١
إننا نقسم الأدب في العربية بصفة عامة إلى نوعين كبيرين؛ هما:
الشعر والنثر. ولا نقسم الشعر بعد ذلك إلى أنواع مثلما يفعل
الأوروبيون، وهي الأنواع الشكلية المألوفة من شعر قصصيٍّ وشعرٍ
ملحميٍّ وشعر مسرحي وشعر غنائي. ولكننا نقسمه وَفقًا للموضوع الذي
يتناوله الشاعر؛ أي: إن تقسيماتنا الأدبية موضوعية لا شكلية؛ فكل
الشعر القديم موزونٌ مقفًّى، وهو ينضوي جميعًا تحت الباب الذي
يسميه الأوروبيون الشعر الغنائي. وليس معنى هذا الشعر الذي يغنيه
المغنون، ولكنه يعني الشعر الذي يُكتب من وجهة نظر الشاعر، وبلسان
الشاعر نفسه؛ أي: إن القارئ أو السامع يفترض أن القائل هو الشاعر،
وأن ضمير المتكلم إذ أورد في القصيدة لا بد أن يشير إلى الشاعر
نفسِه لا إلى شخصية حقيقية أو خيالية من ابتداعه. ويتميز هذا الضرب
من الشعر أيضًا بأنه يعبر عن مشاعر الشاعر نفسه، وبغلبة الموسيقى
عليه، وجمال إيقاعاته.
وعندما يتصدى المترجم لترجمة قصيدة غنائية من الإنجليزية إلى
العربية مثلًا، فهو يضع في اعتباره كلَّ هذه الخصائص، ويحاول أن
يبرزها إلى جانب المعاني والصور التي يقدمها الشاعر؛ أي: إنه لا
يقدم فقط معنى الألفاظ؛ لأن معنى الألفاظ لا يمكن أن يكون مساويًا
للقصيدة، وإلا فما ضرورة أن يعبر الشاعر عن نفسه شعرًا بدلًا من
كتابة النثر في صورة من الصور؟ وهذا مبدأ من مبادئ النقد الحديث
ينبغي أن يضعه المترجم نُصب عينيه.
وما دامت هذه الصفات تمثل جانبًا كبيرًا من «معنى» القصيدة، وهو
ما نسميه «المعنى الشعري» للعمل الأدبي؛ تمييزًا له عن المعنى
النثري أو معنى الألفاظ في ذاتها؛ فلا بد أن تتمتع بالأولوية في
الترجمة؛ بحيث يُخرج المترجم (الذي لا بد أن يكون قادرًا على نظم
الشعر هنا، بل وأن يتمتع بحسٍّ فني مرهف)؛ أقول بحيث يُخرج المترجم
مثيلًا للقصيدة التي يترجمها بلغة الضاد، قصيدةً تجمع خصائص العمل
الأصلي أو معظمَها، وأهمُّها، كما قلت، الوزن والقافية والمعاني
والصور.
ويفرق درايدن (أبو النقد الإنجليزي في رأي الدكتور صمويل جونسون)
بين ثلاثة مذاهب في الترجمة الأدبية في هذا الصدد: الأول هو النقل
الحرفي للألفاظ في سياقها الأصلي؛ ويسميه
metaphrase؛ أي: الترجمة الحرفية.
والثاني هو نقل المعاني فحسب، بغض النظر عن نسق الجملة أو انتظام
الكلمات في العبارة، وما لهذا من دلالات؛ وهذا هو ما يسميه
paraphrase، والثالث هو إعادة سبك
العبارات، بل القصيدةِ كلها إذا اقتضى الأمر؛ بحيث يستطيع تقديم
المثيل أو البديل للعمل الأصلي باللغة المترجم إليها. وهو يطلِق
على هذا اصطلاح imitation أو
المحاكاة؛ أي: محاكاة الشاعر فيما فعل من وزن وقوافٍ وصور ومعانٍ.
وهذا هو في رأيي أصلح المناهج للترجمة الأدبية.
