الذاكرة الفولكلورية
مجموعة خبرات بسيطة لكنها ملفتة إلى أقصى حد، تتصل بالذاكرة الشعبية الجماعية، أو الذاكرة الفولكلورية، لمستها بنفسي وأنا أواصل جمع شفاهيات منطقة الفيوم وبني سويف وبعض قرى المنيا والجيزة، جعلتني في النهاية أعتقد إلى حد كبير في الذاكرة الشعبية كعملية — جدلية — عقلية، تتكامل فيها عقول أجيال طولًا وعرضًا أو زمانًا ومكانًا.
ومن هذا المدخل يمكن القول بأن لا شيء مفتقد، بل إن المفتقد — تاريخيًّا أو أركيولوجيًّا — يمكن استجلاؤه والتحقق منه عن طريق الذاكرة الشعبية، عن طريق دأب البحث في جمع المواد الفولكلورية أو متنوعات وعينات وعبارات الأيتم أو النمط الواحد موضوع البحث.
وإذا كان من الصعب علينا اليوم في أيامنا هذه تقبل حقيقة أن بلداننا العربية مصابة بأعلى معدلات للأمية على رقعة العالم أجمع، فلنا أن نتصور ما كانته أيام الجاهلية الأولى والثانية — ٣ آلاف عام ق.م — ومن هنا كان الانتشار الشديد «لعادة أو شعيرة» الحفظ والتحفيظ والاعتماد على الذاكرة، الذي لم يتوقف إلى اليوم في مناهجنا الكتاتيبية المتوارثة، ولا يقتصر الأمر على حفظ وتحفيظ النصوص الأنيزمية أو الدينية — رغم انتشار الترانزستور — بل الشعر وبقية الشعائر من قديم وحديث، فولكلوري وتقليدي، فحتى الأحاجي والفوازير والحذور لها مكانها ومخزونها داخل الذاكرة الشعبية، سواء في شفاهياتنا العربية أو السامية وبالطبع عند مختلف الشعوب.
ويبرز «طوطم» الحمامة ودلالتها عند الساميين بشكل ملفت جدًّا؛ فتسمية راحيل أو راشيل — أم النبي يوسف — هو كاهنة الحمام، ومنه تواتر إلى تسمية إسرائيل.
ومن اسم الحمام تسمت الملكات السوريات الآشوريات: سميراميس، وسميرام، وسميرنا.
وقد لا ننسى الحمام في تراثنا العربي، وتحولات أبطال الخوارق والملاحم إلى الحمام.
كما قد لا ننسى حمامة الأيك، كطوطم إسلامي شامل ومغرق في القدم، وهو ما سنتعرض له في حينه.
وكما يقول الأستاذ تومبسون، فإن الأمر بالنسبة لذاكرة شعوبنا — السامية الشرقية — الفولكلورية، يمكن أن يطلعنا على الكثير من فيض النتائج الدقيقة، خاصة وأن رواة التراث وحفظته من حكواتية ورواة سير ومداحين، وشعراء جوالون — تروبادوز — ما يزالون إلى اليوم يملئون حياتنا وتزدحم بهم أسواقنا وموالدنا، وتعج ذاكرتهم بالكثير، الذي يخالط التاريخ فيه الأساطير، والعكس صحيح.
ومن هنا ففي الإمكان التحقق من الكثير من تراثنا الحفري الفولكلوري مثل افتراض العثور على مجموعات الحكاية المصرية التي تُرجمت من البرديات التي عثر عليها في مصر د. فلاند روزيتري وغيره من الحفريين، وأُعيد نشرها في الفرنسية عدة مرات، منذ أن نشرها للمرة الأولى ماسبيرو تحت اسم «حكايات شعبية فرعونية»، وظهر الكثير منها في الإنكليزية باسم «تسجيلات من الماضي»، كما نشر أيرمان مجلدين منها، كذلك أسهم في ترجمتها ودراستها علماء المصريات «جودوين، وشاباس، وإيبروس».
