نصف ثمرة جريب فروت
خاضت روز امتحان القبول بالمدرسة الثانوية، وعبرت الجسر لتلتحق بالمدرسة في هانراتي.
ضمَّ الحائط بالمدرسة أربع نوافذ كبيرة ونظيفة، فضلًا عن أضواء الفلورسنت الجديدة. تناولت الحصة موضوع «الصحة والإرشاد»؛ وكانت فكرة جديدة آنذاك. اختلط الصبية بالفتيات في الفصل حتى انتهاء فترة الكريسماس لينتقلوا بعد ذلك لدراسة «الحياة الأسرية». كانت المعلمة صغيرة السن ويملؤها التفاؤل. ارتدت بذلة حمراء أنيقة تتسع فوق فخذيها. أخذت تسير جيئة وذهابًا بين الصفوف، مستمعةً إلى إجابات الطلاب عن السؤال الذي طرحته بشأن ما تناولوه في وجبة الإفطار؛ وذلك لكي تتحقق من اتباعهم قواعد «دليل الأغذية الكندي».
سرعان ما اتضحت الفوارق بين الريف والحضر في الإجابات عن هذا السؤال.
«بطاطس مقلية.»
«خبز وشراب ذرة.»
«شاي وعصيدة.»
«شاي وخبز.»
«شاي وبيض مقلي ولحم مملح.»
«فطيرة زبيب.»
علت بعض الضحكات، وأظهرت المعلمة تعبيرات بوجهها توحي بالتوبيخ الذي لا جدوى منه. انتقلت، بعد ذلك، إلى الجانب الذي يجلس فيه الطلاب القاطنون بالمدينة؛ إذ حافَظَ الطلاب بإرادتهم الحرة على نوع من الفصل العنصري في الفصل. وفي هذا الجانب، ادَّعَى الطلاب تناولهم الخبز المحمص ومربى الفواكه، أو اللحم المقدد والبيض، أو رقائق الذرة؛ أو كعك الوافل والشراب المُحلَّى. والقليل منهم قال إنه تناول عصير البرتقال.
أقحمت روز نفسها في نهاية أحد الصفوف التي شغلها الطلاب الذين يقطنون المدينة. لم يكن بالفصل أي طلاب آخَرين سواها من هانراتي الغربية، ورغبت بشدة في التخلي عن أصولها والانضمام إلى صفوف سكان المدينة، والانتماء إلى أولئك الذين يأكلون الوافل ويشربون القهوة، وذوي الاطلاع الواسع ممَّن يملكون ركنًا مخصَّصًا لتناول وجبة الإفطار.
أجابت روز عن سؤال المعلمة بجرأة: «نصف ثمرة جريب فروت.» لم يفكِّر أحد غيرها في هذه الإجابة.
في الواقع، كانت فلو سترى أن تناول الجريب فروت على الإفطار أمر لا يقل سوءًا عن شرب الشامبانيا، بل إنه لا يباع في المتجر من الأساس. لم تهتم أسرة روز كثيرًا في الحقيقة بالفواكه الطازجة، واقتصرت مشترياتهم منها على الموز المرقط، والبرتقال الصغير الرديء الجودة. اعتقدت فلو — شأنها شأن الكثير من القرويين آنذاك — أن أي شيء غير مطهوٍّ جيدًا يضرُّ بالمعدة. وقد اعتادت أسرة روز تناول الشاي والعصيدة في وجبة الإفطار. وفي فصل الصيف، كانوا يتناولون الأرز المنفوخ. وكان أول صباحٍ غُرِفَ فيه الأرز المنفوخ — الأشبه بحبوب اللقاح في خفة وزنه — في صحن الإفطار بمثابة العيد، وسعدت الأسرة به كما تسعد بأول يوم سير على الطريق الوعرة بدون أحذية مطاطية واقية من المطر، أو أول يوم يمكن فيه ترك باب المنزل مفتوحًا في فترة الربيع القصيرة والجميلة التي تفصل بين الشتاء والصيف.
شعرت روز بالرضا عن نفسها لتفكيرها في الجريب فروت، وللكيفية التي أجابت بها عن السؤال بصوت تملؤه الجرأة وبعيد عن التكلُّف في الوقت نفسه. اعتادت روز اختناقَ صوتها دومًا في المدرسة، وخفقانَ قلبها بقوة كما لو أنه يكاد يخرج من حلقها، والتصاقَ ملابسها بذراعيها بسبب التعرق، بالرغم من استعمالها مزيل العرق. كانت أعصابها في حالة كارثية.
بعد بضعة أيام وفي أثناء عبورها الجسر عائدة إلى المنزل، سمعت صوتًا ينادي عليها. لم يذكر اسمها، لكنها علمت أنها المقصودة؛ فأبطأت في خطاها على الألواح الخشبية، وأخذت تنصت. بدا لها أن الأصوات تصدر من أسفل الجسر، لكنها عندما نظرت عبر الشقوق لم ترَ شيئًا سوى الماء المتدفق سريعًا. لا بد أن أحدًا قد اختبأ بالأسفل بجوار الركام. كانت أصواتًا كئيبة، ومموهة على نحوٍ لم يسمح لها بالجزم إذا كانت صادرة عن صِبْية أم فتيات.
«نصف ثمرة جريب فروت!»
ترددت تلك العبارة على سمع روز بين الحين والآخَر، واستمر ذلك لسنواتٍ عِدَّة؛ فكانت تسمعها من أحد الأزقة أو من نافذة مظلمة، ولم تكن تفصح عما تسمعه، لكنها سرعان ما كانت تلمس وجهها، وتمسح العرق من فوق شفتها العلوية. تتسبب ادعاءاتنا في تعرُّق أجسادنا.
كان من الممكن أن يكون الأمر أسوأ من ذلك؛ فالخزي من أيسر الأمور التي يمكن أن تصيب المرء. والحياة في المدرسة الثانوية كانت محفوفة بالمخاطر، بسبب انتشار كل شيء في الحال، وعدم نسيان أي شيء فيها. كان من المحتمل أن تكون روز هي الفتاة التي نسيت فوطتها الصحية. فمَن فعلَتْ ذلك كانت على الأرجح فتاةً قرويةً تحمل الفوطة الصحية في جيبها أو في نهاية دفتر ملاحظاتها لتستخدمها في وقت لاحق من اليوم، وهو تصرُّف متوقَّع من أية فتاة تعيش بعيدًا عن المدرسة. روز نفسها فعلت ذلك. كانت هناك آلة لصرف الفوط الصحية في دورة مياه الفتيات، تبتلع العملات المعدنية ولا تُخرِج أي شيء في المقابل. اتفقت اثنتان من الفتيات القرويات اتفاقًا شهيرًا على أن يبحثا عن بوَّاب المدرسة في وقت الغداء، ويطلُبَا منه مَلْءَ آلة الصرف. لكن دون جدوى.
سألهما البوَّاب: «مَن منكما بحاجة إليها؟» ففرت الفتاتان، وقالتا إن حجرة ذلك البواب الموجودة تحت السلم احتوت على أريكة قديمة متسخة وهيكل عظمي لِقطَّة، وأقسمتا على ذلك.