وإذا طبقنا هذا المنهج على
الشعر الغنائي، وجدنا أن على المترجم أن يضع نفسه مكان الشاعر، وأن
يحاول أن يقدم مثيلًا لقصيدته بلغته هو، وبإيقاعات هذه اللغة
وقوافيها وصورها. وقد يقترب أو يبتعد عن المعاني الأصلية ابتغاءً
لهذه الدقة في المحاكاة. وكان إبراهيم عبد القادر المازني من أفضل
المترجمين وأبرعهم في هذا الصدد — كما كان العقاد يشهد بهذا دائمًا
— فهو يترجم مثلًا قصيدة لوليم شيكسبير كما يلي:
أبعدوا عني الشفاه اللواتي
كنَّ
يُطفئنَ من أوار الصادي
وأبعدوا عني العيون اللواتي
هن
فجرٌ يُضل صُبح العباد
واسترِدُّوا إن استطعتم
مردًّا
قبلاتي من الخدود
النوادي
أما الأصل فهو كما يلي:
Take, O take those lips
away
That so sweetly were
foresworn
And those eyes, the break of
day,
Lights that do mislead the morn; But my
kisses bring again,
Bring again!
Seals of love but sealed in
vain,
Sealed in vain!
ويلاحظ القارئ الاختلاف في معنى البيت الثاني،
فشيكسبير يقول: «الشفاه التي حنثت باليمين بعذوبة»، وإضافة «إن
استطعتم مردًّا» و«من الخدود النوادي» في البيت الأخير، وحذْف
«طوابع حب طُبعت هباءً». ومع ذلك فالترجمة جميلةٌ ومقبولة؛ لأن
القارئ العربي سوف يجد في الوزن والقافية عوضًا عن ذلك الاختلاف؛
فبحر الخفيف (فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن) بحرٌ ذو إيقاع عربي عريق
يقع من الأذن العربية موقع بحر الأيامب المزاحف من الأذن
الإنجليزية. أي: إن المترجم هنا لم يوازن بين البحرين في إطارٍ
مطلق، ولكنه وازن بينهما في إطار استجابة أبناء كل من اللغتين
لإيقاع الشعر. ولإيضاح هذا أورِد ترجمةً قمت بها عام ١٩٦٢م، واخترت
بحر المتقارب — وهو البحر الصافي الذي يعتمد على تكرار تفعيلة
واحدة عدةَ مرات في البيت (فعولن) — وحاولت التقيُّد بمعاني
شيكسبير جميعًا. ومع ذلك فلم أصل إلى ما وصل إليه المازني:
إليكن عني فتلك الشفاهْ
عذوبتها حنثت باليمين
وتلك العيون ضياء مبين،
وفجر يُضل مسير الصباح،
ولكن أعيدوا إليَّ القبل،
أعيدوا الرواء
طوابع حب طواها الأجلْ،
وضاعت هباءْ!
وأذكر أنني كنت مسرورًا لأنني حافظت على عدد
الأبيات والقافية الأخيرة، ولكنني عندما اكتسبت المزيد من الخبرة
عدت إلى تفضيل المازني استنادًا إلى النظرية التي طرحتها.
ويؤكد هذا ما ذهب إليه مترجمٌ ضليع؛ هو الدكتور زاخر غبريال،
عندما قدَّم لنا في أواخر السبعينيات نماذجَ مختارة من عيون الشعر الإنجليزي.
١
وقد تميز منهجُه بعدم التقيد على الإطلاق بنُظم الإيقاع
الإنجليزية؛ أي: أنماط النظم التي اتبعها الشعراء، مثل البيت الذي
يلتزم التصريع في القافية heroic
couplet أو الفقرة الشعرية
stanza بشتى أنواعها؛ سواء كانت
تتكون من ثلاثة أبيات terza rima
أو أربعة (كفقرات المواويل ballad
stanza) أو ثمانية ottava
rima أو أحد عشر بيتًا (وقد تزيد أو تقل)
Spenserian ولا حتى بالشعر المرسل؛
أي: غير المقفى (حرفيًّا: النَّظم الخالي من القافية
blank verse) ولكنه كان ينشد
دائمًا شعرًا عربيًّا جزلًا، وكان يتسنَّم في كل قصيدةٍ ذروةً
جديدة؛ بسبب حسه اللغوي المرهف بالعربية.
