مقدمة
اتجاهٌ مُبارَكٌ ذاك الذي حمَل جُملة من متفقِّهي هذه البلادِ ورجالاتِ التعليمِ فيها على عَقدِ مؤتمَرِ التعليمِ الذي نُشِرَت قراراتُه في صحُفِنا مُنذُ حِينٍ.
ومهما يَكُن من أَمرِ تِلكَ القراراتِ، ومهما يكُن مِن أَمرِ البُحوثِ التي ألقاها في المؤتمر فِئةٌ من أَهلِ الرأي، فإنها جميعًا تَنطوي على اتجاهاتٍ تَنظيميةٍ لا تتعدَّى تنظيمَ مَدارجِ التعليمِ والنَّظرَ في بعضِ خِصِّيَّاته معَ الاحتفاظِ بالرُّوح القديمِ الذي جَرَى عليه التعليمُ حتى الآن، أو على الأقَلِّ بأكثرِ ما في هذه الرُّوحِ من ماهيَّاتٍ، بل إنَّ الأمر قد تعدَّى هذه الاتجاهاتِ إلى الكلامِ في مَسائلَ تجريديةٍ، منها تَنشِئةُ حِسِّ الجمالِ، وليس لنا أن نتكلَّمَ في مِثلِ هذا؛ فلَيسَ المجالُ مجالَ نَقدٍ لِمَا تصدَّى له المؤتمَر، وإنما المجالُ مجالُ القَولِ في الغَرضِ الذي يَنشُده التعليمُ، والمَرمى الذي تَرمي إليه التربيةُ.
لا رَيبَ مُطلَقًا في أن لِكلِّ عملٍ إنسانيٍّ غَرضًا أصيلًا يَرمي إليه، فما هو الغَرضُ الذي نَرمي إليه منَ التعليمِ؟ وما هيَ السبيلُ التي يَنبغي أن نسُوقَ فيها الشبابَ؟
ذلك ما لم يَعرِضْ له المؤتمرُ بطريقةٍ واضحةٍ، وعِندي أن الغرَضَ الأَسمى منَ التربيةِ هو تَنشِئةُ رِجالٍ مُستقلِّين، رِجال الاستقلالُ أخصُّ مُميِّزاتهم، رجالٌ مُستقِلُّون في الرأيِ والخُلقِ، وفي كَسبِ الرِّزقِ الحَلالِ، بحيث تَضعُف فيهِم صِفةُ التطفُّلِ الاجتماعيِّ والتواكُلِ بقَدْرِ ما تَقْوَى فيهم صِفةُ الإنتاجِ والأَصالةِ.
أُريدُ أن أقولَ: إنَّ التعليمَ الصحيحَ الذي يَسُد هذا الغرَضَ هو أن نَصِل بينَ التعليمِ والحالاتِ الاجتماعيةِ التي تَكتنِفُنا في هذه البُقعةِ التي نَشغَلُها من كُرةِ الأَرضِ، كما أُريدُ أن أقولَ: إنَّ أساسَ التعليمِ السليمِ الذي يُمكِن أن يُخرِّجَ هذه الطبَقةَ من الرِّجالِ هو التعليمُ الذِي يَتصِل بثَقافتِنا التقليديةِ.
هذه النظريةُ الجديدةُ المُقتطَعة من صَميمِ بِيئتِنا هيَ موضوعُ هذا البَحثِ الذي نَنشُرُه مُعتقِدينَ أن في الأخذ بنظريتِه فكَّ الأغلال، والاتجاهَ نَحوَ آفاقِ الحُرِّيةِ الاجتماعيةِ السليمةِ من أمراضِ التطفُّلِ والجشَعِ الاجتماعيِّ.