لا بد أن تلك الفوطة الصحية قد سقطت على الأرض، ربما في غرفة تعليق القبعات والمعاطف، ثم التُقِطت وهُرِّبت بصورةٍ ما إلى دولاب عرض الجوائز التذكارية الموجود في القاعة الرئيسية، وصارت بذلك على مرأى من الجميع، وقد أفسد الطي والحمل مظهرها الجديد، وتسبَّب في حكِّ سطحها؛ ما رجَّح فكرة كونها فوطةً مستعملة. يا لها من فضيحة! وفي اجتماع عُقِد صباحًا، أشار الناظر إلى ذلك الشيء المثير للاشمئزاز، وتعهَّدَ باكتشاف المتسبِّب في وضعه على هذا النحو، وفضحه، وضربه بالسياط، وفصله من المدرسة. أنكرت كل فتاة في المدرسة معرفتها بهذا الشأن، وتكاثرت الآراء حوله. خشيت روز من توجيه أصابع الاتهام إليها باعتبارها المشتَبَه به الرئيسي في تلك الجريمة؛ ولذلك شعرت بالارتياح عندما أُلقِي باللوم على فتاة قروية أخرى بدينة متجهمة الوجه تُدعَى مورييل ميسون، والتي اعتادت ارتداء فساتين منزلية غير مهندمة من الحرير الصناعي في المدرسة، واتصفت برائحتها الكريهة.
أخذ الصِّبْية يضايقونها بعد ذلك ويسألونها: «هل ترتدين الفوطة اليوم، يا مورييل؟»
سمعت روز إحدى فتيات الصف النهائي تقول لفتاة أخرى على السلم: «لو كُنْتُ مكان مورييل ميسون، لرغبت في الانتحار … بل لانتحرت فعلًا!» لم تكن تتحدث شفقةً على مورييل، وإنما تعبيرًا عن عدم قدرتها على تحمُّل ذلك الوضع.
اعتادت روز عند عودتها كل يوم إخبار فلو عمَّا كان يحدث في المدرسة. استمتعت فلو بقصة الفوطة الصحية، وأخذت تسأل روز عن أية تطورات تطرأ عليها، لكنها لم تسمع قطُّ عن قصة نصف ثمرة الجريب فروت؛ فما كانت روز لتخبرها بأي شيء لا تلعب فيه دورًا عالي الشأن، أو دور المشاهد. المصائب كانت للآخَرين … هكذا اتفقت فلو وروز. كان التغيُّر الذي يطرأ على روز عند ابتعادها عن المشهد المدرسي وعبورها الجسر وتحوُّلها إلى مؤرِّخة إخبارية مذهلًا؛ فكانت تتخلص من توترها، ويعلو صوتها مشوبًا بالشك، وتتحرك بحرية في تنورتها ذات النقوش المربعة الملونة بالأحمر والأصفر، التي تتمايل فوق فخذيها على نحوٍ يشير بوضوح إلى التبختر والاختيال.
بدَّلَتْ فلو وروز الأدوار بينهما؛ فصارت روز الآن هي مَن يجلب القصص إلى المنزل، وفلو هي مَن يتعرَّف على أسماء الشخصيات وينتظر الاستماع إلى ما ترويه روز.
هورس نيكلسون، ديل فيربريدج، رانت تشسترتون، فلورنس دودي، شيرلي بيكرينج، روبي كاروزرس. انتظرت فلو كل يوم أخبارًا عن هؤلاء الأشخاص الذين أسمتهم «المهرجين».
«حسنًا، ماذا فعل أولئك المهرجون اليوم؟»
اعتادت روز وفلو الجلوس في المطبخ، مع فتح باب المتجر على مصراعيه تحسُّبًا لقدوم أي زبون، والباب المؤدي إلى السُّلَّم أيضًا تحسُّبًا لنداء والد روز على أيٍّ منهما. كان والدها طريح فراشه. وكانت فلو تعد القهوة لهما، أو تطلب من روز إحضار علبتين من الكولا من المُبرِّد.
ومن أمثلة القصص التي كانت ترويها روز لفلو عن المدرسة:
كانت روبي كاروزرس فتاةً ساقطةً ذات شعر أحمر تعاني من حوَل سيئ بعينها (أحد أهم الاختلافات بين الماضي والحاضر — على الأقل في الريف وفي أماكن مثل هانراتي الغربية — هو ترك حالات الحول والحول الوحشي، وتراكب الأسنان أو بروزها، دون علاج). عملت روبي كاروزرس لدى آل براينت، الذين عملوا في الأدوات الحديدية والخردوات. تولَّتْ روبي أداء الأعمال المنزلية مقابل الحصول على الطعام والبقاء في المنزل عند رحيل أصحابه — وهو ما كان يحدث غالبًا — لحضور سباقات الخيل أو مباريات الهوكي أو لسفرهم إلى فلوريدا. وفي إحدى المرات التي كانت فيها روبي في المنزل وحدها، ذهب ثلاثة فِتية لرؤيتها؛ وهم ديل فيربريدج، وهورس نيكلسون، ورانت تشسترتون.
عقَّبتْ فلو قائلةً: «لنَيْلِ ما يمكنهم نيله.» نظرت فلو إلى السقف ثم طلبت من روز خفض صوتها؛ فلن يسمح والدها برواية هذا النوع من القصص.
كان ديل فيربريدج فتى وسيمًا ومغرورًا، ويفتقر إلى الذكاء. أخبر صديقَيْه أنه سيدخل إلى المنزل ويُقنِع روبي بممارسة الرذيلة معه، وإن تمكَّنَ من استمالتها لفعل ذلك معهما أيضًا، فسيفعل. ما كان يجهله ديل هو أن هورس نيكلسون كان قد اتفق مع روبي على الالتقاء أسفل الشرفة.
قالت فلو: «توجد عناكب في ذلك المكان على الأرجح، لكنني لا أظن أنهما يأبهان لذلك.»
وبينما كان ديل يتجول في أرجاء المنزل المظلم باحثًا عن روبي، كانت هي أسفل الشرفة مع هورس، ورانت — الذي كان مشتركًا في الخطة من البداية — يجلس على درجات سُلَّم الشرفة حارسًا المكان، ومنصتًا بالتأكيد باهتمام لكل ما كان يحدث بالأسفل.
ما لبث هورس أن زحف من أسفل الشرفة قائلًا إنه سيدخل إلى المنزل للبحث عن ديل، ليس لإعلامه بما يحدث، وإنما ليرى كيف كانت الخدعة تسير. فكان ذلك هو الجزء الأهم فيما يحدث، من وجهة نظر هورس. وعندما دخل إلى المنزل، وجد ديل يأكل حلوى الخطمي في حجرة المؤن، ويقول إن روبي كاروزرس لا تصلح لإقامة علاقة معها، وإنه بوسعه فعل ما هو أفضل من ذلك في أي يوم آخَر؛ لذلك سوف يعود إلى المنزل.
وفي تلك الأثناء، زحف رانت أسفل الشرفة ليستمتع بوقته مع روبي.
فقالت فلو: «يا إلهي!»
