مصرع عمر
ودخل «أبو لؤلؤة» في الناس؛ في يده خنجر له رأسان، فضرب عمر ست ضربات إحداهن تحت سرته وهي التي قتلته.
(١) وصفه
رجل أبيض تعلوه حمرة، أشيب أصلع، يصفر لحيته بالحناء ويرجل رأسه، أعسر أيسر، طوال يمشي كأنه راكب.
قال بعض من رآه: رأيت عمر يأتي العيد حافيًا، أعسر، أيسر، متلببًا برداء قطري، مشرفًا على الناس كأنه على دابة، وهو يقول: «أيها الناس هاجروا، ولا تهجّروا.»
(٢) أخلاقه
ويا أبا محمد، قد رمقته، فرأيتني إذا غضبت على الرجل في الشيء أراني الرضا عنه، وإذا لنت له أراني الشدة عليه.
•••
هذا هو أظهر أخلاق عمر — رضي الله عنه — الميل الشديد إلى التوازن والمساواة؛ يخشى أن يفسد الناس إذا لان، أو يرغمهم ويذلهم إذا اشتد، فيسلك طريقًا وسطًا بين الشدة واللين.
لقد كان — رحمه الله — ورعًا متقشفًا زاهدًا، كما كان حكيمًا واسع الخبرة بأخلاق العرب، قوي الشكيمة، لا يتردد لحظة في إحقاق الحق وإنصاف المظلوم من ظالمه، يرى أن أحقر أفراد الرعية وأكبر أمراء الدولة سواء أمام الحق، وهو صاحب القولة المشهورة في إحدى خطبه: «من ظلمه أمير فلا إمرة عليه دوني!»
أرسل قيصر رسولًا إلى عمر بن الخطاب، لينظر أحواله ويشاهد أفعاله، فلما دخل المدينة سأل أهلها وقال: «أين ملككم؟» فقالوا: «ما لنا ملك، بل لنا أمير قد خرج إلى ظاهر المدينة!» فخرج الرسول في طلبه فرآه نائمًا في الشمس على الأرض فوق الرمل الحار وقد وضع درته كالوسادة، والعرق يسقط من جبينه إلى أن بل الأرض، فلما رآه على هذه الحالة وقع الخشوع في قلبه وقال: «رجل جميع الملوك لا يقر لهم قرار من هيبته، وتكون هذه حالته! ولكنك يا عمر عدلت فنمت، وملكنا يجور، فلا جرم أنه لا يزال ساهرًا خائفًا!
(٣) لماذا قتل؟
ولهذا الخبر أضراب وأشباه في سيرته الحافلة، وقد كان من الطبيعي جدًّا أن تنتهي حياة هذا العادل الساهر على مصالح رعيته بسلام، كما انتهت حياة أبى بكر — رضي الله عنهما — ومهما يجهد الباحث نفسه في تلمس أسباب وجيهة يعلل بها مقتله، فلن يظفر من ذلك بشيء ذي خطر؛ لقد عدل عمر، والعدل أساس الملك، وقام في الناس مثالًا عاليًا للشرف والنزاهة والبعد عن التحيز، وتضحية كل ما أوتي من عزم وقوة وصحة ووقت ومال في سبيل النفع والخير العام، فلم يكن يدور بخلد إنسان عاقل أن يغتال حياة هذا الخليفة النزيه العادل المحسن، إلا إذا جاز في العقل أن يفكر الساري في تحطيم مصباحه الذي ينير له الطريق، أو يقدم القاطن على هدم داره وتخريب بيته بيده! لذلك نستبعد أن تكون هناك مؤامرة مدبرة ضده، وإن كنا لا نجزم باستحالة حدوثها.
وأوجز ما نعلل به موته أن نزوة طائشة — قامت برأس غلام مأفون — قضت على حياة هذا المصلح الكبير!
(٤) كيف كان مصرعه؟
قالوا: خرج «عمر بن الخطاب» يومًا يطوف في السوق، فلقيه «أبو لؤلؤة» — غلام «المغيرة بن شعبة» — فقال: «يا أمير المؤمنين، أعدني على المغيرة بن شعبة، فإن عليّ خراجًا كثيرًا.»
قال: «وكم خراجك؟» قال: «درهمان في كل يوم!» قال: «وإيش صناعتك؟» قال: «نجار، نقاش، حداد!» قال: «فما أرى خراجك بكثير على ما تصنع من الأعمال، قد بلغني أنك تقول: «لو أردت أن أعمل رحًا تطحن بالريح فعلت؟!» قال: «نعم.» قال: «فاعمل لي رحًا.»
•••
وكأنما نبهت في نفسه هذه الجملة خاطرًا شريرًا كان غائبًا عنه وحركت فيها نزوة من نزوات الإجرام، فقال موريًا: «إن عشت لأعملن لك رحًا يتحدث بها من في المشرق والمغرب.»
ثم انصرف عنه، فقال عمر: «لقد توعدني العبد!»
قالوا بعد كلام لا يتسع هذا المقام إلى تحقيقه ومناقشته: «وقد مر على هذا الوعد ثلاثة أيام.»
(٥) يوم المصرع!
وفي صبيحة اليوم التالي خرج عمر إلى صلاة الصبح، وكان يوكل بالرجال صفوفًا يسوونها، فإذا استوت جاء هو فكبر.
ودخل «أبو لؤلؤة» في الناس؛ في يده خنجر، له رأسان، نصابه في وسطه فضرب «عمر» ست ضربات، إحداهن تحت سرته. وهي التي قتلته، وقتل معه «كليب بن أبي البكير الليثي» — وكان خلفه — فلما وجد عمر حر السلاح سقط وقال: «أفي الناس عبد الرحمن بن عوف؟» قالوا: «نعم هو ذا.» قال: «فتقدم فصل بالناس.» وعمر طريح! ثم احتمل فأدخل داره، فنادى عبد الله بن عمر، وقال: «اخرج فانظر من قتلني؟» قال: «يا أمير المؤمنين، قتلك «أبو لؤلؤة» غلام المغيرة بن شعبة.» قالوا: «فحمد الله أن لم يقتله رجل سجد لله سجدة!»
ثم جعل الناس يدخلون عليه، المهاجرون والأنصار، فيقول لهم: «أعن ملأ منكم كان هذا؟» فيقولون: «معاذ الله!»
قالوا: ودعوا له بالطبيب فلم يجد للقضاء فيه حيلة، وتوفي ليلة الأربعاء — لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ٢٣ — ودفن بكرة يوم الأربعاء في حجرة عائشة مع صاحبيه، حسبما أوصى!