ولعل أكثر المغالين أو المبالغين في قيمة هذه الحكايات المصرية هو إيرمان الذي أرجعها للأسرات المصرية الأولى، بل أرجع بعضها إلى ما قبل التاريخ، رغم أن بيتري يأخذ عليه أن ترجمته لهذه الحكايات جاءت أدبية وصفية، مستخدمًا في إعادة صياغتها «الألف باء» الحديثة سواء في الهيروغليفية أو الألمانية الحديثة، ومن هنا فقد تجنت ترجمة إيرمان المتحررة على الكثير من قيمها الفولكلورية.
وسجل بيتري في الجزئين اللذين نشرهما عن حكاياتنا المصرية الفرعونية مجموعة ملاحظات بسيطة، منها إفاضة الحكايات المصرية في الأعاجيب أو الملاعيب التي تذكرنا بملاعب شيحا، وعلي الزيبق، وبعض سير آباء الكنيسة القبطية التي يعج بها تاريخها — السينكار — والتي ما تزال تتبدا إلى اليوم أكثر وضوحًا في حكايات الشُّطَّار، وهو ما أسماه بالينوفسكي بالفنتازيا المصرية.
كما سجل بيتري مدى خوف المصري القديم الدائم من أخطار البلاد الأجنبية، خاصة الآسيويين، وأقربهم العرب والعبريون الساميون بالطبع من جانب، والليبيون والكوشيون النوبيون من الجانب الآخر.
كذلك تنبه بيتري إلى غياب وتدهور ملامح الشخصية المصرية في العصر المتأخر، بدءًا من الدولة الوسطى؛ ولهذا يقول: «لهؤلاء الذين يتصورون أن هناك تشابهًا أو تماثلًا يطبع كل مصر في أحقابها المختلفة، وهو ما لا تؤكده وتقطع به الحكايات المصرية؛ ذلك أن التغير من فترة أو عصر زمني لآخر يبدو جليًّا فيها.»
وما إن أخبر الشعب مليكه بالنبوءة، حتى بنى له قصرًا معزولًا تحت الأرض، وحواه بما يحتاجه، على أن لا يبرح الطفل بوابات القصر أبدًا.
أجابه المعلم: هذا كلب.
قال ابن الملك: أريد كلبًا مثله.
فأحضروا له كلبًا، وكتب الابن إلى أبيه رسالة أخبره فيها أنه يريد الخروج من قصره والتجول في الأرض مع كلبه الوفي، ولتفعل الآلهة ما تريد.
وطلب ملك نهرينا — بلاد ما بين النهرين — أنه لن يزوج ابنته إلا لمن يستطيع الوصول إلى شباكها العالي.
وحاول ابن الملك مع بقية الشباب المتجمهرين حول قصر الأميرة ابنة الملك الوصول إلى شباكها، وعندما سألوه من أين أتى، قال لهم: أنا ابن ملك أرض بر — مصر — ماتت أمي، وتزوج أبي بأخرى، وعندما ولدت له طفلًا، كرهتني زوجة أبي وعذبتني، فاضطررت للفرار من وجهها.
وعندما استمعوا لحكايته المحزنة، احتضنوه وقبلوه.
وحاول الولد معهم أيامًا الوصول إلى شباك الأميرة، إلى أن نجح في الوصول إليها وتقبيلها.
وعندما ذهب الشبان، فأخبروا الملك، اغتاظ قائلًا: «هل حقًّا سأعطي ابنتي الوحيدة، للاجئ مصري؟»
وحين حاول الملك استدعاء الولد، لم تدعه الأميرة يذهب، وهددت بأنها لن تأكل وتشرب إلى أن تموت، لو أنهم أخذوا حبيبها بالقوة.
وحين أخبروا الملك بكلام الأميرة، وأصر الملك في طلبه، هددت الأميرة بأنها ستموت قبل غروب الشمس.
لكنهم أخذوا ابن الملك بالقوة إلى ملك نهرينا، الذي سأله وعلم منه أنه ابن سيد مصر، فوافق الملك وزوجه ابنته.
وذات يوم أخبر ابن الملك زوجته قائلًا: «اعلمي يا حبيبتي أنني مقضي علي بالموت بثلاثة أقدار: التمساح أو الحية أو الكلب.»