خرج بعد ذلك هورس من المنزل، وسمعه كلٌّ من رانت وروبي وهو يسير في الشرفة أعلاهما. قالت روبي: «مَن هذا؟» فأجابها رانت: «لا أحد، إنه هورس نيكلسون.» فردَّتْ روبي: «مَن أنت إذن؟»
يا إلهي!
لم تهتم روز برواية ما حدث بعد ذلك، وهو أن روبي انزعجت لما حدث، وجلست على درجات سُلَّم الشرفة والوحل يغطي ملابسها بالكامل وشعرها. رفضت تدخين سيجارة أو تناول بعض الكعك (كان قد هُرِس على الأرجح آنذاك) مما سرقه رانت من متجر البقالة الذي عمل فيه بعد الدوام المدرسي. أخذ الصِّبْيَة يُلحون عليها بالسؤال عما يضايقها مستهزئين بها، فأجابتهم أخيرًا بقولها: «أظن أنه من حقي معرفة مَن أقيم معه العلاقة.»
علَّقتْ فلو على ذلك تعليقًا فلسفيًّا قائلة: «ستنال ما تستحقه.» واعتقد آخَرون ذلك أيضًا. فجرت العادة على أنه في حال التقاط أي شيء من متعلقات روبي عن طريق الخطأ — لا سيما ملابس الألعاب الرياضية أو حذاء الركض الخاص بها — فيجب غسل اليدين خشيةَ الإصابة بمرض تناسلي.
أصيب والد روز، الذي كان يرقد بالدور العلوي، بنوبة من السعال، واتسمت تلك النوبات بشدتها، لكن الأسرة اعتادت عليها. نهضت فلو، وذهبت إلى أسفل السلم، وأخذت تستمع إليه حتى انتهت النوبة.
قالت فلو: «هذا الدواء لا فائدة منه على الإطلاق، وذلك الطبيب لا يُحسِن حتى وضع الضمادة على الجرح.» ظلت فلو تلقي باللوم دومًا في مرض والد روز على الأدوية والأطباء.
استطردت فلو قائلةً: «لو حدث ذلك بينك وبين أي صبي، فستكون تلك نهايتك. وأنا أعني ما أقول.»
تدفقت الدماء في وجه روز من شدة الحنق، وقالت إنها تتمنى الموت على أن تفعل ذلك.
فردت فلو: «هذا ما أتمناه أيضًا.»
•••
ومن أمثلة القصص التي كانت ترويها فلو لروز:
عندما توفيت والدة فلو، كانت في الثانية عشرة من عمرها، وتخلَّى عنها والدها لأسرة ميسورة الحال تعمل في الزراعة لتعمل لديهم مقابل الحصول على الطعام وإرسالها إلى المدرسة، لكنهم لم يرسلوها إلى المدرسة في أغلب الأوقات؛ إذ كان هناك الكثير من العمل الذي ينبغي الانتهاء منه. كانوا قساةَ القلب.
«إذا كنتِ تقطفين التفاح، وغفلتي عن إحدى الثمرات على الشجرة، كان عليكِ العودة وقطف ثمار جميع الأشجار في البستان بأكمله. وانطبق نفس الشيء على التقاط الصخور الموجودة في الحقل؛ إن غفلتي عن إحداها، فعليكِ تنظيف الحقل بالكامل مجدَّدًا.»
كانت الزوجة أختًا لأحد القساوسة. حرصت دومًا على العناية ببشرتها بدَهْنها بكريم «هيندز هاني آند ألموند». اتسمت تلك المرأة بتعاليها على الجميع، وتهكمها، واعتقادها بأنها تزوَّجَتْ من شخص دون مستواها.
قالت فلو: «لكنها كانت جميلة، ومنحتني شيئًا واحدًا؛ زوجًا طويلًا من القفازات المصنوعة من الساتان. كان لونهما بنيًّا فاتحًا مائلًا للأصفر. كانا جميلين، ولم أُرِدْ فقدانهما أبدًا، لكنني فقدتهما.»
كان على فلو إيصال العشاء للرجال في الحقل البعيد عن المنزل. وعندما نظر الزوج للعشاء ذات مرة، قال لها: «لماذا لا توجد فطيرةٌ في هذا العشاء؟»
فردَّتْ عليه فلو بنفس كلمات سيدتها ونبرتها عند تحدُّثها أثناء رصها علبة العشاء: «إذا أردْتَ فطيرًا، فيمكنكَ إعداده بنفسك.» لم يكن تقليد فلو لسيدتها على نحوٍ بارعٍ بالأمر المُستغرَب؛ فلطالما فعلت ذلك حتى أمام المرآة، لكن ما كان مُستغرَبًا هو الإفصاح عن ذلك في تلك اللحظة.
أصيب الزوج بالذهول، لكنه أدرك تقليد فلو لسيدتها، فسار معها إلى المنزل، وسأل زوجته عمَّا إذا كانت قد قالت ما نقلته فلو بالفعل. كان رجلًا ضخمَ البنيان، وسيئ المزاج للغاية، فأجابت أخت القسيس بأن ذلك ليس صحيحًا، وأن هذه الفتاة ليست سوى كاذبة ومثيرة للمشكلات. واجهته حتى تراجع، وعندما اختلت بفلو ضربتها بعنف لتدفع بها عبر الغرفة نحو إحدى الخزانات؛ فأصيبت بجرح في فروة رأسها شُفِي بمرور الوقت دون غُرَز (فلم تستدعِ أخت القسيس الطبيبَ لعدم رغبتها في أن يعلم أحد بالأمر)، ولا تزال هناك ندبة بفروة رأس فلو إثر ذلك الحادث.
ولم تَعُدْ فلو للمدرسة بعد ذلك قط.
وقبل بلوغها الرابعة عشرة بفترة وجيزة، فرَّتْ من المنزل. كذبت بشأن سنِّها، وحصلت على وظيفة في مصنع القفازات في هانراتي، لكن أخت القسيس تمكَّنَتْ من معرفة مكانها والوصول إليها، وأخذت تزورها بين الحين والآخَر، مردِّدَةً على مسامعها بعض عبارات من قبيل: «نحن نسامحك يا فلو. لقد هربتِ وتركتِنَا، لكننا لا نزال نعتبركِ ابنتنا وصديقتنا. ومرحبًا بقدومك في أي وقت لقضاء اليوم معنا. أَلَا تحبين قضاء يوم في الريف؟ إن مصنع القفازات ليس مكانًا صحيًّا على الإطلاق لشابة مثلك؛ فأنتِ بحاجة للهواء. لماذا لا تأتين لزيارتنا؟ لماذا لا تأتين اليوم؟»
وفي كل مرة كانت فلو تقبل فيها هذه الدعوة تكتشف أن عملًا ما ينبغي إتمامه، مثل حفظ الفاكهة أو صنع الصلصة الحارة، أو تغيير ورق الحائط، أو تنظيف المنزل في فصل الربيع، أو بدء أعمال دَرس الحنطة. واقتصرت مناظر الريف التي كانت تراها على تلك التي كانت تلمحها أثناء تخلُّصها من ماء غسل الصحون من فوق السور. لم تستطع قط فَهْم السبب وراء ذهابها أو بقائها هناك. كان طريق العودة للبلدة طويلًا، فقد كانت تعود سيرًا على قدميها، وكان أولئك القوم لا حول لهم ولا قوة وحدهم. فكانت أخت القسيس تحتفظ ببرطمانات حفظ الأطعمة متسخةً، وعند إحضارها من القبو بعد ذلك، يكون هناك بعض العفن بداخلها، وكتلٌ من الفاكهة النتنة بقعرها. هل يسع المرء سوى الإشفاق على أناس كهؤلاء؟
حين دخلت تلك المرأة المستشفى عند احتضارها، تصادَف وجود فلو في المستشفى أيضًا لإجراء عملية المرارة، الأمر الذي تمكَّنَتْ روز من تذكُّره. علمت أخت القسيس بوجود فلو في المستشفى، وطلبت رؤيتها، فوضعت فلو نفسها على كرسي متحرك، ودفعوها عبر الرواق. وما إن وقعت عيناها على السيدة في سريرها — امرأة طويلة ذات بشرة ناعمة، أصاب جسدها الهزال، وغطت بشرتها البقع، مُخدَّرَة ومصابَة بالسرطان — بدأ أنفها ينزف نزيفًا شديدًا، وكان ذلك النزيف الأول والأخير الذي أُصِيبت به في حياتها. أخذت الدماء الحمراء تتدفق من أنفها بغزارة؛ هكذا وصفت فلو ما حدث.
