مصرع علي
(١) تمهيد
وإن أوجز ما يقال في علي أنه اقتبس أكبر قسط من أخلاق النبوة، وعرف كيف يستفيد من أخلاق الرسول.
ربما قال قائل: «ولكن عليًّا كان شديد البطش، وقد ألف الناس من ليونة عثمان ما جعلهم ينفرون من شدة علي.»
ذلك حق، وليت عليًّا — رضي الله عنه — تريث قليلًا فلم يعزل بعض الولاة ويهم بعزل الباقين قبل أن يستتب له الأمر، وتستقر له الخلافة، ولكنها الصراحة تأبى عليه أن يعلن خلاف ما يضمر، والغيرة على الحق تدفعه إلى الذود عنه، جالبًا عليه من عداوة الناس ما جلب!
كان عثمان لينًا فأطمع لينه الناس فيه، وكان «علي» شديدًا فانتفع خصومه بهذه الشدة، فاستمالوا الناس إليهم بما أتوه من دهاء وحذق، وحسبك أن تعلم أي قوتين هائلتين من قوى العالم النادرة كانتا تناوئانه لتلتمس له ألف عذر!
لقد تعاونت سياسة معاوية، ودهاء ابن العاص، على استغلال صراحة علي واستقامته، فلم يتركا وسيلة من وسائل المكر والحيلة إلا سلكاها، ولا دعوى من دعاوى الكيد إلا أذاعاها، حتى أوهما أنصارهما أنه قاتل عثمان، وأنه مستميت في طلب الخلافة، بل نحلاه ما هو أكثر من ذلك وأشنع، وألصقا به من الصفات ما يعلمان علم اليقين أنه أبعد الناس عنه، وأشدهم براءة منه.
حسب القارئ أن يذكر المثال التالي، ليعرف مدى دعايتهما ومقدار ما تحدثه مثل هذه المفتريات في نفوس الناس وفي إلهاب قلوبهم حماسًا وبغضًا لعلي!
قال بعض من شهد تلك المعارك الهائلة:
«فإنهم لكذلك إذ خرج عليهم فتى شاب وهو يقول:
ثم يشد، فلا ينثني حتى يضرب بسيفه، ثم يشتم ويلعن ويكثر الكلام، فقال له «هاشم بن عتبة»: «يا عبد الله إن هذا الكلام بعده الخصام، وإن هذا القتال بعده الحساب، فاتق الله فإنك راجع إلى الله فسائلك عن هذا الموقف، وما أردت به.»
فانظر إلى أي مدى طوح بهما الكيد لعلي بن أبي طالب والرغبة في تأليب الناس عليه!
على أن عليًّا ظل منتصرا — رغم كل هذه الدسائس — وكاد يتم له الأمر لولا حيلة ابن العاص التي لجأ إليها أخيرًا، حين رفع المصاحف ودعا عليًّا إلى التحكيم، فافترق أصحابه شيعًا، ودب في صفوفهم دبيب الشقاق والفتنة، وانتهى الأمر بمصرعه المروع.
(٢) ليلة المصرع وساعة الهول
قال محمد بن الحنفية: «كنت والله، وإني لأصلي تلك الليلة التي ضرب فيها علي، في المسجد الأعظم — في رجال كثير من أهل المصر — يصلون قريبًا من السدة، ما هم إلا قيام وركوع وسجود، وما يسأمون، من أول الليل إلى آخره، إذ خرج علي لصلاة الغداة، فجعل ينادي: «أيها الناس، الصلاة، الصلاة»، فما أدري أخرج من السدة فتكلم أم لا.
فنظرت إلى بريق وسمعت: «الحكم لله يا علي، لا لك ولا لأصحابك!» فرأيت سيفًا، ثم رأيت ثانيًا، ثم سمعت عليًّا يقول: «لا يفوتنكم الرجل!» وشد الناس عليه من كل جانب.