انظر إليه كيف يترجم هذه الأبيات من قصيدة «القرية المهجورة» للشاعر الإنجليزي أوليفر
غولدسميث:
Near yonder thorn, that lifts its head
on high
Where once the signpost caught the
passing eye,
Low lies that house where nutbrown
draughts inspired,
Where greybeard mirth and smiling toll
retired,
ها هنا حيث قتادٌ قد زكا
واستأسدا
كانت اللوحة تحمل أسماء الحواري
والدروب
قد توارى من
هنا
مقصف القرية وانفض
الرفاق
فهنا كانت تُدار القدح الغبراء ما
بين الصحاب
تبعث الخفة في النفس وتذكي
الطربا
كانت البسمة تعلو كل وجه فيه
شيبًا أو شبابًا
إن الشاعر يتذكر قريته المهجورة، وهو يمر على
الأماكن التي كان يعرفها، وما عهْدُه بها إلا أماكن حياة دافئة
حافلة، فإذا بها الآن دِمَنٌ باردة خامدة، وهي مفارقة تعكسها صوره
وإيقاعاته وألفاظه. ويكمن سر نجاح الترجمة العربية في قدرة المترجم
على الإحساس بنبض القصيدة الأصلية، فشجرة الشوك أو القتاد التي
«ترفع رأسها عاليًا» — كما يقول النص الإنجليزي حرفيًّا — هي في
الحقيقة قد اشتد عودها «واستأسدت». وفي ذلك إشارة إلى اختلاط
القيم، فالمثَل القديم يشير إلى «استنسار البغاث»، والشاعر الحديث
يعجَب كيف أصبح السطح ملعبًا للنسور. وتكرار فعل الكينونة الماضي
(كانت اللوحة …) (كانت تدار …) (كانت البسمة …)؛ يوجِد إيقاعًا
داخليًّا على مستوى المعنى، لا على مستوى الألفاظ، بحيث يُحس
القارئ في كل مرة بتوازي لحظات الماضي المفقود وتوازي اختفاء
المشاهد التي ينعي الشاعر فقْدَها. ويكفي لتبيان عبقرية هذه
الترجمة تأمُّل «التقطيع» الذي لجأ إليه المترجم الشاعر؛ إذ إن
الأصل الإنجليزي يمثِّل جملة واحدة من الناحية النحوية الصِّرفة،
وترجمتها الحرفية هي:
وبالقرب من شجرة القتاد التي ترفع
رأسها عاليًا
حيث كانت لوحة أسماء الحواري تلفت
عيون المارة
يرقد حطام ذلك المقصف الذي كانت
تدار فيه
أقداح الشراب الغبراء فتفعم النفس
سرورًا
حيث يأوي الشيوخ ليطربوا والشباب
ليلهوا ويلعبوا
أين هذه الترجمة المنثورة من تلك المنظومة؟! قد
يتساءل متسائل عن الإضافات: لماذا يضيف المترجم كلمات هنا وهناك،
بل عبارات كاملة؟ هل الهدف هو القافية أم الوزن؟ والإجابة على هذا
بالنفي؛ فإن إضافة «واستأسدا» في البيت الأول لا تخدم الوزن أو
القافية، ونستطيع حذفها دون أن يتأثر هذا أو ذاك. وكذلك «الدروب»
في البيت الثاني، أما «انفض الرفاق» في البيت الثالث فهي جوهرية
للصورة التي يبعثها المترجم؛ فالانفضاض موحًى به وإن لم يكن
مذكورًا في النص الإنجليزي، وهو عنصر أساسي بل وجوهري من عناصر
الصورة البلاغية التي يأتي بها (غولدسميث)، والتي كان الرومان
يطلقون عليها في الأدب اللاتيني تعبير
occupatio؛ أي: ذِكْر ما هو غير
موجود، ووصْفه كأنما هو موجود. والمترجم العربي يلجأ إليها في إطار
ثقافته العربية التي تعرف البكاء على الأطلال، وذِكْر الأحبة
الراحلين. وسوف يلاحظ القارئ أن «انفض الرفاق» لا تساعد القافية
على الإطلاق بل هي خارجة عنها؛ ولذلك فإن المترجم قد أتى بها
استكمالًا للصورة الشعرية التي لا تكتمل حقًّا وصدقًا إلا
بها.