ركضت الممرضات من كافة الاتجاهات بالرواق لمساعدتها، وبدا كما لو أنه ما من شيء سيوقفه. عندما رفعت السيدة المريضة رأسها، اندفعت الدماء إلى سريرها، وعندما خفضتها، تدفقت الدماء على الأرض؛ لذا انبغى على الممرضات استخدام أكياس الثلج معها في النهاية، ولم تسنح لها الفرصة لتوديع المرأة المحتضرة.
«لم أتمكن من توديعها قط.»
«هل كنتِ ترغبين في ذلك؟»
ردت فلو: «نعم، كنت أرغب في ذلك حقًّا.»
•••
اعتادت روز إحضار كومة من الكتب كل يوم إلى المنزل، وتنوعت تلك الكتب بين اللغة اللاتينية، والجبر، وتاريخ العصور القديمة والوسطى، واللغة الفرنسية، والجغرافيا. كان هناك أيضًا «تاجر البندقية»، و«قصة مدينتين»، و«قصائد قصيرة»، و«ماكبث». عبَّرَتْ فلو عن عدائها لتلك الكتب، كحالها مع جميع الكتب، وبدا أن تلك العدائية كانت تزيد بزيادة وزن الكتاب وحجمه، وقتامة التغليف وكآبته، وطول الكلمات في عنوانه ومدى صعوبتها، فأثار كتاب «قصائد قصيرة» غضبَها؛ إذ عندما فتحتْهُ وجدَتْ قصيدة تمتد لخمس صفحات.
أخطأت فلو في نطق عناوين الكتب، واعتقدت روز أنها تعمَّدَتْ فعل ذلك. ومن أمثلة ذلك نطقها لعنوان «الإلياذة والأوديسة»، والذي يوحي للمستمع بأن بطل الملحمة كان سكِّيرًا أو شيئًا من هذا القبيل.
كان على والد روز النزول على السلم للذهاب إلى دورة المياه؛ فاتَّكَأ على الدرابزين، وأخذ يتحرك ببطء، لكن دون توقف. وكان يرتدي رداءَ حمام من الصوف بنيَّ اللون ذا عقدة مزيَّنَة بالشراشيب. تجنَّبَتْ روز النظر في وجهه. لم يرجع السبب في ذلك إلى ما طرأ على مظهره من تغيُّرات تسبَّب فيها المرضُ، وإنما لما كانت تخشى رؤيته في وجهه من رأيه السيئ فيها. ولا ريب أن والدها كان هو السبب الذي جلَبَتْ من أجله روز الكتبَ إلى المنزل، فأرادت أن تتباهى أمامه. ألقى والدها نظرةً على تلك الكتب بالفعل؛ فما كان بإمكانه المرور بأي كتاب في العالم دون التقاطه والاطلاع على عنوانه، لكنه اكتفى بقوله: «احذري من الذكاء الذي قد يضر بك.»
اعتقدَتْ روز أنه كان يقول ذلك إرضاءً لفلو، تحسُّبًا لاستماعها إليهما أثناء حديثهما. كانت فلو في المتجر آنذاك، لكن روز تصوَّرَتْ أن والدها — بغض النظر عن المكان الذي توجد به فلو — سوف يتحدث كما لو كانت فلو تسمعه؛ إذ كان يحرص حرصًا شديدًا على إرضائها، والتكهن باعتراضاتها. وبدا أنه قد اتخذ قرارًا في هذا الشأن؛ أَلَا وهو أن الأمان يكمن مع فلو.
لم تردَّ روز عليه قط، وعندما كان يتحدث، كانت تحني رأسها تلقائيًّا، وتزم شفتيها في تعبير متحفظ، لكنه غير مُحقِّر في الوقت ذاته؛ إذ التزمت الحذر. لكن لم يخفَ عن أبيها كل ما شعرت به من حاجتها للتباهي، وآمالها العريضة لنفسها، وطموحاتها الباهرة؛ فكان يعلمها جميعًا، وكانت روز تشعر بالخجل لمجرد تواجدها معه في الغرفة ذاتها؛ إذ كانت تشعر بأنها قد خيَّبَتْ ظنَّه على نحوٍ ما منذ يوم ولادتها، وسوف تظل تخيب ظنه بصورة أكبر في المستقبل، لكنها لم تكن نادمة؛ فهي على علم بمدى عنادها، ولم تكن تنوي التغير.
جسَّدت فلو فكرة والد روز عن المرأة كما يجب أن تكون. وقد علمت روز ذلك، وهو أيضًا ردَّده كثيرًا. فعلى المرأة أن تكون مفعمة بالنشاط، عملية، ماهرة في جني الأموال وادخارها؛ عليها أن تكون فطنة، وبارعة في المساومة، وترأس الآخرين، ويمكنها اكتشاف ادعاءاتهم. وفي الوقت نفسه، عليها أن تكون ساذجة معرفيًّا، وطفولية، تحتقر الخرائط والكلمات الكبيرة وأي شيء تتضمنه الكتب، وأن تسيطر عليها المفاهيم المشوشة المبهرة، والخرافات، والمعتقدات التقليدية.
قال لروز ذات مرة في إحدى تلك الفترات التي سادها الهدوء — بل والود أيضًا — بينهما عندما كانت أصغر سنًّا قليلًا، ولعله نسي أن روز كانت ستصبح امرأة ذات يوم: «إن عقليات النساء مختلفة؛ فهن يؤمِنَّ بما ينبغي عليهن الإيمان به. لا يمكنك تتبع أفكارهن.» كان يعلِّق آنذاك على أحد المعتقدات التي كانت تؤمِن بها فلو، وهو أن ارتداء الأحذية المطاطية في المنزل يصيب المرء بالعمى. واستطرد قائلًا: «إلا أن لديهن القدرة على إدارة الحياة بأساليب معينة؛ هذه هي موهبتهن، وهي ليست في عقولهن. ثمة شيء يبرعن فيه أكثر من الرجال.»
