مصرع عثمان
(١) تمهيد
ما ذكرت مصرع عثمان إلا ذكرت الهول، وانتابني غم شديد على هذه الضحية — التي قادها إلى الحتف وأوردها موارد التلف — بطانة السوء ورواد المغانم، وطلاب المآرب الذاتية الحقيرة! هذا هو المقتول ظلمًا وعدوانًا، المسفوك دمه بسبب حماقة جماعة من المخرقين الذين لا هم لهم إلا قضاء لبانات أو شفاء حزازات.
لقد جبل الناس على ظلم من لا يظلم، والثورة على من يحدب عليهم ويرجو لهم الخير.
ولقد كان عثمان — رضي الله عنه — يعرف في الناس هذا الخلق، ويعلم من طباعهم كل ما يعلمه الحصيف الألمعي، ولكنه يأبى إلا التمادي في حلمه، والركون إلى طبعه، وهكذا.
ألا ترى إلى حكايته، حين زاد في البيت الحرام ووسعه فابتاع من قوم وأبى آخرون؛ فثار ثائره وهدم عليهم دارهم ووضع الأثمان في بيت المال؛ فصيحوا بعثمان.
أتعرف ماذا فعل؟
أمر بهم أن يحبسوا وقال جملته المشهورة مخاطبًا بها أولئك الثائرين وهي قوله: «أتدرون ما جرأكم عليّ؟ ما جرأكم علي إلا حلمي، قد فعل هذا بكم عمر فلم تصيحوا به.»
وفي هذه الجملة ما فيها من الألم اللاذع والحسرة القاتلة، ولكن هل اقتدى بعمر في شدته بعد ذلك؟
كلا، بل عاد إلى طبعه فأخرجهم حين كلمه فيهم بعض الناس.
ولو أن عمر أو أبا بكر مكانه لما تهاونا في القصاص، ولأنزلا بهم ما يستحقون من نكال، فجعلاهم عبرة للمعتبرين وأمثولة للثائرين!
•••
توالت الثورات على «عثمان» — رضي الله عنه — وطمع فيه الناس لحلمه، وتطاولوا عليه، فلما لم يردعهم اجترأ عليه غيرهم.
وتضافرت أسباب أخرى — سنجملها في الفصل التالي — وتعاون معها قدر لا مفر منه، فانتهت هذه وذاك بإهلاكه، وأدت إلى مصرعه المروع! الذي نترك لزوجته «نائلة بنت الفرافصة» روايته بأسلوبها المؤثر، إذ تقول من كتابها إلى معاوية:
(٢) كيف صرع
«وإني أقص عليكم خبره، لأني كنت مشاهدة أمره كله، حتى قضى الله عليه؛ إن أهل المدينة حصروه في داره يحرسونه ليلهم ونهارهم، قيامًا على أبوابه بسلاحهم يمنعونه كل شيء قدروا عليه، حتى منعوه الماء. يحضرون له الأذى، ويقولون له الإفك، فمكث هو ومن معه خمسين ليلة.»
وهكذا إلى أن تقول: «ثم إنه رمي بالنبل والحجارة، فقتل ممن كان في الدار ثلاثة نفر، فأتوه يصرخون إليه ليأذن لهم في القتال، فنهاهم عنه وأمرهم أن يردوا عليهم بنبلهم فردوها إليهم فلم يزدهم ذلك على القتال إلا جرأة، وفي الأمر إلا إغراء. ثم أحرقوا باب الدار.»
وهنا تقول: «ودخل عليه القوم يتقدمهم «محمد بن أبي بكر» فأخذوا بلحيته ودعوه باللقب. فقال: «أنا عبد الله وخليفته.»
فضربوه على رأسه ثلاث ضربات، وطعنوه في صدره ثلاث طعنات، وضربوه على مقدم الجبين فوق الأنف ضربة أسرعت في العظم.
فسقطت عليه وقد أثخنوه — وبه حياة — وهم يريدون قطع رأسه، ليذهبوا به فأتتني بنت شيبة بن ربيعة، فألقت نفسها معي فوطئنا وطئًا شديدًا. وعرينا من ثيابنا — وحرمة أمير المؤمنين أعظم — فقتلوه رحمة الله عليه في بيته وعلى فراشه، وقد أرسلت إليكم بثوبه وعليه دمه. وإنه والله لئن كان أثم من قتله لما سلم من خذله.»
