حجج مضادة لفكرة الأصل الزنجي لمصر
(١) هل هو انتكاس ثقافي؟
إذا كان الزنوج هم الذين أقاموا الحضارة المصرية، فكيف يمكن تفسير انتكاستهم الراهنة؟
هذا السؤال لا معنى له، لأن بوسعنا أن نقول نفس الشيء سواء فيما يخص كلًّا من الفلاحين والأقباط الذين يُعتبرون السلالة المباشرة للمصريين، وهم يواجهون نفس حالة الانتكاس شأنهم شأن الزنوج الآخرين، إن لم يكن بدرجة أكبر بالمقارنة مع ماضيهم.
غير أن هذه الملاحظة لا تعفينا من تفسير عملية التحول التي طرأت على الحضارة التقنية والعلمية-الدينية في مصر عبْر تكيُّفها مع الظروف الجديدة في أفريقيا.
لقد نمت الدول مبكرًا حول الوادي الأم، دون أن نتمكَّن حتى الآن من تحديد تاريخ ظهورها بدقة.
فقد تغلغل الزنوج ببطء في قلب القارة، عبر الزمن، عن طريق حركات هجرة متتالية، وانتشروا في كافة الاتجاهات، وهم يُبعدون الأقزام من طريقهم. وقد أسسوا دولًا نمت، وأقامت علاقات مع الوادي الأم إلى أن قضى الأجانب على تلك الدول. فهناك من الجنوب إلى الشمال النوبة ومصر، ومن الشمال إلى الجنوب النوبة وزمبابوي، ومن الشرق إلى الغرب النوبة، وغانا، وإيله-إيفه، ومن الشرق إلى الجنوب الغربي النوبة، وتشاد، والكونغو، ومن الغرب إلى الشرق النوبة وإثيوبيا.
ولا نزال نجد، حتى الآن، كَمًّا ضخمًا من الآثار المُقامة بالحجارة في إثيوبيا والنوبة، ومنها المسلات والمعابد والأهرامات.
وتوجد المعابد والأهرامات في السودان المَرَوي وحده، وقد تم التأكيد على الدور الأساسي الذي قام به هذا البلد في انتشار الحضارة في أفريقيا السوداء، حتى إنه لا يوجد ما يدعو إلى التعرُّض لذلك من جديدٍ.
ويشير اسم إثيوبيا، في تصورات العقول الحديثة، إلى أديس أبابا، مما يستدعي أن ننوِّه هنا بأنه لم يتم العثور في هذه المنطقة إلا على مسلة واحدة وقاعدتَي تمثالَين؛ فحضارة أكسوم اصطلاح لفظي أكثر مما هو حقيقة واقعة تشهد على قيامها آثارٌ تاريخية.
فالمعابد والأهرامات متواجِدة بكمياتٍ وفيرة في السودان المَرَوي، في سنار.
وهكذا يتم تزييف أسماء المواقع، لكي تُنسب الحضارة الزنجية-المصرية-الأفريقية إلى أصل شرقي إلى حدٍّ ما، وآسيوي، ولكن على استحياء، وذلك عن طريق باب المندب، والواقع أنه يتعين أن نتصدى لتلك المصطلحات.
فالحاميُّون، الشرقيون والإثيوبيون، بل والأفارقة يوفِّرون لعلم التاريخ الحديث تعبيرات مخفَّفة تتيح التحدث عن الحضارة الزنجية السودانية المصرية مع تجنُّب النطق، ولو مرة واحدة، بكلمة «زنجية» أو «سوداء».
ففي زمبابوي — التي يمكن أن تكون امتدادًا لبلاد الأحباش المردة الذين تحدَّث عنهم هيرودوت — توجد أطلال منشآت ومدن بُنيت بالحجارة وعليها صور صقر «في دائرة مركزها بحيرة فيكتوريا، يتراوح نصف قطرها بين مائة أو مائتي ميل» كما كتب د. ب. بدرال (آثار أفريقيا السوداء، ص١٦٦). وبعبارة أخرى تنتشر هذه الأطلال في دائرة قطرها حوالي ٨٠٠ كيلومتر، أي ما يعادل تقريبًا قطر فرنسا.
«وبوسع المرء أن يميز — بكل وضوحٍ — حتى الآن أثر تخطيط طريق توجد على جانبيه بيوت ترتفع جدرانها مترًا فوق الأرض أو مترًا ونصفًا، وقد تداعت الأسقف. وعلى مسافة من ذلك موقع ساحة حيث توحي الجدران بأنها كانت تحمل طوابق. وتكون المباني مصانة أحيانًا إلى حدٍّ يجعل سُكْنَها ممكنًا من جديدٍ بمجهودٍ بسيط. وبوسع المرء أن يرى بوضوحٍ تتابعها نظرًا لوجود قِطَع الحجارة المشذبة. وهناك حولها بقايا موقع مسور، جدرانه منخفضة على أي حالٍ، وخارجه مقابر، وفي كل مكان بقايا أوانٍ فخارية وخرز وحتات نحاس أحمر، وعلى مسافة من هناك، فوق هضبة، تربتها صلبة حمراء اللون، توجد آثار محرف للتعدين.»
«والمباني الأخرى معقدة، ويشمل أحدها خمس غرف مهيأة على عمق أربعة أمتار، وبها دهاليز للاتصال. وأعمال البناء ممتازة، ويبلغ سُمك الجدران ۳۰ سنتيمترًا» (بدرال، نفس المرجع، ص٦٢).
وفي منطقة بحيرة ديبو، توجد أيضًا أهرامات عنَّ لهم أن يُسمُّوها «ركامًا» كما كان متوقعًا. وتلك أساليب معهودة ترمي إلى الانتقاص من القيم الأفريقية؛ وبوسعنا أن نجد نقيض هذه الأساليب في بلاد ما بين النهرين، حيث يُستخلص من ركام من الصلصال — وهو حقًّا ركام — أكمل معبد يستطيع العقل الإنساني أن يتصوَّره، مع أن عمليات إعادة البناء هذه ليست بصفة عامة سوى محض نظريات لا تمتُّ للواقع بِصلة.