لذا، فقد نبع جزء من شعور روز بالخزي من كونها أنثى، مع عدم اتسامها في الوقت نفسه بالسمات التي يجب أن تكون عليها المرأة، لكن كان هناك سبب آخَر أيضًا؛ إذ كانت المشكلة الحقيقية في أنها جمعت وحملت كل ما اعتقد والدها أنها أسوأ خصاله. كل الجوانب التي انتصر عليها وأخفاها بنجاح في نفسه، ظهرت مجدَّدًا في روز التي لم تُظهِر أي إرادة للتغلب عليها، فكانت تستغرق في أحلام اليقظة، واتسمت بالغرور والتوق للتفاخُر؛ تعيش حياتها بالكامل في رأسها. لم تَرِثْ منه الشيء الوحيد الذي مثَّل مصدر فخره واعتمد عليه؛ أَلَا وهو مهارته اليدوية، ودقته، ومراعاة ضميره في أي عمل يقوم به، فكانت، في حقيقة الأمر، خرقاءَ على نحوٍ غير عادي، ومتهورةً، وعلى استعداد دائم لأن تسلك الطرق السهلة. ومن ثم، فإن رؤية والدها لها وهي تنشر المياه أثناء غسيلها للصحون، وفكرها شارد بعيدًا، وأردافها أكبر من أرداف فلو بالفعل، وشعرها أشعث كثيف؛ ورؤيته لطبيعتها الكسولة المستغرقة في التفكير، كان من الواضح أنه يثير غضبه وحزنه، بل واشمئزازه أيضًا.
كانت روز على علم بكل ذلك؛ فكانت تقف ساكنةً إلى أن يعبُر والدها الغرفة، وتنظر إلى نفسها بعينيه. شعرت هي أيضًا بالكُرْه تجاه المساحة التي كانت تشغلها، لكنها سرعان ما كانت تعود لطبيعتها عند مغادرته المكان، فتعود لأفكارها أو إلى المرآة التي انشغلت بها كثيرًا تلك الأيام؛ فكانت تجمع شعرها فوق رأسها، وتلتف قليلًا لتتمكن من رؤية نهدها، أو شد بشرتها لترى كيف ستبدو عند انحنائها انحناءة بسيطة مثيرة.
كانت روز على يقين في الوقت نفسه من أن والدها يكنُّ مشاعر أخرى تجاهها؛ فقد علمت أنه يفخر بها، بالرغم من ذلك الانزعاج والقلق الذي يكاد يكون غير قابل للتحكم فيه. الحقيقة النهائية هي أنه ما كان ليغيِّرها، وأنه يريدها كما هي … أو جزءٌ منه أراد ذلك. وتوجَّب عليه، بطبيعة الحال، إنكار ذلك على الدوام، بسبب خنوعه وضلاله، أو بالأحرى خنوعه الضال. وكان عليه أيضًا أن يبدو متفقًا مع فلو في الرأي.
في الواقع، لم تتمعَّن روز في التفكير في ذلك الأمر، أو لم ترغب في ذلك. لم تكن تشعر بالارتياح — مثل والدها — بشأن العلاقة بينهما.
•••
عند عودة روز من المدرسة في أحد الأيام، قالت لها فلو: «أحسنتِ بوصولكِ الآن؛ فعليك البقاء في المتجر.»
كان والدها سيُنقَل إلى مستشفى المحاربين القُدامَى في لندن.
«لماذا؟»
«لا تسألي … هكذا أمر الطبيب.»
«هل ساءت حالته؟»
«لا أعلم! أنا لا أعلم شيئًا. ذلك الطبيب الذي لا فائدة منه لا يعتقد ذلك. فقد أتى صباح اليوم، وأجرى كشفًا له، وقال إنه سيُنقَل إلى المستشفى، ونحن محظوظون بتواجد بيلي بوب لنقله.»
كان بيلي بوب أحد أقرباء فلو، يعمل في متجر الجزارة، وكان يعيش في السابق في المجزر في غرفتين بأرضية من الأسمنت، وتفوح منه رائحة أحشاء الحيوانات وأمعائها والخنازير الحية، لكنه تمتع بالتأكيد بطبيعة محبة للحياة المنزلية؛ فزرع نبات الغرنوقي في علب التبغ المعدنية القديمة التي وضعها على عتبات النوافذ الإسمنتية السميكة. انتقل بيلي آنذاك إلى الشقة الصغيرة الموجودة فوق المتجر، وادَّخَر المال واشترى سيارة طراز أولدزموبيل، كان ذلك بعد الحرب بفترة وجيزة حينما كان للسيارات الجديدة طابع خاص مبهج. وفي زياراته لأسرة روز، كان يسير نحو النافذة ويُلقِي نظرةً نحو الخارج، ويقول شيئًا ما للفت الانتباه.
افتخرت فلو به وبسيارته.
«انظري! الكرسي الخلفي بسيارة بيلي بوب كبير. سيفيد والدك إذا أراد الاستلقاء.»
«فلو!»
نادى عليها والد روز. عندما صار طريح الفراش في البداية، كان نادرًا ما ينادي على فلو، ثم صار ينادي عليها بصوت كتوم، وأحيانًا يوحي بالاعتذار، لكنه تجاوز تلك المرحلة، وصار ينادي عليها كثيرًا، ويختلق الأسباب — كما قالت فلو — لجعلها تصعد إلى أعلى.
قالت فلو: «كيف سيتدبَّر حاله بدوني هناك؟ إنه لا يدعني وشأني لمدة خمس دقائق.» بدا الأمر وكأنها تفتخر بذلك، رغم أنها كانت تدعه ينتظرها عادةً. وفي أغلب الأحيان، كانت تذهب لتقف أسفل السلم وتجبره على الصياح بمزيد من التفاصيل عن سبب حاجته لها، وكانت تقص على الناس في المتجر عدم استطاعته الاستغناء عنها خمس دقائق فقط، وعن اضطرارها تغيير ملاءات السرير مرتين في اليوم. كان ذلك صحيحًا؛ فقد كانت الملاءات تبتل بسبب العرق. وفي وقت متأخر من الليل، كانت هي أو روز أو كلتاهما تذهبان إلى غسالة الملابس الموجودة في السقيفة الخشبية، وكانت روز ترى، في بعض الأحيان، بقعًا بملابس والدها الداخلية. لم تكن تنظر إليها، لكن روز كانت ترفعها وتلوح بها بالقرب من أنف روز، وهي تصيح: «انظري إلى ذلك ثانيةً!» وتصدر أصواتًا كأصوات الدجاج كنوع من المحاكاة الساخرة المستنكرة.
كرهت روز فلو في تلك الأوقات، وكرهت والدها أيضًا، كرهت مرضه، والفقر أو الاقتصاد في الإنفاق الذي حال دون إرسالهم الملابس إلى المغسلة، وعدم وجود ما يوفر لهم الحماية في حياتهم. وكانت فلو هناك لتتأكد من ذلك.
