إسهام إثيوبيا-النوبة ومصر في الحضارة
وفقًا للشهادة الإجماعية لكافة القدامى، أوجد الإثيوبيون أولًا ثم المصريون من بعدهم كل عناصر الحضارة، وارتقوا بها إلى حدٍّ مدهش، بينما كانت الشعوب الأخرى، وبالأخص الشعوب الآسيوية الأوروبية، لا تزال مستغرِقة في البربرية.
ويعود ذلك إلى الظروف المادية التي وفَّرتها الأوضاع الجغرافية منذ أقدم الأزمنة؛ فقد تطلبت تلك الظروف من الإنسان أن يخترع العلوم التي استكملتها الفنون والديانة، لكي يتأقلم معها.
وعلى النقيض من ذلك، لن تتجاوز آفاق الإغريق أبدًا الإنسان المادي والمرئي، قاهر الطبيعة التي تناصبه العداء؛ وكل ما في العالم يدور حوله، والهدف الأسمى عنده هو أن يصنع نسخة منه تكون طِبق الأصل. ومن مفارقاته أن «السماء» التي لن يتواجد فيها أحدٌ سواه بعيوبه ونواقصه في عالمنا، تحت درع الآلهة الذين لا يتميَّزون عن الكائن البشري العادي إلا بقوتهم الجسدية. ولذا عندما استعار الإغريق الإله المصري، وهو إله حقيقي بكل ما للكلمة من معنًى، له كافة صفات الكمال الأخلاقي، التي يولِّدها الاستقرار، فإنه لم يستوعبه، ويحتفظ به إلا بإنزاله إلى مستوى الإنسان وردِّه إليه. ولذا فإن محفل الأرباب الذي تبنَّاه الإغريق ليس إلا بشرية أخرى. وهذا التصور للصفات الإلهية على غرار صفات الإنسان، ليس في تلك الحالة الخاصة، سوى مادية صارخة تميزت بها العقلية الإغريقية. والواقع أن المعجزة بمعنى الكلمة لا وجود لها عند الإغريق، لأننا لو أردنا التحدث عن عملية أقلمة القِيَم المصرية في اليونان، وهو ما تطرقنا إليه منذ قليل، لوجدنا أنه ليست هناك أي معجزة في ذلك، بالمعنى «الفكري» للكلمة، فأقصى ما يمكن أن نقول هو إن ذلك التوجه المادي الذي تميَّز به الغرب كان مواتيًا لتطوير العلوم.
فعبقرية الإغريق الدنيوية، الناجمة — أساسًا — عن تأثير السهوب الآسيوية الأوروبية، وضعف مزاجهم الديني، ساهما، بمجرد استعارتهم للقيم المصرية، في إيجاد علوم دنيوية، يقوم بتدريسها على الملأ فلاسفة علمانيون هم أيضًا، بدلًا من أن تكون تلك العلوم وقفًا على الكهنة الذين حرصوا تمامًا على كتمانها، وعدم نشرها بين العامة، لتضيع وسط الانقلابات الاجتماعية.
«كانت قوة الفكر، والهالة التي تحيط به، تمارِس في كل البقاع الأخرى سلطتها اللامرئية، إلى جانب قوة السلاح، ولكنها لم تكن عند الإغريق في أيدي كهنة أو موظفين، بل في أيدي الباحث والمفكر. وكان بوسع هذا الباحث أو المفكر أن يكون — كما هو الحال بكل وضوحٍ بالنسبة لطاليس وفيثاغورس وإمبكلوديس — مركزًا لحلقة تتراوح بين المجمع المدرسي أو الأكاديمية، وبين الحياة المشتركة لمجتمعٍ منظمٍ، وتقترب بدرجة أكبر نحو هذه أو تلك، وتُحدد لنفسها أهدافًا علمية وأخلاقية وسياسية، وتجمع بينها لتكوِّن منها تراثًا فلسفيًّا» (إرنست دستر، تاريخ الفلسفة، الناشر بايو، ١٩٥٢م، ص٤٨).