وعلى العكس من ذلك، إليكم ما يقوله بدرال عن أهرامات السودان:
«إنها كتلٌ متراصة من الصلصال والحجارة، في شكل أهرامات مبتورة، قمتها من الآجر والطوب الأحمر، وجميعها مقامة في نفس الدورة الزمنية، ومن أجل نفس الغرض … ويبلغ ارتفاعها ما بين ١٥ و١٨ مترًا، ومساحة قاعدتها ٢٠٠ متر مربع … وقد قام ديسبلاني باستكشاف أحد تلك الركامات في موقع الوليدي، عند التقاء نهري عيسى بر وبارا عيسى. واكتشف في وسطه غرفة جنائزية متجهة من الشرق إلى الغرب، يبلغ أقصى طولها ٦ أمتار، وأقصى عرضها ٢٫٥ مترًا. وهناك صفوف من جذوع الأشجار تكون بطانة سُمكها حوالي ثلاثة أمتار، والسقف مكوَّن من عروق خشبية متراصة فوق بعضها، ويتضمن فتحة تؤدي إلى الجزء العلوي عن طريق بئر قطرها ۰٫۸۰ مترًا، مملوءة بأوانٍ تحتوي على عظام حيوانات. وقد وجد ديسبلاني في الغرفة ذاتها مرقدًا من الرمل حوله جرَّة كبيرة والعديد من الأواني الفخارية وهيكلين عظميَّين مبعثرَين، وحُليًّا، وأسلحة، ونصال سيوف وسكاكين، وأسنَّة رماح ومزارق، وحبَّات قلادات من الخرز، ولآلئ، وتماثيل صغيرة من الطين تمثِّل حيوانات، وأخيرًا أختامًا، وإبرًا مصنوعة من العظم. وكان الخرز مصنوعًا من عجينة زجاجية زرقاء مكسوَّة إما بزخرفة على شكل عيون أو بشرائط بيضاء متخذة شكلًا حلزونيًّا أو مرصعة بالميناء، تُذكِّرنا بالزجاج المصري في الدولة الوسطى (تل العمارنة). وتدل الفخاريات على صناعة خزفية متقدمة للغاية بالمقارنة مع صناعة السكان الحاليين. فالأواني ذات السطح المزخرف بنقطٍ أنيقة التكوين لم يعُد لها وجود في المنتجات الحديثة. وكان شغل المعادن متقدمًا هو أيضًا، كما يتبين ذلك من المجوهرات المصنوعة من المعدن النفيس، والدقيقة الزخارف أحيانًا» (بدرال، نفس المرجع ص٥٩ و٦٠).
ولا يمكن أن نصِف هنا كل ثروات حضارة إيله-إيفه: فقد كانت من الثراء إلى درجة أن فروبينيوس حاول عبثًا أن يبحث لها — كما هي القاعدة — عن أصل أبيض (ميثولوجيا الأتلنتيد، الناشر بايو، ١٩٤٩م).
لقد نشأت الحضارة في وادي النيل عن تأقلم الإنسان مع هذا الوسط المتميز، ووفقًا لشهادات الأقدمين والمصريين أنفسهم، فقد كان أصلها في النوبة، وانحدرت نحو البحر مع مجرى النيل. ومما يؤكد هذا الواقع بالذات أن العناصر الأساسية للحضارة المصرية لا توجد، لا في الوجه البحري، ولا آسيا، ولا أوروبا، ولكن في النوبة، في قلب القارة الأفريقية؛ حيث نجد بالأخص الحيوانات والنباتات التي استُخدمت في ابتكار الكتابة الهيروغليفية.
وأدت الظاهرة الطبيعية المتمثِّلة في الفيضان السنوي لنهر النيل إلى تطور التنظيم الاجتماعي؛ إذ إنها تطلَّبت القيام بأعمالٍ جماعية مثل إقامة السدود. كما أن الهندسة والحساب، أي الرياضيات، جاءت نتيجة لفيضان النهر؛ إذ كان يتعين حل النزاعات حول حدود الحقول، وهكذا نشأت الهندسة، وهي أصلًا قياس أبعاد الأراضي.
وكانت من عادات المصريين تحديد مدى ارتفاع الفيضان «بمقياس النيل»، وكانوا يستخلصون من ذلك الحجم السنوي للمحاصيل وذلك بالحسابات الرياضية.
كما أن التقويم وعلم الفلك هما أيضًا نتاج لتلك الحياة المستقرة والزراعية.
وقد تولَّدت عن التكيف مع الوسط الطبيعي بعض الإجراءات الصحية مثل تحنيط الجثث (لتجنُّب وباء الطاعون في الدلتا)، والصوم، والحِمية … إلخ، وظهر الطب شيئًا فشيئًا.
وتطلَّب تطور الحياة الاجتماعية والتبادلات ابتكار الكتابة واستخدامها.
وقد تحوَّلت فأس العصر الحجري الزنجوي القديم إلى محراثٍ، بإطالة ذراع الفأس. وكان الناس يجرونها في البداية، ثم بعد ذلك استُخدمت الحيوانات في جرِّها، ولم تطرأ على هذا المحراث التحسينات الأخرى مثل العجلة (في أوروبا، في العصور الوسطى)، إلا في أزمنة متأخرة للغاية.
وعندما تغلغل زنوج النيل أكثر فأكثر في قلب القارة، نتيجة لتزايد أعداد سكان الوادي والتقلبات الاجتماعية، واجهوا ظروفًا طبيعية وجغرافية مختلفة. فلم تعُد بعض الممارسات والآلات والتقنيات والعلوم، التي كان لا غنى عنها على ضفاف النيل، ذات أهمية حيوية عند مصب نهر النيجر وضفاف نهر تشاد وشواطئ المحيط الأطلسي وضفاف نهري الكونغو والزامبيز.
وهكذا يمكننا أن ندرك أن بعض عناصر الحضارة الزنجية في وادي النيل تلاشت داخل القارة، بينما ظلَّت عناصر أخرى أساسية قائمة حتى الآن.
وساهم غياب نبات البردي في بعض المناطق المذكورة أعلاه في ندرة الكتابة في قلب القارة، وإن لم تكن غائبة تمامًا في أفريقيا السوداء كما يزعمون ذلك جهارًا. ففي ديوريل، مركز دائرة بوال في السنغال، في حي ندونكا، توجد شجرة مغطاة بالكتابات الهيروغليفية من الجذع حتى الفروع. وكانت مكوَّنة، بقدر ما أتذكر، من رموزٍ لأيدٍ وقوائم حيوانات — لم تكن نفس الرموز المستخدمة في مصر — ومنها قوائم جِمال ورموز تُشير إلى أقدام وأدوات أخرى … وكان يجب نقل تلك البصمات ودراستها. وفي الفترة التي كنت أراها فيها لم يكن لديَّ لا السن ولا التكوين الضروري لكي أهتم بها. ومن الممكن أن نُكَوِّن فكرة عن العهد القديم أو الحديث لتلك الرموز المحفورة على قشور تلك الأشجار، بتحليل سُمك طبقات تلك القشور وطبيعة الرموز والأشياء التي تمثِّلها، وانتقال تلك الرموز بطول الجذع نتيجة لنمو القشور. ويتعيَّن أن نُشير إلى أن تلك الأشجار مقدسة، ونادرًا ما يُنتزع لحاؤها لصُنع الحبال، كما يجب أن نقول أيضًا إنها ليست نادرة في البلد.
