امتياز
ودَّ كثير من معارف روز لو وُلِدوا فقراء؛ لكن الحياة لم تمنحهم ما تمنوه. لذا، لعبت روز دور الفقيه بينهم في هذا الشأن؛ فكانت تقص عليهم العديد من الفضائح وملامح البؤس والفحش التي شهدتها في طفولتها. دورة مياه الصبية ودورة مياه الفتيات؛ السيد بِرنز العجوز في دورة المياه؛ شورتي ماكجيل وفراني ماكجيل عند مدخل دورة مياه الصبية. لم تتعمد روز تكرار ذكر دورة المياه، وكان يدهشها كيف كانت تطرأ تلك الفكرة فجأة على حديثها. كانت تعلم أن هذه الأكواخ القاتمة أو المطلية بالألوان من المفترض أن تبعث على الفكاهة — هكذا كانت دومًا في دعابات القرويين — لكنها رأتها في نظرها مشاهد سافرة من العار والشناعة.
كان لكلٍّ من دورة مياه الصبية ودورة مياه الفتيات مدخل خاص مؤمَّن، ما أغنى عن تركيب باب في أي منهما؛ فكان الثلج يصل، على أية حال، إلى الداخل عبر الشقوق الفاصلة بين الألواح الخشبية وما يتخلل هذه الألواح من ثقوب صُنِعت بغرض التجسس. تكوَّمت الثلوج على مقعد المرحاض وعلى الأرضية؛ الأمر الذي عكس امتناع الناس — على ما يبدو — عن استخدام المرحاض. وفي الثلج المتكوم تحت طبقة الجليد الصقيلة، حيث أخذ الثلج يذوب ويتجمد ثانيةً، وُجِد الغائط مجمَّعًا أو فرادى، محفوظًا كما لو كان تحت طبقة من الزجاج، فاتح اللون كالمستردة أو قاتمًا كالفحم النباتي، وبين هذا وذاك درجات متفاوتة أخرى من اللون. أصاب ذلك المنظر روز بالغثيان، وتملَّك منها الإحباط برؤيته، فوقفت عند المدخل، ولم تستطع إرغام نفسها على الدخول، وقررت أنه بوسعها الانتظار. بللت روز نفسها مرتين أو ثلاث مرات أثناء عودتها للمنزل راكضةً من المدرسة إلى المتجر الذي لم يبعد كثيرًا؛ الأمر الذي أثار اشمئزاز فلو.
أخذت فلو تغني بصوت مرتفع ساخرةً من روز: «طفلة صغيرة تبلل نفسها … تعود للمنزل وملابسها مبللة!»
أسعد ذلك الموقف فلو للغاية؛ إذ كانت تحب أن ترى الآخرين في لحظات بساطتهم، تلك اللحظات التي تفرض فيها الطبيعة سلطانها عليهم. كانت من نوعية النساء اللاتي يستمتعن بانتهاز أية فرصة لفضح الآخرين. شعرت روز بالمهانة، لكنها لم تفصح عن المشكلة. لماذا؟ لعلها خشيت أن تذهب فلو إلى المدرسة حاملةً دلوًا وجاروفًا لتنظيف دورة المياه وتوبيخ الجميع.
اعتقدت روز، أيضًا، أن مجريات الأمور في المدرسة لا مُبدِّل لها، وأن القواعد السارية فيها تختلف عن أية قواعد يمكن لفلو استيعابها، والهمجية بها لا حد لها، واعتبرت أن المفاهيم البريئة مثل العدالة والنظافة كانا مفهومين غائبين في الفترة الأولى من حياتها. وبدأت تركم في ذلك الوقت أول مخزون من الأشياء التي لا يمكنها الإفصاح عنها أبدًا.
فما كان بإمكانها الإفصاح أبدًا عن السيد برنز. بعد أن بدأت روز تذهب إلى المدرسة، وقبل أن تعرف أي شيء عما ستراه — أو عما يمكن أن تراه، بالتأكيد — كانت تركض بمحاذاة سور المدرسة برفقة بعض الفتيات الأخريات، مرورًا بأعشاب الحُمَّاض والقضبان الذهبية، ليربضن خلف دورة المياه التي كان يقضي فيها سيد برنز حاجته، والتي كان ظهرها مواجِهًا لفناء المدرسة. تمكَّن أحد الأشخاص من المرور عبر السور، وانتزع الألواح السفلية من مكانها، ليتمكن أي أحد من النظر خلسة إلى داخل الدورة. سار السيد برنز العجوز — الذي كان شِبه ضرير، ذا كرش، متسخَ الملابس، خفيفَ الحركة — عبر الفناء الخلفي مُحدِّثًا نفسه، ومنشدًا الأغاني، وضاربًا الأعشاب الضارة الطويلة بعصاه. وفي دورة المياه أيضًا، بعد بضع لحظات من الصمت والإجهاد، كان صوته يُسمَع من الخارج وهو يدندن بهذه الكلمات:
لم يكن غناء السيد برنز تعبديًّا، وإنما تهديديًّا، كما لو كان — حتى في تلك اللحظات — يتوق للشجار. تجلَّى الدين غالبًا في تلك الأرجاء في صورة مشاجرات، فانقسم الناس إلى كاثوليك وبروتستانت متعصبين، وكان الاحتكاك بين هذين الفريقين واجبًا يقتضيه الشرف. تبع الكثير من البروتستانت — أو عائلاتهم — في السابق الكنيسة الأنجليكانية أو المشيخية، لكنهم بلغوا من الفقر حدًّا حال دون حضورهم إلى تلك الكنائس، لذلك انحرفوا إلى جيش الخلاص، أو ما يُعرَف بالحركة الخمسينية. وكان هناك آخرون كفار تمامًا بالمسيحية إلى أن برئوا مما كانوا فيه، والبعض ظلوا على كفرهم، لكنهم كانوا بروتستانت في المشاجرات. وصفت فلو الأنجليكانيين والمشيخيين بأنهم متعجرفون، ومن لم يكن منهم كذلك فهو من المنساقين، أما الكاثوليك، فوصفتهم بأنهم بوسعهم تحمل أي رياء أو فسوق، طالما سيحصلون على المال الذي سيرسلونه إلى البابا. لذا، لم يكن على روز الذهاب أبدًا إلى أي الكنيسة.
جلست جميع الفتيات الصغيرات القرفصاء ليتمكنَّ من المشاهدة، وأخذن يحدِّقن في ذلك الجزء المتدلي من جسم السيد برنز في المرحاض. ظنَّت روز لسنوات أنها رأت خصيتيه، لكن عند تفكيرها في الأمر اكتشفت أنها لم ترَ سوى مؤخرته. كانت أشبه بضرع البقرة، ذات سطح شائك يشبه اللسان قبل أن تسلقه فلو. لذا، أعرضت روز عن تناول اللسان تمامًا. وبعد أن أخبرت براين بما تعرفه، لم يعد يتناوله بدوره. وأثار ذلك غضب فلو؛ فأخبرتهما بأنه بإمكانهما العيش على تناول السجق المسلوق فقط.