(٣) بعد موته
قالوا: «ونبذ عثمان — رضي الله عنه — ثلاثة أيام لا يدفن، ثم إن بعض الناس كلم عليًّا في دفنه وطلب إليه أن يأذن لأهله في ذلك ففعل، وأذن لهم علي.»
ويقول آخرون: «إنه أخرج ولم يغسل، وأرادوا أن يصلوا عليه في موضع فأبت الأنصار، وأقبل عمير بن ضابئ — وعثمان موضوع على باب — فنزا عليه، فكسر ضلعًا من أضلاعه وقال: «سجنت ضابئًا حتى مات في السجن.»
•••
(٤) الأسباب التي أدت إلى مصرعه
(٤-١) ضعفه
ألا فقد والله عبتم عليَّ بما أقررتم لابن الخطاب بمثله، ولكنه وطئكم برجله، وضربكم بيده، وقمعكم بلسانه، فدنتم له — على ما أحببتم أو كرهتم — ولنت لكم وأوطأت لكم كتفي وكففت يدي ولساني عنكم، فاجترأتم عليَّ.
أجملنا في الفصل السابق الأسباب التي أدت إلى مصرعه ووعدنا بتفصيل أهمها في هذا الفصل، ونحن ننجز وعدنا الآن:
أول الأسباب التي انتهت بعثمان — رضي الله عنه — إلى هذه الخاتمة المفجعة ضعفه الشديد ولين جانبه وفرط حيائه.
لقد كان — رضي الله عنه — ذكيًّا فطنًا عارفًا بأخلاق الناس، ولكن الإرادة القوية والعزيمة الجريئة والبطش بالمذنبين، وإغفال الرحمة، ونسيان كل اعتبار في سبيل تثبيت الأمن وتوطيد دعائم الملك، والمضي في إنفاذ خطة جلية حازمة وتطبيق سياسة بعينها، هذه هي الخلال التي كانت تنقصه، وهي وحدها الخلال الجديرة بكل حاكم يريد توطيد ملكه وتثبيت دعائمه.
لم تغب عنه صفات عمر ومزاياه الباهرة، ولا غفل عن تقليده في كثير من أموره، ولكن نقصته شخصية عمر القاهرة الجبارة التي تهابها الناس وتلبي رغباتها وتنحني أمامها خاضعة. وتنفذ إشارتها راضخة. وتخشى أن تحيد عنها قيد أنملة حتى لا تقع تحت طائلة عقابه، أو يصيبها قصاصه الذي لا ينجو منه مخطئ ولا يفلت منه مسيء.
وما لنا نحاول وصف عثمان وقد رسم لنا علي — رضي الله عنه — صورة ناطقة لم تدع بعدها غاية لواصفيه إذ يقول له: «الناس ورائي وقد كلموني فيك. ووالله ما أدري ما أقول لك وما أعرف شيئًا تجهله ولا أدلك على أمر لا تعرفه.
إنك لتعلم ما نعلم، ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه، ولا خلونا بشيء فنبلغكه. وما خصصنا بأمر دونك، وقد رأيت وسمعت وصحبت رسول الله ﷺ، ونلت صهره. وما ابن قحافة «أبو بكر» بأولى بعمل الحق منك ولا ابن الخطاب بأولى بشيء من الخير منك.»
إلى أن يقول: «فاللهَ الله في نفسك، فإنك والله ما تبصر من عمى، وتعلم من جهل، وإن الطريق لواضح بين …» فإذا اعتذر عثمان إليه بأنه يقتفي أثر عمر أجابه «علي» إجابته الموفقة إذ يقول: «سأخبرك أن عمر بن الخطاب كان كل من ولي فإنما يطأ على صماخه، إن بلغه عنه حرف جلبه ثم بلغ به أقصى الغاية. وأنت لا تفعل. ضعفت ورفقت على أقربائك.»
فإذا ذكر له عثمان أن معاوية كان ممن ولاه عمر مدة خلافته كلها وأنه يقتدي كذلك بعمر في توليته، أبان له «علي» الفرق بين العملين، فقال: «أنشدك الله! هل تعلم أن معاوية كان أخوف من عمر، من «يرفأ» غلام عمر؟»
قال: «نعم».
قال علي: «فإن معاوية يقتطع الأمور دونك وأنت تعلمها؛ فيقول للناس: «هذا أمر عثمان.» فيبلغك ولا تغير على معاوية!»
•••
ولعل في هذه الجمل أبلغ شرح يلمس منه القارئ مواطن الضعف في عثمان رضي الله عنه، التي أطمعت فيه سواه، وأدت إلى استهانة الناس بأمره!