ولما كان باطن الأرض في أفريقيا لا يزال بكرًا إلى حدٍّ كبيرٍ، فمن المتوقع أن توفر لنا الحفريات المنتظمة في المستقبل، وثائق مكتوبة لا تحوم حولها أي شكوك، وذلك رغم المناخ والأمطار الغريزة التي لا تساعد على الحفاظ على مثل هذه الوثائق.
وأخيرًا، توجد في سييراليون كتابة أخرى خلاف كتابة البامون (الكامرون)، وهي كتابة الفاي المعتمدة على المقاطع اللفظية وكتابة الباساس المختزَلة وفقًا للدكتور جيفري.
فبوسعنا أن نقول إذن إن أفريقيا السوداء لم تفقد حضارتها أبدًا حتى القرن الخامس عشر، كما يؤكد ذلك النص التالي لفروبينيوس:
«لقد أبدى البحارة الأوروبيون الأوائل في نهاية العصور الوسطى ملاحظات هامة للغاية في هذا المجال. فعندما وصلوا إلى خليج غينيا ورسَوا في فايدا، أبدى القباطنة دهشتهم عندما وجدوا شوارع حسنة التخطيط يحفُّ بها على الجانبَين، على امتداد عدة فراسخ، صفَّان من الأشجار، وقد عبروا خلال عدة أيام ريفًا به حقول رائعة، يسكنه أناس يرتدون ملابس ذات ألوان زاهية، نسجوا أقمشتها بأنفسهم؛ وفي جنوب هذه المنطقة، في مملكة الكونغو وجدوا جموعًا غفيرة تتدثَّر «بالحرير» و«المخمل»، ودولًا كبيرة منظمة جيدًا في كافة التفاصيل، وملوكًا أقوياء وصناعات مزدهرة. إنهم متحضرون حتى النخاع، وكانت ظروف السواحل الشرقية، في موزنبيق مثلًا مماثِلة لذلك تمامًا.»
وتقدم شهادات البحَّارة من القرن الخامس عشر حتى القرن الثامن عشر الدليل الأكيد على أن أفريقيا الزنجية الممتدة حتى جنوب المنطقة الصحراوية، كانت في أوج تألقها، بروعة حضاراتها المتناسقة والجيدة التنظيم. وقد قضى الغزاة الأوروبيون على ذلك الازدهار شيئًا فشيئًا مع زحفهم؛ إذ كانت بلاد أمريكا الجديدة في حاجة إلى عبيدٍ، وكانت أفريقيا توفر لهم ذلك بالمئات والآلاف في شحناتٍ مكتظة بالعبيد. غير أن النخاسة لم تكن مسألة مريحة للضمير، وكان لا بد من إيجاد تبرير لها، ولذا صوَّروا الزنجي على أنه نصف حيوان وسلعة تُباع وتُشترى. وابتكروا لذلك فكرة الوثنية كرمزٍ للديانة الأفريقية، التي أصبحت علامة مسجلة أوروبية! أما أنا فلم أرَ أبدًا في أيٍّ من أنحاء أفريقيا الزنجية، أهالي يعبدون أصنامًا.
«وفكرة «الزنجي البربري» ابتكارٌ أوروبي سيطر في أوروبا كرد فعلٍ حتى بداية هذا القرن» (فروبينيوس، تاريخ الحضارة الأفريقية، ترجمة باك وإرمون، الناشر جاليمار، باريس، ۱۹۳۸م، الطبعة الخامسة، ص١٤ و١٥).
وتتفق أقوال الرحالة البرتغاليين في القرن الخامس عشر حتى القرن الثامن عشر، والتي أوردها فروبينيوس، مع ما كتبه المؤلفون العرب من القرن العاشر حتى القرن الخامس عشر. وقد وصف لنا رحالة عربي زار إمبراطورية مالي في تلك الحقبة، التنظيم الاجتماعي للدول الزنجية في القرنَين الرابع عشر والخامس عشر، الذي أشار إليه فروبينيوس، كما وصف الأبهة المَلكية التي سادت في تلك الحقبة، وهذا الرحالة هو ابن بطوطة الذي حدَّثنا عن الجلسات العامة التي كان يعقدها الملك المانديجي سليمان مَنْسا، علمًا بأن ابن بطوطة زار السودان في ١٣٥٢-١٣٥٣م، أثناء حرب المائة عام في أوروبا.
(٢) ذكر جلوس سلطان مالي سليمان مَنْسا، بقبَّته
«وله (أي السلطان) قبة مرتفعة بابها بداخل داره، يقعد فيها أكثر الأوقات. ولها من جهة «المِشْوَر» طيقان ثلاث من الخشب، مغشَّاة بصفائح الفضة، وتحتها ثلاث مغشاة بصفائح الذهب، أو هي فضة مذهبة، وعليها ستور مِلف، فإذا كان يوم جلوسه بالقبة، رُفِعت الستور فَعُلِم أنه يجلس. فإذا جلس أخْرج من شُباك أحد الطيقان «شرابة» حرير، قد رُبِط فيها منديل مصري مرقوم؛ فإذا رأى الناس المنديل ضُرِبت الأطبال والأبواق. ثم يخرج من باب القصر نحو ثلاثمائة من العبيد، في أيدي بعضهم القِسي، وفي أيدي بعضهم الرماح الصغار والدَرَق. فيقف أصحاب الرماح مِنهم مَيمنْة ومَيْسَرة. ويجلس أصحاب القِسي كذلك، ثم يُؤتى بفرسَين مُسْرجين مُلَجمين ومعهما كَبْشان، يذكرون أنهما ينفعان من العين. وعند جلوسه يخرج ثلاثة من عبيده مسرعين، فيدعون نائبه قَنْجا موسى. وتأتي «الفَرارية»، وهم الأمراء، ويأتي الخطيب والفقهاء، فيقعدون أمام «السِلحدارية» يَمنة ويَسْرة في «المِشور». ويقف دُوغا الترجمان على باب «المِشور»، وعليه الثياب الفاخرة، وعلى رأسه عمامة ذات حَوَاشٍ، لهم في تعميمها صنعة بديعة، وهو متقلد سيفًا غِمْده من الذهب، وفي رجليه الخُف والمهاميز. ولا يلبس أحد ذلك اليوم خُفًّا غيره، ويكون في يده رمحان صغيران، أحدهما من ذهب والآخر من فضة، وسِنَاهما من الحديد.»
«ويجلس الأجناد والولاة والفِتيان وغيرهم في خارج «المشور»، في شارع هنالك متسع فيه أشجار. وكل «فَراري» بين يديه أصحابه بالرماح والقسي والأطبال والأبواق، وأبواقهم من أنياب الفيلة، وآلات الطرب المصنوعة من القصب والقرع، ولها صوتٌ عجيبٌ. وكل فَراَري له كنانة قد علَّقها بين كتفيه، وقوسه بيده، وهو راكب فرسه، وأصحابه بين مُشاة وركبان. ويكون بداخل «المِشور» تحت الطيقان رجلٌ واقف؛ فمن أراد أن يُكلم السلطان كلَّم دُوغا، ويكلم دُوغا ذلك الواقف، ويكلم الواقف السلطان.»
(٣) ذكر جلوس السلطان في المِشور
«ويجلس أيضًا في بعض الأيام «بالمشور». وهنالك مصطبة تحت شجرة، لها ثلاث درجات يسمونها «البَنْبِي»، تُفرَش بالحرير، وتُجعل المخَاد عليها، ويُرفع «الشطر» وهو شبه قبة من الحرير، وعليه طائر من ذهب على قدر البازي. ويخرج السلطان من بابٍ في ركن القصر، وقوسه بيده، وكِنانته بين كتفيه. وعلى رأسه «شاشية» ذهب، مشدودة بعُصابة ذهب، لها أطراف مثل السكاكين رِقاق، طولها أزيد من شبرٍ. وأكثر لباسه جُبَّة حمراء موبَّرة من الثياب الرومية التي تُسمَّى المطَنْفس. ويخرج بين يديه المغنون بأيديهم قنابر الذهب والفضة. وخلفه نحو ثلاثمائة من العبيد أصحاب السلاح، ويمشي مشيًا رويدًا، ويكثر التأني. وربما وقف ينظر إلى الناس، ثم يصعد برفقٍ كما يصعد الخطيب المنبر. وعند جلوسه تُضرب الطبول والأبواق والأنقار، ويخرج ثلاثة من العبيد مسرعين، فيدعون النائب و«الفرارية»، فيدخلون ويجلسون. ويُؤتى بالفرسَين والكبشَين معهما، ويقف دُوغا على الباب، وسائر الناس في الشارع تحت الأشجار.»
«والسودان (أي السود) أعظم الناس تواضعًا لمَلكهم وأشدهم تذللًا له ويحلفون باسمه» (ابن بطوطة، تحفة الأنظار، في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، المطبعة الأميرية ببولاق، ١٩٣٤م، الجزء الثاني، ص٣٠٣ إلى ٣٠٥).
وقد أفادنا ابن بطوطة بعد ذلك أن قنجا موسى سلَف سليمان منسا أعطى أبا إسحاق الساحلي الذي بنى له جامعًا في جَاوُ، أربعة آلاف مثقال، أي ما يعادل — تقريبًا — ۱۸۰ كيلوجرامًا من الذهب، مما يدل على مدى ثروة هذا البلد في العهد السابق على الاستعمار.
وهناك نصٌّ آخر لابن بطوطة يُعري تمامًا أسطورة سيادة الفوضى في أفريقيا السوداء قبل الاحتلال الأوروبي، وأنه (أي الاحتلال الأوروبي) هو الذي جلب معه السلام والحرية والأمن … إلخ.
(٤) ذكر ما استحسنته من أفعال السودان
وقد أخبرنا ابن بطوطة من قبل أنه عندما قرر أن يزور مدينة مالي، اكترى دليلًا من مَسوفة ليرشده في الطريق؛ لأنه ليس مضطرًّا إلى السفر في قافلة نظرًا للأمن السائد في الطرق.
ولكن كيف كان السود يتصرفون مع البيض أو مع الأجناس التي كانوا يعتبرونها من البيض؟ هذا ما يفيدنا به أيضًا ابن بطوطة في النص الذي يصف لنا فيه استقبال القافلة التي أوصلته إلى إيوالاتن حيث كان فاربا حسين يتولى منصب نائب ملك مالي:
«ولما وصلناها جعل التجار أمتعتهم في رَحَب، وتكفَّل السودان بحفظها. وتوجَّهوا إلى الفَرْبا وهو جالس على بساطٍ في سَقيف، وأعوانه بين يديه بأيديهم الرماح والقسي، وكبراء مَسوفة من ورائه، ووقف التجار بين يديه، وهو يكلمهم بِتُرجمان على قربهم منه احتقارًا لهم؛ فعند ذلك نَدِمتُ على قدومي بلادهم، لسوء أدبهم واحتقارهم للأبيض» (نفس المرجع، ص۲۹۸).
وقد كتب ديلافوس الذي يعتبر مالي من أكبر الإمبراطوريات التي ظهرت في العالم، كتب يقول بهذا الخصوص:
«غير أن جاوُ كانت قد استعادت استقلالها في الحقبة الواقعة بين موت قنجا موسى وتولي سليمان مانسا، وبعد ذلك بحوالي قرن، بدأت الإمبراطورية المادينجية في الأفول تحت ضربات سونْجوي، مع احتفاظها بما يكفي من القوة والمكانة لكي يتعامل سلطانها مع ملك البرتغال تعاملَ الند مع الند، بينما كان الأخير في أوج مجده» (ديلافوس، سود أفريقيا، الناشر بايو، ۱۹۲۲م، ص٦٢).
وهكذا يتبين لنا أن أباطرة أفريقيا لم يكونوا مجرد ملوك صغار، بل كانوا يتعاملون على قدم المساواة مع أقوى معاصريهم في الغرب. بل إنه بوسعنا أن نذهب إلى أبعد من ذلك، استنادًا إلى الوثائق المتوفرة لدينا، فنؤكد أن الإمبراطوريات السودانية الجديدة سبقت، بعدة قرون، قيام إمبراطوريات مماثِلة في أوروبا. فقد قامت إمبراطورية غانا على أقل تقدير بعد حوالي ٣٠٠ سنة من مولد المسيح، وظلت قائمة حتى عام ١٢٤٠م؛ علمًا بأن شارلمان، مؤسِّس أول إمبراطورية غربية بعد غزوات البربر تم تتويجه في عام ٨٠٠م.
وكانت عظمة غانا تعادل عظمة إمبراطورية مالي في كافة النواحي بل وتفوقها في رُقِيِّها؛ فهكذا كان حال دول أفريقيا عندما بدأ اتصالها مع الغرب في الأزمنة الحديثة.
وبوسعنا أن نُبدي هنا ملاحظة هامة للغاية: ففي هذه الحقبة، حيث كانت لا توجد في العصور الوسطى الغربية سوى ملكيات مطلقة، كانت الملكيات في أفريقيا السوداء دستورية، فكان هناك مجلس شعب يعاون الملك أعضاؤه المختارون من مختلف الفئات الاجتماعية. وهذا الطراز من التنظيم السياسي كان ينطبق أيضًا على غانا، ومالي، وجاو، وياتنجا، وكايور … إلخ. ولم يكن ذلك سوى نهاية لتطوُّر طويل المدى ظهرت بداياته في النوبة ومصر؛ وتلك هي الوسيلة الوحيدة لتفهُّم تواصل تلك السلسلة.
فأيًّا كانت الزاوية التي تنظر من خلالها إلى تاريخ أفريقيا، فإننا نجد أنفسنا أمام السودان المروي ومصر.
وعندما تم الاتصال مرة أخرى بين أوروبا وأفريقيا السوداء، عن طريق المحيط الأطلسي، كان تفوُّق أوروبا يعود إلى بحريتها التي تقطع مسافات طويلة، والأسلحة النارية، وذلك بفضل تواصل التقدم التقني في شمال حوض البحر الأبيض المتوسط. وقد أتاح لها ذلك السيطرة على القارة، وتزييف شخصية الزنجي. ولا نزال حتى الآن في ذلك الوضع. وقد ترتب عليه كل ذلك التزوير اللاحق للتاريخ المتعلق بأصل الحضارة المصرية.
وعلاوة على الوحدة السياسية، كانت الوحدة الثقافية تتدعم في أفريقيا السوداء في ظل مختلف الإمبراطوريات؛ فبعض اللغات، التي أصبحت لغات رسمية لأن الإمبراطور كان يستخدمها، كان يتم التعامل بها كلغاتٍ إدارية، وبدأت تسود على اللغات الأخرى التي مالت إلى التحول إلى لهجاتٍ إقليمية، على غرار تحوُّل البريتون والباسك والأوسيتان في فرنسا إلى لهجات محلية، عن طريق تطورٍ مماثلٍ.
واعتمادًا على الكلمات القليلة الواردة في رواية ابن بطوطة (المذكورة أعلاه) يُخيَّل لنا أنه كانت هناك، في كافة أنحاء المنطقة السودانية لغة قريبة للغاية من الوُلوف، قد تكون السراكوله، وذلك في الحقبة التي قام فيها المؤلف برحلة، بل وفي الحقبات السابقة عليها في عهد غانا. فعندما نجد تعبيرات مثل فاريا، وكيل = قرع، وغيرتي = فول سوداني؛ وكي-ماجان التي تعني الملك؛ ويِن-بي، يتكوَّن لدينا انطباع بأننا نجد أمامنا القواعد الصوتية للوُلوف «بنت-بي» = عصا، ونميل إلى الاعتقاد بأن لغة الوُلوف الراهنة، حتى وإن لم تكن لغة الحديث آنذاك، إلا أنها منحدِرة منها.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن تعبير توندي-دارو الذي سيتم فحصه في صفحة ٢٦٥ والصفحات التالية، والذي يشير إلى مدينة في منطقة غانا، لن يكون حدثًا يثير الدهشة، ولكن ذلك سيعني أن مهد الوُلوف انتقل نحو الشرق، اللهم إلا إذا كانت هذه اللغة قد انتشرت على نطاقٍ أوسع مما تصورت.
وقد قضى الاستعمار على تلك العلاقات الثقافية وغيرها، فأعاد إلى السطح اللهجات الإقليمية وشجَّع على نمو تنوُّع اللغات. وكان من الممكن التوصل إلى نتائج مماثِلة بعد عدة قرون من الاحتلال الألماني الذي كان سيُشجع على نمو اللهجات المحلية المذكورة أعلاه، على حساب اللغة الفرنسية التي كانت قد أصبحت من قبل لغة قومية.
وهكذا نرى أنه قد حدثت انتكاسة في أفريقيا السوداء، خاصة على الصعيد الشعبي، غير أنها ناجمة عن الاستعمار. وبوسعنا، بكل تأكيدٍ، أن نعزو إليه تقهقر بعض القبائل التي تم الحطُّ من شأنها تدريجيًّا، ودفعها داخل الغابات. ولذا فإن التعلُّل اليوم بأوضاع الشعوب التي أصبحت بدائية نوعًا ما، للادعاء بأن أفريقيا السوداء لم تعرف الحضارة أبدًا في ماضيها، وأن عقلية الزنجي بدائية وغير رشيدة، لا تستجيب للتحضُّر، لهو ادعاءٌ باطل بشكلٍ مزدوج.
فهذا الارتداد — في حد ذاته — يمكن أن يُفسِّر لنا احتفاظ تلك الشعوب بتقاليد تنمُّ، في ظل دولة بدائية نسبيًّا، عن مستوى من التنظيم الاجتماعي ومفهوم للعالم لا يتفقان مع المستوى الراهن لثقافتهم.
(٥) المشاكل التي يثيرها الشعر الناعم والتقاطيع «المنتظِمة»
يتعيَّن أن نقول هنا إن كلًّا من الشعر الناعم والتقاطيع المنتظِمة ليس حكرًا على الجنس الأبيض. فهناك جنسان أسودان متميزان في الوقت الراهن؛ أحدهما بشرته سوداء، وشعره أكرت، والثاني بشرته سوداء هو أيضًا، بل وحالكة السواد بشكلٍ استثنائي في الكثير من الأحوال، وشعره ناعم، وأنفه معقوف، وشفاهه رقيقة، وزاوية أوداجه حادة. ولدينا نموذج أصلي لهذا الجنس في الهند، متمثل في الدرافيديين، كما أننا نعرف أيضًا أن بعض النوبيين ينتمون إلى نفس هذا الجنس، كما أشار إلى ذلك الجغرافي العربي المعروف الإدريسي، ونَقَله لنا بدرال:
«النوبيون أجمل السود، وشفاه نسائهم رقيقة، وشعرهن ليس مجعدًا» (بدرال، المرجع السابق، ص٧).
ولذا فإن إجراء بحوث أنتروبولوجية، والتوصل إلى نوعٍ درافيدي، ثم استخلاص من ذلك غياب النوع الزنجي، غير صحيحٍ ومناقضٌ للعلم. وذلك هو موقف الدكتور ماسولار، استنادًا إلى دراسات الآنسة ستوسيجر، حول الجماجم المنتمية إلى حضارة البداري. ومما يجعل ذلك التناقض صارخًا أن تلك الجماجم تتميز بطول الفكَّين وبروز الأسنان، وهي صفات لا توجد إلا لدى الزنوج أو الزنجويين، وأقصد بزنجوي كل عنصر منحدر من الزنوج.
«لا تختلف الجماجم البدارية إلا قليلًا عن الجماجم الأخرى المنتمية إلى عصر ما قبل الأسرات، الأحدث منها؛ فكل ما في الأمر أنها طويلة الفكَّين وبارزة الأسنان بقدرٍ طفيفٍ. وهي تشبه بقدرٍ أكبر، بعد الجماجم البدارية، الجماجم الهندية البدائية — الدرافيدية والفيداه — وهناك بعض الجوانب الزنجوية فيها، ترجع إلى اختلاط بالدم الزنجي، منذ عهد قديم للغاية بالتأكيد» (د. ماسولار، المرجع السابق، ص٣٩٤).
ولم يتم التوصُّل إلى «تبييض» الجنس المصري إلا عن طريق تعارضات مختلفة من هذا النوع، علمًا بأن الجنس المصري كان لا يزال زنجيًّا حتى في عهود ما قبل التاريخ، كما يشير إلى ذلك هذا النص، وعلى نقيض المزاعم التي لا تستند إلى أي أساسٍ علمي، والتي تريد أن يكون المصريون أولًا بيضًا تهجَّنوا فيما بعد مع الزنوج.
ويتم الاستناد عادة إلى شعور بعض المومياوات الناعمة، وهي المومياوات المختارة بعناية، والوحيدة التي تصادفها — على أي حالٍ — في المتاحف، للتأكيد على أنها تمثِّل نموذجًا للجنس الأبيض، على الرغم من استطالة الفكَّين وبروز الأسنان. وتُعرَض تلك المومياوات جهارًا لمحاولة إثبات أن المصريين كانوا من البيض. وسُمك الشعر الذي يتم الاعتماد عليه، لا يسمح بقبول فكرة الجنس الأبيض؛ فعندما توجد مثل هذه الشعور على رأس مومياء، فإنها لا تقرِّبنا في الواقع، إلا من النوع الدرافيدي، بينما يقضي تمامًا على فكرة الأصل الأبيض كلٌّ من استطالة الفكَّين، وبروز الأسنان، وسواد البشرة، الذي لا يرجع إلى القطران أو غيره من المستحضرات. واختيار هذه المومياوات بدقة، دون الإشارة إلى ذلك، يلغي تمامًا فكرة اعتبارها نموذجًا. فقد قال لنا هيرودوت، بكل وضوحٍ، بعد أن رأى المصريين بعينَي رأسه إن شعرهم أكرت؛ ولذا يحق لنا — طبعًا — أن نتساءل لماذا لا تُعرض علينا المومياوات التي تتميز بتلك السِّمات. فمع أن عدد هذه المومياوات لا بد أن يكون أكبر إلا أننا لا نجد لها أثرًا في الوقت الراهن، وعندما يتم العثور على إحداها فإنهم يحاولون إقناعنا بأنها تمثِّل شخصًا أجنبيًّا.
وهذه الوقائع خطيرة للغاية.
وهناك ملاحظة تؤكد ما أفادنا به هيرودوت بخصوص شعر المصريين الأكرت؛ وهي لجوء النساء المصريات إلى استخدام الشعر المستعار الذي نجد حتى الآن مثيله تمامًا في أفريقيا السوداء في شكل دبيرة ودجمبي. ولنا أن نتساءل بالطبع، ما الذي يمكن أن يدفع امرأة بيضاء ذات شعر طبيعي مسترسل وجميل إلى إخفائه بشعرٍ مستعار غليظ على غرار المصريات؟ فعلى العكس، يجب أن نستخلص من ذلك أن مشكلة الشعر كانت دائمًا من الهموم التي تشغل بال المرأة السوداء.
وعلى أي حالٍ، فإننا نرى أنه لا يمكن الاعتماد على نعومة الشعر لكي نستخلص من ذلك أننا بصدد جنس أبيض، لأنه يوجد شعر ناعم مختلف عن الشعر الأوروبي بقدر اختلافه عن الشعر الأكرت.
(٦) هل هو جنس أسود مُسَخَّر؟
تحاول بعض المؤلفات الترويج لفكرة تعايش جنس أسود مُسَخر طوال العصور القديمة مع جنس أبيض، مما أدى تدريجيًّا إلى تغيير سِمات ذلك الجنس الأخير.
ويعتبر الاتصال بين الجنسَين، منذ ما قبل التاريخ، حقيقة واقعة، دون أن نقرر مع ذلك مدى حجم ذلك الاتصال في مختلف المناطق التي جرى فيها. غير أن الدراسة الموضوعية للوثائق المتوفرة لدينا عن تلك العهود القديمة تجبرنا على قلب العلاقات التي أرادوا أن يقيموها مبدئيًّا بين الجنسَين، انطلاقًا من عيلام حتى مصر. وتكشف لنا حفريات ديولافوا عن أن الأسر الأولى في عيلام كانت زنجية. وتُبيِّن لنا مجموعة التماثيل العمرية جنسًا أبيض أسيرًا في مصر، إلى جانب جنس أسود يتجوَّل في الطبيعة بحرية. ولم يتحرر تمامًا العالم الأبيض من العالم الأسود الذي كان مسيطرًا عليه آنذاك، إلا في العهد الإيجي الذي كان بداية لظهور شمال البحر الأبيض المتوسط على مسرح التاريخ.
(٧) لون المصريين الأسمر المائل للاحمرار!
وهكذا يمكن تفسير لون المصريين الأسمر المائل إلى الاحمرار، بينما ظلَّت شفاهم غليظة — بل ومتدلية أحيانًا — وظلت «أفواههم عريضة إلى حدٍّ ما» و«أنوفهم لحيمة» كما يقول ماسبيرو.
وهكذا نرى أن المصريين ظلُّوا دائمًا من الزنوج، واللون الخاص الذي يريدون أن يُضفوه عليهم يوجد لدى ملايين من الزنوج المنتشرين في كافة أرجاء أفريقيا السوداء اليوم.
وكثيرًا ما يشيرون إلى رسوم المصطبات، ويميزون بين النَّحاسي والراميتو، أي بين الزنوج والمصريين، وهو ما يعادله التمييز بين أفراد من الوُلوف والبامبارا والموسي والتوكولور على لوحة جدارية واعتبار الآخرين من البيض أو من جنسٍ مختلفٍ عن الجنس الأسود الذي يمثِّله الوُلوف. وتعطي هذه الملاحظة فكرة سليمة للأفارقة عن قيمة التمييزات التي تُذكر عادة على أساس التصاوير المصرية. بيد أنه يتعيَّن تحديد تواريخها بدقة؛ فصور المصطبات كانت معروفة تمامًا قبل شامبليون، ولوحظت آنذاك تدرجات ألوان الأنواع التي تمثِّلها. وكانوا يقررون أن الأمر يتعلق بجنسٍ زنجي لأن مصر كانت تُعتبَر حتى ذلك الوقت، بلدًا سكنه الزنوج دائمًا. كما أن الفن المصري نفسه كان معتبرًا من الفنون الزنجية التي لا أهمية لها.
ولم تتغير هذه الآراء إلا في اليوم الذي تَبيَّن لهم، وقد أدهشتهم الحقيقة، أن مصر كانت أم الحضارة بأسرها. وبدا لهم أنهم يرَون بشكلٍ أفضل لأنهم استطاعوا أن يميزوا في تلك النقوش الجدارية التي كانت تمثِّل بالإجماع زنوجًا، تدرجات؛ «جنس أبيض ذو بشرة حمراء» و«جنس أبيض ذو بشرة حمراء داكنة» و«جنس أبيض ذو بشرة سوداء».
ولكنهم لم يميزوا أبدًا من بين المصريين «جنسًا أبيض ذا بشرة بيضاء» ليس إلا.
فالحجة المتمثِّلة في اللون «الأسمر المائل للاحمرار» تؤكد — في حد ذاتها — الأصل الزنجي للجنس المصري.
(٨) نقوش نُصُب فِيَلة
كثيرًا ما اعتمدوا على هذه النقوش التي كانت تحدد الحدود بين السودان المَرَوي ومصر بعد الاضطرابات التي شهدها عهد الأسرة الثانية عشرة؛ لكي يؤكدوا أنها تتعلق بالتمييز بين جنسَين مختلفين، وأن هذا النُّصب كان يحظر على السود دخول مصر.
وهذا الاستنتاج تزوير خطير لأن كلمة «أسود» لم يستخدمها المصريون أبدًا للتمييز بينهم وبين السودانيين المَرَويين، فكلاهما ينتمي إلى نفس الجنس؛ ولذا كانوا يشيرون إلى بعضهم البعض بأسماء قبائل أو مناطق، ولم يستخدموا أبدًا نعوتًا ترتبط باللون، كما لو كان الأمر يتعلق باتصالاتٍ بين جنسٍ أسود وآخر أبيض.
ولو قضت اليوم كارثة ذرية على الحضارة الحديثة، تاركة المكتبات سليمة، فإن الناجين من الكارثة سيلاحظون فورًا عند اطلاعهم على أي كتاب أدبي أن سكان المناطق الواقعة جنوب الصحراء يُشار إليهم بأنهم «سود» وأن تعبير «أفريقيا السوداء» سيكون بمثابة إشارة ثمينة لتحديد موقع إقامة الجنس الأسود. ونحن لا نجد شيئًا مماثلًا في النصوص المصرية. وفي كل مرة يستخدم فيها المصريون النعت «أسود»: كِم، يكون ذلك للإشارة لأنفسهم، ولبلدهم، بلاد السود كيميت، لا الأرض السوداء كما يفترض أصحاب الخيالات البارعة.
ولا يوجد أي نصٍّ أصلي يُشير جهارًا إلى كلمة «السود» كتعبيرٍ يستخدمه المصريون لتمييز أنفسهم عن الزنوج، ولا يوجد شيء من هذا القبيل إلا في النصوص العديدة الواردة في الأدب الحديث التي تُشير عمدًا إلى «السود». ففي كل مرة يحدثوننا عن هذا الحدث أو ذاك نقلًا عن المصريين حول «السود» يكون ذلك تزييفًا. وهم يترجمون كلمة نَحاسي، المذكورة أعلاه، إلى «السود» لصالح أطروحاتهم. ومن الأمور المُلفتة حقًّا للأنظار أن نجد في نفس المؤلَّف، وبنفس قلم المؤلِّف، أن كلمة كوشيين ذاتها تصبح غير متوافقة مع فكرة «السود»، بمجرد أن يكون ذلك إشارة إلى السكان الأوائل الذين أقاموا حضارتهم في الجاهلية، أو إلى بلاد الشام قبل اليهود (فينيقيا) أو بلاد ما بين النهرين قبل الآشوريين (عصر الكلدانيين) أو إلى عيلام والهند قبل الآريين. ويشكِّل ذلك أحد التناقضات العديدة التي تكشف عن خوف المتخصصين من إظهار الوقائع التي يعثرون عليها، بحد أدنى من حسن الإدراك. ولا يمكننا أن نفهم موقفهم إلا من خلال منطقهم التالي: نظرًا لأن لدي فكرة مسبقة عن الزنجي (عن طريق التربية)، فإن تواجد وثائق تُثبِت موضوعيًّا أن هؤلاء الزنوج (الكوشيين والكنعانيين والمصريين … إلخ) هم الذين خلقوا الحضارة، فلا يمكن أن يكون ذلك سوى خطأ لا بد من التوصُّل بكل تأكيدٍ إلى عكسه، عن طريق البحث الدءوب. وتتمثَّل الوسيلة الأكيدة التي لا غنى عنها للتوصُّل إلى الحقيقة التي تتضمنها تلك الوثائق، مع تجاوز المظاهر، في تفسير تعبيرات: كوشي وكنعاني … إلخ، على أنها لا يمكن أن يُقصَد بها أنهم من الجنس الأسود؛ ولذا فلنقل إن الأمر يتعلق بأي جنسٍ كان، ما عدا أن يكون جنسًا أسود، أو أن يكون جنسًا أسود ولكنه ليس مع ذلك جنسًا أسود، بل أسمر … إلخ.
ويتم اللجوء إلى تزييفٍ مماثِل عندما يرِد ما ذكره مؤلفون قدامى مثل هيرودوت، وديودور، والمسافرون القرطاجنيون الأوائل … إلخ. فهم يوحون إلينا، في الكتب التي تذكر هؤلاء المؤلفين أنهم كانوا يميزون بين المصريين من ناحية، والزنوج من ناحية أخرى. وينطبق ذلك على ديلافوس (وهو ليس الوحيد بالطبع) عندما قال في كتابه «زنوج أفريقيا» (الناشر بايو، ۱۹۲۲م):
«هناك فقرة بهذا الخصوص لها دلالتها في مؤلَّف هيرودوت التاريخ؛ فقد حدد لنا تقريبًا المؤرخ الإغريقي في الكتاب الثاني من مؤَلَّفه (الفقرتين ۲۹ و۳۰) التخوم الشمالية التي توصَّل إليها الزنوج في زمانه في وادي النيل، وهم أولئك الذين يسميهم «الإثيوبيين». فهذه الحدود مماثلة إلى حدٍّ كبيرٍ لتلك التي وصلوا إليها في أيامنا هذه. وهو يقول لنا إنه كان يوجد هناك سود «شمال فيلة»، أي أعلى الشلال الأول، بعضهم مستقر والبعض الآخر من الرُّحل، يعيشون جنبًا إلى جنب المصريين» (ص۲۰ و۲۱).
وعندما نرجع إلى هيرودوت، يتضح لنا التزييف الذي جاء في نص ديلافوس المذكور أعلاه، فهو يريد أن يوحي إلينا أن السود والمصريين كانوا، حسب هيرودوت، متميزين بل ومتعارضين (للمقارنة مع ما ذكره هيرودوت في الصفحة الأولى).
والكتاب الثاني من مؤلَّف هيرودوت الذي ذكره ديلافوس يفيدنا بأن لون بشرة المصريين كان أسود، وأن شعرهم كان أكرت (الكتاب الثاني، الفقرة ١٠٤). وتتضح لنا هنا الوسيلة التي تم اللجوء إليها لجعل المؤلِّفين القدامى يقولون عكس ما دوَّنوه، وذلك في الحالات النادرة التي لا يُسدل فيها — بكل بساطة — ستار الصمت على شهاداتهم المزعجة. وهكذا يتصورون أن بمقدورهم الحط من مصداقية هؤلاء المؤلفين القُدامى. وهذه النصوص المبتورة والمزيَّفة خطيرة للغاية لأنها توهم غير المتخصص بأنه بصدد معلومات أفادتنا بها مصادر موثوق بها.
ووفقًا للوثائق المصرية ذاتها، كان السودان المَرَوي، منذ أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، بلدًا مزدهرًا يُقيم علاقاتٍ تجارية مع مصر، وكان الذهب فيه وفيرًا بشكلٍ خاص. ومن المفترض أنه نقل لمصر في حوالي تلك الحقبة الرموز الهيروغليفية الاثني عشر التي كانت على ما يبدو الجنين الأول للأبجدية.
وبعد عدة محاولات للغزو، أصبح السودانيون والمصريون حلفاء ينظِّمون معًا حملات على شواطئ البحر الأحمر؛ حملة بيبي الأول من الأسرة السادسة. وكان يحكم النوبة في ذلك الوقت ملك يُدعى أوانا، وقد أصبح حاكمًا لصعيد مصر في عهد خليفة بيبي الأول، واستمر ذلك التحالف حتى الأسرة الثانية عشرة، عندما نجح سنوسرت الأول في فرض وصايته على النوبة.
«غير أنه تم التخلُّص من النير في عهد سنوسرت الثاني في ظل أوضاعٍ جعلت مصر مهدَّدة بالتعرُّض بدورها للغزو. وقد أقيمت متاريس وقلاع بين الشلالَين الأول والثاني لوقف زحف النوبيين. واشتد قلق مصر إلى حدٍّ جعلها تستدعي قبائل بدوية بقيادة المدعو أبشاي الذي جاء من سوريا. وقد تخلَّص سنوسرت الثالث من هذا التهديد بشن أربع حملات، وتم نقل الحدود نحو أعالي النيل حيث شُيِّدت قلاع أخرى، وأُقيم نُصب جديد يحظر مرور السود» (د. ب. دي بدرال، الموجز العلمي لأفريقيا السوداء، الناشر بايو، ١٩٤٩م، ص٤٥).
وباستثناء عدم صحة كلمة «السود» التي تنتهي بها تلك الفقرة، والتي لا تقع مسئوليتها على المؤلف المعروف بنواياه الحسنة، فإنها تدلنا على طبيعة الأحداث التي يرجع إليها السبب في إقامة نُصب فيلة. ويتبين لنا من خلال تلك الوقائع أن الحليف السوداني كان في مرحلة معينة على وشك فتح مصر التي نظمت لذلك دفاعاتها، وأقامت نُصب فيلة. وعليه فإن هذا النُّصب لا يمكن أن يُفسَّر بالمعنى الذي أرادوا إضفاءه عليه.
وابتداء من معركة دانكي حتى معركة جويلة، كانت علاقات كايور ودجولوف على غرار علاقات التضاد الدورية بين مصر والنوبة. فهل حال ذلك دون أن يكون الكايوريون والدجولوف-دجولوف من نفس الجنس الأسود؟
«لم أرتكب خطيئة ضد البشر … ولم أفعل شيئًا يكرهه الآلهة، ولم أُكدِّر أحدًا أمام رئيسه، ولم أترك أحدًا جائعًا، ولم أدفع أحدًا إلى البكاء، ولم أقتل ولم آمر بالقتل. ولم أتسبَّب في آلامٍ لأحدٍ، ولم أقلل من الغذاء في المعابد، ولم آكل من خبز الآلهة. ولم أسرق قرابين الموتى، طوبى لهم … ولم أُطفِّف مكيال الحرب، ولم أقصص مقياس الطول أو أطفِّف الميزان أو أحرِّف مؤشره. ولم أنتزع اللبن من فم الطفل، ولم أحرم الماشية من مرعاها … ولم أحتجز ماء الفيضان في موسمه، ولم أقم حاجزًا أمام الماء الجاري … ولم أتسبَّب في خسائر في القطعان الموقوفة على المعابد … المجد لك يا رب … إنني قادم إليك بلا خطيئة وبلا شرور … لقد نفذتُ ما يُرضي الآلهة … فأعطيت الخبز للجوعان، والماء للعطشان والملابس للعاري، ومَعبرًا لمن ليس لديه قارب. لقد قدَّمت القرابين للآلهة وهدايا جنائزية للموتى، طوبى لهم. أنقذني واحفظني، إنك لن تتهمني أمام الإله الأعظم. أنا إنسان فمه نقي ويداه طاهرتان، ومن يرونه يقولون: مرحبًا بك» (انظر الصورة رقم ٥٢).