مصرع الوليد الثاني
«ويقال إنه لما أحيط به دخل القصر وأغلق بابه، وقال:
فألب عن تلك المنزلة أي ألب، ورؤي رأسه في فم كلب كذلك نقل بعض الرواة، والله القائم بجزاء الغواة.
(١) إلمامة تاريخية
ولكن المطامع والأحقاد التي شبت في جوانح أفراد هذه الأسرة — في عهد الوليد وبعده — عرفت كيف تنهك هذه الدولة وتقودها إلى الدمار، ثم تسلمها لقمة سائغة — بعد قليل من الزمن — إلى العباسيين المتطلعين إلى الملك.
ولقد تنبأ العباس «ابن عم الوليد» بهذه العاقبة، ودل على أصالة رأيه وبعد نظره، إذ عنف أخاه يزيد أشد تعنيف، وحذره من إثارة الفتن حين رآه متطلعًا إلى الخلافة راغبًا في الانقضاض على الوليد، وأغلظ له القول، ثم تمثل قائلًا:
ولقد صحت نبوءته، وتحقق صدق ما تمثل به من الشعر، ووقع كل ما قال.
•••
لقد أساء يزيد بن عبد الملك إلى ابنه الوليد عن غير ما قصد أيما إساءة، إذ أسند الأمر — من بعده — إلى أخيه هشام، ثم أدرك خطأه وندم أشد الندم ولكن بعد فوات الفرصة.
فقد استخلف أخاه هشامًا حين بلغ «الوليد» إحدى عشرة سنة، فلما بلغ خمس عشرة، ندم على تسرعه.
قالوا: وكان إذا نظر إلى ابنه الوليد قال: «الله بيني وبين من جعل هشامًا بيني وبينك.»
وفي هذه الجملة كل معاني الحسرة والندم!
وبعد أن مات «يزيد بن عبد الملك» بدأ هشام بتعظيم الوليد، ثم داخله الطمع فأراد استخلاف ابنه بعده، فلما رأى الوليد حجر عثرة في طريق مطامعه أراده على ذلك، فأبى، فطلب إليه أن يستخلف ابنه بعد خلافته، فأبى الوليد ذلك أيضًا.
قالوا: وكان يظهر النسك، ويتواضع ويقول: «ما يسعنا الرضا بالوليد!» حتى أدرك إربته، وألب الناس ضده، رافعًا أمامهم علم الثورة التي انتهت بالفتك بالوليد، وانتقال الأمر إلى يزيد.
- (١)
تهتك الوليد واستهتاره، وميله الشديد إلى مراغمة الناس ومجاهرته بعصيانه وآثامه، واحتقار ما تواضعوا على احترامه.
- (٢)
استغلال خصومه هذه الناحية منه وإذاعة سوآته مكبرة مبالغًا فيها، نافخين في أبواق الفتنة، مستثيرين حمية الناس لتنفيرهم منه، وكان ألد خصومه وأشدهم تشهيرًا به اثنان: هشام قبل خلافة الوليد، ويزيد بعدها.
- (٣)
ثقة الوليد بنفسه وشدة اعتداده بقوته، إلى حد أغفل معه كل احتياط لدرء الفتنة والقضاء على دسائس خصومه وهي في مهدها، قبل أن تستفحل وتصل إلى هذا الحد.
(٢) الثورة: شجاعة الوليد
قالوا: «كان الوليد شديد البطش، طويل أصابع الرجلين، وكان يوتد له سكة حديد فيها خيط، ويشد الخيط في رجله ثم يثب على الدابة فينتزع السكة ويركب، ما يمس الدابة بيده.»