قال: «فلم أبرح حتى أخذ «ابن ملجم» وأدخل على «علي»، فدخلت — فيمن دخل الناس — فسمعت عليًّا يقول: «النفس بالنفس» إن أنا مت فاقتلوه كما قتلني، وإن بقيت رأيت فيه رأيي!»
(٢-١) وصاياه قبل موته
وقبل أن تفيض روحه الطاهرة إلى بارئها، نقية بارة رسم لبنيه صورة يحتذونها، أوجز ما نصفها به أنها تمثل منزعه، وتصف ما امتازت به نفسه من خلال عالية وأخلاق سامية فريدة، هي جماع الفضائل:
قالوا: إن أحد الناس قد دخل عليه فسأله: «يا أمير المؤمنين، إن فقدناك — ولا نفقدك — فنبايع الحسن؟»
فقال: «ما آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصر!»
فرد عليه مثلها.
فدعا حسنًا وحسينًا، فقال: «أوصيكما بتقوى الله، وألا تبتغيا الدنيا — وإن بغتكما — ولا تبكيا على شيء زوى عنكما، وقولا الحق، وارحما اليتيم، وأغيثا الملهوف، واصنعا للآخرة، وكونا للمظلوم ناصرًا، واعملا بما في الكتاب، ولا تأخذكما في الله لومة لائم.» قالوا: ثم نظر إلى محمد بن الحنفية، فقال: «هل حفظت ما أوصيت به أخويك؟» قال: «نعم!»
قال: «فإني أوصيك بمثله، وأوصيك بتوقير أخويك لعظيم حقهما عليك فاتبع أمرهما، ولا تقطع أمرًا دونهما!»
ثم قال: «أوصيكما به، فإنه شقيقكما وابن أبيكما، وقد علمتما أن أباكما كان يحبه …» وهكذا إلى آخر هذه الوصية الثمينة.
وصيته الأخيرة
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما أوصى به «علي بن أبي طالب»، أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون. ثم إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا من المسلمين.
ثم أوصيك يا حسن، وجميع ولدي وأهلي، بتقوى الله ربكم ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، فإني سمعت أبا القاسم ﷺ يقول: «إن صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام!»
انظروا إلى ذوي أرحامكم فصلوهم، يهون عليكم الحساب، الله الله في الأيتام، فلا تعنوا أفواههم، ولا يضيعن بحضرتكم، والله الله في جيرانكم، فإنهم وصية نبيكم ﷺ، ما زال يوصي به حتى ظننا أنه سيورثه، والله الله في القرآن فلا يسبقنكم إلى العمل به غيركم …
والله الله في الفقراء والمساكين، فأشركوهم في معايشكم، والله الله فيما ملكت أيمانكم …» ثم يقول: «ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيولى الأمر شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم، وعليكم بالتواصل والتبادل وإياكم والتدابر والتقاطع والتفرق، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله؛ إن الله شديد العقاب! حفظكم الله من أهل بيت وحفظ فيكم نبيكم، أستودعكم الله، وأقرأ عليكم السلام ورحمة الله!
الجملة الأخيرة
قالوا: «ثم لم ينطق إلا بلا إله إلا الله.» حتى قبض، وهكذا انتهت حياة هذا البطل، وختم تاريخه الحافل بجلائل الأعمال!
(٣) أهم الأسباب التي أدت إلى مصرعه
يا معاوية! إنه والله لا يخفى علينا ما تغزو وما تطلب؛ إنك لم تجد شيئًا تستغوي به الناس، وتستميل به أهواءهم، وتستخلص به طاعتهم إلا قولك: «قتل إمامكم مظلومًا، فنحن نطلب بدمه.» فاستجاب له سفهاء طغام، وقد علمنا أن قد أبطأت عنه بالنصر، وأحببت له القتل لهذه المنزلة التي أصبحت تطلب! ورب متمني أمر وطالبه، الله — عز وجل — يحول دونه بقدرته، وربما أوتي المتمني أمنيته، وفوق أمنيته. ووالله ما لك في واحدة منها خير!
