إعْمار أفريقيا انطلاقًا من وادي النيل
إن الحجج التي تساق للدفاع عن الأطروحة التي تعتبر أن إعمار أفريقيا تم عن طريق المحيط الهندي، انطلاقًا من أوقيانوسيا، لا تستند على أي أساس، ولم تتوفر لدينا حتى الآن أي وقائع أثرية أو غيرها تسمح لنا بأن نعثر على مهدٍ للزنوج خارج أفريقيا. وقد تم الاعتماد على الأساطير التي جُمعت من أفريقيا الغربية ومفادها أن الزنوج قَدِمُوا من الشرق من ناحية المياه الكبرى. وارتأى ديلافوس، مقدَّمًا، أن «المياه الكبرى» التي ورد ذكرها في الأساطير هي المحيط الهندي، دون أن يكون هناك أي دليل آخر، وربما اعتبرها فرضية تكون منطلقًا للمزيد من الدراسة، خاصة وأنه كان من المعتقَد آنذاك أن مهد الحضارة كان في آسيا، نتيجة لاكتشاف إنسان جاوة وإنسان بكين، وما جاء في التوراة بخصوص آدم وحواء.
وقد تبلورت الأفكار حول ذلك، ونسي المتخصصون أن الأمر كان مجرد افتراض مبدئي، أصبح يُنظر إليه على أنه نظرية أُقِيمَ عليها البرهان.
واعتمادًا على ما نعرفه حول آثار جنوب أفريقيا، حيث يبدو أن البشرية نشأت هناك، وعلى كل ما نعرفه عن الحضارة النوبية، أُمُّ الحضارة المصرية على الأرجح، وعلى كل ما نعرفه عن ما قبل التاريخ في وادي النيل، يكون من المشروع أن نفترض أن «المياه الكبرى» ليست إلا مياه النيل.
وعندما وصل البحارة الأوائل إلى جنوب أفريقيا ورسَوا عند الكاب منذ بضعة قرون، لم يكن الزولو المهاجرون من الشمال نحو الجنوب قد وصلوا بعدُ إلى الكاب.
ويتفق هذا الافتراض مع أساطير الزنوج المستقرِّين في وادي النيل؛ إذ لا تشير أساطيرهم إلا إلى أصلٍ محلي لهم. ولم يحدث طوال الأزمنة القديمة أن أرجع النوبيون والإثيوبيون أصولهم إلى جهة غير محلية، اللهم إلا إذا كانت تلك الجهة تقع جنوب موضعهم. وقد قدَّم لنا م. دافزاك ملخصًا لأساطير القدامى هذه المتوافقة بالإجماع حول اتجاهات الهجرات، بتهكمٍ لا ينتقص من جدواها:
«وهناك آخرون، من المتبحرين الحالمين أو من المتخصصين المهرة في علم وظائف الأعضاء. لم يلجئُوا إلى التاريخ البدائي للأفارقة وتقاليده التي تبددت تقريبًا، بل فضَّلوا البحث عنه في افتراضاتٍ مغامِرة، وهكذا فإن رواياتهم المبنية على التخمينات تفيدنا بأن الزنجي، النجل البكر للخليقة، وابن الأرض والمصادفات، نشأ في جبال القمر المغطاة بالثلوج (أفريقيا الوسطى) حيث وجد، فيما بعد، مهده الإنسان الذي هبط من هناك إلى سنار، وأنجب المصري والعربي والأتلانطيد. وكان الجنس الزنجي أكثر عددًا لمدة طويلة؛ فأخضع الجنس الأبيض وسيطر عليه، غير أن الجنس الأخير تكاثر تدريجيًّا، وتخلَّص من نِير أسياده، وتحوَّل بدوره من عبدٍ إلى سيدٍ، وحكم على الجنس الأول بأن يرسف من الآن فصاعدًا في القيود الحديدية الجائرة التي كان قد حطَّمها. وقد انقضَت قرون، ولكن غضبة هذا الجنس الأبيض لم تهدأ بعدُ» (أفريقيا القديمة، سلسلة الكون، الناشر ديدو، ١٨٤٢م، ص٢٦).
وعلاوة على الأساطير الراهنة للشعوب الأفريقية التي تذكر كلها تقريبًا حوض النيل والعنصر القزم الذي كان يسكن أعماق البلاد قبل تشتت الزنوج، فلنذكر فقرتَين من هيرودوت تؤكدان ذلك.
يتعلق الأمر بشباب من الناسامون، انطلقوا من سرت (بَرْقَة حاليًّا) وساروا باتجاه الغرب بمحاذاة شاطئ البحر الأبيض المتوسط، ثم اتجهوا نحو الداخل بعد اجتياز الصحراء، ووصلوا إلى شواطئ نهر حيث كان لا يقيم سوى أقزام سود.
«وهؤلاء الشبان الذين أرسلهم زملاؤهم مزودين بمخزون جيد من الماء والغذاء، مرُّوا أولًا ببلدان مأهولة ثم وصلوا بعد ذلك إلى بلد يزخر بوحوش مفترسة؛ وواصلوا من هناك طريقهم إلى الغرب عبر الصحاري، وشاهدوا، بعد أن ساروا طويلًا في بلدٍ كثيف الرمال، سهلًا به أشجار. وعندما اقتربوا منه أكلوا من ثمار تلك الأشجار. وبينما كانوا يأكلون انقضَّ عليهم رجال صغار الحجم يقل طول قامتهم عن المتوسط، وساقوهم قسرًا. وكان هؤلاء الناسامونيون لا يعرفون شيئًا عن لغتهم، كما أن هؤلاء الرجال الصغار الحجم كانوا لا يفهمون شيئًا من لغة الناسامونيين. وقد ساروا بهم في منطقة مستنقعات، ووصلوا بعد اجتيازها إلى مدينة جميع سكانها من السود، لهم نفس قامة مَن اقتادوهم إليهم. وكان هناك نهر كبير به تماسيح، يجري من الشرق نحو الغرب، بمحاذاة المدينة» (هيرودوت ٢: ۳۲).
ويبدو إذن أن داخل البلاد كان يسكن في فترة معينة، أقزام فقط، والنهر المقصود قد يكون نهر النيجر، لأننا نعلم الآن، على عكس اعتقاد هيرودوت، بأن النيل فيما بعد الحبشة لا يتخذ منحنى لكي يتدفق من الشمال إلى الجنوب، بعد أن يجتاز أفريقيا من شمالها الغربي إلى جنوبها الشرقي.
وتتعلق الفقرة الثانية برحلة ساتاسب، ابن تياسبيس، الذي كان على وشك أن يُصلب بناء على أمر قورش، فخُفِّف الحكم الصادر ضده إلى سياحة في مجاهل أفريقيا بناء على طلب والدته، أخت دارا. وقد عبَر ساتاسب أعمدة هرقل (جبل طارق) وأقلع متجهًا إلى الجنوب. وهو لم يستكمل رحلته، ولكنه أبدى مع ذلك الملاحظات التالية حول أهالي الشواطئ الأطلسية لأفريقيا في ذلك الزمن:
«وقد حكى أنه رأى في أقصى الشواطئ التي طاف بها أناسًا صغار القامة يرتدون ملابس من خوص النخيل، تركوا مدنهم، والتجئُوا إلى الجبال بمجرد أن رأوا سفينته ترسو، وأنه عندما دخل مدنهم لم يتسبب في أي ضررٍ يلحق بهم، واكتفى بأخذ مواشٍ» (هيرودوت، ٤: ٤٣).
وبناء على ذلك يكون الأقزام أول مَن سكن داخل القارة، على الأقل لحقبة معينة، وكانوا يُعمِّرونها وحدهم في غياب الزنوج الطوال القامة. ويمكننا أن نفترض أن الأخيرين كانوا متناثرين حول وادي النيل، وانتشروا في كافة الاتجاهات مع مرور الزمن، نتيجة للإعمار والاضطرابات الاجتماعية التي تتخلل تاريخ أي شعب.
وهذه الفكرة ليست فقط مجرد نظرية لم تتأكد أو فرضية عملٍ بسيطة؛ فمعلوماتنا عن إتنوجرافيا أفريقيا تسمح لنا بالانتقال من حالة الافتراض إلى الواقع التاريخي المحقَّق. فهناك أساس ثقافي مشترك بين كافة زنوج أفريقيا، وبالأخص أساس لغوي لهم جميعًا يبرهن بصفة عامة على سلامة تلك الفكرة.
ولكن هناك بالأخص التشابه اللغوي بين الأسماء وتحليل الأسماء الطوطمية للعشائر التي يحملها كافة الأفارقة، إما بشكلٍ جماعي أو بشكلٍ فردي وفقًا لمدى التشتت، وتحليل هذه الأسماء بارتباطها بالتحليل اللغوي المناسب، مما يسمح لنا بالانتقال من صعيد الاحتمال إلى صعيد التأكد.