قالوا: «ولما اندلعت نيران الثورة التي شبها «يزيد بن الوليد» علم وبلغه ذلك، أمر أصحابه فأخرجوا سريرًا، وجلس عليه، وقال: أعلي توثب الرجال، وأنا أثب على الأسد، وأتخصر الأفاعي؟»
•••
وهذا قليل من كثير مما يحدثنا به التاريخ عن شجاعته ورباطة جأشه، ولكن ماذا تجديه شجاعته في مثل هذا المأزق الحرج؟ وماذا تغنيه قوته ورباطة جأشه أمام هذه الجموع الزاخرة المتألبة عليه؟
ماذا يفعل وقد خذله أنصاره، وتفرق عن نصرته رجاله، وتم الأمر — أو كاد — لخصمه «يزيد بن الوليد» الذي عرف كيف يشهر به، ويذيع مخازيه وآثامه مكبرة مجسمة في الآفاق؛ حتى بلغ إربته، وبايعه أكثر الناس؟
ليس أمامه غير الهزيمة، ولكنه لم يشأ أن يتعجلها، وأبى إلا الثبات لعل فيه فرجًا، ولم تخنه شجاعته في هذا الظرف العصيب فخرج محاربًا مستبسلًا في دفاعه.
وقد ظاهر بين درعين — كما يقول المؤرخون — وأتوه بفرسيه «السندي» و«الزائد» فقاتل أعداءه قتالًا شديدًا.
(٣) انخذال الوليد
ولكن رجلًا من أعداء الوليد ناداهم: «اقتلوا عدو الله قتلة قوم لوط، ارموه بالحجارة!»
فلم يكد يسمع ذلك، حتى شعر بالخيبة، وأدرك أن أمره وشيك الزوال، وعلم أن ليس في استطاعته أن يصد هذه الجموع المتألبة الملتهبة حماسًا، وأن الدفاع في هذا الموطن معناه الدمار.
فلجأ مضطرًّا إلى الانسحاب، فدخل القصر وأغلق الباب، ولكن أعداءه أحاطوا بالقصر.
(٤) محاسبة الوليد
قالوا: فلما رأى الوليد هذه الجموع الزاخرة دنا من الباب فقال: «أما فيكم رجل شريف له حسب وحياء أكلمه؟»
فقال له أحدهم: «كلمني.»
فقال له: «من أنت؟»
قال: «أنا يزيد بن عنبسة السكسكي!»
قال: «يا أخا السكاسك، ألم أزد في أعطياتكم؟ ألم أرفع المؤن عنكم؟ ألم أعط فقراءكم؟ ألم أخدم زمناكم؟»
فقال: «إنا ما ننقم عليك في أنفسنا، ولكن ننقم عليك في انتهاك ما حرم الله وشرب الخمر، وإتيان أولاد أمهات أبيك واستخفافك بأمر الله!»
قال: «حسبك يا أخا السكاسك، فلعمري لقد أكثرت وأغرقت وإن فيما أحل لي لسعة!»
ثم قال: «لعمري لقد أكثرتم وأغرقتم! أما والله لا يرتق فتقكم، ولا يلم شعثكم، ولا تجمع كلمتكم!»
(٥) الساعة الأخيرة
وكذلك حان مصرع الوليد، ودقت ساعته الأخيرة، مؤذنة بذهابه من هذا العالم إلى العالم الثاني.
وهنا يحدثنا الرواة؛ فيقول أحدهم: إن الوليد رجع إلى الدار، فجلس وأخذ مصحفًا وقال: «يوم كيوم عثمان.» ونشر المصحف يقرأ.
وفي هذا المنظر ما فيه من الروعة، إذا تمثلنا المنظر الآخر المقابل له، وأجلنا الفكر فيما بين الموقفين من التباين الشديد.
فهو هنا يتعزى بقراءة المصحف وهو يشعر بدنو أجله وقرب ساعته الأخيرة.
وهو هناك يقرأ المصحف شامخًا مستكبرًا تائهًا — وأمره في تمامه — فيرى فيه قوله تعالى: وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ.
فيشتعل غيظًا وحقدًا، وتأخذه العزة بالإثم، فيمزق المصحف ويلقي به إلى الأرض ويخرقه بالنشاب، ثم ينشد غاضبًا:
وشتان ما بين المنظرين!!
•••
على أن الوليد لم يلبث أن عاوده شيء من صلفه وشجاعته، فلم يرض لنفسه استخذاء الذليل أمام الموت.
ويقال إنه لما أحيط به دخل القصر وأغلق بابه، وقال:
فألب عن تلك المنزلة أي ألب، ورؤي رأسه في فم كلب!