وكان التعليم العلمي والفلسفي يتم على أيدي أناس غير متبحِّرين في الديانة، ولا يتميزون عن بقية أفراد الشعب إلا بمستواهم الفكري أو مرتبتهم الاجتماعية بوصفهم من الأرستقراطيين، ولم تكن تحيط بهم هالة من القداسة. ويحكي لنا بلوتارخوس في مؤلَّفه «الإيزيس والأوزيريس»، أنه وفقًا لشهادة كافة العلماء والفلاسفة الإغريق الذين تتلمذوا على أيدي المصريين، كان هؤلاء لا يُحبون أن يُمتهن علمهم. وقد صادف سولون، وطاليس، وأفلاطون، ولوكورجوس، وأكزودوس، وفيثاغورس، مصاعب جمَّة قبل أن يُلقِّنهم المصريون معارفهم. ويقول بلوتارخوس أيضًا إن المصريين كانوا يفضِّلون فيثاغورس من بين كل طالبي العلم منهم، لمزاجه الروحاني، وبالمقابل كان فيثاغورس من الإغريق الذين يوقِّرون المصريين للغاية؛ وقد تم استنتاج ذلك من فقرة أشار فيها بلوتارك إلى المعنى الباطن لاسم آمون، وهو الخفي، اللامرئي.
وكما لاحظ أميلينو، فإنه من الأمور التي تدعو للدهشة أنه لم يتم التنويه بقدرٍ أكبر بإسهام المصريين في الحضارة:
«ورأيت عندئذٍ، ورأيت بوضوحٍ، أن أشهر المذاهب في اليونان، وبالأخص مذهبي أفلاطون وأرسطو، كان مهدهما في مصر، وتَبيَّن لي أيضًا كيف أن عبقرية الإغريق الجميلة أكسبت الأفكار المصرية رونقًا لا مثيل له خاصة عند أفلاطون؛ ولكنني أعتقد أن ما أحببناه لدى الإغريق ما كان يجب أن نزدريه أو نستخف به ببساطة لدى المصريين، فعندما يتعاون معًا مؤلفان في أيامنا هذه، فإن أمجاد عملهما المشترك تعود إليهما، بلا تفرقة، وأنا لا أرى لماذا تستأثر اليونان القديمة وحدها بالأفكار التي اقتبستها من مصر» (أميلينو، تمهيدات لدراسة الديانة المصرية، المقدمة، ص۸ و۹).
ويوضح لنا أميلينو أنه إذا كانت بعض أفكار أفلاطون قد أصبحت غامضة فذلك لأنهم كفُّوا عن الرجوع إلى مصدرها المصري، وهذا هو الحال مثلًا بالنسبة لأفكار أفلاطون حول خالق الكون. ومن المعروف من جهة أخرى أن فيثاغورس، وطاليس، وسولون، وأرشميدس، وأراتوستين قصدوا مصر لتلقِّي العلم، ولا تقتصر قائمة طالبي العلم على هؤلاء وحدهم؛ لقد كانت مصر حقًّا الموطن الكلاسيكي الذي تردَّد عليه ثلثا العلماء والفلاسفة الإغريق لتلقِّي العلم. والواقع أن الإسكندرية كانت في العصر الهلنستي المركز الفكري للعالم؛ حيث اجتمع كل العلماء الإغريق الذين يحدِّثوننا عنهم اليوم. ولسنا بحاجة إلى التأكيد بأن هؤلاء العلماء حصلوا على معارفهم، خارج اليونان، وفي مصر بالذات.
بل إن فن العمارة الإغريقي تعود أصوله إلى مصر؛ فنحن نشاهد منذ الأسرة الثانية عشرة أعمدة في مقابر بني حسن كانت النماذج الأولى للطراز الدُّوري.
والحكايات الزنجية أصلًا — أو الكوشية كما كتب يقول لينورمان — والتي تتمثَّل في أحداثٍ تدور بين الحيوانات، وصلت إلى اليونان عن طريق مبتكرها الزنجي المصري إيزوب، وقد استوحى منها لافونتين حكاياته.