فأمرت الأميرة بقتل الكلاب، واصطياد جميع تماسيح البحيرة.
وذات ليلة، نام ابن الملك، وجاءت زوجته الأميرة بإناء اللبن ووضعته إلى جواره، ونامت إلى جانبه، فجاءت الحية من جحرها لتعض ابن الملك، لكن الخدم أسرعوا فقدموا إناء اللبن إلى الحية فشربته عائدة إلى جحرها.
إلى أن كان يوم، نزل فيه الأمير الزوج ليستحم في النهر، فجاءه التمساح قائلًا: «أنا هو قدرك، أتبعك أينما سرت.» وابتلعه التمساح.
وكما هو واضح يمكن للقارئ تذكر بعض تضمينات هذه الحكاية المصرية التي ترجع إلى الأسرة ١٨، إن لم يكن تذكرها بكاملها.
ولقد قطعت هذه الحكاية شوطًا كبيرًا على رقعة معظم العالم، لو حاولنا التعرض لها بالدراسة؛ كيف أنها دخلت البوذية، وارتبطت ببوذا ومعلمه برلام، ومن الهند هاجرت إلى معظم الرقعة الآرية أو الهندوأوروبية؛ فصاحبت الإسكندر، والخضر، وذي القرنين، ولقمان الحكيم، وملاعيب أحبقار السنسكريتية، وفي المسيحية تبدت في قصة «الملاك والمسيحي القديم» الشهيرة خاصة في فولكلورنا القبطي المصري.
وليس هذا هو موضوعنا، بقدر ما إن موضوعنا هو مدى احتفاظ ذاكرتنا الفولكلورية لأقدم مدوناتها الفرعونية الفولكلورية، أو مدى ما طرأ عليها من إضافات أو العكس.
من ذلك حكاية «أنبو وباتا» أو قصة الأخوين، التي ترجمها أيضًا د. بيتري، وترجع إلى الأسرة ١٨، وملخصها: تآمر زوجة الأخ الأكبر باتا، على شقيقه الأصغر، وادعائها بأنه راودها عن نفسها أثناء غياب الزوج، مثلما فعلت زليخة مع يوسف الصديق فيما بعد، وكذا فيدرا مع ابن زوجها، فكان أن طارد الأخ الأكبر أخاه الأصغر، الذي كان له ميزة أو خارقة محادثة الحيوانات والطبيعة، فكانت الحيوانات تحذره في الحقل، عندما أراد الأخ الأكبر قتله بالسكين المشرعة المسنونة، فتقول له البقرة: «احذر فإن أخاك الأكبر يقف أمامك ينتظرك بسكينه الحاد ليذبحك.»
وعندما دلف إلى داخل الحظيرة، ورأى أخاه، اندفع جاريًا بأقصى سرعة وسط البراري، وتبعه الأخ الأكبر، فصرخ الأصغر متضرعًا إلى رع حارختي: «سيدي الإله، يا من تملك قدرة عزل الشر عن الخير.»
فسمع لشكاته رع، جاعلًا بينهما بحرًا عميقًا ضاريًا، عازلًا أصغرهما عن أكبرهما، مملوءة مياهه بالتماسيح الضواري.
ولعلها أيضًا نفس تضمينة أو خارقة عزل موسى وقومه عن فرعون وجنوده، التي ارتبطت ببرزخ السويس حين الخروج.
وعاد الأخ الأصغر يصرخ متضرعًا لرع حارختي، قائلًا لأخيه: «أتتعقبني لتذبحني بسكينك المخدوع، ولو حدث لكانت جريمة شنيعة، جريمة قتل الأخ!»
وطبعًا يذكرنا هذا بأول جرائم قتل الأخ لأخيه، التي يُقال إنها وقعت بأرض دمشق، حين قال الرب لقابيل القاتل: «والآن ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دماء أخيك من يدك»، كما يقال بأن سببها أيضًا الصراع على امرأة.