(٦) كيف قتل: رواية شاهد عيان
قال من شهد هذا المنظر المروع: «نظرت إلى شاب طويل على فرس؛ فدنا من حائط القصر فعلاه ثم صار إلى داخل القصر! فدخلت القصر، فإذا الوليد قائم في قميص قصب، وسراويل موشى، ومعه سيف في غمد، والناس يشتمونه.»
وقال شاهد آخر: وكان أول من علا الحائط هو عنبسة السكسكي؛ فنزل إليه وسيف الوليد إلى جنبه، فقال له: «نح سيفك.»
فأجابه الوليد: «لو أردت السيف لكانت لي ولك حالة غير هذه.» فأُخِذَ الوليد، فنزل من الحائط عشرة.
قال بعض الرواة: ومضى الوليد يريد الباب؛ فضربه أحدهم على رأسه، وتعاوره الناس بأسيافهم، فقتل.
(٧) كيف مثلوا به؟
قالوا: وأقبل آخر فسلخ من جلد الوليد قدر الكف. ثم انتهب الناس عسكره وخزائنه.
وقد أمر «يزيد» بتنصيب الرأس؛ فقال له بعض خواصه (واسمه ابن فروة): «إنما تنصب رءوس الخوارج، وهذا ابن عمك وخليفة! ولا آمن — إن نصبته — أن ترق له قلوب الناس فيغضب له أهل بيته!»
فقال: «والله لأنصبنه!»
ونصبه على رمح، ثم قال: «انطلق، فطف به مدينة دمشق، وأدخله دار أبيه.»
ففعل، وثم صاح الناس وأهل الدار وانزعجوا من ذلك أشد الانزعاج.
وكذلك أسدل الستار على حياة هذا المستهتر الجبار!
(٨) خلاعة الوليد واستهتاره
قلنا في الفصل السابق إن أول الأسباب التي تضافرت على إهلاك الوليد خلاعته وتفانيه في لهوه وفجوره، ووعدنا في ختامه بالإلمام بطائفة من مخازيه وآثامه، وليس يسعنا أن نبر بهذا الوعد، دون أن نضطر إلى ذكر كثير من الأشياء التي ينبو عنها الذوق، وتأباها الآداب الكريمة، لهذا تجاوزنا عن كثير من فحشه، وألممنا بما يمكننا الإلمام به من مخزيات هي — على شناعتها — أقل ما اقترفه من الدنايا، وهي — على إمعانها في الفجر — أيسر من غيرها وأخف على النفس من سواها.
(٨-١) أبو الوليد
وإذا صدق القائل:
فما أصدق هذا القول، وما أشد انطباقه على الوليد وأبيه معًا، فقد حدثنا المؤرخون عن نزعة أبيه إلى اللهو والقصف، وشغفه بحبابة المغنية واشتهاره بذكرها، بما فيه من الكفاية، قالوا:
كان يزيد «أبو الوليد» قد حج أيام سليمان أخيه، فاشترى «حبابة» بأربعة آلاف دينار، فقال سليمان: «لقد صممت أن أحجر على يزيد!»
فلما سمع يزيد ردها فاشتراها رجل من أهل مصر.
فلما أفضت الخلافة إليه قالت له امرأته «سعدة»: «هل بقي من الدنيا شيء تتمناه؟»
فقال: «نعم، حبابة!» قالوا:
فأرسلت فاشترتها وصنعتها، وأتت بها يزيد، وأجلستها من وراء الستر.
فقالت: «يا أمير المؤمنين، أبقي من الدنيا شيء تتمناه؟»
قال: «أعلمتك.»
فرفعت الستر وقالت: «هذه حبابة.» وقامت وتركتها عنده فحظيت سعدة عنده وأكرمها!
وقال يومًا، وقد طرب بغناء حبابة: «دعوني أطير.» وأهوى ليطير.
فقالت: «يا أمير المؤمنين، إن لنا فيك حاجة!» فقال: «والله لأطيرن.» فقالت: «فعلى من تدع الأمة والملك؟» قال لها: «عليك والله.» وقبل يدها، فخرج بعض خدمه وهو يقول: «سخنت عينك ما أسخفك!»