أمثلة من جرأة الناس عليه
ولقد وصل اجتراء الناس عليه إلى أبعد الغايات.
•••
ثم يقبل على عثمان فيقول له: «والله لأطرحن هذه الجامعة في عنقك أو لتتركن بطانتك هذه!»
وتلك جماعة تحصبه وهو يخطب، فإذا خر صريعًا حُمل إلى منزله، وهذا ابن العاص يفاخره ويتطاول عليه فلا يدع له مجالًا للقول، وتنتهي المناقشة بانكسار عثمان.
وهذا منشوره الذي كتب به في الأمصار ينبئ عن ضعفه وفرط لينه، إذ يقول: «والله لأفرشنكم عرضي، ولأبذلن لكم صبري، ولأستصلحنكم بجهدي، فلا تدعوا شيئًا كرهتموه، ولا يعصى الله فيكم إلا استعفيتم منه؛ أنزل فيه عندما أصبتم حتى لا يكون على حجة!»
ومتى لان الخليفة للناس إلى هذا الحد صعب إرضاؤهم ووقف أطماعهم عند غاية لا يعدونها.
(٤-٢) بطانة عثمان ونصحاؤه
أما بطانة عثمان ونصحاؤه فكان أكثرهم مداهنًا؛ له مآرب يسعى إلى تحقيقها — كلفه ذلك ما كلفه — وكان بعض نصحائه أحمق، مكروهًا من الناس، ولنلم مسرعين بأهم نصحائه والمشيرين عليه، الذين لا يسع من يقرأ مصرع عثمان إلا أن يطيف بذهنه ما قام به كل منهم من الدور الخطير الذي أدى إلى مصرعه.
ونبدأ بأولهم:
مروان الأحمق
فإنك متى أطعت مروان قتلك، ومروان ليس له عند الناس قدر ولا هيبة ولا محبة!
أقل ما نصف به مروان الحماقة والاندفاع، فهو وحده أكبر دليل على صدق المثل القائل «عدو عاقل خير من صديق جاهل» وعلى صحة قول ابن عبد القدوس:
وذلك على أن عليًّا يكلمه وينصحه ويغلظ عليه في المنطق في مروان وذويه فيقولون لعثمان:
«هكذا يستقبلك وأنت إمامه وسلفه وابن عمه وابن عمته؟ فما ظنك بما غاب عنك منه؟»
قالوا: «فلم يزالوا بعلي حتى أجمع ألا يقوم دونه.»
•••
والحق أن عليًّا بذل النصح لعثمان وأبان له الخطة الرشيدة وأنقذه من مآزق محرجة ولكن:
ولقد قال علي قولته الشهيرة التي تدل على تألمه الشديد من تردد عثمان: «وما يريد عثمان أن ينصحه أحد، اتخذ بطانة أهل غش ليس منهم أحد إلا قد تسبب بطائفة من الأرض يأكل خراجها ويستذل أهلها.»
وهذه الجملة على شدتها فيها كثير من الصدق، وإن كان في آخرها شيء من المغالاة.
•••
وماذا يصنع علي بعد أن هدأ ثائرة الناس وخفف من غلوائهم إذ أعطاهم عثمان مهلة ثلاثة أيام، فلما انتهت واجتمعوا على بابه، مثل الجبال — كما يقول المؤرخون — قال عثمان لمروان: «اخرج فكلمهم فإني أستحي أن أكلمهم.»
قالوا: فخرج مروان إلى الباب — والناس يركب بعضهم بعضًا — فقال: «ما شأنكم؟ قد اجتمعتم كأنما قد جئتم لنهب؟ شاهت الوجوه، كل إنسان آخذ بأذن صاحبه! جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا؟ اخرجوا عنا، أما والله لئن رمتمونا ليمرن عليكم أمر لا يسركم ولا تحمدوا غب رأيكم، ارجعوا إلى منازلكم، فإنا والله ما نحن بمغلوبين على ما في أيدينا!»
•••
وقد صدق علي؛ فقد أورده مروان ثم لم يصدره، وكان هذا آخر لقاء بين علي وعثمان رضي الله عنهما!
عمرو بن العاص
أنا أبو عبد الله إذا حككت فرحة نكأتها، إن كنت لألقى الراعي فأحرضه على عثمان.
أرى أنك قد ركبت الناس بما يكرهون، فاعتزم أن تعتدل، فإن أبيت فاعتزم أن تعتزل، فان أبيت فاعتزم عزمًا وامض قدمًا فيه.