•••
ظلَّتْ فلو في المتجر. لم يأتِ أحدٌ. كان يومًا عاصفًا ومليئًا بالرمال في الجو، الأمر المعتاد بعد نزول الثلج، رغم أنه لم ينزل أي ثلج. سمعت روز فلو وهي تتحرك بالأرجاء في الطابق العلوي، وتصيح بعبارات موبِّخة ومشجِّعة أثناء مساعدتها والدها في ارتداء ملابسه، وإعدادها لحقيبته أيضًا، وبحثها عن متعلقاته. وضعت روز كتبها المدرسية على المنضدة، ولتجاهل الضوضاء التي ملأت المنزل، أخذت تقرأ قصةً في كتاب اللغة الإنجليزية الخاص بها؛ كانت قصة لكاثرين مانسفيلد بعنوان «حفلة الحديقة». ضمت القصة أشخاصًا فقراء يعيشون في زقاق عند نهاية إحدى الحدائق. عطف عليهم الآخرون. سارت الأحداث على ما يرام، لكن روز شعرت بغضب لم تهدف القصة إلى إشعار القارئ به، ولم تكن تدرك في الواقع سبب غضبها، لكنه تعلَّقَ بحقيقة تيقُّنها من أن كاثرين مانسفيلد لم تضطر يومًا لرؤية ملابس داخلية متَّسِخة، وأن أقاربها ربما كانوا قساة وعابثين، لكن لهجاتهم كانت مقبولة؛ كانت شفقتها قائمة على ما شهدته في حياتها من حظ حسن، وكانت ترثي لحال الفقراء، بلا شك. لكن روز شعرت بالازدراء من تلك الشفقة. اتخذت روز موقفًا متزمتًا من الفقر، وسيظل هذا الموقف ملازمًا لها لفترة طويلة من الوقت.
سمعت روز بيلي بوب وهو يدخل إلى المطبخ ويصيح في بهجة قائلًا: «حسنًا، أظن أنك تتساءلين أين كنتُ.»
لم يكن لكاثرين مانسفيلد أقرباء يتحدثون بتلك اللهجة التي تحدَّث بها بيلي.
كانت روز قد أنهت قراءة القصة، وأمسكت بمسرحية «ماكبث». سبق لها حفظ بعض العبارات من هذه المسرحية، وحفظت أجزاء من كتابات شكسبير وقصائد غير تلك التي من المفترض عليها حفظها في المدرسة. وعند ترديدها تلك العبارات، لم تتخيل نفسها ممثلة تلعب دور ليدي ماكبث على المسرح، وإنما تخيَّلَتْ نفسها ليدي ماكبث.
صاح بيلي بوب إلى أعلى السلم: «لقد جئتُ سائرًا على قدمي؛ توجَّبَ عليَّ إرسالها إلى الميكانيكي.» افترض بيلي أن الجميع يعلم أنه يعني سيارته بهذا الحديث. أكمل حديثه قائلًا: «لا أعلم ما المشكلة. لا يمكنني إيقافها، وتتحرك ببطء. ولم أرغب في الذهاب إلى المدينة، وثمة مشكلة في السيارة. هل روز في المنزل؟»
لطالما أحب بيلي بوب روز منذ أن كانت طفلة صغيرة، واعتاد منحها عشرة سنتات قائلًا لها: «ادَّخِريها لتشتري لنفسك مِشَدًّا نسائيًّا.» كان ذلك عندما كانت نحيلة وهزيلة. هكذا كان يمزح معها.
دخل بيلي المتجر.
«حسنًا روز، هل كنتِ فتاة مطيعة؟»
كان حديثها معه قليلًا للغاية.
«هل تتفقدين كتبَ المدرسة الخاصة بك؟ هل تريدين أن تصبحي معلمة؟»
«ربما.» لم تكن لديها أية نية لأن تكون معلمة، لكن من المدهش حقًّا كيف يتركك الناس وشأنك عندما تعترف لهم بأن لديك هذا الطموح.
خفض بيلي بوب من صوته، وقال لها: «هذا يوم حزين على أسرتك.»
رفعت روز رأسها ونظرت إليه ببرود.
«أعني أن والدك سينتقل إلى المستشفى، لكنهم سيعالجونه هناك؛ فلديهم جميع المعدات اللازمة، ولديهم أيضًا أطباء مَهَرَة.»
فردَّتْ عليه روز: «أشك في ذلك.» كان ذلك من الأمور التي تمقتها أيضًا؛ تلك الطريقة التي يلمح بها الناس إلى أمور ما، ثم يتراجعون. تلك المراوغة. وكان موضوعا الموت والجنس هما أكثر ما يراوغ الناسُ في الحديث عنهما.
«سوف يعالجونه ويعود إلى المنزل بحلول فصل الربيع.»
فردَّتْ روز بحزم: «إلا إذا كان يعاني من سرطان بالرئة.» لم تقل ذلك من قبلُ قطُّ، ولم تفعل فلو ذلك أيضًا بالتأكيد.
نظر بيلي بوب إليها نظرةً بائسةً يلفها الخزي، كما لو أنها قالت شيئًا بذيئًا.
«ليس من المفترض أن تتحدثي على هذا النحو؛ فسوف ينزل والدك الآن، وقد يسمعك.»
ليس من شك أن ذلك الحال كان يسعد روز في بعض الأحيان. كان يسعدها سعادة موجعة، عندما لا تكون جزءًا منه بغسيلها الملاءات أو استماعها لنوبات السعال، فقد عاشت دورها في الموقف كما تراه، ورأت نفسها فطنة وغير مندهشة، رافضة لكل التضليلات، فتاة صغيرة سنًّا، لكنها ناضجة في الوقت نفسه بسبب ما خاضته من تجارب الحياة المريرة. وبهذه الروح، نطقت عبارة «سرطان الرئة».
اتصل بيلي بوب بجراج تصليح السيارات، وقيل له إن إصلاح السيارة لن ينتهي قبل وقت العشاء. وبدلًا من أن يغادر آنذاك، اضطر للمبيت على الأريكة في المطبخ ليذهب مع والد روز إلى المستشفى في الصباح.
«لا حاجة للاستعجال، لن أهرول من «أجله».» عنيت فلو الطبيب بذلك الحديث. دخلت إلى المتجر للحصول على علبة سلمون لصنع شطيرة، وبالرغم من أنها لم تكن ذاهبة إلى أي مكان، ولم تخطِّط لذلك، ارتدت جواربَ طويلة وتنورة وبلوزة نظيفتين.
لو أنها صاحت بتلك الكلمات في المطبخ لأصابت فلو وبيلي بصدمة مروعة.
أغلقت روز المتجر الساعة السادسة صباحًا، وعندما دخلت إلى المطبخ فوجئت برؤية والدها هناك. لم تسمعه، فلم يكن يتحدث أو يسعل. كان يرتدي بذلته الأنيقة ذات اللون غير المعتاد، كانت بلون أخضر زيتي، لعلها كانت رخيصة الثمن.
قالت فلو: «انظري إليه وهو متأنِّق، إنه يعتقد أنه أنيق، ويسعده كثيرًا عدم اضطراره العودة إلى السرير.»
ابتسم والد روز ابتسامةً متكلفةً خانعةً.