لئن أخطأت ما ترجو، إنك لشر العرب حالًا في ذلك، ولئن أصبت ما تمنى، لا تصبه حتى تستحق من ربك صلي النار، فاتق الله يا معاوية ودع ما أنت عليه ولا تنازع الأمر أهله!
(٣-١) دم عثمان
بهذه الجملة وأشباهها يرد معاوية على كل من ينشده العدل ويطلب إليه «أن يعدل عن فتنته التي أثارها، ويتقي الله في تفرق جماعة هذه الأمة وسفك دمائها بينها.»
وبهذا السلاح الماضي الأخاذ بالأبصار يستميل الناس إليه ويؤلب جموعهم ضد «علي» وأشياع «علي» وأنصاره، كأنما لا هم له من الدنيا إلا الثأر لعثمان وحده، ولا غرض له في خلافة أو ملك!
وبهذا المعول القوي يهدم كل دعوة للتوفيق، ويدك كل صرح للوئام من أساسه، فتذهب جهود المخلصين والراغبين في حقن دماء المسلمين سدى، ويسد الطريق سدًّا على كل خطيب بليغ، ويرد به على كل حجة، بالغة ما بلغت من الأصالة والصدق!
فإذا قال له وفد «علي»: «يا معاوية، إن الدنيا عنك زائلة وإنك راجع إلى الآخرة وإن الله — عز وجل — محاسبك بعملك وجازيك بما قدمت يداك، وإني أنشدك الله عز وجل أن تفرق جماعة هذه الأمة، وأن تسفك دماءها بينها.»
أسرع معاوية فقطع عليه الكلام، وقال له: «هل أوصيت بذلك صاحبك؟»
فإذا أجابه: «إن صاحبي ليس مثلك، إن صاحبي أحق البرية كلها بهذا الأمر، في الفضل والدين والسابقة في الإسلام والقرابة من الرسول ﷺ!» قال له معاوية: «فيقول ماذا؟» فإذا أجابه بقوله: «يأمرك بتقوى الله عز وجل، وإجابة ابن عمك إلى ما يدعوك إليه من الحق، فإنه أسلم لك في دنياك وخير لك في عاقبة أمرك.»
ارتبك معاوية، ولم يبق أمامه ما يبرر به إحداث هذه الفتنة الشعواء التي أوقد نارها، وأشعل ضرامها في سبيل الخلافة، وضحى من أجلها بالألوف من أرواح المسلمين البريئة، وثمة يقذف بهذا الحجر في وجه ناصحه فيقول له: «ونطل دم عثمان رضي الله عنه؟ لا والله لا أفعل ذلك أبدًا.»
وبذلك يبرر سلوكه وتمرده على الخليفة «علي» ويتظاهر بالغيرة على دم عثمان أن يطل، ويذهب دون أن يثأر له، وقد كان — بالأمس — يتباطأ عن حقنه، وصون حياة صاحبه وهو يستنجده فيصم أذنيه عن سماع دعوته، ولا يخف لنجدته، كما يخف الآن للانتقام ممن يزعمهم قاتليه!
فباسم المطالبة بدم عثمان أهدر دماء المسلمين، وباسم المطالبة بدم عثمان اندلعت نيران الفتنة فالتهمت جمهرة من أبطال المسلمين وقادة الرأي فيهم، وباسم المطالبة بدم عثمان ستر معاوية وابن العاص وأشياعهما أطماعهم وأغراضهم السياسية وألبوا الجموع الزاخرة على «علي بن أبي طالب».
(٣-٢) الدسائس
لم يكتف معاوية وأشياعه بهذا السلاح وحده في محاربة «علي». بل عززوه بأسلحة أخرى أهمها سلاح الدس والإيقاع بين أنصار علي، ولم تكن الحرب بينهما — على الحقيقة — إلا سلسلة متصلة من الحلقات من دسائس معاوية وابن العاص، وحسب القارئ أن يعلم أن معاوية لم يترك وسيلة من وسائل الإيقاع والدس للوصول إلى إربته والنكاية بخصمه إلا سلكها بلا تردد.