ومن ذلك المنطلق نرى أن
المترجم الصادق هو الأديب الصادق أيضًا؛ فهو يستوعب أدب أمته
وتراثها، وهو ينقُل العمل الأدبي الأجنبي في إطار هذا الأدب
والتراث، وما إجادة الوزن والقافية إلا مظهرٌ من مظاهر هذا
الاستيعاب؛ ولذلك فحين ينحو المترجم نحو محاكاة الوزن والقافية
الأصليَّين دون اعتبارٍ لما يتوقعه القارئ العربي، فإنه لا يحقق
النجاح المرجو، ويخرج عمله في إطار الدرجة الثانية من الترجمة؛ أي:
في إطار النقل والمحاكاة دون الإبداع؛ ولذلك فترجمة سونيتات
شيكسبير من أعقدِ ما يترجَم؛ لأنها تعتمد على مظاهر شكلية ذات
أهميةٍ بالغة؛ منها عدد أبيات القصيدة (١٤) وتقسيمُها إلى فقرات (٤
– ٤ – ٤ – ٢)، والتزامها بقافيةٍ محددة (أ ب أ ب – ﺣ د ﺣ د – ﻫ و ﻫ
و – ز ز)، كما تعتمد على بناء بلاغي جوهرُه تطوُّرُ الفكرة
المطروحة من صورة أو فكرة بسيطة، إلى صورة أو فكرة جديدة جذابة قد
تجري مجرى الأمثال.
وعندما يواجه المترجم نصًّا أدبيًّا جوهرُه مثل هذه الصفات
الشكلية، فإنه يحاول — قدر الطاقة — إيجاد المقابل لها في اللغة
العربية إبداعيًّا؛ ولهذا تأتي
الأطر الإيقاعية العربية الأصيلة في المقام الأول؛ أي: إننا نبدأ
برفض الترجمة النثرية للشعر الغنائي، ثم نحاول النظر في أي ألوان
الشعر أقرب إلى روح العمل الذي سنترجمه؛ لأن العبرة باستجابة
القارئ لهذا العمل الجديد. وخير دليلٍ على ذلك محاولة ثلاثة من
المترجمين إخراجَ ترجمة شعرية للسونيتة رقم ١٨ الشهيرة التي يبدأ
فيها شيكسبير بعقد مقارنة بين جمال محبوبته واعتدال الجو في يوم من
أيام الصيف الإنجليزي، ثم ينكر هذه المقارنة؛ لأن الصيف فصل متقلب،
وكذلك شتى فصول العام. وينتهي إلى أن محبوبته تكسر حدود الزمن؛ لأن
الشاعر قد خلَّدها في قصيدته التي لا بد أن يُكتب لها الخلود — في
رأيه — وأن ينشدها الناس على مر الزمان.
هذه أولًا هي القصيدة الإنجليزية، وسوف أتبعها بالترجمات الثلاث
دون الإفاضة في التعليق:
Shall I compare thee to a summer’s
day?
Thou art more lovely and more
temperate;
Rough winds do shake the darling buds
of May
And summer’s lease hath all too short a
date.
•••
Sometimes too hot the eye of heaven
shines
And often is his gold complexion
dimmed;
And every fair from fair sometimes
declines
By chance or nature’s changing course
untrimmed.