قالوا: «وخرجت معه إلى ناحية الأردن يتنزهان، فرماها بحبة عنب فاستقبلتها بفيها فدخلت حلقها، فشرقت بها وماتت، فتركها ثلاثة أيام لا يدفنها؛ حتى نتنت وهو يشمها وينظر إليها ويبكي، فلما دفنت بقي بعدها خمسة عشر يومًا ومات، ودفن إلى جانبها!»
(٨-٢) مؤدب الوليد
قالوا: «وكان عبد الصمد بن عبد الأعلى مؤدبًا للوليد، وكان زنديقًا فحمل الوليد على الشراب والاستخفاف بدينه.»
(٨-٣) ندمان الوليد
قالوا: «ولما ولي الوليد لم يزدد من الذي كان فيه — من اللهو والركوب للصيد وشرب الخمر ومنادمة الفساق — إلا تماديًا.»
وإذا صدق القائل:
فإن ندمان الوليد وخلانه، كانوا نخبة مختارة من الفساق والمجان والمستهترين بلغوا في العهر غايته، ووصلوا في الفجر إلى نهايته.
أليس من ندمانه ومغنيه وأقرب المقربين إليه «ابن عائشة» الذي يجيب بعض سائليه بقوله: «غنيت أمير المؤمنين صوتًا، فأطربته، فكفر وترك الصلاة وأمر لي بهذا المال وهذه الكسوة.»
نعم، وهو الذي يحدثنا عنه صاحب ستر الوليد فيقول: «إن ابن عائشة غناه ذات يوم:
فطرب الوليد وألحد …» إلى أن يقول: «ثم أكب الوليد على ابن عائشة المغني، ثم لم يبق عضوًا من أعضائه إلا قبله …» ثم ماذا؟
ثم بقية هذا الخبر الذي لا يحتمل المقام روايته، لبذاءته وفحشه.
•••
وليس ابن عائشة إلا واحدًا من كثيرين حفلت بهم مجالس الوليد ومغانيه، وكان له معهم ما يخجل القلم من ذكره.
هذا عمر بن أبي ربيعة يرجع من أحد مجالس الوليد، فيسأل: «ما الذي كنت تضحك أمير المؤمنين به؟» فيجيب سائله: «ما زلنا في حديث الزنا حتى رجعنا!»
الحق أن الوليد قد وصل به الاستهتار إلى أبعد الغايات، وطوح به في مهاوي الغواية حتى تردى في ظلماتها السحيقة.
(٨-٤) الوليد يخطب الناس شعرًا وهو سكران
قالوا: «خرج الوليد — وكان مع أصحابه على شراب — فقيل له: «إن اليوم الجمعة!» فقال: «والله لأخطبنهم اليوم بشعر.» فصعد المنبر فخطب. فقال:
•••
إلى آخر هذه الخطبة!
حججت مع الوليد بن يزيد، فقلت له لما أراد أن يخطب الناس: «أيها الأمير، إن اليوم يوم يشهده الناس من الآفاق وأريد أن يشرفني بشيء.»
قال: «وما هو؟»
قلت: «إذا علوت المنبر دعوت بي فيتحدث الناس بذلك، وبأنك أسررت إلي شيئًا!»
فقال: «أفعل!» فلما جلس على المنبر قال:
«الوليد البندار!» فقمت إليه، فقال: «ادن مني.» فدنوت، فأخذ بأذني ثم قال: «البندار ولد زنا، والوليد ولد زنا، وكل من ترى من حولنا ولد زنا، أفهمت؟»
قلت: «نعم» قال: «انزل الآن.» فنزلت!
(٨-٥) ميله إلى مذهب ماني٩
وقد عزا إليه بعض المؤرخين ميله إلى الأخذ بالمذهب المانوي وروى «ابن القارح» أن الوليد أحضر ذات يوم صورة رجل فسجد له وقبله وقال لبعض الناس: «اسجد له يا علج.»
فقال: «ومن هذا؟»
قال: «هذا «ماني» شأنه كان عظيمًا؛ اضمحل أمره لطول المدة.»
فقال: «لا يجوز السجود إلا لله.» فقال: «قم عنا.»
قال ابن القارح: وكان يشرب على سطح، وبين يديه باطية كبيرة بلور، وفيها أقداح، فقال لندمائه: «أين القمر الليلة؟» فقال بعضهم: «في الباطية.»
وكان بموضع حول دمشق يقال له «البحر» فقال:
فقتل به، ورأوا رأسه في الباطية التي أراد أن يهفتج بها.»
(٨-٦) كلمة ختامية
وأما الوليد بن يزيد، فكان عقله عقل وليد، وقد بلغ سن الكهل، وقد رويت له أشعار يلحق به منها العار، كقوله:
فالعجب لزمان صير مثله إمامًا!
ولعل مثله — ممن ملك — يعتقد مثله أو قريبًا، ولكن يساير ويخاف تثريبًا.
•••
ومما يروى له قوله:
هوامش
وقوله من كتاب بعث به إلى هشام:
•••
قال: «بل يطيل الله عمرك يا أمير المؤمنين.»
قال «ويحك! لا بد من الموت أفترى الناس يرضون بالوليد؟»
قال: «يا أمير المؤمنين، إن له في أعناق الناس بيعة.»
فقال هشام:
«لئن رضي الناس بالوليد، ما أظن الحديث الذي رواه الناس: «إن من قام بالخلافة ثلاثة أيام لم يدخل النار.» إلا كاذبًا.»
ولم ينس حقده على الوليد حتى في ساعته الأخيرة في وقت احتضاره حين صار في حال لا ترجى الحياة لمثله، فقد أفاق — كما يقولون — إفاقة، فطلب شيئًا فمنعوه، فقال: «أرانا كنا خزانًا للوليد.» ومات.
كنت عند «هشام» وعنده الزهري فذكر الوليد، فتنقصاه وعاباه عيبًا شديدًا ولم أعرض في شيء مما كانا فيه فاستأذن الوليد فأذن له — وأنا أعرف الغضب في وجهه — فجلس قليلًا ثم قام.
فلما مات هشام كتب في فحملت إليه فرحب بي وقال: «كيف حالك يا ابن ذكوان؟» وألطف المسألة بي ثم قال: «أتذكر يوم الأحول «هشام الخليفة» وعنده الفاسق «الزهري» وهما يعيباني.»
قلت: «أذكر ذلك فلم أعرض في شيء مما كان فيه.»
قال: «صدقت.» أرأيت الغلام الذي كان على رأس هشام؟»
قلت: «نعم.»
قال: «فإنه نمى إليَّ ما قالا، وايم الله لو بقي الفاسق لقتلته.»
قلت: «قد عرفت الغضب في وجهك حين دخلت!»
ثم قال: «يا ابن ذكوان، ذهب الأحول بعمري!»
فقلت: «بل يطيل الله عمرك يا أمير المؤمنين، ويمتع الأمة ببقائك.» فدعا بالعشاء فتعشينا وجاءت المغرب فصلينا وتحدثنا حتى جاءت العشاء الآخرة فصلينا، وجلس، قال: «اسقني.» فجاءوا بإناء مغطى وجاء ثلاث جوار فصففن بين يديه بيني وبينه، ثم شرب وذهبن فتحدثنا.
واستسقى فصنعن مثل ما صنعن أولًا.
فما زال على ذلك يتحدث ويستسقي ويصنعن مثل ذلك، حتى طلع الفجر فأحصيت له سبعين قدحًا.»
نقول: ولعل هذا من أعف مجالس الوليد، ونحب أن لا ينسى القارئ أن راوي هذا الخبر ليس من أعداء الوليد ولا من المتحاملين عليه.
على أن للوليد أخبارًا أخرى لا سبيل لنا إلى ذكرها في هذا المقام لشناعتها وفحشها.
ظهر في أيام سابور بن أردشير، وقتله بهرام بن هرمز بن سابور سنة ٢٧٧م، وهو يزعم أن العالم مصنوع من أصلين قديمين، هما: النور والظلمة، وأنهما أزليان سرمديان، وأنه ما من شيء إلا وهو من أصل قديم، وأن الخير كله من النور، والشر كله من الظلمة، وقد أشار المتنبي إلى ذلك في قوله يمدح كافور الإخشيدي: