.»
كما أن هناك شبه إجماع من جانب دارسي الفولكلور على أن قصص الحيوان الشارحة، هي المصدر الأم أو الأصل التي منها انحدرت الخرافات.
وقصص الحيوان الشارحة، هي تلك القصص التي فسر بمقتضاها الأقدمون الفرق بين حيوان وآخر، بين طبيعة ولون وخصائص الذئب عن الحمل، ولون الحمامة الأبيض المخالف للون الغراب الأسود، كذلك التفسيرات الغيبية التي فسر بها البدائيون السبب أو السر في بريق عيون القطط في الظلام، واستطالت أذنا الأرنب والحمار … إلخ.
وفي واحدة من هذه الحكايات السودانية، التي موطنها النيل الأبيض، تكشف لنا الحكاية كيف أن الدنكا لا يضربون الكلاب؛ اعتقادًا منهم أن الكلب هو أول من جاء بالنار لقبيلة الدنكا؛ فلقد «عاش الدنكا حقبة طويلة لا يعرفون النار، وكان الرجل منهم إذا صاد سمكة قطعها قطعًا ووضعها في ماعون وتركه تحت وهج الشمس».
وفي حكاية شارحة أخرى من — الشلوك — عن البقرة والكلب، موجزها أن البقرة خُلقت في السماء ووقعت على الأرض فتكسرت أسنانها، ولما رآها الكلب، أغرق في الضحك حتى انفتق شدقاه وبلغا أذنيه، وظل على هذا الحال حتى اليوم.
وما من حيوان أو طائر أو نبات لم تصاحبه مجموعة حكايات، تحدد أوصافه وأخص معالمه وتحيطه بتفسير عصور ما قبل العلم، كما هو واضح في هذه المجموعة من الحكايات السودانية المصرية.