وفي كتابه «الحكايات العجيبة الجديدة» يقدم لنا إدجار بو في «مناقشة قصيرة مع مومياء» فكرة رمزية عن مدى اتساع المعارف العلمية والتقنية في مصر القديمة.
وكان هيرودوت قد حصل من الكهنة المصريين على معلومات تكشف عن الجوهر الحسابي لهرم خوفو. وقد خصص العديد من علماء الرياضيات والفلك مؤلفاتٍ لدراسة هذا الهرم، كشفت عن معلوماتٍ مدهشة أثارت — كما كان من الممكن أن نتوقع — موجة من المنازعات التي لم تُعرَض بشكلٍ علمي مترابط، غير أنه بوسعنا أن نذكر هنا الأرقام، دون أن نقع فيما قد يُعتبر إفراطًا في «علم الأهرامات».
لاحظ علماء الفلك أن هناك إشارات للسنة الفلكية، ولتقدير سعة انحراف اتجاه الشمس عند الاعتدالَين الربيعي والخريفي محسوبًا لفترة تمتد ستة آلاف سنة، بينما لا يعرفها علم الفلك الحديث إلا لفترة ٤٠٠ سنة (وفقًا لريفرت، الهرم الأكبر، لندن، ۱۹۳۲م).
كما عثر علماء الرياضيات فيه على النسبة الصحيحة لمحيط الدائرة مع قطرها، ومتوسط المسافة الصحيحة بين الشمس والأرض وقطر الأرض بين القطبين … إلخ.
ومن الممكن مد القائمة بذكر أرقام أكثر إثارة للإعجاب، فهل يمكن أن تكون كل تلك التوافقات بنت الصدفة؟ هذا ما لا يمكن تَصوره، كما كتب ماتيلا غيكا يقول:
«قد تكون كلٌّ من تلك الخواص محض صدفة، ولكن تواجد مجموعة تلك المصادفات معًا أمرٌ لا يمكن تَصوره، شأنه شأن الارتدادات المؤقتة للمبدأ الثاني للديناميكا الحرارية (تجمد الماء وهو فوق النار) التي تخيلها الفيزيائيون، أو معجزة القرود التي تستخدم الآلة الكاتبة، الأثيرة لدى السيد إميل بوريل» (جماليات النسب في الطبيعة والفنون، الناشر جاليمار، باريس، ۱۹۲۷م، ص٣٤٥).
ويستطرد نفس المؤلف قائلًا (ص٣٦٧-٣٦٨):
«بَيْدَ أن فرضية فيوليه لودوك التي تم استكمالها وضبطها بفضل أبحاث ديولافوا، وأ. مال، ولون، حول انتقال بعض الرسوم المصرية إلى العرب ثم الكلوسنيين عن طريق المدرسة الإغريقية النسطورية في الإسكندرية، أقرب إلى المعقول. فالهرم الأكبر يمكن أن يكون من الناحية الفلكية «المزولة الشمسية للسنة الكبرى»، كما قد يكون «البندول» الذي تتردد ذبذباته المتسقة في الفن الإغريقي، والعمارة القوطية، والنهضة الأولى، وفي كل فن يجد في «التناسب الرائع» نبض الحياة ذاتها.»
ويشير المؤلف أيضًا إلى رأي الأب موروه، الذي يرى أن الهرم الأكبر ليس «بداية للحضارة والعلوم المصرية التي تتحسس طريقها، بل تتويجًا لثقافة بلغت ذروتها، وباتت على وشك الزوال، فأرادت أن تترك للحضارات التالية، شهادة مترفِّعة عن مدى تفوقها، وذلك بالإقدام على تلك الخطوة التي تَنُمُّ عن أوجِّ الزهو» (ص٣٤٥).
وهذه المعلومات الفلكية والرياضية، لم تتلاش تمامًا في أفريقيا السوداء، بل تركت آثارًا، يعود إلى السيد مارسيل جريبول الفضل في اكتشافها عند الدوجون، حتى وإن بدا ذلك أمرًا يثير الدهشة الآن.