ففي مصر ذاتها نجد الأسماء التالية المشتركة بينها وبين السنغال:
مصر | السنغال |
---|---|
أتوم | أتو |
سيك-مت | سيك |
كيتي | كيتي |
كابا. | كابا، كيبا، كيبيه. |
أنتف. | أنْتا. |
فاري = الفرعون. | فاري = اسم علم، لقب للإمبراطور. |
مِري | مري |
ميري | ميري |
سابا (كوش) | سيبي |
كارا، كاريه | كارِيه |
با-را | بارا-باري (بول) |
رمسيس؛ رِياما | راما |
باكاري | باكاري |
ويذكر بدرال في الفصل العاشر من كتابه «آثار أفريقيا السوداء»، البوروم الذين نجدهم في أعالي النيل وفي منطقة بينوية في نيجيريا؛ والجا-جان-جانج الذين نجدهم في منطقة البحيرات الكبرى وساحل الذهب وفولتا العليا وكوت ديفوار، والجولا-جوليه-جولاي الذين نجدهم على نهري النيل والشاري؛ كما يتعين أن نضيف أن جيلاي اسم سنغالي من أصل سارا.
(١) كارا كاريِه-كرِيكاريِه
ووفقًا لما كتب بدرال، يشكِّل الكارا نواة تعيش على تخوم السودان وأعالي نهر أوبانجي، ويعيش الكاريِه على مقربة من نهر لوجون، والكاراكاريه في شمال شرق نيجيريا.
وكاريكاريه ليست سوى تكرار لكاريه، وهي كلمة مكوَّنة أصلًا من كا + را أو كا + ريه.
وهناك الكيبسيجوي-كابسيجوي في منطقة البحيرات الكبرى وشمال الكامرون، والكيسي في شمال شرق بحيرة نياسا ومناطق الغابات في غينيا العليا؛ والكوندو في الكونغو (بحرة ليوبولد) وجنوب الكامرون ومصب نهر وودي؛ واللاكا عند النوير في أعالي النيل وعند السارا في لوجون وشمال الكامرون؛ والماكا-ماكُوا على نهر الزامبيز وفي الكامرون، والسانجو في شمال شرق نياسا وضفاف نهر الأوبانجي؛ والسومبا-سوْمبوا في منطقة البحيرات الكبرى وشمال داهومي.
وبوسعنا أن نواصل هذه القائمة إلى ما لا نهاية، وأن نحدد بذلك موقع المهد الأول لكل الشعوب الزنجية التي تعيش اليوم مشتَّتة في مختلف أنحاء القارة؛ إنه وادي النيل ابتداء من البحيرات الكبرى.
وهذا التماثل في أسماء الأعلام يقف في صف الهجرة الحديثة؛ ولذا يكون من الأفضل التعمُّق في دراسة أصل عددٍ من الشعوب مثل اليوروبا، والسيرير، والتوكولور، والبول، واللآوُبي، وإثبات أن وادي النيل كان بالفعل نقطة انطلاقهم.
وسنُبدي قبل ذلك ملحوظة حول البا-فور الأسطوريين، والذين يُقال عنهم تارة إنهم كانوا حمرًا، وطورًا إنهم كانوا سودًا. ولفظ «با» أداة تصدير مشتركة تسبق أسماء كل الشعوب في أفريقيا، ويمكن مقارنتها باﻟ «وا» المصرية والقبطية والوُلوف التي تعني: الذين من، هؤلاء من … إلخ. وفي اللغات التي تُستخدم فيها تلك الأداة في الجمع — لا كأداة تصدير ولكن كإضافة — تُفسِّر لنا أصل الجمع في اللغة المصرية:
باك-و= خدم (بالمصرية).
سومب-وا = السومبيون.
زمباب-وي.
وعليه فإن با-فور هي أيضًا مكوَّنة على غرار:
با-نده = البانديون.
با-لوبا = اللوبيون.
وهكذا يمكننا أن نتصور أن البا-فور هم الفور.
ومن الجدير بالملاحظة، دون أن نتجاسر ونستخلص من ذلك استنتاجًا، أن بور بالوُلوف تعني أصفر، وقد تُشير با-فور لا إلى قبيلة أناس حمر أو سود، يُشكِّل السيرير سلالتهم، بل إلى قبيلة من الجنس الأصفر، وهو ما قد يُفسِّر لنا ليس فقط السِّمات المنغولية التي نجدها في أفريقيا الغربية، بل وربما أيضًا الصلات الثقافية بين أفريقيا وأمريكا التي تشهد عليها كلمات مشتركة مثل:
لوتو = قارب بالوُلوف، وأيضًا في لغات هنود أمريكا الشمالية (وكذلك بلغتي السارا والباجويرمي).
تول = اسم مدينة في السنغال.
توله = اسم بلد للإسكيمو.
تولا = اسم مدينة في المكسيك.
إينويت = الناس بلغة الإسكيمو (انظر جيسان، الإسكيمو من جرويلاند حتى الألسكا، ص٥)، إي-نيت، آي-يت = الناس بالوُلوف.
وفي القرن الماضي، وصف بوري دي سان فانسان الإسكيمو الذين كان سوادُ بعضهم يكاد يعادل أشد الأفارقة سوادًا، وذلك رغم المسافة الشاسعة بين خطوط العرض:
«وعلى أي حال فإن الجنسين أكثر سُمرة من بقية شعوب أوروبا وآسيا الوسطى، بل وأَدْكَن من أيٍّ من الأمريكيين الآخرين، كما أنهم يزدادون سوادًا كلما اتجهنا أكثر فأكثر نحو الشمال؛ مما يُقدِّم دليلًا آخر على أن شدة حرارة الشمس ليست السبب في أن يكون الناس زنوجًا في بعض المناطق المدارية، كما هو معتقَد عمومًا. ولا يندر أن نجد إسكيمو وجرويلانديين وسامويديين في خط عرض ۷۰، لونهم داكن أكثر من الهوتنتو الموجودين في أقصى الطرف المقابل في القارة القديمة، ويكاد لونهم يكون بنفس سواد الوُلوف والكافر في خط الاستواء» (تاريخ ووصف جزر المحيط، سلسلة «الكون»، باريس، الناشر ديدو، ۱۸۳۹م).
(٢) أصل اليوروبا المصري
يتعرَّض ج. أولوميد لوكاس، في كتابه «ديانة اليوروبا» (لاجوس، ١٩٤٨م) للأصل المصري لهذا الشعب بالعبارات التالية:
- (أ)
تشابه اللغة أو تماثلها.
- (ب)
تشابه المعتقدات الدينية أو تماثلها.
- (جـ)
تشابه الأفكار والممارسات الدينية أو تماثلها.
- (د)
بقاء عادات وأسماء أشخاص ومواقع وأدوات … إلخ.
وبعد أن ذكر لوكاس العديد من الأسماء المشتركة باللغتين المصرية واليوروبا مثل:
ران = اسم.
بو = اسم موقع.
آمون = خفي.
ميري = ماء.
ها = بيت كبير.
هور = أن يكون كبيرًا.
فاها كا = سمك في اللون.
نابريت = حبة.
إلخ … انتقلَ إلى تماثل المعتقدات الدينية، وذكر لنا عدة وقائع مثيرة حقًّا، فقال:
ولا يزال الإله رع عند اليوروبا باسمه المصري رارا، ويذكر لوكاس كلمة إي-را-وو التي تُشير إلى النجم الذي يصحب شروق الشمس، وهو مكوَّن من الحرف المتحرك، كأداة تصدير تتميز بها لغة اليوروبا، باعتبارها لغة صوتية أساسًا، كما يقول المؤلف (وفي رأينا أن شأنها في ذلك شأن كافة اللغات الأفريقية) ورا، وهي كلمة مصرية معناها استيقظ.
ويرى المؤلف أن كلمة رارا التي تعني «إطلاقًا» باليوروبا، تجعلنا نفترض أنهم كانوا يُقْسِمُونَ فيما مضى باسم هذا الإله.
كما أن اسم الإله القمري خونسو نجده لدى اليوروبا تحت اسم أوسو = القمر، وهو يذكِّرنا بأن الخاء ليس لها وجود في اليوروبا، وأنه إذا تواجد هذا الحرف الساكن في كلمة أجنبية، فلا بد أن يخضع للمعالجة التالية قبل أن يُقبل في اللغة؛ فإذا كانت الخاء مصحوبة بحرفٍ ساكن، يتم إدخال حرف متحرك ليتكوَّن مقطع وفقًا لقاعدة الحرف الساكن-الحرف المتحرك، الحرف الساكن-الحرف المتحرك في اليوروبا. وإذا كانت الخاء مصحوبة بحرفٍ متحركٍ في كلمة ليست من مقطع واحد، فإن الخاء تُستبعد، وهذا هو حال كلمة أوسو.
ويوجد اسم آمون في اليوروبا بنفس معناه بالمصرية القديمة، أي خفي، والإله آمون من أوائل الآلهة المعروفين عند اليوروبا، وكلمتا مون، وميِمُون = قديس، مقدس، باليوروبا مشتقتان — على الأرجح — من اسم هذا الإله، وفقًا للوكاس، وتحوت أعطت تو باليوروبا.
وقد أجرى المؤلف بعد ذلك تحليلًا اشتقاقيًّا ثاقب القريحة بخصوص كلمة يوروبا، فهو يلاحظ أن الكلمة التي تعني تواجدًا، في أفريقيا الغربية، مع تغيير بسيط في الحرف المتحرك هي يه. ولذا فإن تكرارها يه يه = التي تجعلني موجودًا، ومنها يه يه مي = أمي أي مَن هي أصل وجودي في الدنيا. ويجب أن نلاحظ بهذه المناسَبة أن يايه = أُم، في كلٍّ من الوُلوف والسارا والباجويرمي … إلخ.