سألته فلو: «كيف تشعر الآن؟»
«على ما يرام.»
«لم تعانِ من أي نوبة سعال على أية حال.»
كان قد حلَقَ ذقنه لتوِّه، ويبدو وجهه ناعمًا ورقيقًا كأشكال الحيوانات التي نحتتها روز في المدرسة من صابون الغسيل الأصفر.
«ربما ينبغي عليَّ أن أنهض وأظل مستيقظًا.»
قال بيلي بوب بنبرة صاخبة: «إليك النصيحة السديدة؛ لا للكسل بعد الآن. انهض وابقَ متيقظًا. عُدْ إلى عملك.»
كانت هناك زجاجة ويسكي على المائدة أحضرها بيلي بوب، شرب الرجلان منها في كوبين صغيرين سبق وأن احتويا على الجبن القشدي، وأكملا الكوبين بمقدار نصف بوصة من الماء أو ما شابه.
دخل في تلك اللحظة براين، أخو روز من والدها، والذي كان يلعب في الخارج في مكان ما. دخل بصوته المزعج وملابسه المليئة بالوحل، ورائحة الجو البارد بالخارج تحيط به.
وعندما دخل براين، قالت روز: «هل لي أن أشرب القليل؟» مشيرةً إلى زجاجة الويسكي.
فأجابها بيلي بوب: «الفتيات لا يشربن ذلك.»
وقالت فلو: «إذا حصلتِ على القليل، فسوف يتذمَّر براين ليحصل هو أيضًا عليه.»
وحينذاك، قال براين متذمرًا: «هل يمكنني الحصول على القليل؟» فضحكت فلو بصوت عالٍ، ومررت كوبها خلف صندوق الخبز، وقالت له: «ها هو ذا، أرأيتِ؟»
•••
قال بيلي بوب على مائدة العشاء: «كان هناك بعض الأشخاص المعالِجين في تلك الأرجاء في السابق، لكننا لم نَعُدْ نسمع عنهم أي شيء الآن.»
فقال والد روز متغلبًا على نوبة سعال كادت أن تبدأ: «من السيئ حقًّا عدم تمكننا من استدعاء أيِّ منهم الآن.»
قال بيلي بوب: «كان هناك معالِج روحاني اعتدت سماع والدي يتحدث عنه. كان له أسلوب مميز في الحديث؛ إذ كان حديثه يشبه الكتاب المقدس. وذات مرة ذهب إليه شخص أصم، فكشف عليه وعالجه، ثم سأله: «هل سمع بها الآن؟»»
عدَّلت روز خطأ بيلي قائلةً: «هل تسمع بها الآن؟» كانت قد شربت ما بقي من كوب فلو أثناء إحضارها الخبز للعشاء، وشعرت بأنها أكثر ميلًا للتحدث مع جميع أقاربها.
«نعم، هذا ما قاله: «هل تسمع بها الآن؟» وأجابه الرجل بالإيجاب، فسأله المعالج الروحاني: «هل تؤمن إذن؟» ولم يفهم الرجل ما كان يعنيه المعالج بسؤاله ذلك وسأله: «أؤمن بماذا؟» فجُنَّ جنون المعالج، وحرمه من سمعه ليعود إلى منزله أصمَّ كما كان.»
روت فلو أيضًا أنه في المكان الذي عاشت فيه عندما كانت فتاة صغيرة، كانت هناك سيدة اشتهرت ببصيرتها الخارقة، حتى إن أعدادًا كبيرة من العربات التي تجرها الخيول، ومن بعدها السيارات، كانت تصطف أمام منزلها حتى نهاية الزقاق في أيام الآحاد؛ إذ كان يوم الأحد هو اليوم الذي يأتي فيه الناس من مسافات بعيدة لاستشارتها، وأغلب استشاراتهم كانت عن أشياء فقدوها.
سألها والد روز: «ألَمْ يرغب أيٌّ منهم في التواصل مع ذويه؟» مشجِّعًا إياها على مواصلة الحديث كعادته دومًا عند روايتها أية قصة، واستطرد قائلًا: «أظن أنه كان بإمكانها الاتصال بالأشخاص المتوفَّين.»
«حسنًا، كان أغلب الناس قد نالوا كفايتهم من أقاربهم وهم أحياء.»
واقتصرت الأمور التي شغلت اهتمامهم على الخواتم والوصايا والمواشي، ومعرفة أماكن اختفاء هذه الأشياء.
«ذهب إليها أحد الأشخاص ممَّن أعرفهم، وقد فقد محفظته. كان ذلك الرجل يعمل في السكك الحديدية. قالت له المرأة: «حسنًا، هل تتذكر ما فعلتَه منذ نحو أسبوع عندما كنتَ تعمل على أحد خطوط السكك الحديدية، ومررتَ بالقرب من أحد البساتين، فأردْتَ التقاط إحدى ثمار التفاح، وقفزت فوق السور للحصول عليها؟ لقد سقطت منك المحفظة هناك بين الحشائش الطويلة، لكن كلبًا مرَّ عليها والتقطها، ثم أسقطها بعيدًا بمحاذاة السور. يمكنك العثور عليها هناك.» كان الرجل قد نسي كل شيء عن البستان وتسلُّقه السور، وأصيب بالذهول لما سمعه منها، ومنحها دولارًا، وذهب إلى حيث أرشدته، ووجد محفظته في المكان الذي وصفته بالضبط. حدث ذلك بالفعل، فأنا أعرف ذلك الرجل، لكن المال كان قد تمزَّق كله بمضغ الكلب له، وعندما اكتشف الرجل ذلك، غضب للغاية وتمنَّى لو أنه لم يمنحها كل هذا المبلغ من المال!»
قال والد روز: «لم تذهبي إليها قطُّ، أليس كذلك؟ فأنتِ لا تؤمنين بمثل هذه الأمور.» عندما كان يتحدث مع فلو، كان يستخدم عادةً عبارات ريفية، فضلًا عن اتباعه أسلوب الإزعاج الذي اتبعه الريفيون بقولهم عكس ما كان صحيحًا، أو ما يُعتقَد أنه صحيح.
أجابت فلو: «لا، لم أذهب إليها قطُّ في الحقيقة لأسألها عن أي شيء، لكنني زرتها في إحدى المرات؛ إذ توجَّبَ عليَّ إحضارُ بعض البصل الأخضر منها. كانت والدتي مريضةً وتعاني من أعصابها، فأرسلت إلينا تلك المرأة رسالةً تخبرنا فيها بأن لديها بعض البصل الأخضر المفيد للأعصاب. كان ما تعاني منه والدتي حقًّا هو السرطان، وليس الأعصاب؛ لذا لا أعلم ما قدَّمَه لها البصل من فائدة.»
علا صوت فلو، وأسرعت في حديثها، خجلًا من إفصاحها عن ذلك.