والله يا أمير المؤمنين لأنت أعز عليَّ من ذلك، ولكن قد علمت أن سيبلغ الناس قول رجل منَّا، فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي فأقود إليك خيرًا أو أدفع عنك شرًّا.
أيخفى عليك ما في هذا الاعتذار من المكر والدهاء؟
•••
يا أمير المؤمنين
معاوية١٦
فلما جاء معاوية الكتاب تربص به وكره إظهار مخالفته أصحاب رسول الله.
ولعلك تعجب من ذكر معاوية في هذا المقام، ولكن مم العجب، وأقل ما يقال في هذا الداهية أنه كان يستطيع إنقاذ عثمان من القتل وأنه أضاع هذه الفرصة عمدًا وفاق خطة مرسومة.
لقد استنجد به عثمان، لينقذه من مخالب الموت، ولكن شبح الخلافة لاح لمعاوية فتباطأ عن نصرة عثمان، وأنساه عرض الدنيا الزائل وزخرفها الكاذب واجب الوفاء والنجدة.
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد، فإن أهل المدينة قد كفروا، وأخلفوا الطاعة ونكثوا البيعة، فابعث إليَّ من قبلك من مقاتلة أهل الشام على كل صعب وذلول.
قالوا: «فلما جاء معاوية الكتاب تربص به وكره مخالفة أصحاب الرسول. وقد علم اجتماعهم.»
ومن تهكمات القدر وعجائب الأيام ومضحكات العبر أن يحرض ابن العاص على قتل عثمان ويتخلى معاوية عن نجدته، ثم يطالبان بدمه علي بن أبي طالب الذي أخلص له النصيحة وأبان له طريق النجاة واضحًا فتنكبه.
هوامش
صورته
مربوع، ليس بالقصير ولا بالطويل، حسن الوجه، أسمر اللون، رقيق البشرة بوجهه نكتات من جدري، حسن الشعر كبيره، شعره يكسو ذراعيه، عظيم اللحية يصفرها، أصلع، أروح الرجلين، عظيم الكراديس، عظيم ما بين المنكبين.قالوا: «فناحت ابنته ورفعت صوتها تندبه فانهالت الحجارة حتى كادت ترجمهم.»
«يا عثمان، ألا هذه شارف «ناقة مسنة هرمة» قد جئنا بها، عليها عباءة وجامعة «سلسلة» فانزل فلندرعك العباءة ولنطرحك في الجامعة ولنحملك على الشارف، ثم نطرحك في جبل الدخان!»
قالوا: فأرسل عثمان إلى علي فأبى أن يأتيه وقال: «قد أعلمته أنني لست بعائد.»
•••
قالوا: فلما بلغ مروان قول نائلة فيه، جاء إلى عثمان فجلس بين يديه فقال: «أتكلم أو أسكت؟» قال: «تكلم.» فقال: «إن بنت الفرافصة …» فقال عثمان: «لا تذكرنها بحرف فأسوي لك وجهك، فهي والله أنصح لي منك.»قالوا: «فكف مروان.»
يا عمرو، إنك بعت دينك من معاوية فأعطيته ما في يدك ومناك ما في يد غيره، فكان الذي أخذ منك فوق الذي أعطاك، وكان الذي أخذت منه دون ما أعطيته — وكل راض بما أخذ وأعطى — فلما صارت مصر في يدك تتبعك بالعزل والتنقص حتى لو أن نفسك فيها لألقيتها إليه.
وذكرت مشاهدك بصفين، فما ثقلت علينا يومئذ وطأتك، ولا نكأنا حربك، وإن كنت فينا لطويل اللسان قصير السنان، آخر الحرب إذا أقبلت وأولها إذا أدبرت.
لك يدان، يد لا تبسطها إلى خير، ويد لا تقبضها عن شر.
ووجهان وجه مؤنس ووجه موحش.
ولعمري إن من باع دينه بدنيا غيره لحري أن يطول حزنه على ما باع واشترى، لك بيان وفيك خطل، ولك رأي وفيك نكد، ولك قدر وفيك حسد، فأصغر عيب فيك أعظم عيب في غيرك.
فقال له عثمان: «أنا لا أبيع جوار رسول الله ﷺ بشيء وإن كان فيه قطع خيط عنقي.»
قال: «فأبعث إليك جندًا منهم يقيم بين ظهراني أهل المدينة لنائبة إن نابت المدينة أو إياك.»
فلما حانت ساعة الجد ظهر أن كل ذلك وعود خلابة وكلمات معسولة لا قيمة لها.