ألا ترى إليه يحاول استمالة «قيس بن سعد» الذي ولاه «علي» على مصر، فإذا أخفق في سعيه ويئس من استمالته إليه لجأ إلى الدس، فأشاع في الشام أن والي مصر على اتفاق معه، ثم عمل دائبًا على نشر هذه الإشاعة وتقويتها حتى يحسبها الناس حقًّا لا مراء فيه؛ فإذا بلغ عليًّا ذلك عزله وولى محمد بن بكر مكانه!
بل هو يحاول الإيقاع جهرة بين اثنين من ولد علي حين قطع أحدهما على الآخر قوله ليرد على معاوية، فأراد معاوية أن ينتهز هذه الفرصة للإيقاع بينهما فأخفق، ولا تنس حكاية المصاحف التي أوقعت الفرقة في صفوف أنصار «علي» وفرقتهم شيعًا، وحكاية ابن العاص وأبي موسى الأشعري، التي زادت في الانقسام والتفرقة، فليست كل هذه إلا آثارًا ناطقة شاهدة بما للقوم من دهاء ومكر وقدرة على استغلال الظروف والإيقاع بين الناس!
(٣-٣) شدة علي
أما شدة علي فقد أشرنا إليها في كلمتنا السابقة ولا نراها في حاجة إلى الإسهاب فيها، فقد عرفت أن عليًّا كان لا يتسامح في الحق ولا يقبل فيه لومة لائم، وكان يحاسب على القطمير، وقد بدأ عمله بعزل كثير من الولاة قبل أن يستتب له الأمر، ونحب أن نضيف إلى ما أسلفناه مثلًا واحدًا نجتزئ به عن أمثلة كثيرة:
قال ابن أبي رافع — وكان خازنًا لعلي على بيت المال: «دخل «علي» يومًا، وقد زينت ابنته، فرأى عليها لؤلؤة من بيت المال كان قد عرفها، فقال: «من أين لها هذه؟ لله عليَّ أن أقطع يدها!»
قال ابن أبي رافع: «فلما رأيت جده في ذلك، قلت: «أنا والله يا أمير المؤمنين زينت بها ابنة أخي، ومن أين كانت تقدر عليها، لو لم أعطها.» فسكت.»
فإذا أضفنا — إلى ذلك — اعتماده على نفسه وعدم استشارته سواه من أولي الرأي، مما أحقد عليه أمثال طلحة والزبير فنقضا بيعته وانضما إلى السيدة «عائشة» التي شبت أول نيران الفتنة في موقعه «الجمل»، وأضفنا إلى ذلك حذق معاوية في اكتساب قلوب الناس واجتذابهم إليه، وبغض السيدة عائشة — رضي الله عنها — لعلي بعدما أبداه من الرأي في حادثة الإفك من قبل، وذكرنا ما أبداه معاوية من المهارة السياسية في استرداد مصر وأخذ الحرمين واليمن أثناء انشغال علي بالخوارج، نقول: إذا ذكرنا هذه الأسباب سهل علينا أن نفهم سر هذه الفتنة الشعواء التي انتهت بقتل علي. وقد كانت — لولا عجائب القدر — منتهية بقتل معاوية وابن العاص أيضًا، ولكنه القدر المحتوم والأجل الذي لا مفر منه قد انتهى ولا راد لقضاء الله، قالوا: اجتمع «ابن ملجم» و«البرك بن عبد الله» و«عمرو بن بكر التميمي» فتذاكروا أمر الناس، وعابوا على ولاتهم، ثم ذكروا أهل النهر، فترحموا عليهم، وقالوا: «ماذا نصنع بالبقاء بعدهم شيئًا، إخواننا الذين كانوا دعاة الناس لعبادة ربهم، والذين كانوا لا يخافون في الله لومة لائم، فلو شرينا أنفسنا، فأتينا أئمة الضلالة فالتمسنا قتلهم فأرحنا منهم البلاد وثأرنا بهم إخواننا.»