«لذا، اضطررت للذهاب إليها، والحصول على البصل. كانت قد التقطت الثمار وغسلتها، وحزمتها من أجلي، لكنها طلبت مني عدم المغادرة قبل الدخول إلى المطبخ لرؤية ما أعَدَّتْه لي. لم أكن أعلم ما تريدني أن أراه، ولم أكن أريد الدخول؛ فكنتُ أظنها ساحرةً، كنَّا جميعًا في المدرسة نظن ذلك؛ لذا جلستُ في المطبخ، وذهبَتْ هي إلى حجرة المؤن، وجلبت كعكة شوكولاتة كبيرة، وقطعت منها شريحة، ومنحتني إياها. كان عليَّ الجلوس وتناولها، وجلست هي تشاهدني أثناء تناولي للكعكة. كل ما يمكنني تذكُّره منها هو يداها؛ كانتا يدين ضخمتين حمراوين تبرز فيهما عروق كبيرة، وكانت لا تكف عن وضعهما في حِجرها واعتصارهما. أخذتُ أفكر كثيرًا بعد ذلك في أنها بحاجة لتناول البصل الأخضر؛ إذ لم تكن أعصابها في حالة جيدة أيضًا.
شعرت حينذاك بطعم غريب في الكعكة، لكنني لم أكفَّ عن تناولها حتى انتهيت منها كلها، وشكرت السيدة، وأخبرتها أنني راحلة. قطعتُ ممر المنزل سيرًا لأنني استنتجت أنها تراقبني، وعندما وصلت إلى الطريق، رحت أركض، لكنني ظللت خائفة من أنها ربما كانت تتبعني، بصورة غير مرئية أو شيء من هذا القبيل، أو أنها تستطيع قراءة ما يدور في ذهني، وتخيَّلْتُ أنها ستمسك بي وتحطِّم رأسي على حصى الطريق. عندما عدت إلى المنزل، دفعت الباب بقوة لفتحه، وصحت: «سُمٌّ!» هذا ما ظننته، ظننت أنها قد أطعمتني كعكة مسمومة.
قالت والدتي إن كل ما في الأمر أن الكعكة كانت متعفِّنة بسبب الرطوبة في منزل تلك السيدة، وخلوِّه من الزوَّار لأيام عديدة؛ ومن ثَمَّ لم يكن هناك مَن يتناول الكعكة، رغم الجموع الغفيرة التي يشهدها المنزل في أوقات أخرى. ومن ثم، كان من الممكن أن تبقى الكعكة لديها فترة طويلة لتصاب بالعفن.
لكنني لم أكن أعتقد ذلك، وظننت أنني قد تناولت سُمًّا وسأموت. ذهبتُ وجلست في ذلك الركن الذي اعتدت الجلوس فيه في صومعة الحبوب. لم يكن أحد يعلم بأمر ذلك المكان حيث احتفظت بكافة أنواع النفايات، مثل بعض قطع الأواني الصينية المكسورة، وبعض الزهور المخملية. لا زلتُ أتذكر تلك الزهور، كانت منزوعة من قبعة تساقطت عليها الأمطار. جلست هناك، وانتظرت.»
ضحك بيلي بوب ساخرًا منها، وسألها: «هل أَتَوا لجرِّك وإخراجك من ذلك المكان؟»
«لقد نسيت. لا أعتقد ذلك، أعتقد أنه ربما كان أمرًا صعبًا عليهم البحث عني والعثور عليَّ؛ إذ كنتُ أختبئ خلف أكياس العلف. لا، لا أعلم. أظن أن ما حدث في النهاية هو أنني تعبت من الانتظار، وخرجت من تلقاء نفسي.»
قال والد روز، مبتلعًا آخِر كلمة نتيجة لإصابته بنوبة سعال طويلة: «وظللتِ حيةً لتروي لنا ما حدث.» قالت فلو إنه لا ينبغي أن يظل مستيقظًا أكثر من ذلك، لكنه قال إنه سيستلقي على أريكة المطبخ، وهو ما فعله. نظَّفَتْ فلو وروز المائدة وغسلتا الصحون، ثم جلسوا جميعًا — فلو وبيلي بوب وبراين وروز — حول المائدة للعب الورق، في حين غفا والدها. أخذت روز تفكِّر في فلو وهي جالسة في أحد أركان صومعة الحبوب وحولها قطع الأواني الصينية المكسورة، والزهور المخملية الذابلة، وجميع الأشياء الأخرى العزيزة عليها، منتظرةً الموت في حالة من الرعب الذي تلاشى تدريجيًّا — بالتأكيد كان ذلك شعورها — والشعور بالإجلال والرغبة في معرفة كيف سيأتيها الموت.
كان والدها منتظرًا أيضًا. أُغلِقت سقيفته، ولم تُفتح كتبه ثانية، كان اليوم التالي هو آخِر يوم يرتدي فيه حذاءه. تقبَّلَ الجميع تلك الفكرة، وما كان سيربكهم أكثر هو عدم موته، وليس العكس. لم يستطع أحد سؤاله عمَّا كان يشعر به؛ فكان سيعتبر هذا السؤال نوعًا من الوقاحة، والمبالغة، والتجاوز. هذا ما اعتقدته روز. كانت ترى أنه مستعدٌّ للذهاب إلى مستشفى ويستمنستر، ذلك المستشفى الخاص بالمحاربين القدامى. كان متأهبًا لتلك الأجواء الذكورية الكئيبة، والستائر شاحبة اللون المشدودة حول سريره، والأحواض المليئة بالبقع. كان متأهبًا أيضًا لما سيحدث بعد ذلك. أدركت روز أنه لن تسنح له الفرصة ليكون معها مثلما هو معها الآن، والمفاجأة التالية هي أنه لن يكون معها بعد تلك اللحظة على الإطلاق.
•••
أخذت روز تتجول في أرجاء القاعات الخضراء المعتمة بالمدرسة الثانوية الجديدة وهي ترتشف القهوة. كان ذلك في يوم لمِّ الشمل المئوي بالمدرسة. لم تأتِ روز لهذا الغرض، لكنه تصادَفَ مع زيارتها لمنزلها للتوصُّل إلى حلٍّ بشأن فلو. التقت في ذلك اليوم بأشخاص قالوا لها: «هل تعلمين أن روبي كاروزرس ماتت؟ استأصل الأطباء أحد ثدييها، ثم الثدي الآخَر، لكن المرض كان قد انتشر بجسمها كله، وتُوفِّيت.»
وقال لها آخر: «لقد رأيت صورتك في إحدى المجلات. ما كان اسم تلك المجلة؟ إنها لديَّ في المنزل.»
ضمَّت المدرسة الجديدة ورشةً لتعليم ميكانيكا السيارات لتدريب الطلاب، ومعهدَ تجميلٍ للتدريب على هذه المهارات، ومكتبة، وقاعة مؤتمرات، وصالة ألعاب رياضية، ونافورة دوارة لغسل الأيدي في دورة مياه الفتيات. كانت هناك أيضًا آلة لصرف الفوط الصحية تعمل بكفاءة.
ديل فيربريدج صار حانوتيًّا.
ورانت تشرستون صار محاسبًا.
بينما جنى هورس نيكلسون أموالًا طائلة من عمله في المقاولات، ثم تركها بعد ذلك للعمل في السياسة، وذكر في إحدى خطبه أن ما تحتاج إليه البلاد هو التركيز على الدين في الفصول المدرسية، والاكتفاء بالقليل من اللغة الفرنسية.