فقد تمت الإشارة عدة مرات إلى اقتباس الإغريق الآلهة من مصر، وإليكم الأدلة على ذلك:
«جاءت أسماء كل الآلهة تقريبًا إلى اليونان من مصر، ومن المؤكَّد تمامًا أنها وصلت إلينا عن طريق البرابرة، وأنا مقتنع بذلك من خلال بحوثي؛ ولذا أعتقد أننا أخذناها من المصريين أساسًا» (هيرودوت، ٢: ٥٠).
والبرابرة هنا معناها الأجانب، دون أن تحمل هذه التسمية أي معنًى يَنُمُّ عن التقليل من شأنهم.
فالأصل المصري للحضارة والاستعارات الإغريقية الواسعة النطاق من هذه الحضارة حقيقة تاريخية جلية، ولذا يحق لنا أن نتساءل مع أميلينو، لماذا يتم إبراز الدور الذي قامت به اليونان، بالرغم من تلك الحقائق، مع إسدال ستار الصمت على دور مصر.
ولا يمكننا أن ندرك منطق ذلك الموقف إلا بالرجوع إلى أصل القضية.
فبما أن مصر كانت بلد شعب زنجي، وكانت الحضارة التي تطورت فيها تعود إلى زنوج، فإن كل أطروحة ترمي إلى إثبات العكس لن يكون لها مستقبل؛ وأصحاب تلك الأطروحات يدركون ذلك. ولذا فإن تجريد مصر بكل بساطة من كافة ما خلقته لصالح شعبٍ من أصل أبيض حقًّا، يكون تصرفًا أكثر أمانًا تمليه الحكمة.
ويكشف هذا الإسناد الزائف لقِيَم مصر إلى اليونان البيضاء — مع تبييض مصر أيضًا — عن تناقضٍ يُثْبِتُ في حد ذاته أن حضارة مصر من أصل زنجي.
وكما نرى، فإن الرجل الملوَّن أبعد من أن يكون عاجزًا عن التوصُّل إلى التقنية، على عكس ما يعتقده أندريه سيجفريد، بل إنه كان أول من أوجدها، في شخص الزنجي، في حقبة كانت لا تزال فيها كافة الأجناس البيضاء مستغرِقة في البربرية، وتكاد لا تكون خليقة بالحضارة.
وعندما نقول إن أسلاف الزنوج الذين يعيشون أساسًا الآن في أفريقيا السوداء، كانوا أول من اخترع الرياضيات، والفلك، والتقويم، والعلوم بوجه عام، والفنون، والديانة، والزراعة، والتنظيم الاجتماعي، والطب، والكتابة، والتقنيات، والعمارة، وإنهم أول من شيَّدوا صروحًا من ستة ملايين طن من الحجارة (الهرم الأكبر)، كمعماريين ومهندسين، وليس كعمالٍ فقط، وإنهم بنَوا معبد الكرنك الهائل، بقاعة أعمدته الشهيرة التي يمكن أن تستوعب كاتدرائية نوتردام بأبراجها، وإنهم أول من نحت التماثيل الهائلة (تمثالا ممنون … إلخ)، عندما نقول كل ذلك فإننا لا نذكر سوى الحقيقة المجردة والمتواضعة، التي لا يمكن أن ينكرها أحدٌ الآن أو أن يُدحضها بحججٍ جديرة حقًّا بأن نطلق عليها تلك التسمية.
وعليه، يجب أن يكون الزنجي قادرًا على استعادة قدرته على مواصلة ماضيه التاريخي القومي، وأن يستخلص منه الزخم المعنوي لكي يسترد مكانته في العالم الحديث دون السقوط في تطرفات نازية عكسية، ذلك لأن الحضارة التي ينتسب إليها كان من الممكن أن يخلقها أي جنس آخر، لو أنه تواجد في مهدٍ مواتٍ وفريدٍ إلى هذا الحد.