أما الفتيات الأكبر سنًّا، فلم يجلسن ليختلسن النظر، وإنما وقفن بالجوار، وسُمعت أصوات قيء متكررة. قفزت بعض الفتيات الصغيرات من مجلسهن لينضممن إلى أولئك الفتيات الأكبر سنًّا، تلهفًا منهن لتقليدهن، لكن روز ظلت تجلس القرفصاء في مكانها، مذهولة، ومستغرقة في التفكير. وودَّت لو تمكنت من الاستغراق أكثر في التأمل، لكن السيد برنز أنهى ما كان يفعله، وخرج من دورة المياه، مغلقًا أزرار بنطاله، وهو يتغنى ببعض الكلمات. تسللت الفتيات بجوار الأسوار لينادين عليه.
«سيد برنز! صباح الخير، يا سيد برنز! لقد رأينا كل شيء سيد برنز!»
فاندفع السيد برنز نحو السور مزمجرًا، وملوحًا بعصاه كما لو كنَّ دجاجًا يهشه من حوله.
تجمَّع الجميع، كبارًا وصغارًا، صبية وفتيات — فيما عدا المعلمة، بالطبع، التي أوصدت الباب في فترة الراحة وظلت في المدرسة، مثل روز التي كانت تقاوم رغبتها في قضاء حاجتها حتى تصل إلى المنزل، مجازفةً بذلك بما يمكن أن يقع من حوادث، ومتحملةً الألم المبرح الذي كانت تشعر به — تجمَّعوا لمشاهدة ما كان يحدث عند مدخل دورة مياه الصبية بعد انتشار شائعة حول مضاجعة شورتي ماكجيل لفراني ماكجيل!
أخ وأخت.
إقامة علاقات.
هكذا وصفت فلو الأمر: إقامة علاقات. تروي فلو أنه في مزارع التلال الريفية التي انحدرت منها، فقد الناس عقولهم؛ فاشتهروا بتناولهم التبن المسلوق وإقامتهم العلاقات مع أقرب أقربائهم. وقبل أن تعي روز معنى هذا الكلام، اعتادت تخيل هذه العلاقات كمسرحية يتبادل فيها الممثلون الأدوار، ويؤدونها على خشبة مسرح متقلقلة منصوبة في إحدى الحظائر القديمة؛ فيصعد عليها أفراد الأسرة ويتغنَّون بأغانٍ وأناشيد سخيفة. كانت فلو تقول في اشمئزاز ودخان السجائر ينبعث من فمها: «كم كان ذلك رائعًا!» في إشارة منها ليس لتصرف واحد فقط، وإنما لكل شيء تشمله مثل هذه العلاقات، سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، وفي أي مكان في العالم؛ فلطالما أذهلتها انحرافات الناس، مثلما فعلت ادعاءاتهم.
تُرَى مَن كان صاحب فكرة العلاقة بين شورتي وفراني ماكجيل؟ ربما تحدى بعض الفتيان الأكبر سنًّا شورتي لفعل ذلك، أو لعله هو مَن تباهى بذلك وتحداهم. الأمر المؤكد هو أن فراني لم تكن هي صاحبة الفكرة. فكان لا بد من القبض عليها أو محاصرتها لفعل ذلك الأمر. ولا يمكن، في الواقع، وصف الأمر هنا بالقبض عليها؛ إذ إنها ما كانت لتهرب، أو بالأحرى ما كانت لتثق في إمكانية هروبها، لكنها، مع ذلك، أظهرت عدم رغبتها فيما كان يحدث، وكان لا بد من جرِّها ثم دفعها لأسفل حيث أراد المعتدون عليها. هل كانت تعلم ما كان سيحدث؟ كانت تعلم، على الأقل، أن ما يدبره الآخرون لم يكن حسنًا.
عندما كانت فراني ماكجيل طفلة صغيرة دفعها والدها المخمور بقوة قبالة الحائط. هذا ما روته فلو. وثمة رواية أخرى تشير إلى أن فراني سقطت مخمورةً من إحدى العربات، وركلها أحد الخيول. وفي كلتا الحالتين، كانت النتيجة هي تهشم أجزاء من جسدها، لا سيما وجهها الذي تأثر على أسوأ نحو؛ فالتوى أنفها، الأمر الذي جعل من كل نفس تتنفسه خنَّة طويلة قابضة للصدر. هذا فضلًا عن تكوم بعض أسنانها فوق بعض، ما حال دون إغلاقها لفمها ومنعها تمامًا من التحكم في كمية البُصاق الصادر عنها. كانت بيضاء، نحيلة، متثاقلة الخطى، وجِلة كسيدة عجوز. أُودِعت بالصف الثاني أو الثالث في المدرسة، وكان بإمكانها القراءة والكتابة قليلًا، لكنها نادرًا ما طُلِب منها ذلك. ربما لم تكن بالغباء الذي اعتقده الجميع، لكنها كانت مندهشة ومتحيرة دومًا بسبب ما تعرَّضت له دومًا من مضايقات مستمرة. ومع كل ذلك، كان ثمة شيء يوحي بالأمل بداخلها؛ فكانت تتبع أي شخص لا يهاجمها أو يعتدي عليها على الفور؛ وتقدِّم له قطعًا من أقلام الألوان أو كرات من العلكة الممضوغة التي تنزعها من المقاعد والمكاتب. لذا، كان من الضروري على أي أحد تلتقي عيناه بعينيها صدُّها بحزم، والتجهم في وجهها على نحو تحذيري.
«ارحلي يا فراني. ارحلي وإلا لكمتك. سألكمك. أعني ما أقول.»
استمر استغلال شورتي، والآخرين، لفراني. وكانت تحمل، ثم تؤخَذ بعيدًا، ثم تعود وتحمل ثانيةً، ثم تؤخَذ بعيدًا، ثم تعود وتحمل، وهلم جرًّا. أُثيرت الأحاديث حول إعقامها مع تحمل نادي ليونز نفقة العملية، أو حبسها في المنزل، إلى أن تُوفيت فجأة بداء الالتهاب الرئوي لتحل بنفسها تلك المشكلة. راودت روز صورة فراني لاحقًا، كلما مرت بشخصية العاهرة البلهاء طيبة السريرة في أي كتاب أو فيلم سينمائي. يبدو أن مؤلفي الكتب والأفلام لديهم ولع بهذه الشخصية، وإن لاحظت روز أنهم يقدمونها دومًا في صورة نظيفة. واعتقدت روز أن هؤلاء المؤلفين يدلِّسون الواقع بعدم تصويرهم النَّفَس المتثاقل والبصاق والأسنان المشوهة؛ لقد كانوا يرفضون التعبير عن تلك الملامح المقززة المثيرة للشهوة الجنسية، وذلك في ظل تعجُّلهم لمكافأة أنفسهم بفكرة الوجوه الخالية من التعابير، والترحيب الخالي من أي تمييز.