•••
But thy eternal summer shall not
’ade
Nor lose possession of that fair thou
owest;
Nor shall death brag thou wanderest in
his shade
When in eternal lines to time thou
growest.
•••
So long as men can breathe or eyes can
see
So long lives this, and this gives life
to thee.
(١) هلَّا أقول بأن فتونك أشبه
شيء بصيف جميل؟
فأنت تفوقينه فتنةً، ويزدانُ فيك
لطيف اعتدال
تهز الرياح زهور
الربيع
وللصيف ضيف قصير
المقام
•••
وحينًا تُحرق عين
السماء
وتشحب حينًا كأهل
السقام
ولا بد يومًا لكل بهاء وداع
البهاء
فإن لم يكن عرضًا موته، فشوط
الحياة أسير الفناء
•••
على أن صيفك لن يذبلا، فذلك
خُلِّد لا للبلى
وما فيك من رونق ملكه، إليه انتهى
لا لكي يفصلا
ولن يفخر الموت أن قد رآك تجرين
خطوك في ظله
فأنت قصيدي الذي لن
يزول
•••
فما دام في الكون خلق يرون ويسري
بهم نفس من حياة
فذلك يحيا وتسري لنفسك منه
الحياة
حسين دباغ، مجلة أصوات ١٩٦١م
(٢) ألا تشبهين صفاء
المصيف
بلى أنت أحلى وأصفى
سماء
ففي الصيف تعصف ريح
الذبول
وتعبث في برعمات
الربيع
ولا يلبث الصيف حتى
يزول
وفي الصيف تسطع عين
السماء
ويحتدم القيظ مثل
الأتون
وفي الصيف يحجب عنا
السحاب
ضياء السما وجمال
ذُكاء
وما من جميلٍ يظل
جميلًا
فشيمة كل البرايا
الفناء
ولكنَّ صيفَك ذا لن
يغيب
ولن تفقدي فيه نور
الجمال
ولن يتباهى الفناء
الرهيب
بأنك تمشين بين
الظلال
إذا صغت منك قصيد
الأبد
فما دام في الأرض ناس
تعيش
وما دام فيها عيون
ترى
فسوف يردِّد شعري
الزمان
وفيه تعيشين بين
الورى
محمد عناني، صحيفة المساء ١٩٦٢م
(٣) من ذا يقارن حسنك المغري بصيف
قد تجلَّى
وفنون سحرك قد بدت في ناظري أسمى
وأغلى
تجني الرياح العاتيات على البراعم
وهي جذلى
والصيف يمضي مسرعًا إذ عقده
المحدود ولَّى
كم أشرقت عين السماء بحرها
تتلهب
ولَكَمْ خبا في وجهها الذهبي نور
يغرب
لا بد للحسن البهي عن الجميل
سيذهب
فالدهر تغییر وأطوار الطبيعة
قُلَّب
لكن صيفك سرمدي ما اعتراه
ذبول
لن يفقد الحسن الذي مُلِّكت فهو
بخيل
والموت لن يزهو بظلك في حماه
يجول
ستعاصرين الدهر في شعري وفيك
أقول
ما دامت الأنفاس تصعد والعيون
تحدق
سيظل شعري خالدًا وعليك عمرًا
يغدق
فطينة النائب، من كتاب «فن الترجمة»
للدكتور صفاء خلوصي، ١٩٨٦م
والواضح أن
الترجمة الأخيرة هي أفضل الترجمات، رغم إضافاتها الكثيرة إلى نص
شيكسبير؛ بسبب إيقاعها المتئد (بحر الكامل) ورصانة مصطلحها العربي،
فالمترجمة شاعرة مفطورة، ولا شك أنها أفادت كثيرًا من ممارستها
فنَّ الشعر في التحكم في عدد الأبيات وإحكام القافية. ولقد ترددت
طويلًا قبل أن أقرر إدراج ترجمتي التي تمثل مرحلة مبكرة من مراحل
عملي في هذا الحقل؛ إذ إنني كنت حريصًا على إخراج نص شيكسبير دون
زيادةٍ أو نقصان؛ مما استتبع زيادة عدد الأبيات، ولو أن هذا مطروح
للمناقشة؛ لأن الشطرات العربية العشرين يمكن أن تشكل عشرة أبيات
كاملة فحسب. وعلى أي حال فالتساوي في عدد الأبيات ليس دائمًا
مطلوبًا، وإنما هو مفضَّل حين يكون للشكل الخارجي معنًى شعري؛ أي: عندما يكون جزءًا من
الشكل الفني للقصيدة. وهذا هو
الحال مثلًا في قصيدة الرثاء الرفيع — كما يسميها النقاد — التي
كتبها وردزورث عن طفلة خيالية ترحل عن هذا العالم في فجر العمر وها
هي ذي بالإنجليزية أولًا:
A slumber did my spirit
seal;
I had no human
fears,
She seemed a thing that could not
feel.