وكثيرًا ما تُدغم يه يه في يه أو إيا؛ ويمي (باليوروبا: خالقي) تُستخدم للإله الأعظم.
ويُقدِّم المؤلف تحليلًا شيِّقًا أيضًا للاسم الذي يشير إلى الخروف باليوروبا. فهو يعتمد على أن الكلمة اليونانية إيجوبتوس تُعتبر عادة اشتقاقًا من الكلمة المصرية خي-جو-بتاح، أي معبد روح بتاح. وكانت جدران هذا المعبد مغطاة بنقوش تُمثِّل الكباش وغيرها من الحيوانات، وعليه فإن اسم هذا المعبد كان من الممكن أن يستخدمه الشعب للإشارة إلى الحيوانات الممثَّلة فيه.
فكلمة أ-جو-تو = خروف باليوروبا، تستوجب المقارنة مع إيجوبتوس عند الإغريق.
ويبدو أن هذا المثل الأخير يُثْبِتُ أن هجرة اليوروبا تمت بعد اتصال مصر بالإغريق.
ونصادف أيضًا في لغة اليوروبا الكلمات المصرية روتي = الناس، وكوبيتي التي جاءت منها الكلمة الإغريقية قبطي.
-
فكرة الحياة الأخرى والحساب بعد الموت.
-
تأليه الملك.
-
الأهمية المُولاة للأسماء.
-
رسوخ الإيمان بالحياة الآخرة.
-
الإيمان بوجود روح حارسة، ليست إلا مظهرًا للكا.
ويلفت المؤلف أنظارنا هنا إلى أن كافة المفاهيم المتعلقة بالكائن في مصر القديمة، مثل الكا، والآخو، والخو، والساهو، والبا نجدها عند اليوروبا. ويجدر بنا أن نلاحظ في هذا الصدد أن هذه المصطلحات موجودة حرفيًّا بلغتَي البول والوُلوف، كما سنرى فيما بعد.
ويتوسع المؤلف بعد ذلك في دراسة تلك المعتقدات، ويواصل تبيان تماثلها في التفاصيل مع المعتقدات المصرية، وذلك في حدود ٤١٤ صفحة. وهو يختتم ذلك بالإشارة إلى وجود حروف هيروغليفية باليوروبا وتقديم بعض من رموزها.
وتَمَاثُل محفل الأرباب المصرية مع قرينه اليوروبا، يكفي، في حد ذاته، لإثبات وجود اتصالات قديمة.
ويفيدنا ما نعلم عن الشعب اليوروبا — بما في ذلك أساطيرهم — أنهم استقروا في موطنهم الحالي منذ زمنٍ قريبٍ نسبيًّا، بعد هجرة من الشرق إلى الغرب. ولذا يكون بوسعنا أن نعتبر، مع لوكاس، أن المهد المشترك الأول لليوروبا والمصريين، حقيقة تاريخية.
والصيغة ذات التحوير اللاتيني لاسم حورس، والتي يبدو أن كلمة أوريشا عند اليوروبا جاءت منه، تدفع إلى الاعتقاد بأن هجرتهم لم تتم فقط بعد اتصالهم بالإغريق، بل وأيضًا بعد اتصالهم بالرومان.
ولنذكر في نهاية الأمر أن بدرال يُشير في صفحة ١٠٧ من كتابه المذكور آنفًا إلى تل كوسو بالقرب من إيله-إيفه، وإلى وجود تل باسم كوسو أيضًا في النوبة، على مقربة من مَرْوي القديمة، غرب النيل «في قلب بلاد كوش (خريطة أفريقيا لكورونيللي، ١٦٨٩م)، وهذا الاسم يتكرر أيضًا في الحبشة».
(٣) أصل اللآوُبي
من أين جاء اللآوُبي؟ إنهم يشكِّلون في رأيي قسمًا تبقَّى من شعب الساو الأسطوري.
والواقع أن معلوماتنا عنهم جاءتنا من مخطوطات بورنو، وحفريات السيدين جريبول ولوبوف، وهي تفيدنا بأن:
-
(١)
اسمهم: ساو أو سو.
-
(٢)
وأنهم كانوا عمالقة.
-
(٣)
وأنهم كانوا يقضون ليالي بطولها في الرقص.
-
(٤)
أنهم تركوا عددًا لا يحصى من التماثيل الصغيرة المصنوعة من الآجر.
-
(٥)
وأن هذه التماثيل الصغيرة تُصوِّرُ نموذجًا عِرقيًّا تتخذ جمجمته شكل الكمثرى.
وهذه السِّمات الخمس نجدها بالضبط لدى اللآوبي.
ويحمل اللآوُبي، شأنهم شأن الساو، اسمًا طوطميًّا واحدًا متميزًا، ألا وهو سو الذي اعتُبر — خطأً — أنه اسم بول، والأداة المقدسة الوحيدة التي بقيت لديهم، وهي التي يستخدمونها في النحت، تُسمى ساو-تا.
وجميعهم — رجالًا ونساء — من العمالقة، ويبلغ طولهم بكل يسر ۱٫۸۰ مترًا وأكثر، عندما يكونون أنقياء عرقيًّا (إذا جاز لنا أن نتحدث عن عِرق)، كما أن أطرافهم جميلة للغاية وأجسامهم رياضية.
وجمجمتهم كمثريَّة الشكل، تُشبه في ذلك النموذج العِرقي الذي تُجسِّده التماثيل الساو الصغيرة.
ومهنة اللآوُبي الوحيدة هي نحت أدوات الطهي من الخشب لكل طوائف المجتمع الأفريقي الأخرى، لا للبول وحدهم، ويستخدمون في ذلك جذوع الأشجار. وتُسهم هذه الحقيقة، إلى جانب قاماتهم الطويلة، في تحديد موطنهم الأصلي على مقربة من منطقة جبلية عامرة بالأشجار.
ومن أشغال المرأة اللآوُبي الأساسية صُنْع تماثيل صغيرة من الطين المجفَّف أو الآجر لأطفال الطوائف الأخرى.
ويقضي اللآوُبي — وبالأخص نساؤهم — وقتهم في الرقص، ورقصتهم الرئيسية هي الكومبا لأوُبي إيه جاس.
وقد تم اعتبار اللآوُبي — خطأً — أنهم طائفة من النحَّاتين من البول والتوكولور، وقد نجم هذا الخطأ جزئيًّا من كونهم يتحدثون بالبول والتوكولور، مما دفع إلى الاعتقاد بأنها لغتهم الأصلية. وهذا ليس صحيحًا، فمن الملاحَظ أن اللآوُبي يستخدمون دائمًا لغتين — على الأقل — في السنغال. وهم يتحدثون بالوُلوف بنفس اليسر كما يتحدثون بالبول، ولكن لكنتهم في التحدُّث بالوُلوف لا تُماثل لهجة شخص من البول أو التوكولور.
ويبدو أن اللآوُبي شعب فَقَدَ ثقافته، وأن عناصره المتناثِرة تتأقلم حسب الظروف والأحوال، بتعلم لغات المناطق التي يُقِيم فيها.
وقد سبق أن أشرنا إلى أن اسمهم الطوطمي سو، والأسماء الطوطمية الأخرى التي يحملها اللآوُبي تعكس تهجُّنهم مع البول والتوكولور وغيرهما من الجماعات العرقية.
وعكس ذلك صحيح؛ وهذا ما يفسر لنا أن البول قد يحملون اسم سو إلى جانب با وكا، وهما الاسمان الخاصان بهم، في رأينا (با + ريه = باري).
وتؤكد عاداتهم المنحلة أنهم شعب فَقَدَ ثقافته، وأنه لم يعد مرتبطًا بأي تقاليد.
ومن المشاغل الرئيسية للآوُبي أيضًا سرقة الحمير لجمع المَهر اللازم للزيجات العديدة التي يعقدونها، ولا يهم كثيرًا مصدر الحمير التي يسلمونها لأسرة المرأة بمناسبة الزواج. وعلى أي حال فإن هذه الأسرة لا تراودها أي شكوك حول مصدرها. ويتمثَّل تكتيكها بمجرد حصولها على الحمير في التخلص منها في غضون ٤٨ ساعة ببيعها أو بمحاولة تغيير معالم تلك التي لم تُبَعْ — وإن لم تنجح في ذلك دائمًا — بتغيير لونها بالدخان. وإذا توصَّل ضحاياهم إلى التعرُّف على حميرهم رغم كل الاحتياطات «المشروعة» التي اتُخذت، فإنهم يستردونها على الرغم من المقاومة الشفوية الشديدة التي يُبديها اللآوُبي، ولكن الزواج يظل بنفس القدر من المتانة التي تسمح بها عادات اللآوُبي، ذلك أن الزوج أدى واجبه على أكمل وجه ولا يقع عليه أي لوم.
وعلى أي حال فإن المرأة اللآوُبي تعلم أن النحت ليس سوى حجة يتم التذرع بها، وأن الثروة الاقتصادية الرئيسية هي قطيع الحمير؛ ولذا فإن بالها لا يهدأ إلا إذا تزوجت لصًّا موهوبًا. وإذا لم يبرع الأخير في هذا المجال، فإن زوجته تعتب عليه هذا التقصير باستمرار، مما يحدُّ من فترة الزواج.
ولكل هذه الأسباب مجتمعة، فإن التمييز المعتاد بين فئتَي اللآوُبي النحاتين وغير النحاتين لم تعد لها أهمية كبرى.
واللآوُبي شَرِسُو الطبع، وإن كانوا لا يتعاركون إلا قليلًا، والمشهد الكلاسيكي في هذه الحال يتمثَّل في توجُّه الخصمَين، كل منهما نحو الآخر بخطواتٍ تتيح فرصة كافية للجمهور لكي يعترض سبيلهما، بينما يجرُّ كلٌّ منهما وراءه عصا طويلة تزن عدة كيلوجرامات، وهو يقسم ويسب بملء فِيه، وبمجرد أن يتم الفصل بينهما، يعتبر كل خصم أنه قد أدى مهمته، ويكفُّ عن الشجار، على أن يواصل السباب.
واللآوُبي أكثر الناس إثارة للضجيج والتحرر من كل انضباط اجتماعي من بين كافة الأفارقة الذين أعرفهم، وتقضي المرأة اللآوُبي وقتها في إثارة المشاحنات وخداع زوجها. بَيْدَ أننا يجب أن نستثني التوليه والنْجالكاج، رِذ أنهم أكثر تحررًا من اللآوُبي من أي انضباط اجتماعي.
ويُقال إنه كان يتعين على رئيس ناحية في باءول أن يُحاكِم عددًا من اللآوُبي الذين تشاجروا، ولكن لما كان من عاداتهم التحدث جميعًا في وقت واحد فقد اضطر إلى ملء أفواههم بالماء حتى يتمكَّن من الاستماع إلى كلٍّ منهم بدوره، وعندما كان يستمع إلى شاهد، كان يسمح له بسكب الماء من فمه، غير أن قذف المياه من أفواه المقاطعين أشاع الفوضى في الجلسة. ومع أن هذه الوسيلة محدودة الفاعلية، عندما يتعلق الأمر الأمر بطباع اللآوُبي، إلا أن ذلك الرئيس لم يكف بعد ذلك عن اللجوء إليها.
ويُحكى أن رئيس قرية سمح للآوُبي أن يقيموا حيًّا لهم (أج لآوبي) في قريته، ولكن بشرط أن يمتنعوا تمامًا عن الشجار. وقد أدرك اللآوُبي بعد تجربة وجيزة أنهم عاجزون عن الوفاء بهذا الشرط، فقدَّموا هدايا لرئيس القرية بُغية أن يرفع ذلك الحظر، ولما كان الأخير مصمِّمًا على موقفه، فقد ترك اللآوُبي القرية لأنهم لا يُطيقون الحياة بلا شجارٍ.
وحتى لو كانت هذه النوادر حول اللآوُبي مختلَقة جملة وتفصيلًا إلا أن ذلك لا يُغَيِّرُ شيئًا من الأمر؛ فهناك فعلًا عقلية لآوُبي، لولاها ما كان يمكن أن يتصور أحد تلك النوادر.
وهكذا يعيش اللآوبي مشتتين في مختلف قرى السنغال وغيره، فليس لهم موطن ثابت، ومن الخطأ القول بأنهم مقيمون في فوتا تورو أو فوتا دجالون وهما بلدا التوكولور والبول، فهم يكوِّنون جماعات متفرقة وسط المجموعات العِرقية الكبيرة. ولا يستطيع لآوُبي السنغال تحديد مهدهم، وتنظيمهم الاجتماعي مفكك تمامًا، ولا يقودهم رؤساء تقليديون. والشخص الذي يتمتع بينهم بأكبر تقدير يركب بغلًا، بينما تُخصص الحمير للآخرين. وهكذا فإن مدسو وديام، وهو لآوُبي كان واسع النفوذ، ما كان يمكن اعتباره حقًّا رئيسًا تقليديًّا، كما أن نفوذه كان راجعًا بالأخص إلى انضمامه إلى الطريقة المريدية، وكان قطبها أحمدو بمبا.
ويبدو أن اللآوُبي اقتبسوا الختان من أهالي السنغال الآخرين.
وهم يَقْسِمُون بالساوُتا، الأداة التي يستخدمونها في تفريع جذوع الأشجار بعد قطعها بالبلطة، كما يستخدمون هذه الأداة نفسها في الختان.
وكثيرًا ما يفرط اللآوُبي في استخدام عبارة سوما كو ناريه دف: فليجعلني الله أهرب أمام الساوُتا، إذا كان يتعين عليَّ أن أفعل كذا، وكثيرًا ما يحنث في يمينه هذه بعد ذلك فورًا.
ويسمح لنا كل ما جاء من قبل بأن نعتبر اللآوُبي فرعًا مشتَّتًا من الساو بعد تحلل ثقافتهم، بينما انصرفت أقسام أخرى منهم إلى غير ذلك من الجهات.
(٤) أصل البول
قد يعتقد المرء للوهلة الأولى أن البول قد نشَئوا في منطقة أفريقيا الغربية التي ظل المور الساميون فيها على اتصال بالزنوج (ديلافوس، سود أفريقيا).
وإذا كان يتعين القبول بهذا الافتراض، فإن المهد الذي تم فيه ذلك يجب البحث عنه، رغم المظاهر، في موقع آخر.
وقد قدِم البول على الأرجح من مصر، شأنهم شأن شعوب أفريقيا الغربية الأخرى، ويمكن دعم هذا الافتراض بحقيقة رئيسية، قد تكون أهم حقيقة يمكن إيرادها حتى الآن، وهي تتعلق بتَماثُل اسمَي عَلَم طوطميين يتميز بهما البول، مع تصورين متميزين أيضًا للمعتقدات الميتافيزيقية المصرية، ألا وهما الكا والبا.
فما هو الموقع الذي يحتله كلٌّ من الكا والبا في المعتقدات المصرية؟
«الكا الذي يتَّحِد مع الزِّت كائن إلهي يعيش في السماء، ولا يظهر إلا بعد الموت. وقد أخطأنا في تعريفه، مع مسبيرو، على أنه صنو جسم الإنسان، يعيش معه ويفترق عنه في لحظة الموت، ويعود إلى المومياء عن طريق الطقوس الأوزيرية. ويتضح من تعويذة روحنة الملك ما يلي: فبينما يطهِّر حورس الزِّت، ويخلِّصه من ماديته في حوض ابن آوى، فهو يطهِّر الكا في حوضٍ آخر، حوض الصباح … وهكذا يكون كا وزِت منفصلين أصلًا … ولم يعيشا أبدًا معًا على الأرض … وفي نصوص الدولة القديمة كان يُستخدم تعبير «انتقال الشخص إلى الكا الخاص به» للقول إنه مات. وهناك نصوص أخرى تُوضِّح أنه يوجد كا أساسي في السماء … وهذا الكا يتحكم في القوى الذهنية والمعنوية، وهو الذي يجعل — في آنٍ واحدٍ — لحم الإنسان صحيحًا، والاسم جميلًا، ويمنح الحياة الجسدية والروحية.»
«واتحاد العنصرَين الكا والزِّت يُكَوِّنان الكائن المتكامِل الذي يبلغ حد الكمال. ويكتسب هذا الكائن صفات جديدة تجعله أحد سكان السماء، وهو يُسمَّى البا (الروح؟)، وآخ (النَفس؟). والروح با الممثَّلة بالطائر با ذي الرأس البشري، تعيش في السماء … وبمجرد أن ينضم الملك إلى الكا الخاص به، فإنه يصبح با …» (موريه، النيل، ص۲۱۲).
وبصرف النظر عن مدى صحة تفسير موريه للكا والبا المصريَّين، إلا أن أهم ما في الأمر هو أن هذين المفهومين يقومان بدورٍ لا يمكن إنكاره في التصور المصري للكائن. غير أن الكا والبا، هما الاسمان الطوطميان النموذجيَّان الوحيدان عند البول. ووفقًا لما جاء منذ قليل حول اللآوُبي، فإننا نعتقد أن البول استعاروا منهم اسم سو الذي لا نتردد في اعتباره متطابقًا مع التعبير المصري الثالث: زِت. وهناك اسم طوطمي آخر بول: باري، وهو ليس إلا جمعًا ﻟ با + را.
أما التعبير الرابع آخ في نص موريه، فهو لا يتطابق — في حدود علمي — مع اسم طوطمي، غير أنه ذو معنى أنتولوجي (مرتبط بعلم الكائن) واضح في لغة الوُلوف. فحتى الآن لا تزال كلمة آخ بالوُلوف تعني ما يتعين على المرء أن يُعيده إلى الغير عند محاسبته عقب الوفاة، وذلك قبل أن يحظى بالنعيم الأبدي في الآخرة. وهو يتوافق مع الجزء من شخصية الغير التي سلبها منه المرء بشكلٍ مباشر أو غير مباشر.
زِت، باللغة المصرية = الجثمان المُطهَّر والمتخشِّب.
سِد، باللغة المصرية = الوفاة الرمزية للملك المتقدِّم في السن، وإعادة الشباب إليه بالطقوس.
سِت، بالوُلوف = نظيف.
سِد، بالوُلوف = بارد، حالة الجثمان، وهي تعني: التوقف عن الحياة، عندما تُستخدم كفعلٍ.
والكا، باللغة المصرية: هو باختصارٍ جوهر الكائن الموجود في السماء، ومن هنا جاء تصويره على شكل ذراعين مرفوعتين إلى السماء، وجاءت كذلك المعاني التالية: مرتفع، فوق، كبير، معيار … ارتفاع. وقد سبق أن أوضحنا أن كا المصرية تُقرأ كاو عند الوُلوف، وتعني: مرتفع، فوق، عال … إلخ.
ويمثَّل البا عند المصريين بطائرٍ له رأس بشري، يعيش في السماء، غير أن هذه الكلمة تعني أيضًا باللغة المصرية طائرًا بريًّا ذا عُنق طويل، وبالوُلوف با = نعامة.
وهكذا يتبيَّن لنا أن تلك المفاهيم المتعلقة بالميتافيزيقيا المصرية قد تنوعت معانيها وفقًا للشعوب التي نقلتها عنها. وبينما ظل المعنى المصري لهذه التصورات قائمًا في لغة الوُلوف، إلا أن بعض هذه المفاهيم تحوَّل عند البول إلى أسماء طوطمية، ومنها الكا والبا، اللتان تحوَّلتا إلى اسمين طوطميين، أي عِرقيين تقريبًا.
ولذا يتعين أن نفترض أن البول كانوا من بين القبائل العديدة التي خرج منها فراعنة في مجرى التاريخ، وهو أيضًا الوضع بالنسبة للقبائل السيرير من السار والسن … إلخ.
ومن المعروف أنه حتى الأسرة السادسة (التي قامت فيها الثورة «البروليتارية») كان الملك وحده يحظى بحق الوفاة الأوزيرية، وكان يتمتع — تمامًا — بالتالي بالكا والبا الخاصَّين به؛ كما أنه من المعروف أيضًا أن عدة فراعنة حملوا هذا الاسم، ومن بينهم الملك كا، في عهد ما قبل الأسرات، الذي اكتشف أميلينو مقبرته في العرابة المدفونة، ويتفق ذلك مع وجود فرع بول يُسمَّى كارا.
والأسماء الأخرى التي يحملها البول، مثل ديالو … إلخ، هي أسماء علم تم اكتسابها فيما بعد عن طريق أوساط أخرى، أما لغة البول فهي تكوِّن وحدة طبيعية مع كافة اللغات السنغالية الأخرى، بشكل خاص، واللغات الزنجية على وجه العموم.
وعلاقة لغة البول بلغتَي الوُلوف والسيرير (التي تعرضنا لها في الجزء الخاص باللغات) لا تترك مجالًا للشك حول وحدة تلك اللغات الوثيقة.
وكان البول في الأصل زنوجًا تهجَّنوا فيما بعد مع عنصر أبيض جاء من الخارج.
ويتعين أن نُحدد تاريخ نشأة الفرع البول في الفترة التاريخية المصرية الممتدة من الأسرة الثامنة عشرة حتى العصر المتأخر في الوجه البحري؛ حيث شهدت تلك الحقبة امتزاجًا واسع النطاق مع الأجانب (انظر غطاء رأس حتحور في اللوحة الموجودة في اللوفر، والتي تُمثل تلك الربة مع سيتي الأول).
(٥) أصل التوكولور
نزح التوكولور من حوض النيل في السودان، شأنهم في ذلك شأن السكان الآخرين الذين يتكوَّن منهم الشعب الزنجي.
ومما يؤكد ذلك أننا نجد حاليًّا في هذه المنطقة، عند النوير، بلا أي تغيير، الأسماء الطوطمية الخاصة بالتوكولور الذين يعيشون حاليًّا على ضفاف نهر السنغال، على مسافة تبعد آلاف الكيلومترات:
السودان | السنغال (فوتا تورو) |
---|---|
كان | كان |
وان | وان |
سي | سي |
لِيه | لي |
كاو | كا (بول) |
وتوجد في نفس هذه المنطقة، في الموقع المُسمَّى تلال النوبة قبيلتا النيورو والتورو.
كما توجد أيضًا في منطقة أوغاندا-رواندا قبيلة الكارا.
وهناك في الوقت الراهن، في الحبشة، قبيلة تسمى التكروري، مما يدفع إلى الاعتقاد باحتمال أن يكون التوكولور في السنغال جزءًا من تلك القبيلة، وأن منطقة تكرور لم تُعْطِ اسمها للتوكولور، بل حصلت عليه عندما استقر هؤلاء فيها.
كما أن هناك أيضًا موقعًا يُسمَّى نيورو (ماسينا) في السودان الفرنسي (مالي حاليًّا) حيث أقام التوكولور قبل أن يصلوا إلى المنطقة التي سيصبح اسمها تكرور، في شمال نهر السنغال، ونزلوا تدريجيًّا مع مجراه حيث أصبحت ضفافه تُسمَّى، على أثر ذلك، فوتا-تورو.
غير أن القارئ قد يرى مع ذلك أن كل تلك الالتقاءات غير مُقْنِعَة بما فيه الكفاية؛ وإليه نسوق التقاء آخر:
من المعروف على وجه التأكيد أن التوكولور الذين كانوا قد أسلموا، تركوا ضفاف نهر السنغال في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتوغلوا في أعماق البلاد، واستقروا في سيني سالوم لهداية الأهالي السيرير في تلك المنطقة. وكان المرابط الأكبر التوكولور الذي حاول القيام بذلك، يُسمَّى ما با دياخو، وكان معاصرًا للات ديور، وكانت المنطقة التي نجح التوكولور في كسبها إلى الدين الإسلامي قد سُمِّيت نيورو على يد أسلاف مايا: نيورو دي ريب.
وتقول روايات التوكولور أنفسهم الذين يعيشون اليوم على ضفاف نهر السنغال، إنهم أقاموا في الماضي في المنطقة المُسَمَّاة نيورو في السودان.
وهكذا يبدو السنغال والشواطئ المجاورة له كإحدى نهايات المطاف للهجرات التي تعاقبت فيها الموجات العِرقية وتراكمت، بعد أن تكسَّرت عند المحيط فانصهرت معًا مع مرور الزمن، وانتشرت من جديدٍ في اتجاهاتٍ ثانوية.
وتوجد في فوتا-تورو، عناصر متخلفة من السيرير والوُلوف، وتحمل هذه العناصر أسماء، منها سار، وديوب، ون دياي … إلخ، وجميعها من طائفة التيوبولو، أي الصيادين.
(٦) أصل السيرير
جاء السيرير على الأرجح إلى السنغال من حوض نهر النيل، والطريق الذي سلكوه محدَّد المعالم بأحجارٍ منتصِبة بنفس خط العرض تقريبًا من الحبشة حتى سيني سالوم (منطقة تقع بين نهر سالوم ورافده سني). ويؤكد هذا الافتراض مجموعة من الوقائع المستخلَصة من تحليل مقال للدكتور مايس حول الأحجار المنصوبة في قرية تُدعى توندي-دارو بالسودان الفرنسي (مالي حاليًّا)، والتي كان ديسبلانج قد اكتشفها.
وقد حاول الدكتور مايس إرجاع أصل تلك الأحجار إلى القرطاجنيين أو المصريين الذين يعتبرهم، حسب مفهومه، من البيض.
وهو يحلل اسم القرية على الوجه التالي:
توندي، جاءت (في رأيه) من الكلمة الصنهاجية التي تعني حَجَرة.
دارو، جاءت من الكلمة العربية دار، والواو في آخر الكلمة إضافة لمساندة المعنى.
وعليه فإن توندي-دارو معناها البيت الحجري.
وهذا التحليل لا يكون صالحًا ومقبولًا إلا لو كانت تلك الأحجار تُمثِّل دارًا، أو لو تم العثور بطريقة أو أخرى — على ما يبدو — أنه كان دارًا. غير أن الدكتور مايس يعلم أن ذلك مستحيل، والنص الذي عرضه يضم مجموعة من الوقائع التي تستبعد — تمامًا — أي فكرة عن مسكن لِقَوم!
ولكن ما هو الوصف الذي قدَّمه لتلك الأحجار؟
«إنها نُصب من قطعة حجرية واحدة منحوتة على شكل قضيب طرفه محدد بعناية، والحزوز متفقة مع مجرى الطرف، كما أن البروزات المُكَوَّرة ذات الثنيات الطويلة تشير إلى الخصيتين. وهناك أحجار أخرى أصغر حجمًا ليست منحوتة على شكل قضيب ومجردة من البروزات المُكَوَّرة، يبدو أنها تُمثِّل بالأحرى مع المثلث المرسوم على شكل عانة، عضو الأنثى» (د. مايس، الأحجار المنتصِبة في توندي-دارو، النشرة الدراسية لأفريقيا الغربية الفرنسية، ١٩٢٤م، ص٣١).
وكيف يفسرها لنا؟
«يمكننا أن نُسلِّم، إلى حدٍّ ما، بأن تلك الأحجار شاهد على موقع جبانة، حيث تمثِّل كل حجرة فردًا ذكرًا أو أنثى تم دفنه» (نفس المرجع).
ولو تم العثور على بقايا عظام تحت تلك الأحجار لكانت هذه الفكرة تستحق الاهتمام، ولكن الدكتور مايس يستطرد قائلًا:
«وعدم العثور إلا على بعض شذرات من العظام ليست له إلا قيمة ضئيلة في مواجهة هذا الافتراض، فمن الممكن أن يكون قد تم حرق الجثث ودفن الرماد والعظام القليلة التي لم تأتِ عليها النار» (نفس المرجع).
وهذا الاستدلال غير مقبول من أوله حتى آخره، وذلك لأنه لا يمكن أن يكون الأمر متعلقًا بمقابر لأنه لم يتم العثور على أي هياكل عظمية؛ والعظام القليلة التي أراد الدكتور مايس أن يعثر عليها تؤكد أنه لو كانت هناك أصلًا هياكل عظمية، لما كان أثرها قد زال.
ماذا تمثل هذه الأحجار حقًّا؟
إنها تتعلق بطقوسٍ زراعية، وهي ترمز إلى الاتحاد الشعائري بين السماء والأرض (بتصويرها للجنسَين المنحوتَين في الحجر)، وذلك لكي تتولد النباتات التي يتغذَّى بها الإنسان، وبعبارة أخرى لكي تنمو البذور. فمن المعروف، حسب المعتقدات القديمة، أن المطر يشير إلى تخصيب الأرض (الربة الأم) بواسطة السماء (الإله الأب، رب السموات بعد اكتشاف الزراعة، وفقًا لما أوضحه ميرسيا إيلياد، مؤرخ الأديان القديمة). وكان الزرع الذي ينبت نتيجة لذلك التزاوج، يُعتبر نتاجًا إلهيًّا. ومن هنا جاءت فكرة الثالوث الكوني التي ستتطور من خلال عمليات تجسيد متتالية انطلاقًا من ثالوث أوزيريس، إيزيس، وحورس، إلى الآب والابن والعذراء مريم، التي حلَّ محلها بعد ذلك الروح القدس.
ولما كانت المتشابهات تُنتج متشابهات، فقد نحتوا في الحجارة عضوي التناسل لدعوة الآلهة إلى الالتحام لكي تنمو النباتات التي تُؤمِّن الحياة للشعب. وهكذا، دفع حرص الإنسان على تأمين وجوده المادي إلى الإقدام على تلك الممارسات. وما كان يمكن أن تُتخذ غريزة البقاء والمادية الموغلة في القِدم إلا ذلك الشكل المستعار والمُقنَّع لميتافيزيقيا ستتطور بلا انقطاعٍ لتصل إلى المثالية.
هذا هو في رأينا مغزى تلك التجسيدات المنحوتة. ويجدر بنا أن نذكر بهذه المناسبة أن تلك الأحجار القضيبية لا تمت بِصلة إلى عبادة الشمس (شأنها شأن كافة الحجارة المرفوعة) بقدر ما لا تمت الشمس بِصلة للأمطار؛ ولذا فمن الخطأ اعتبارها عبادة شمسية، أي رعوية مزعومة، وبالتالي حامية-سامية، بما يحمله ذلك الاصطلاح من لا معنى معهود. فهذه العبادة الشمسية التي تخص شعوبًا راعية ومحارِبة من صُنع خيالٍ محض، ولا تعتمد على أي واقع حقيقي.
ولما كان الطابع الزراعي للمجتمعات التي أقامت تلك الأحجار الضخمة قد تأكد بما فيه الكفاية، فلنبرز تناقضًا آخر فيما كتبه الدكتور مايس. فهو يفترض أن الجثث كانت تُحرَق، ولكن هذه الممارسة كانت تخص البدو الذين ما كانوا يستطيعون تكريس طقوسٍ لمقابر ثابتة نتيجة لترحالهم المستمر. وقد احتفظوا بهذه العادة في كل مكان حتى بعد أن أصبحوا مستقرين (الرومان، والآريا في الهند)، فالجثث تُحرق، لا لدفن الرماد ولكن لحمله.
والشعب المُزارع الذي تعود إليه تلك الأحجار الضخمة في توندي-دارو لم يكن يحرق موتاه، ولا بد أن يكون من الممكن العثور على عظامهم، باتباع التوضيحات التي سنقدمها فيما بعد.
غير أن الدكتور مايس يحدد — بدقة — فكرته عن الشعب الذي تعود إليه تلك الأحجار فيقول:
«وبالنسبة لمن يدرك سيكولوجية الأسوَد، يمكننا أن نؤكد بشكلٍ قاطعٍ أن هذه المنشآت التي تتطلب كمًّا هائلًا من الجهود، بلا أي فائدة مباشِرة، وظاهرة، وبلا أي صلة مع الأداء المنتظم لوظيفتَي التغذية والتناسل، وهما الوحيدتان اللتان تهمان الأسوَد، لم ينفذها ممثِّلون للجنس الاسوَد» (المرجع السابق).
وهذه الفقرة تستلفت الانتباه بشكلٍ خاصٍّ لما تتضمنه من تناقضات. والواقع أننا لا يمكن أن نتصور، وفقًا للمنطق الذي يُقال إنه وَقْف على الغرب البالغ والمتحضر والحديث، أن القلم الذي وصف بالتفصيل وبدقة تلك الأحجار المنتصبة الممثلة للجنسين، هو الذي كتب يقول بعد ذلك ببضعة سطور، إن الجهود الهائلة التي تطلَّبها ذلك لا تمت بصلة إلى «الأداء المنتظم لوظيفتَي التغذية والتناسل، وهما الوحيدتان اللتان تهمان الأسوَد».
كما أننا لا نتصور أن الذي حلَّل — منذ قليلٍ — كلمة توندي-دارو، واعتقد أنه اكتشف أنها «بيت من الحجارة» هو نفسه الذي يقول لنا في نهاية نفس المقال، وبخصوص نفس هذه البيوت الحجرية إن «هذه المنشآت التي تتطلب كمًّا هائلًا من الجهود، بلا أي فائدة مباشِرة …» لماذا يتعثَّر الكاتب في تناقضاته؟ بالذات لكي يتمكَّن من أن يقول لنا في النهاية إنه يتعين أن نبحث عن أصل قرطاجني أو مصري لتلك الحجارة، أي بعبارة أخرى، لكي يُرجِع كل ذلك إلى أصولٍ يعتقد أنها بيضاء، أو يتمسك بأن تكون بيضاء، وهذا هو الموقف النموذجي للغرب تجاهنا في الوقت الراهن.
وهو ما يؤكد لنا الضرورة المطلقة لقيامنا بإزالة الركام عن ماضينا. وتلك مهمة لا يمكن أن يضطلع بها شعبٌ لحساب شعبٍ آخر، وذلك بسبب الأهواء والنعرات القومية والنوازع العنصرية المسبَقة، الناجمة عن التربية المشوَّهة أصلًا. فإذا تم العثور على أحجار في أفريقيا — وتلك حالة الدكتور مايس — فلا بد من البحث عن أصل خارجي لها على أساس فكرة متحيزة، سواء تم التعبير عنها أو لم يتم، وذلك بمقتضى أنه «بالنسبة لمن يدرك سيكولوجية الأسوَد، يمكن التأكيد بشكلٍ قاطعٍ أن هذه الأحجار المتراكِمة لا يرجع مصدرها إليه.»
من هو المسئول إذن عن تلك الأحجار المنتصِبة؟
إن حُكم المؤلف بهذا الخصوص يقطع بأن سكان منطقة توندي-دارو ليسوا المسئولين؛ إذ «لا توجد أي رواية شفهية بهذا الخصوص عند السكان الحاليين لتوندي-دارو. وعند سؤال أكبرهم سنًّا أو أكثرهم علمًا فإنهم يُجيبون بأن آباءهم وأجدادهم … إلخ عرفوا تلك الأحجار، ولكنهم لا يعلمون شيئًا عن الناس الذين نحتوها.»
وهذا القول الأخير للمؤلف ليس تفسيرًا، بل إنه إقرار واقع، بوسعنا إذن أن نستخدمه.
ولكن من هو إذن المسئول الحقيقي عن تلك الأحجار؟
إنه على الأرجح الشعب الإفريقي الذي لا يزال يعيش في نفس المنطقة، على مسافة قصيرة نسبيًّا من توندي-دارو، ولا يزال يمارس حتى الآن شعائر الأحجار المنتصِبة، والمقصود بذلك هم السيرير.
وإليكم مجموع الأسباب التي تسمح بافتراض ذلك:
لا يزال السيرير يمارسون، حتى الآن، شعائر الأحجار المنتصِبة في سيني سالوم. ومن معاني هذه الشعائر، تلك التي ورد ذكرها آنفًا، ولا يزال السيرير حتى الآن الوحيدين الذين يلتمسون الأمطار في شمال السنغال. فهم مزارعون أساسًا، يؤدون شعائر تقليدية من أجل الاستسقاء للاعتبارات الزراعية فقط (في الباوُول، حول شجرة الباوُباب الضخمة المُسمَّاة ندومبه أو نومبه ديوب، في ديوريل، على مقربة من حلبة سباق الخيل).
وهناك سبب آخر أقوى، يصعب تفنيده لمساندة هذا الافتراض، وهو ناجم عن تحليل اسم توندي-دارو ذاته.
توند = تل، بلغتَي الوُلوف والسيرير.
دارو = المعاشرة، بالمعنى الجنسي للكلمة … فمن الممكن إذن أن يتعلق الأمر باقتران شعائري.
والياء المصاحبة ﻟ توند تُعبِّر عن المَسند الجمع؛ ولذا فإن توندي-دارو = تلال الجماع (بالوُلوف).
ولا يمكن أن نجد اليوم في لغة الوُلوف عبارة أكمل وأدق من الناحية النحوية للتعبير عن هذه الفكرة؛ تلال الجماع، وعلى أي حال فإن هذه العبارة مانعة، وهي الوحيدة المناسبة، وهي تُعبِّر عن ذلك الجماع الشعائري الذي يتم فوق التلال.
ولكن لماذا فوق التلال؟
وفي هذه الحالة، ولكي يكون البرهان الذي نقدمه صحيحًا، وحتى لا يكون تحليلنا لاسم توندي-دارو ليس وليد صدفة أو توافقًا مضلِّلًا فإنه يتعين، على الأقل، أن نعثر على تلال في هذه المنطقة، وهذا هو الواقع؛ إذ إنها موجودة فعلًا في توندي-دارو ذاتها:
«تقع توندي-دارو على حافة تلال من الصلصال الأحمر المُغطَّى جزئيًّا بالرمال» (د. مايس، المرجع السابق).
فالأمر يتعلق إذن بتطابقٍ؛ فاسم القرية يلخص الجمع بين حقيقتين ملموستين تحيطان به، ألا وهما التلال والأحجار القضيبية بمغزاهما الشعائري.
وهناك حقيقة أخرى لا يمكن إغفالها، وهي أن الجمع بين هاتين الكلمتين المُعبِّرتين عن حقيقة واقعة تكتنف القرية، لم يتم باللغة الراهنة المستخدَمة في المنطقة. أَوَليس مما يدعو للعجب أن تكون هذه الواقعة مجرد صدفة جمعت بين الموقع واسمه المنتمي إلى وسطٍ آخر خارج المنطقة.
ولذا يجب أن نُقرَّ — إلى أن يثبت العكس — بأن السيرير هم الذين مرُّوا بتوندي-دارو، بل وأقاموا فيها.
ولو كان ذلك صحيحًا، لتعيَّن علينا أن نتمكَّن من التأكد منه بالبحث عن المقابر عن طريق تنقيبٍ منتظمٍ للأكمات المجاورة. والسيرير يدفنون موتاهم على الطريقة المصرية، علمًا بأنهم اضطروا إلى التخلي عن التحنيط نتيجة لندرة الأنسجة، وبالأخص اختلاف الاعتبارات الصحية التي كانت قد أملت ذلك في مصر. ويقام فوق القبر سقف مخروطي مغطَّى بالتُربة بدلًا من الهرم. ولما كانت الأحجار نادرة في سهول هذه المنطقة، فقد استخدموا القشَّ بدلًا من الحجارة، وهكذا ينخسف السقف مع الوقت، وقد ينهار أيضًا، ولكن يظل هناك — بصفة عامة — كثيب من التراب في مكان المقبرة القديمة.
وهكذا تتضح لنا مدى أهمية تحليل الوقائع المرتبطة بالتقاليد والعادات في مجال التاريخ الأفريقي، والتأكيدات النسبية التي توفِّرُها دائمًا الاعتبارات اللغوية.
كما يتبين لنا أيضًا ما يمكن استخلاصه من الدراسات الإتنوجرافية التي تتم بحصافة.
ويتضح لنا، من الأخطاء الكبيرة التي وقع فيها الدكتور مايس، وعقليته التي تدفعه إلى حرْف القضايا قبل معالجتها — وهو شيء لا ينفرد به — يتضح لنا مدى ضرورة أن نعرف أنفسنا بشكلٍ أفضل، وأن نُعرِّف الآخرين بثقافتنا بدلًا من الإصرار على التعرُّف عليها عن طريق المؤلفات الغربية. ويتعيَّن علينا أن نستبقي كل الوقائع التي تمت إفادتنا بها بكل عناية وموضوعية. أما التأويلات، أي محاولات فهم تلك الوقائع وتفسيرها، وإيجاد الروابط والعلاقات السببية بينها، فيجب أن نعاملها بكل عناية وحذرٍ.
ومع أن استدلالنا مُغْرٍ إلا أنه يتضمن تناقضًا كان يمكن أن يمرَّ دون أن يفطن إليه أحدٌ لولا إشارتنا إليه. ولكن الحرص على الموضوعية — ما دمنا نبحث عن الحقيقة — يفرض علينا في كل مرة أن نبرز الواقع كلما تطلَّب الأمر ذلك، حتى لا يكون هناك أي مجال للشك. فالسيرير هم الذين يمارسون حتى الآن الشعائر التي تم العثور عليها في توندي-دارو. ومع أن لغتهم قريبة للغاية للوُلوف، وعلى الرغم من أن الأخيرة نبعت منها، فيما يبدو لي، إلا أن حالها الراهن لم يعد الحال الذي جاءت منه كلمة توندي-دارو. فهذه العبارة وُلوف بالأساس وليست سيرير. وهذا هو الواقع الذي يستحق أن نلفت النظر إليه. فحيث إننا لسنا إزاء ظاهرة جاءت مصادفة، فإن مهد لغة الوُلوف يجب أن ننقله نحو الشرق باتجاه مصب نهر النيجر، في الموقع القديم لغانا، أو أن نعتبر أن نطاق انتشار الوُلوف كان أكبر بكثيرٍ بما هو عليه اليوم، وكان يشمل ضفاف نهر السنغال ومصب نهر النيجر وبحيرة تشاد، وربما أكثر من ذلك. وهناك وقائع أخرى تقف في صف أصل السيرير النيلي؛ فالمدينة المقدسة التي أقاموها بمجرد وصولهم إلى سيني سالوم، مدينة كاوُن، تحمل هي أيضًا اسم مدينة مصرية تم العثور عليه في المتون الهيروغليفية.
والإله السماوي عند السيرير الذي يتمثَّل صوته في الرعد، يُسمَّى روج، وكثيرًا ما يضاف إليه سِن، وهو نعت قومي نظرًا لأن سِن هو الاسم الطوطمي المتميز للسيرير. ويقربنا روج من اسم الإله المصري را أو رع، وكان هو أيضًا إلهًا للسماء، بينما تُذكِّرنا سِن باسم بعض ملوك النوبة وبعض ملوك مصر، ومنهم أوسارتا-سِن، وبريب-سِن. ومن المدهش حقًّا أن الملك النوبي طهرقا كان يعتبر أوسرتا-سن سلفه. كما أن بريب-سِن هو الذي أعاد الاعتبار لشعار الصعيد عندما تولى العرش. وعليه فإن الفراعنة الذين كانوا يحملون اسم سن كانوا أساسًا من الجنوب. وأخيرًا فإن سهل سن-نآر أو سين-نآر يُذكِّرنا بسهل سن في السنغال. ونجد حاليًّا في أفريقيا الوسطى شعبًا اسمه سيري، دون أن يكون بوسعنا أن نطابق، من الوهلة الأولى، بينه وبين السيرير. ومن الأفضل أن نحاول أن نستخلص هنا المصدر المشترك لكل تلك الأسماء.
سيري = إنسان بالسيري-هوِله؛ وتحريفها = سراكوله.
سارا = شعوب تشاد.
سيري = قبائل في أفريقيا الوسطى.
سيرير = شعب من السنغال.
وعليه، فقد يكون المصدر المشترك لكل تلك الأسماء اسم نوع للإنسان، كما هو الحال بالنسبة للبانتو، إذ إن با-نتو = الناس.
ونجد الجذر نتو، الخاص بالبانتو في الوُلوف، حيث نيت = إنسان.
وباللغة المصرية نيت = إنسان، فلان (بييريه).
وبلغة البول؛ ندو = إنسان.
وهكذا، فإن هذه الطريقة في الإشارة إلى شعبٍ بعبارة معناها إنسان، عامة في أفريقيا السوداء، نقلًا عن مصر.
وفي جنوب النوِير والدنكا، نجد بعد اللووُلوُ (الذين يُذكَرون باللولو في السنغال) قبيلة من السيري (بومان، ص۲۹۰).
ووفقًا لنفس المؤلف نجد الفالي في جنوب تشاد، وجنوب الكوتوكو والشُّوا. ويُذكِّرنا الاسم الأخير باسم قبيلة شُوَات النوبية (بومان، ص٣١٩، ٣٢٠).
وفال اسم يتميز به السيرير.
وأخيرًا، فإن سيرير تعني حسب ببيريه: الذي يعيِّن حدود المعابد، عند المصريين. وهذا المعنى يتفق فعلًا مع ورع السيرير الشديد، وهم من شعوب السنغال النادرة التي لم تعتنق حتى الآن أي ديانة أجنبية حديثة.
ووفقًا لشامبليون، كانت توجد في مصر طائفة من الكهنة اسمها سن، علمًا بأن النبلاء ورجال الدين كانوا يحظَون بنفس المركز الاجتماعي، ولذا، كثيرًا ما كان هناك ملوك-كهنة.
-
الفرعون سار، من الأسرة الثالثة.
-
الفرعون سار-تيتا، من الأسرة الثالثة.
-
الفرعون بريب-سِن، من الأسرة الأولى (الفرعون الخامس).
-
الفرعون أوسرتا-سِن، من الأسرة السادسة عشرة.
وفي عهود الأسر الأولى (باستثناء الفرعون الأخير المذكور أعلاه)، كان الجنس الزنجي المصري خالصًا عمليًّا من أي تهجين، كما تُثْبِتُ ذلك آثار تلك العهود، التي تصوِّر لنا نماذج زنجية صرفة.
وكانت كافة عناصر الحضارة قد توفرت أصلًا، بما في ذلك الكتابة، والعلوم (الرياضيات … إلخ). ومنذ ذلك العهد ظلت الحضارة المصرية، حتى نهايتها، تعيش على مكتسبات تلك الأسر الأولى والحقب التي سبقتها.
ولم يطرأ تغيير على الشكل المصري إلا في وقت متأخر للغاية مع غزوات الهكسوس (السكوتيين) والإغريق والفرس والرومان والعرب والأتراك. ومع ذلك فقد احتفظ الشكل المصري بقسماته الزنجية الأساسية (الفلاحون الحديثون، وبعض القبائل البول).
(٧) أصل الآني
-
كان آمون أزينيا، ملك آني عاش في القرن السادس عشر.
-
وكان آمون تيفو، ملك آني من القرن السابع عشر، ويقال إن أحد أبناء هذا الملك تمت ترقيته إلى مرتبة الأشراف في فرساي، على يد لويس الرابع عشر.٩
-
آمون أجويي، ملك آني من القرن التاسع عشر، وقَّع على معاهدة تحالف مع لويس-فيليب.
(انظر: الموسوعة الشهرية لما وراء البحار، أبريل ١٩٥٢م، المجلد الأول، الملزمة العشرون، مطبوعات الاتحاد الفرنسي، ص۱۱۳).
وبوسعنا المقارنة بين آني وأوني، اسم ملك إيفه، وأوتي اسم أوزيريس، وأنو، اسم أحد العروق الزنجية في مصر، في حقبة ما قبل الأسرات.
وفي «كتاب الموتى» توجد عدة فقرات يُذكر فيها اسم أوزيريس مصحوبًا بالنعت العِرقي آني: النشيد التمهيدي لكتاب الموتى، الحساب … إلخ، نشيد لرع عندما تشرق الشمس.
وفي الفصل الخامس عشر نجد نشيدًا لأوزيريس، نقلًا عن بردي آني (المتحف البريطاني، رقم ١٠٤٧٠، الورقة رقم ۱۹)، كما نجد في نفس الفصل: أوزيريس آني، كاتب الملك في الحق (كتاب الموتى، ترجمة واليس بودج، لندن، ۱۸۹۸م).
(٨) أصل الفانج والبامون
جاء في مقال لبدرال نُشِر في موسوعة فرنسا لما وراء البحار (ديسمبر ١٩٥١م، ص٣٤٧، ٣٤٨، ٣٤٩) أن الأب تريلز توصَّل، بعد سلسلة من الدراسات، إلى الاقتناع بأن الفانج «كانوا على مقربة من إثيوبيا المسيحية خلال هجرتهم القديمة»؛ وهو شعب قلنا عنه من قبل إنه لم يكن قد بلغ بعدُ الشواطئ في القرن الماضي، في هجرته من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي.
وهناك دراسات مماثلة ﻟ د. و. جيفري، تؤدي إلى التقريب بين البامون والمصريين:
«قد لاحظ د. و. جيفري في مختلف مؤلفات علم المصريات، الرابطة بين النسر-الفرعون، والثعبان-الفرعون، ثم ما أورده ديودور الذي أفاد بأن كهنة الأيوبيا ومصر كانوا يحتفظون بصِلٍّ ملفوف تحت غطاء رأسهم، كما أنه لاحظ أمثلة مختلفة لأشكالٍ حيوانية ذات رأسَين، خاصة في «كتاب الموتى»، بردي آني، الورقة رقم ٧، فأعلن أنه مقتنع بأن الطقوس الملكية عند البامون مشتقة من الطقوس المصرية المماثلة.»
ويمكننا أن نُقرِّب بين ما توصَّل إليه د. و. جيفري، وما جاء في الأسطورة، وهو أن دامل كايور كان لديه نسر يُطعم فقط بلحم عبيد. وقد بالغت الأسطورة — على الأرجح — في وصف الواقعة بأن زعمت أنه كلما أطلق النسر صرخات الجوع نحو السماء، كان يُقتل عبد ليقتات من أحشائه، وكان نسر ملك كايور (السنغال) يُسمَّى جِب.
وِجب تعني باللغة المصرية: الأرض، الإله المتمدد.
(٩) أصل المور
المور عرب جاءوا من اليمن مع الفتوحات الإسلامية (القرن السابع)، ولديهم مخطوطات عديدة يحتفظون بها، وهي تُسجِّل بعناية شجرة أنسابهم، وتاريخ هجرتهم من اليمن، مما يؤكد ذلك بما فيه الكفاية.
ويعتمد المور على تلك المخطوطات في كافة المناسبات، وهم يعرفون تمامًا أصولهم بكافة تفاصيلها، وشهادتهم بهذا الخصوص أساسية.
فلا جدوى من محاولة العثور على أصول أخرى أو أسبقية لتواجدهم في القارة الأفريقية، لا لسببٍ سوى محاولة جعلهم قِسمًا من عنصر أبيض مفترض كان قد استوطن مصر في الأصل واختفى تدريجيًّا، من خلال عملية تهجين طويلة المدى.
«بعد الجنس الأحمر، سيطر الجنس الأسود على العالم … فقد اجتاح السود جنوبًا أوروبا في مرحلة ما قبل التاريخ … وقد انمحت ذكراهم تمامًا من رواياتنا الشعبية، غير أنهم تركوا بصمات من المُحال إزالتها … كانت للسود في زمن سيادتهم مراكز دينية في صعيد مصر والهند. وكانت مدنهم الضخمة ترتفع فوق جبال أفريقيا والقوقاز وآسيا الوسطى، وكان تنظيمهم الاجتماعي يتمثَّل في حكم ثيوقراطي مطلق … وكانت لدى كهنتهم معارف عميقة، منها مبدأ الوحدة الإلهية للكون وعبادة الكواكب، الذي تغلغل عند الشعوب البيضاء تحت اسم الصابئية … وكانت لديهم صناعة، ومنها بالأخص فن قذف كتل الحجارة الضخمة وصَهْر المعادن في أفران هائلة حيث كان يتم تشغيل أسرى الحرب.
… واستيقظ الجنس الأبيض آنذاك على هجمات الجنس الأسود الذي راح يجتاح جنوب أوروبا. وكان الصراع غير متكافئ في بدايته؛ فلم يكن لدى البيض نصف المتوحشين، والمنطلقين من غاباتهم ومساكنهم المقامة على أوتاد في البحيرات، أي مورد سوى أفراسهم وحِرابهم وسهامهم ذات السنون الحجرية. وكانت لدى الزنوج أسلحة من الحديد ودروع من البرونز، وكل موارد حضارة ماهرة لها مدنها الضخمة، وقد سُحق البيض في الصدام الأول، وتحوَّل مَن أُسِرَ منهم بالجملة إلى عبيدٍ للسود الذين أجبروهم على قطع الأحجار ونقل الركاز إلى أفرانهم. بَيْدَ أن الأسرى الذين هربوا إلى أوطانهم جلبوا معهم عادات وفنون مَن قهروهم، وكذلك بشذرات علمهم. وقد تعلموا من السود شيئين أساسيين؛ صَهْر المعادن والكتابة المقدسة، الهيروغليفية … وكانت الغابات مأمن البيض؛ حيث كان بوسعهم الاختباء مثل الوحوش، والانقضاض منها في اللحظة المواتية» (كبار المطلعين على الأسرار، ص٦ إلى ۱۳، باريس، ۱۹۰۸م).
أصدر القرطاجنيون أمرًا بأن يجتاز هانون أعمدة هرقل بحرًا، لكي يؤسس مدنًا ليبية-فينيقية، وقد أقلع هانون على رأس أسطول مكوَّن من ستين سفينة يحرك كلًّا منها خمسون مجدافًا، وتُقِّلُ ٣٠ ألف فرد، من الرجال والنساء والمؤن، وغير ذلك من الأدوات الضرورية.
«وبعد أن أبحرنا، وواصلنا رحلتنا فيما وراء الأعمدة لمدة يومين، أسَّسنا مدينة سميت ثيماتريون … وأقمنا المدن التالية على شاطئ البحر؛ كاريكوم، وتيخوس، وغيت، واكرا، وميلتا، وارامبا … وبعد أن أخذنا مترجمين من عند اللِكسيين واصلنا رحلتنا لمدة يومين بمحاذاة شاطئ مهجور كان يمتد جنوبًا، ثم يعرج نحو الشرق لمدة يوم من الملاحة، وعثرنا في عمق خليج على جزيرة صغيرة محيط دائرتها خمس ستادات (الستاد مقياس طولي إغريقي يبلغ حوالي ۱۸۰ مترًا)، أطلقنا عليها تسمية سيرني، وأقمنا فيها مستوطنة» (رحلة هانون، القائد القرطاجني، على امتداد سواحل ليبيا إلى ما بعد أعمدة هرقل، والتي أودعها بنفسه في معبد ساتورنوس).
وهذا النص الخاص برحلة هانون مأخوذ عن مذكرة حول رحلة هانون لأوجست مير، باريس ١٨٥٥م، فما هو مصير تلك المستوطنات؟ وما القول في مدينة أكرا هذه، على خليج غينيا؟
يا-رام = جسم (بلغة الوُلوف).
وإذا استوحينا الاشتقاق الذي أعطاه المؤلف ﻟ يا، لكانت كلمة يا-رام تعني أصلًا، جسمًا حيًّا أو الإنسان الحي.
وهكذا يتبين لنا كيف أن تفاصيل التقاليد الأفريقية يمكن أن تُلقي ضوءًا جديدًا على التقاليد المصرية القديمة.