لم يكن ترحيب فراني بشورتي بريئًا للغاية على أية حال؛ فكانت تُصدر أصوات عواء بلغمية متحشرجة بسبب مشكلات التنفس التي كانت تعاني منها. وهي تهز ساقًا واحدة، وإما أن يخرج من قدميها أحد حذاءيها، أو أنها لم تكن ترتدي حذاء في الأساس. كل ما استطاعت روز أن ترى منها هو ساقها البيضاء وقدمها الحافية بأصابعها الموحلة، وهو ما بدا أكثر طبيعية وقوة واحترامًا للذات مما يليق بفراني ماكجيل. كانت صغيرة الحجم، ما سمح بدفع الحشود لها إلى الخلف. أحاط بها الصبية الكبار، وهم يصيحون صيحات تشجيعية، والفتيات الكبيرات كن يحُمن بالخلف أيضًا، وهن يقهقهن. أثار ذلك اهتمام روز، لكنه لم يفزعها؛ فالاعتداء على فراني لم يكن بالأمر المهم، وليس بالأثر نفسه الذي يكون عليه الاعتداء على أي شخص آخر؛ فلم يكن سوى انتهاك آخر من الانتهاكات التي تتعرض لها.
وعندما كانت روز تخبر الناس بهذه الأمور، بعد ذلك الحين بسنوات، كانوا يتأثرون بشدة، وكان عليها أن تقسم بأن ما تقوله صحيح، وأنها لا تبالغ. وقد كان صحيحًا بالفعل، لكن أثره كان مختلفًا في كل مرة. بدت أيام دراسة روز بالمدرسة بائسة، ولا بد أنها كانت تعيسة آنذاك، لكنها لم تكن كذلك؛ فقد تعلَّمت؛ تعلَّمت كيفية التصرف في المشاجرات الكبيرة التي شهدتها المدرسة مرتين أو ثلاث مرات في العام. وكانت تميل للحيادية، الأمر الذي كان خطأً فادحًا؛ إذ كان يمكن أن يثير طرفي النزاع كليهما ضدها. وما ينبغي فعله في هذه الحالات هو التحالف مع أفراد يعيشون بالقرب من المرء كي لا يتعرض لخطر هائل أثناء سيره عائدًا إلى المنزل. لم تعلم روز قط السبب وراء تلك الصراعات، ولم تتمتع بطبيعتها بالقدرة اللازمة للاشتراك فيها، ولم تفهم في الواقع ضرورة ذلك. فكانت تُفاجأ دائمًا بكرة ثلج، أو حجر، أو حصاة تسدَّد إليها من الخلف. علمت روز أن حالها لن يتحسن أبدًا، ولن تصل أبدًا إلى أي موقع آمن — هذا إن كان هناك أي موقع آمن على الإطلاق — في عالم المدرسة الذي كانت تعيش فيه. مع ذلك، لم تكن روز تعسة، فيما عدا ما يتعلق بعدم تمكنها من قضاء حاجتها بدورة المياه. إن تعلُّم مواصلة العيش — بغض النظر عما يصاحب ذلك من جُبْن وحذر، ومن صدمات وهواجس — لا يعني التعاسة، وإنما هو أمر مثير للغاية.
تعلَّمت روز تفادي فراني؛ تعلمت عدم الاقتراب من قبو المدرسة حيث كانت جميع النوافد مكسورة وسوداء، والماء يتقطر من كل جانب كالكهف؛ وتجنُّب المكان المظلم الموجود تحت درجات السُّلم وذلك الموجود بين أكوام الحطب. تعلَّمت روز، أيضًا، ألا تلفت انتباه الصبية الأكبر سنًّا إليها بأي شكل من الأشكال، والذين بدوا في عيونها ككلاب مسعورة؛ إذ كانوا على القدر نفسه من السرعة والقوة والتقلب والاغتباط في هجومهم كهذه الكلاب.
من الأخطاء التي ارتكبتها روز في وقت مبكر من حياتها، وما كانت لترتكبها لاحقًا، إخبارها فلو الحقيقة بدلًا من أن تكذب عليها عندما عرقلها أحد الصبية الأكبر سنًّا من بلدة موري الفرنسية، وأمسك بها أثناء نزولها على سُلم الحريق، ممزِّقًا كُمَّ المعطف الواقي من المطر الذي كانت ترتديه من ناحية الإبط. فما كان من فلو إلا أن ذهبت إلى المدرسة لإثارة زوبعة من الاحتجاجات (على حد تعبيرها)، فسمعت شهودًا يقسمون بأن روز هي التي مزَّقت كُمَّ معطفها بأحد المسامير. كانت المعلمة متجهمة الوجه، ولم تقدِّم نفسها، وأشارت إلى أن زيارة فلو غير مرغوب فيها. فلم يكن أولياء الأمور ليذهبوا إلى المدرسة في هانراتي الغربية؛ إذ اتسمت الأمهات بالتعصب في شجارهن؛ فكن يقفن خلف بوابات المدارس ويصحن، وكان بعضهن يندفعن لشد الشعر ورشق الحصى بأنفسهن، هذا فضلًا عن إساءتهن للمعلمة سرًّا بإرسال أطفالهن إلى المدرسة وتوصيتهم بعدم الاستماع إليها مطلقًا. لكنهن ما كنَّ ليتصرفن على النحو الذي تصرفت به فلو، ما كانت أقدامهن لتطأ أرض المدرسة، وما كن ليرفعن الشكوى إلى هذا المستوى، فما كن ليصدقن أبدًا — مثلما صدقت فلو على ما يبدو (وهنا كانت المرة الأولى التي تراها فيها روز غير مدركة للأمور ومخطئة) — أن المعتدين يمكن أن يعترفوا أو يُسلَّموا للعدالة، أو أن العدالة يمكن أن تتخذ أية صورة أخرى غير تمزيق معطف أحد الصبية الفرنسيين في غرفة إيداع القبعات والمعاطف، كنوع من التخريب.
قالت فلو إن المعلمة لا تدرك مهام وظيفتها.
لكنها كانت تعلم هذه المهام؛ بل وتعلمها جيدًا أيضًا؛ فكانت تغلق الباب في فترات الراحة، وتدع ما يحدث في الخارج يحدث، أيًّا كان. لم تحاول يومًا استدعاء الصبية الكبار من القبو أو من على سلم الحريق، فكانت تأمرهم بتقطيع الحطب اللازم لإشعال الموقد، وملء دلو مياه الشرب؛ وفيما عدا ذلك، كانوا أحرارًا في فعل ما يشاءون. لم يمانع أولئك الصبية في تقطيع الخشب أو ضخ المياه، لكنهم كانوا يحبون غمر الناس بالماء شديد البرودة، وأوشكوا على ارتكاب جرائم قتل باستخدام بلطة تقطيع الخشب. لقد كان السبب وراء وجودهم في المدرسة هو عدم وجود مكان آخر يذهبون إليه. فبالرغم من بلوغهم من العمر السن القانونية التي تسمح لهم بالعمل، لم تكن هناك وظائف متاحة لهم. أما الفتيات الأكبر سنًّا، فكان بإمكانهن الحصول على وظائف، كخادمات على الأقل. لذا، لم تواصل أي منهن دراستها في المدرسة، إلا إذا كن يخططن لخوض امتحان القبول بالمدرسة الثانوية، أملًا منهن في الحصول على وظائف يومًا ما في المتاجر أو البنوك. وبعضهن حقق ذلك بالفعل. في أماكن مثل هانراتي الغربية، كان من الأيسر على الفتيات الترقي في حياتهن على عكس الصبية.
كانت المعلمة تَشغل الفتيات الأكبر سنًّا — غير أولئك اللاتي كنَّ في فصل التأهيل للمدرسة الثانوية — بالتحكم في الأطفال الأصغر سنًّا، بتدليلهم أو صفعهم، وتصحيح أخطاء التهجية لديهم، والتقاط أي شيء قد يكون ذا أهمية في نظر أولئك الفتيات لاستخدامهن الخاص، مثل علب الأقلام الرصاص، وأقلام الألوان الجديدة، والحلي التي يحصلون عليها داخل أكياس كراكر جاك. وما كان يحدث في غرفة إيداع القبعات والمعاطف من سرقة حقائب الطعام، أو تمزيق المعاطف، أو خلع البنطالات لم تعتبره المعلمة من شأنها.
لم تتمتع تلك المعلمة بأي نوع من الحماس أو التخيل أو التعاطف؛ إذ اعتادت عبور الجسر كل يوم من هانراتي حيث كانت تعيش مع زوجها المريض. وقد عادت لمزاولة مهنة التدريس في منتصف العمر؛ ربما لأنها كانت الوظيفة الوحيدة التي تمكنت من الحصول عليها، فوجب عليها المثابرة، وهذا ما فعلته. لم تغطِّ النوافذ بالورق قط، ولم تلصق نجومًا ذهبية في دفاتر الطلاب. لم ترسم على السبورة بالطباشير الملون قط، فلم يكن لديها نجوم ذهبية أو طباشير ملون. ولم تُظهر أي نوع من الحب لما تُدرِّسه، أو لأي أحد. لعلها تمنَّت — هذا إن كانت تمنَّت أي شيء على الإطلاق — أن يخبرها أحد أنه بإمكانها العودة إلى المنزل، وعدم رؤية أولئك الطلاب ثانيةً، وعدم فتح كتاب التهجية أبدًا بعد ذلك.
ومع ذلك، فقد كانت تُدرِّس للطلبة بعض الأشياء، وربما كانت تُدرِّس أيضًا لمَن كانوا سيخضعون لامتحان القبول بالمدرسة الثانوية؛ لأن بعضهم نجح فيه. ولعلها حاولت تدريس كلِّ مَن كان يلتحق بالمدرسة القراءة والكتابة وبعض الحساب البسيط. كان الدرابزين الحديدي للسلالم محطمًا، والمكاتب منزوعة من أماكنها بالأرضية وغير مثبتة، والموقد تنبعث منه الأدخنة، والمواسير مربوطة معًا بالأسلاك. لم توجد بالمدرسة أية كتب بالمكتبة أو خرائط، بالإضافة إلى عدم كفاية الطباشير دومًا. حتى العصا الياردية كانت دومًا متسخة ومتشظية عند أحد طرفيها. الشجارات والجنس والسرقات الصغيرة مثَّلت أهم الأحداث في المدرسة، ومع ذلك، كانت الحقائق والجداول تُشرَح للطلاب. وفي مقابل كل تلك الاضطرابات، والقلاقل، والظروف المستعصية، ظلت هناك لمحة من روتين الفصل الدراسي المعتاد؛ الأمر الذي كان أشبه بعطية تُمنَح للطلاب. فتعلَّم بعضهم التهجية.
اعتادت تلك المعلمة استنشاق النشوق. لم ترَ روز أحدًا من قبل يفعل ذلك، فكانت ترش بعضًا منه على ظهر يدها، ثم ترفعه إلى وجهها، وتصدر صوتًا خافتًا من أنفها، وتميل برأسها إلى الخلف، فيظهر عنقها، ويبدو عليها الازدراء والتحدي للحظة. فيما عدا ذلك، لم يكن بها أي شيء غريب أو غير معتاد. فكانت سيدة ممتلئة الجسم، كئيبة المنظر رثة الملابس.
كانت فلو تقول إنها ربما تسببت في تشوش ذهنها بسبب النشوق؛ فهو أشبه بإدمان المخدرات. أما السجائر، فهي تثير الأعصاب فقط.
ثمة شيء واحد فقط في المدرسة كان ساحرًا وجميلًا؛ رسوم الطيور. لا تعرف روز ما إذا كانت المعلمة قد صعدت وثبتت هذه الرسوم فوق السبورة في موضع أعلى مما يسمح بالوصول إليه وتخريبه؟ وما إذا كانت تلك محاولتها الأولى والأخيرة عندما كان يحدوها الأمل في ذلك المكان؟ أم أن هذه الرسوم يعود تاريخها إلى عهد أقدم من ذلك، عهد أكثر رخاءً في تاريخ المدرسة؟ من أين أتت تلك الرسوم؟ كيف وصلت إلى ذلك المكان، في الوقت الذي لم يصل فيه أي شيء آخر، لتصير نوعًا من الزينة أو الرسم الإيضاحي؟
نقار خشب أحمر الرأس؛ طائر الصافِر، أبو زريق أزرق اللون؛ إوزة كندية. ألوان واضحة وثابتة. خلفيات من الثلج النقي، وغصون الأشجار المُزهِرة، وسماء صيفية مشرقة. ما كانت هذه الرسوم لتبدو غريبة لو وُجِدت في فصل عادي، لكنها في ذلك الفصل، كانت بارزة وواضحة وتعبِّر عن شيء ما، إذ تناقضت مع كل شيء آخر حولها؛ لم تمثل تلك الرسوم الطيور نفسها، أو تلك السماوات والثلج، وإنما عكست عالمًا آخر من البراءة الشديدة، والمعلومات الوافرة، وخلو البال من الهموم على نحو مميز. خلا ذلك العالم من سرقات حقائب الطعام، وتمزيق المعاطف، وخلع البنطلونات، واستخدام العصي المؤلمة، والمضاجعة، ومن فراني.
•••
ضمَّ فصل التأهيل للمدرسة الثانوية ثلاث فتيات كبيرات؛ إحداهن تُدعَى دونا، والأخرى كورا، والثالثة بيرنيس. وقد خلا ذلك الفصل إلا منهن. ثلاث ملكات، لكن مع تدقيق النظر، ستجدهن ملكة وأميرتين. هكذا رأتهن روز. كن يسرن حول فناء المدرسة وأذرعهن متشابكة أو يحيط بعضهن بخصر بعض. تتوسطهن كورا دومًا، وكانت أطولهن. أما دونا وبيرنيس، فكانتا تميلان عليها لدعمها أو تتقدمان أمامها لإفساح الطريق لها.
أحبَّت روز كورا.
كانت كورا تعيش مع جدها وجدتها، وكانت جدتها تعبر الجسر إلى هانراتي للعمل في أعمال التنظيف والكي. أما جدها، فكان يعمل في تنظيف الحمامات. كانت هذه هي وظيفته.
قبل أن تدخر فلو المال لإقامة دورة مياه حقيقية بالمنزل، كانت قد اشترت مرحاضًا كيميائيًّا لوضعه في أحد أركان السقيفة، وكان ذلك أفضل من المرحاض الخارجي، لا سيما في أوقات الشتاء. لكن جدَّ كورا خالف فلو الرأي بشأن ذلك المرحاض، وقال لها: «إن الكثيرين ممن استخدموا تلك المراحيض دخلت المواد الكيميائية أجسامهم، وودوا لو أنهم لم يفعلوا.» كانت لجد كورا لكنة ريفية غريبة.
كانت كورا ابنة غير شرعية. كانت أمها تعمل في مكان ما، أو ربما تكون قد تزوجت. ربما عملت خادمة، وكان بإمكانها إرسال بعض الأشياء المستعملة لابنتها. فكان لدى كورا الكثير من الملابس، وكانت تذهب إلى المدرسة بملابس ساتانية لونها بيج ذات تمويجات من فوق فخذيها؛ أو ملابس مخملية بلون أزرق ملكي وعليها وردة من نفس نوع القماش تتدلى على إحدى كتفيها؛ أو ملابس من الكريب الرقيق ذات لون وردي فاتح ومليئة بالشراشيب. لم تتناسب هذه الملابس مع سنها (لم يكن ذلك رأي روز)، لكنها تناسبت مع جسمها؛ فقد كانت طويلة، قوية البنية، ذات مظهر أنثوي. وفي بعض الأحيان، كانت تصفف شعرها بلفِّه فوق رأسها، وتركه ينسدل فوق إحدى عينيها. اعتادت كورا ودونا وبيرنيس تصفيف شعرهن مثل السيدات، والإفراط في استخدام أحمر الشفاه، وحمرة الخدود. اتسمت ملامح كورا بالحدة. فكانت جبهتها دهنية، وأجفانها بنية متثاقلة. هذا فضلًا عن شعورها بالرضا عن نفسها، الذي سرعان ما سيتحول إلى قسوة ووقار، لكنها كانت رائعة آنذاك، تسير في فناء المدرسة مع وصيفتيها (كانت دونا في الحقيقة هي الأجمل بينهن بما تمتعت به من وجه بيضاوي شاحب وشعر أشقر متجعد بنعومة)، وأذرعهن متشابكة، ويتحدثن على نحو جِدي. لم تضيِّع كورا وقتها في الالتفات للصبية في المدرسة، لم تفعل ذلك أيٌّ من أولئك الفتيات الثلاث؛ فكنَّ ينتظرن الالتقاء برفاق شباب حقيقيين، أو لعلهن التقين بهم بالفعل آنذاك. وكان بعض الصبية ينادون عليهن من باب القبو، مع توجيه بعض العبارات المهينة لهن، فكانت كورا تستدير وتصيح فيهم:
«أكبر من النوم في المهد، وأصغر من النوم في سرير!»
لم تكن لدى روز أية فكرة عما كان يعنيه ذلك، لكنها كانت معجبة للغاية بالطريقة التي أظهرت بها كورا فخذيها، وبصوتها المستهزئ القاسي والمتكاسل في الوقت نفسه، وبمظهرها البراق. وعندما كانت تختلي بنفسها، كانت تقلد ما حدث، المشهد بأكمله، الصبية وهم يصيحون، مع تقمصها شخصية كورا؛ فكانت تستدير، مثلما تفعل كورا، نحو معذبيها المُتخيَّلين، وتتعامل معهم بنفس الاحتقار الاستفزازي.
«أكبر من النوم في المهد، وأصغر من النوم في سرير!»
كانت روز تتجول في أرجاء الفناء الخلفي للمتجر، متخيلةً الساتان المثير وهو يتموج فوق فخذيها، وشعرها ملفوف ومنسدل على إحدى عينيها، وشفتاها حمراوان. أرادت أن تكبر لتصير مثل كورا بالضبط، بل إنها لم ترغب في الانتظار حتى تكبر؛ لقد أرادت أن تكون كورا … الآن.
اعتادت كورا ارتداء الأحذية عالية الكعب في المدرسة، لكنها لم تكن خفيفة في حركتها، فكلما كانت تسير في الفصل، تبدو الغرفة وكأنها تهتز، والنوافذ ترتعد. كان من الممكن أيضًا شم رائحتها؛ رائحة مسحوق الطَلْق ومستحضرات التجميل، رائحة بشرتها الداكنة الدافئة وشعرها.
•••
جلست الفتيات الثلاث أعلى سلم الحريق في أول أيام الطقس الدافئ. كنَّ يطلين أظافرهن. كانت رائحة الطلاء تشبه رائحة الموز، مع نفحة كيميائية غريبة. أرادت روز صعود سلم حريق المدرسة، كما اعتادت، لتجنب التهديد اليومي بالمدخل الرئيسي، لكنها استدارت عندما رأت الفتيات يجلسن أعلى السلم؛ فلم تجرؤ على توقع إفساحهن الطريق لها.
نادت عليها كورا.
«يمكنك الصعود إذا أردتِ. هيا، اصعدي!»
أخذت تثيرها وتشجعها كما لو كانت تفعل مع جرو صغير.
«هل تودين طلاء أظافرك؟»
حينذاك، قالت الفتاة التي تُدعَى بيرنيس، التي اكتشفت روز بعد ذلك أنها صاحبة طلاء الأظافر: «إن فعلتِ، فسيود الجميع طلاء أظافرهن أيضًا.»
فردَّت عليها كورا: «لن نفعل ذلك معهن؛ وإنما هي فقط. ما اسمك؟ روز؟ سوف نطلي أظافر روز فقط. اصعدي هنا يا عزيزتي.»
طلبت كورا من روز مد يدها، وحينها لاحظت روز بانزعاج البقع الملونة التي غطت يدها. كم كانت يداها قذرتين! وكانتا أيضًا باردتين ومرتعشتين. مجرد شيء صغير مثير للاشمئزاز. وما كانت لتندهش لو أبعدت كورا يدها.
«ابسطي أصابعك، وأرخيها. ما هذا؟ يداكِ ترتعشان! لن أعضَّكِ! فلتثبتي مكانك كفتاة صالحة. لا تودين إفساد الطلاء، أليس كذلك؟»
غمست الفرشاة في زجاجة الطلاء. كان لونه أحمر داكنًا، مثل توت العليق. أحبَّت روز رائحته. كانت أصابع كورا كبيرة، وردية اللون، ثابتة، ودافئة.
«أليس ذلك جميلًا؟ ألن تبدو أظافرك جميلة؟»
اتبعت كورا الأسلوب الصعب السائد آنذاك في طلاء الأظافر، ولم يعد مستخدمًا الآن، وهو أن تترك الشكل الهلالي على أطراف الأظافر والمساحة البيضاء بلا طلاء.
«سأطليها باللون الوردي لتتماشى مع اسمك. اسمك جميل يا روز. يعجبني كثيرًا، بل يعجبني أكثر من اسم كورا. فأنا أكره اسم كورا. أصابعك متجمدة بالرغم من دفء الجو اليوم. أليست متجمدة مقارنة بأصابعي؟»
كانت تتغزل في نفسها، وتتدلل، كعادة الفتيات في تلك السن؛ فكن يجربن سحرهن على أي شيء؛ الكلاب أو القطط أو على صورتهن في المرآة. كان تأثير الموقف على روز قويًّا على نحو حال دون استمتاعها بتلك اللحظات. شعرت بالوهن والانبهار، ارتعبت من ذلك المعروف الكبير الذي كانت تسديه لها كورا.
منذ ذلك اليوم، صارت روز مهووسة بكل ما في كورا؛ فقضت وقتها في محاولة السير مثل كورا، والتشبه بها، مكرِّرةً كل كلمة سمعتها منها. حاولت أن تكون هي، بكل ما تحمله الكلمة من معنى. رأت روز سحرًا في كل إيماءة من كورا، في طريقة غرزها القلم الرصاص في شعرها الكثيف الخشن، في تأوهاتها أحيانًا في المدرسة بسبب الملل الشديد، في لعقها لإصبعها، وصقلها لحاجبيها برفق. فلعقت روز إصبعها مثلها، وصقلت حاجبيها، آملةً في أن يصيرا داكني اللون، بدلًا مما كانا عليه من لون باهت وشكل يكاد يكون غير مرئي.
لم يكن تقليد كورا كافيًا، وإنما فعلت روز ما هو أكثر من ذلك؛ فتخيَّلت أنها مريضة، وتم استدعاء كورا بشكل ما لتتولى رعايتها؛ تمنحها عناقًا قبل النوم، وتمسِّد على جسدها، وتهدهدها. اختلقت، كذلك، قصصًا عن تعرضها للمخاطر وإنقاذ كورا لها، وعن حوادث وامتنان بينهما. في تلك القصص كانت تنقذ فيها روز كورا أحيانًا، وكورا تنقذها في أحيان أخرى، لتسود بينهما بعد ذلك حالة من الدفء والمودة والبوح بالأسرار.
هذا اسم جميل.
اصعدي هنا، يا عزيزتي.
بداية الحب، تزايده، تدفُّق المشاعر. حب جنسي، لم تكن متأكدة بعدُ مما يجب التركيز عليه بالضبط. لا بد أنه كان هناك من البداية، مثل العسل الأبيض المتجمد في الدلو الذي ينتظر الوقت المناسب للذوبان والتدفق. افتقر الأمر إلى بعض الحدة، بعض الضرورة الملحة؛ كانت هناك اختلافات عرضية في جنس من وقع عليه اختيارها عند تفكيرها في ذلك الأمر. لكن فيما عدا ذلك، كان ما يعتريها هو نفس الشيء الذي أخذ يباغتها منذ ذلك الحين؛ المد العالي؛ الحماقة المستعصية؛ الاجتياح الجارف.
مع ازدهار كل شيء في الأرجاء، من أزهار الليلك، وأشجار التفاح، والبعرور البري على طول الطريق، كان يَحُلُّ موعد لعبة الجنائز التي كانت تنظمها الفتيات الأكبر سنًّا. والشخصية التي من المفترض أن تلعب دور المتوفى — وهي فتاة، لأن الفتيات فقط هن من كن يلعبن تلك اللعبة — كانت تستلقي أعلى سلم الحريق. أما باقي الفتيات، فكن يصعدن السلم بتؤدة، وهن يغنين إحدى الترنيمات، ويلقين بالورد الذي ملأن به أذرعهن. كن ينحنين متظاهرات بالبكاء (بعضهن بكى بالفعل)، ويُلقين على المتوفاة النظرة الأخيرة، وبذلك تنتهي اللعبة. كان من المفترض أن تنال جميع الفتيات فرصة لعب دور الشخصية المتوفاة، لكن الأمور لم تَسِرْ على هذا النحو؛ فبعد أن كانت الفتيات الأكبر سنًّا يؤدين ذلك الدور، لم يكنَّ ليزعجن أنفسهن بلعب دور ثانوي في جنائز الفتيات الصغيرات. وبعد مغادرتهن، سرعان ما كانت الفتيات الصغيرات يدركن أن اللعبة قد فقدت أهميتها وسحرها، فيرحلن بدورهن، تاركات بعض العنيدات اللاتي لا أهمية لهن ينهين اللعبة. وكانت روز من بينهن؛ إذ تعلقت بأمل صعود كورا سلم الحريق في جنازتها، لكن كورا تجاهلت الأمر.
كان على الفتاة التي تلعب دور المتوفاة اختيار الترنيمة التي ستتغنى بها الفتيات في الجنازة، فاختارت كورا: «كم هي جميلة السماء!» استلقت كورا وحولها أكوام من الزهور، أغلبها من الليلك، وارتدت فستانها الوردي المصنوع من قماش الكريب الرقيق. كان هناك أيضًا بعض الخرزات، ودبوس زينة منقوش عليه اسمها بالترتر الأخضر، كسا وجهها قدر كبير من المسحوق، الذي ارتعش على الشعيرات الناعمة الموجودة على أطراف فمها. خفقت أهدابها. كان تعبير وجهها يوحي بالتركيز، والعبوس، والموت على نحو صارم. تغنَّت روز بالترنيمة بصوت حزين، ووضعت الليلك من يدها، وكانت على وشك القيام بطقس تعبدي ما، لكنها لم تتوصل إلى أي شيء يمكنها فعله. فما كان منها إلا أن أخذت تجمع التفاصيل للتفكير فيها لاحقًا. لون شعر كورا، لمعة الخصلات الداخلية التي شُدت لتوضع خلف أذنيها، والتي بدت ذات لون عسلي أكثر دفئًا من الخصلات الموجودة أعلاها. كانت ذراعاها مكشوفتين، داكنتي اللون، مسطحتين، أشبه بذراعي امرأة ثقيلتين، والشراشيب منسدلة عليهما. ما كانت رائحتها الحقيقية؟ عمَّ كان حاجباها المشذبان، العابسان الدالان على رضاها عن نفسها، يعبران؟ بذلت روز جهدًا كبيرًا لاحقًا وهي وحدها لاستدعاء تلك التفاصيل، وإدراكها، وتذكُّرها إلى الأبد. ما كان نفع ذلك؟ عندما كانت تفكر في كورا، كانت تشعر ببقعة داكنة مشرقة، بمركز ذائب، برائحة الشوكولاتة المحترقة ومذاقها، الأمور التي لم تستطع نيلها أبدًا.
ما الذي يمكن فعله بالحب عندما يصل إلى هذه المرحلة من الضعف وقلة الحيلة والاهتمام الجنوني؟ لا بد أن يصطدم بشيء ما.
سرعان ما ارتكبت روز خطأً بسرقتها بعض الحلوى من متجر فلو لتمنحها لكورا. كان تصرفًا أحمق وسيئًا وطفوليًّا، الأمر الذي أدركته حينذاك. لم يكمن الخطأ في السرقة فحسب، وإن كان تصرفًا أحمق بالفعل وصعبًا؛ فقد احتفظت فلو بالحلوى في مكان علوي خلف منضدة الخزينة على رف مائل في صناديق مفتوحة، بحيث تكون بعيدًا عن متناول الأطفال، لكن في مرمى بصرهم في الوقت نفسه. وتوجَّب على روز انتظار اللحظة المناسبة لتصعد فوق الكرسي، وتملأ إحدى الحقائب بما تمكنت من الإمساك به، مثل قطع العلكة وحلوى الجيلي والعرق سوس من كل الأنواع، والشوكولاتة، وغيرها. لم تحتفظ بأيٍّ من هذه الحلوى لنفسها، وإنما كان عليها أخذ الحقيبة إلى المدرسة. وهذا ما فعلته بإخفائها للحقيبة أسفل تنورتها مع إدخال الجزء العلوي منها في الرباط المطاطي لسروالها الداخلي. وضغطت بقوة بذارعها على خصرها للحفاظ على الحقيبة في مكانها. فسألتها فلو: «ما الخطب؟ هل تعانين من مغص؟» لكنها، لحسن الحظ، كانت منشغلة للغاية، ولم تتحقق من الأمر.
أخفت روز الحقيبة في مكتبها، وانتظرت الفرصة التي لم تسنح كما توقعت.
حتى لو كانت قد ابتاعت الحلوى، وحصلت عليها بشكل قانوني، كان الأمر برمته سيظل خطأً. كان الأمر على ما يرام في البداية، لكن ليس الآن. ففي تلك اللحظات، أرادت روز الكثير من الامتنان والتقدير، والاعتراف بالجميل، لكنها لم تكن في حالة تسمح لها بقبول أي شيء. أخذ قلبها يخفق بقوة، وفمها مليء بمذاق مرٍّ غريب نابع من شوقها ويأسها، حتى وإن مرت كورا بجوار مكتبها بخطواتها المتثاقلة المميزة، وعبق عطورها الرائع الذي فاح من حرارة جسدها، فما من شيء يمكن أن يعبر عما كانت روز تشعر به، فكان من المحال أن تنال ما أرادت، وكانت تعلم أن ما تفعله مثير للسخرية ومحكوم عليه بالفشل.
لم تقوَ على تقديم الحلوى لكورا، فلم تسنح اللحظة المناسبة قط. لذا، وبعد بضعة أيام، قررت ترك الحقيبة في مكتب كورا. حتى ذلك كان صعبًا. فكان عليها التظاهر بأنها نسيت شيئًا ما بعد الساعة الرابعة، والركض عائدةً إلى المدرسة، مع علمها بأنها ستضطر للخروج منها في وقت لاحق، وحدها، والمرور بالصبية الأكبر سنًّا عند باب القبو.
كانت المعلمة لا تزال في المدرسة، ترتدي قبعتها. كانت ترتدي تلك القبعة الخضراء القديمة التي يلتصق بها بعض الريش كل يوم أثناء عبورها الجسر. كانت دونا، صديقة كورا، تنظف السبورة، حاولت روز إدخال الحقيبة في مكتب كورا، فسقط منها شيء ما. لم تُلقِ المعلمة بالًا لما حدث، لكن دونا استدارت وصاحت في وجه روز: «أنتِ! ماذا تفعلين في مكتب كورا؟»
فأسقطت روز الحقيبة على المقعد، وفرت هاربة.
الأمر الذي لم تتوقعه على الإطلاق هو أن تذهب كورا إلى متجر فلو لتعيد الحلوى إليها، لكن هذا ما فعلته كورا بالفعل. لم تفعل كورا ذلك لتسبب مشاكل لروز، وإنما لتحقق المتعة لنفسها. فكانت تستمتع بالشعور بالأهمية والاحترام، إلى جانب لذة تبادل شيء ما مع شخص كبير.
قالت كورا، أو بالأحرى هذا ما قالت فلو إنها قالته: «لا أعلم لماذا أرادت إعطاءها لي.» لم تحسن فلو التقليد تلك المرة؛ إذ رأت روز أن صوتها لم يبدُ كصوت كورا على الإطلاق. فجعلتها فلو تبدو لينة الحديث وضعيفة.
«رأيت أنه من الأفضل المجيء إلى هنا وإخبارك بما حدث!»
لم تكن الحلوى تصلح للأكل على أية حال؛ فقد هُرِست كلها، وذابت بعضها في بعض، واضطرت فلو للتخلص منها.
أصاب فلو الذهول. هكذا وصفت هي حالها. ولم يكن السبب هو سرقة روز للحلوى؛ فمع أنها كانت ضد السرقة بطبيعتها، لكنها أدركت أن السرقة في هذا الحادث لم تكن هي الجرم الأخطر، بل إن المشكلة أهم وأكبر من ذلك.
«ما الذي كنتِ ستفعلينه بها؟ تعطينها لها؟ لماذا؟ هل تحبينها أو شيء من هذا القبيل؟»
كانت تلك إهانة ومزحة في الوقت نفسه. وأجابت روز بالنفي، لأنها ربطت الحب بنهايات الأفلام السينمائية، والقبلات، والزواج. شعرت في تلك اللحظات بالصدمة وأن مشاعرها قد تعرَّت، وبدأت بالفعل — وإن لم تدرِ — في الانزواء والتقوقع حول نفسها. فكانت فلو أشبه بالعاصفة الهوجاء.
قالت فلو: «بل تفعلين! كم تثيرين اشمئزازي!»
لم تكن فلو تتحدث عن خطر الشذوذ الجنسي في مستقبل روز؛ فلو كانت قد علمت ذلك، أو فكرت فيه، لبدا الأمر في نظرها أشبه بالمزحة، أو الأمر الغريب الذي يستعصي على الفهم، أكثر من كونه سلوكًا غير لائق. لقد كان الحب هو ما يثير اشمئزازها. تلك العبودية، وإهانة الذات، وخداعها. كان هذا ما صعقها. فقد رأت الخطر، والعلة؛ الآمال المتسرعة، والتأهب، والاحتياج.
سألتها فلو: «ما الرائع في تلك الفتاة؟» وأجابت بنفسها عن السؤال في الحال: «لا شيء. فهي أبعد ما تكون عن الجمال. وسوف تصير كومة متحركة من الدهون فيما بعد؛ إنني أرى العلامات الدالة على ذلك. سيكون لها شارب أيضًا؛ بل إن لديها واحدًا بالفعل. من أين تأتي بملابسها؟ لعلها تظن أنها تناسبها.»
لم تُجِب روز عن أيٍّ من هذه الأسئلة. وأضافت فلو إن كورا ليس لها أب، ويمكن لروز التفكير في وظيفة أمها. ومن هو جدها؟ منظف الحمامات!
•••
ظلت فلو تذكر موضوع كورا بين الحين والآخر لسنوات طوالًا.
فكلما رأت كورا تمر بالمتجر بعد التحاقها بالمدرسة الثانوية، كانت تقول: «ها هي معشوقتك!»
وكانت روز تتظاهر بالنسيان.
لكن فلو كانت تواصل مضايقتها: «أنتِ تعرفينها! لقد حاولتِ منحها بعض الحلوى! بل إنك سرقتي الحلوى من أجلها! لقد أضحكني ذلك كثيرًا.»
لم يكن ادِّعاء روز بالنسيان كذبًا محضًا؛ فقد كانت تتذكر الحقائق، لكنها نسيت المشاعر. تحولت كورا إلى فتاة ضخمة البنيان داكنة البشرة متجهمة الوجه مستديرة الكتفين تحمل دومًا كتب المدرسة الثانوية. لم تفدها الكتب كثيرًا، فقد رسبت في المدرسة الثانوية. وكانت ترتدي بلوزات عادية وتنورة لونها أزرق داكن بدت فيها بدينة. لعلها لم تتحمل فقدان فساتينها الأنيقة، فرحلت كورا عن المدينة، وحصلت على وظيفة أثناء الحرب. التحقت بالقوات الجوية، وكانت تظهر في الإجازات بالزي العسكري المهيب. وتزوجت من طيَّار.
لم تنزعج روز كثيرًا بهذه الخسارة، وهذا التحول؛ فالحياة برمتها سلسلة من التطورات المفاجئة، هذا ما تعلمته، لكنها كانت تفكر فقط فيما كانت عليه فلو من رجعية وتخلف؛ إذ أخذت تكرر تذكُّرها لتلك القصة وتجعل كورا تبدو أسوأ وأسوأ، فتصفها بصاحبة البشرة الداكنة، وكثيرة الشعر، والمتبخترة في مشيتها، والبدينة. وبعد ذلك الحين بفترة طويلة، رأت روز فلو وهي تحاول أن تحذرها وتغيرها، الأمر الذي لم يكن مجديًا.
•••
تغيَّرت المدرسة بنشوب الحرب؛ فتضاءل حجمها، وفقدت كل ما بها من طاقة الشر، وروح الفوضى، ونمط الحياة السائد فيها. التحق الصبية الأقوياء بالحرب. تغيرت هانراتي الغربية أيضًا؛ فغادر الناس للالتحاق بوظائف في الحرب. حتى من تخلَّفوا منهم في المدينة، كانوا يعملون، ويحصلون على أجور أعلى مما حلموا به من قبل. ساد الاحترام، فيما عدا الحالات التي اتسمت بأقصى صور العناد. غُطيت أسطح البيوت بالألواح الخشبية بالكامل، بدلًا من الرقع التي كانت تكسوها. وطُليت المنازل، أو غُطيت بألواح تبدو على شكل الطوب. اشترى الناس ثلاجات وتباهوا بها. عندما كانت روز تفكر في هانراتي الغربية أثناء الحرب وأثناء السنوات السابقة لها، رأت الفترتين مختلفتين تمامًا، كما لو كانت قد استُخدِمت إضاءة مختلفة في المرحلتين، أو كما لو كان كل شيء مسجَّلًا على شريط فيلم طُبِع على نحو مختلف في المرتين. فبدا كل شيء نظيفًا ومرتبًا ومحدودًا وطبيعيًّا في مرة، وكئيبًا وغير واضح، ومشوشًا، ومزعجًا في المرة الثانية.
المدرسة ذاتها تحسَّنت أحوالها؛ فتم تبديل النوافذ، وثُبِّتت المكاتب بالأرضيات، واختفت الكلمات البذيئة تحت الطلاء الأحمر الباهت، وهُدِمت دورتا مياه الصبية والفتيات، ورُدِمت الحفر فيهما. رأت الحكومة وإدارة المدرسة أنه من الأفضل وضع مراحيض بصناديق طرد في القبو الذي تم تنظيفه.
تبنَّى الجميع ذلك التوجه. تُوفي السيد برنز في الصيف، ومَن اشتروا منزله أقاموا فيه دورة مياه، وأقاموا كذلك سورًا عاليًا من الأسلاك لمنع أي شخص في فناء المدرسة من الوصول إلى حديقتهم واقتلاع أزهار الليلك الخاصة بهم. أقامت فلو دورة مياه أيضًا آنذاك، وقالت إنهم بإمكانهم هم أيضًا التمتع بتلك الرفاهية التي منحتها الحرب للناس.
لزم على جدِّ كورا التقاعد، ولم يخلُفه في تلك الوظيفة أحد بعد ذلك قط.