وحين لحق الأخ الأكبر بأخيه، استل سكينة وراح يقطع من جسده ملقيًا بلحمه للسمك والتماسيح، إلى أن اختفى تمامًا، مخبرًا أخيه بأنه ذاهب إلى وادي زهور شجرة السنط، حيث سيعاود الحياة هناك في زهور الأكاكيا، وإذا ما أراد أخاه الأكبر أن يستدعيه، فعليه أن ينتظر سبع سنوات.
وذهب الأخ الأصغر ليعاود الحياة في وادي شجر السنط، التي نام تحتها ذات مرة، فالتقى بالآلهة التسعة — التاسوع — التي تشاورت في شأنه إلى أن استقر رأيها أخيرًا على أن تهبه زوجة جميلة، فصنع له الإله أو هانوما زوجة رقيقة ناعمة، إلا أن الهاتورات السبعة، تنبأن له عندما رأينها بأنها «ستموت موتة بشعة».
ويُلاحظ أن كثيرًا من أحداث أو تضمينات قصة الأخوين هذه قد تواترت وهاجرت إلى عديد من الحكايات والأساطير الفولكلورية السامية من عربية وعبرية، كما يُلاحظ أنها ما تزال تعيش إلى اليوم في حكاياتنا وخرافاتنا، مثل ست الحسن والجمال، ونعناعة، وبقية الحكايات الاستطرادية وأغاني الأطفال.
كذلك فمن بين الحكايات المصرية التي ما تزال تعيش متواترة على الشفاه، خاصة بعد أن واصلت هجرتها، والدخول تحت جلد الكثير من الملاحم والسير السامية، وهي الحكاية التي ترجع إلى الأسرة ٢١ وتُرجمت عن الديموطيقية باسم «حكاية أهورا» أو هاتور، عن ملك مصر المقدس رمسيس العظيم، الذي كان له ابن وحيد يُدعى سيني تاخا، وكان على علم بالكتابات القديمة، وعندما سمع بأن كتاب السحر لتحوت، الذي يغني للسماء والأرض، ويحوي لغة الطيور والزواحف، وأن هذا الكتاب مُخبأ داخل مقبرة ممفيس، ذهب الأمير مخاطرًا للبحث عنه بصحبة أخيه، وعندما عثروا على مقبرة ابن ملك مصر السفلى فتحها الأمير ودخلها، فوجد في المقبرة ابن الملك ومعه روح زوجته أهورا، وكانا جالسين والكتاب بينهما يقرآن فيه، وحينما حاول أخذ الكتاب منهما رفضا، ثم انخرطت الزوجة أهورا تحكي له حكايتها.
فالبحث عن كتاب السحر لتحوت، يقابله بحث سيف بن ذي يزن عن كتاب النيل ومخاطراته الطويلة في سيرته المعروفة.
وأخيرًا ففيما يختص بتراثنا المصري المعاش اليوم وعلاقته بسالفه الفرعوني، يمكن القول بأن معظمه ما يزال يواصل تواتره وتوالده، ومنه رائعة أدب الاحتجاج والثورية في تراث العالم أجمع، والتي ترجع إلى الدولة القديمة، أي منذ قرابة ٦ آلاف عام، وهي قصة الفلاح الفصيح، التي صادفتني متنوعاتها في شفاهيات فلاحي الفيوم، وهي ذات موطنها الفعلي والحفري أو الكشفي.
ولو أن لدى الفولكلوريين المعاصرين معلومات كافية، عن الملحمة التي أنشدها مصريو الدولة الوسطى في مواجهة الهكسوس الدخلاء، والتي عُثر على بعض مقاطعها مدونة على ألواح تحفيظ الدروس للتلاميذ، وهو ما يزال متبعًا إلى اليوم في كتابتنا، لأمكن التعرف عليها اليوم — ربما — تحت جلد سيرنا وملاحمنا، مثل الأميرة ذات الهمة، والظاهر بيبرس، وخضرة الشريفة، وهكذا.
وفيما يتصل بنصوص التوابيت والأهرامات، وكتاب الموتى، يمكن القول بأنها ما تزال محفوظة، في مواويلنا الحمراء، وبكائيات العديد على الميت، مثل: