مصرع مروان الجعدي
ولو علم بنو مروان أنهم إنما يوقدون على رضف يلقونه في أجوافهم، ما فعلوا.
(١) كيف صرع
وطعنه رجل من أهل البصرة، وهو لا يعرفه فصرعه، فصاح صائح: «صُرع أمير المؤمنين!» وابتدروه، فسبق إليه رجل من أهل الكوفة فاحتز رأسه!
(١-١) طلائع الثورة
ولكن الفراخ كبرت وطارت ولم يحتل لها فصحت نبوءة «نسر بن سيار» وألهبت نيران حرب شعواء، ذكا أوارها واندلع لهيبها، فكان وقودها مروان الجعدي والدولة الأموية معًا، ولم تخمد جذوة هذه النار المستعرة، إلا بعد أن أتت على الأخضر واليابس وغيرت وجه التاريخ، وأحدثت انقلابًا هائلًا في كل مرافق الأمة العربية وشئونها تقريبًا.
لقد رأى «نصر بن سيار» خطر المنافسين يتعاظم يومًا بعد يوم، وشاهد أتباعهم في ازدياد، ودعوتهم في ذيوع وانتشار، فلم يدخر وسعًا في تحذير الأمويين من أعدائهم واحتثاث هممهم ليقضوا على الثورة — وهي في مهدها — وكان يرى نجاح دعوة «أبي مسلم الخراساني» واتساع نطاقها، فيبعث التحذير بعد التحذير والإنذار تلو الإنذار، حتى بح صوته وذهبت صيحاته كلها أدراج الرياح!
ولعل أحدًا لا يجهل أبياته الصادقة التي ختم بها إحدى كتبه التي بعث بها إلى مروان الجعدي، حين رأى انتشار الدعوة لبني العباس وذيوعها في خراسان سنة ١٢٩، وهي قوله:
ولكن بني أمية كانوا نيامًا عن عدائهم، منهمكين في إشباع شهواتهم الحقيرة، مشتغلين بالانتقام بعضهم من بعض، لا هم لهم إلا التباغض وإثارة الفتن الداخلية بينهم، حتى جاءهم أمر الله فأمحى ملكهم من المشرق، وقضى عليهم قضاء مبرمًا في سنة ١٣٢هـ. وصدق قول القائل: «ولكل أهل بيت مشائيم يغير الله النعمة بهم ولن ينتقل سلطان قوم قط إلا في تشتيت كلمتهم!» كما صح فيهم قول من قال:
(١-٢) موقعة الزاب سنة ١٣٢هـ
ليس أدل من هذه الموقعة على الفوضى الضاربة أطنابها في جيش الأمويين والتخاذل الشامل وسوء الرأي، فقد تجلت في هذه الموقعة صفات النذالة والإحجام في أكثر الجيش الأموي واضحة جلية، كما تجلى فيها ارتباك مروان وخوره وتوانيه في رسم خطة يسير عليها جيشه قبل أن يلتحم في المعركة، وكان لإحجام قواده ومخالفتهم أوامره أسوأ النتائج وأبعد الأثر في هزيمتهم الشاملة، أما «الوليد بن معاوية بن مروان» صهر الجعدي، فقد ذكرتنا حماقته وتهوره بصهر عثمان — رضي الله عنه — وما أبداه من خرق في مخالفة رأيه.
لقد أمر «الجعدي» جيشه ألا يبدأ القتال وقر رأيه على ذلك.
ولكن صهره الأحمق «الوليد بن معاوية» بدأ القتال فحمل على الميمنة فاشتبكت الحرب — على رغم الجعدي — واستعرت فجأة أيما استعار، ونفذ قضاء الله.
وهنا يسرع «مروان الجعدي» بعد أن نفذ السهم فيقول لقضاعة: «احملوا!» فيقولون له: «قل لبني عامر فليحملوا.»
فيرسل إلى «السكون» أن احملوا فيقولون: «قل لغطفان فليحملوا.»
فيقول لصاحب الشرطة: «انزل!» فيجيبه: «والله ما كنت لأجعل نفسي غرضًا.»
فيقول له الخليفة متوعدًا: «أما والله لأسوءنك».
فيجيبه صاحب الشرطة هازئًا: «وددت والله أنك قدرت على ذلك.»
وثم زاد ارتباك مروان، وتعاظم خباله؛ أمام جيش الخراسانيين فكان — كما يقول المؤرخون — لا يدبر شيئًا إلا كان فيه الخلل والفساد.
أراد أن يشجع رجال جيشه وهم يقتتلون فأمر بأموال فأخرجت وقال للناس: «اصطبروا وقاتلوا فهذه الأموال لكم.»
فانعكست الآية، وتهافتت فئة منهم على ذلك المال فجعلت تصيب منه.
فلما قالوا له: «إن الناس قد مالوا عن هذا المال، ولا تأمنهم أن يذهبوا به.» أراد أن يتدارك هذا الخطأ، فوقع فيما هو شر منه؛ فقد أرسل إلى ابنه «عبد الله» أن يسير في صحابته إلى مؤخر عسكره فيقتل من أخذ من ذلك المال ويمنعهم! فماذا كانت النتيجة؟
رأى الناس «عبد الله» وقد مال برايته وأصحابه فحسبوهم مولين؛ فصاحوا «الهزيمة»، فكانت الهزيمة الشاملة!
وبمثل هذه التصرفات العجيبة المربكة الخاطئة اندحر الجيش الأموي وانهزم مروان في موقعة «الزاب» شر هزيمة.
قالوا: «وقطع الجسر، فكان من غرق يومئذ أكثر ممن قتل.»
(١-٣) فرار الخليفة
كذبتم أمير المؤمنين لا يفر.
قالوا: «وانهزم مروان حتى وصل مدينة الموصل، فناداهم أهل الشام «هذا مروان!» فقالوا: كذبتم أمير المؤمنين لا يفر.
(١-٤) طريق الفرار
ولكن أمير المؤمنين قد فر وأمعن في فراره، فما يكاد يستقر بموضع حتى تداهمه طلائع العدو، فيغادره هاربًا إلى موضع آخر.
فر إلى «حران» فأقام بها نيفًا وعشرين يومًا، ومضى منهزمًا حتى مر بقنسرين و«عبد الله بن علي» متبع له، ثم هرب مروان إلى «حمص» فأقام بها يومين أو ثلاثة، ثم شخص منها وهو مرعوب منهزم، ومضى حتى مر بدمشق وتركها حتى قدم «فلسطين» وتابع فراره حتى وصل إلى مصر.
(١-٥) مطاردته في مصر
وجاء كتاب «أبي العباس» يأمر بتوجيه «صالح بن علي» في طلب «مروان»، فسار صالح بن علي في ذي القعدة حتى نزل بالرملة، وسار «صالح» بجيشه حتى نزل ساحل البحر، وتجهز يريد «مروان» الهارب بالفرماء حتى نزل صالح «بالعريش»، فلما علم مروان بذلك أحرق ما كان حوله من علف وطعام وهرب؛ قالوا:
«ومضى صالح بن علي فنزل النيل، ثم سار حتى نزل الصعيد، وبلغه أن خيلًا لمروان بالساحل يحرقون الأعلاف، فوجه إليهم قوادًا؛ فأخذوا رجالًا فقدموا بهم على «صالح» — وهو بالفسطاط — فعبر مروان النيل وقطع الجسر وحرق ما حوله، ومضى صالح يتبعه فالتقى — هو وخيل لمروان — على النيل فاقتتلوا، فهزمهم صالح. وهكذا ظل يطارده «صالح» حتى اهتدى إلى مكانه الذي لجأ إليه في كنيسة «بوصير».
(١-٦) خاتمة مروان: كيف صرع
قالوا: فوافوهم في آخر الليل، فهرب الجند، وخرج إليهم «مروان» — في نفر يسير — فأحاطوا به.
قالوا: وطعنه رجل من أهل البصرة، وهو لا يعرفه فصرعه فصاح صائح: «صرع أمير المؤمنين».
وابتدروه فسبق إليه رجل من أهل الكوفة كان يبيع الرمان فاحتز رأسه!
•••
وهنا يروي لنا بعض المؤرخين رواية أقرب إلى القصص والخيال — وإن كانت غير مستحيلة الوقوع — فيقول: إنهم لما أحضروا رأسه قدام صالح بن علي أمر أن ينفض فانقطع لسانه فأخذه هر وأرسله صالح إلى السفاح وقال:
قالوا ولما وصل الرأس إلى السفاح وهو بالكوفة سجد شكرًا لله!