فقال ابن ملجم: «أنا أكفيكم علي بن أبي طالب.» وكان من أهل مصر، وقال البرك بن عبد الله: «أنا أكفيكم معاوية بن أبي سفيان.» وقال عمرو بن بكر: «أنا أكفيكم عمرو بن العاص.»
فتعاهدوا وتواثقوا بالله لا ينكص رجل منا عن صاحبه الذي توجه إليه حتى يقتله أو يموت دونه؛ فأخذوا أسيافهم فسموها، واتحدوا لسبع عشرة تخلو من رمضان أن يثب كل واحد منهم على صاحبه الذي توجه عليه، وأقبل كل رجل منهم إلى المصر الذي فيه صاحبه الذي يطلب.
وكان ذلك كل ما لقيه معاوية من الجزاء على هذه الفتنة التي سعر نارها وأذكى أوارها.
أما «عمرو بن العاص» فقد جلس له «عمرو بن بكر» تلك الليلة، ولكن «ابن العاص» لم يخرج تلك الليلة، وكان اشتكى بطنه، فأمر «خارجة بن حذافة» — وكان صاحب شرطته — فخرج ليصلي فقتله «عمرو بن بكر» فأخذه الناس فانطلقوا به إلى عمرو يسلمون عليه بالإمرة، فقال: «من هذا؟» قالوا: «عمرو» قال: «فمن قتلت!» قالوا: «خارجة بن حذافة» قال: «أما والله يا فاسق ما ظننته غيرك!»
فقال عمرو: «أردتني وأراد الله خارجة.» فقدمه عمرو فقتله؟
ولكن:
هوامش
ولي (علي) الخلافة بعد مقتل عثمان بعد أن بايعه أهل الحجاز وكاد أن يستتب له الأمر لولا الفتنة التي أضرم نارها معاوية متخذًا من مقتل عثمان ذريعة لتحقيق أمله في الخلافة والوقوف في وجه علي.
صفته
قالوا: «هو رجل آدم، شديد الأدمة، ثقيل العينين عظيمهما، أصلع، ذو بطن وهو إلى القصر أقرب.»وما أنت وابن عفان، إنما قتله أصحاب محمد وأبناء أصحابه حين أحدث الأحداث، وخالف حكم الكتاب وهم أهل الدين وأولى بالنظر في أمور الناس منك ومن أصحابك، وما أظن أمر هذه الأمة وأمر هذا الدين أهمل طرفة عين!
قال: «فإن أهل هذا الأمر أعلم به، فخله وأهل العلم به.»
قال: «ما أظنك والله إلا نصحت لي!»
قال: «وأما قولك: إن صاحبنا لا يصلي، فهو أول من صلى وأفقه خلق الله في دين الله، وأولى بالرسول! وأما كل من ترى معي فكلهم قارئ لكتاب الله لا ينام الليل تهجدًا، فلا يغوينك عن دينك هؤلاء الأشقياء المغرورون.»
فقال الفتي: «إني أظنك امرأ صالحًا، فخبرني هل تجد لي من توبة؟»
فقال: «نعم يا عبد الله، تب إلى الله يتب عليك، فإنه يقبل التوبة من عباده، ويعفو عن السيئات ويحب التوابين ويحب المتطهرين!»
قال: «فكر والله الفتى راجعًا.»
فقال له رجل من أهل الشام: «خدعك العراقي! خدعك العراقي!»
قال: «لا، ولكن نصح لي!»
ألا ترى إلى هذا الصنف من الناس يستميله رأي فيأخذ به، ولا يحجم عن بذل آخر قطرة من دمه في سبيل نصرته وتأييده، فإذا سمع رأيًا يناقضه عدل عن رأيه الأول.
بربك كم يكون تأثير مثل معاوية وابن العاص على مثل هذه الفئة من الناس، وأحب أن أنبه القارئ إلى ملاحظة على قول هشام هذا، فهو يؤيد في كلمته — أو هو على الأقل — لا يحاول نفي تهمة قتل عثمان عن علي، تلك التهمة التي يبني عليها خصومهم كل دعاواهم الطويلة.