The touch of earthly
years.
No motion has she now, no
force,
She neither hears nor
sees,
Rolled round in earth’s diurnal
course,
With rocks and stones and
trees.
إن الفقرتين تمثلان التقابل بين لحظتين من لحظات
الوعي لدى الشاعر — ولذلك فالشكل هنا له معنًى — الأولى لحظة نعاس
غفل فيها عن الحقيقة؛ وهي أن البشر فانون؛ وذلك لفرط جمال الطفلة
التي يتحدث عنها، أو لفرط حبه لها؛ إذ بدت له من طينة غير بشرية،
فمحت من نفسه مخاوف الفناء أو بدت كأنما هي بمنجًى عن لمسات السنين
الأرضية، وهي السنون التي تعيد الإنسان إلى الأرض.
وأما اللحظة الثانية فهي لحظة صحو الشاعر على الحقيقة حين يكتشف
أنها فقدت القدرة على الحركة، وفقدت معها قوة الأحياء، ولم تَعُد
تسمع أو تبصر، بل إنها أصبحت جزءًا من الأرض، تدور معها دورتها
اليومية في صحبة الصخور والأحجار والأشجار.
والتقابل يتطلب فقرتين مستقلتين. وأما البحر المستخدم فهو يعتمد
على إيقاع الأيامب، ولكن السطور الفردية فيه رباعية
tetrameter، والزوجية ثلاثية
trimeter. وهذا التفاوت في البحر
يُحدث تأثيرًا واضحًا؛ فالشطران الثاني والرابع من الفقرة الأولى
ينتهيان نهايةً مقتضبة، ونهاية كل منهما تمثل النهاية النحوية
للجملة، بينما يتصل الشطر الثالث نحويًّا بالشطر الرابع، وكذلك فإن
القافية تختلف من فقرة إلى فقرة في الشطور الزوجية، وتتصل إلى حد
ما في الشطور الفردية. وهذه سمات لها معناها الفني؛ أي: إنها
أساسية في فهمنا وتذوقنا للقصيدة؛ ولذلك فلا بد من أن تنعكس في
الترجمة العربية.
ختم النعاس على روحي
وغيبها
ومحا مخاوف
البشر
فبدت لعيني فتاة ليس
تلمسها
يد السنين
والقدر
فالآن قد سكنت والقوة
اندثرت
ومضى زمان السمع
والبصر
وغدت تدور ببطن الأرض
دورتها
كالصخر والأحجار
والشجر
وسوف يلاحظ القارئ زيادة كلمة «القدر» في الشطر
الرابع وحذف كلمة «أرضية»، وربما كان هذا من قبيل التفسير الخاص
للنص (انظر مقدمتي لترجمة
تاجر
البندقية، القاهرة، الهيئة العامة للكتاب، ۱۹۸۸م)،
ولكنه ضروري لضبط التوازي التام بين الشطرين الثاني والرابع في
الوزن والقافية جميعًا. كما سيلاحظ القارئ حذف كلمة «اليومية»
وصفًا لدورة الأرض في الشطر السابع من القصيدة، وإن كنت أعتقد أن
معنى دورة الأرض مفهوم، ولا حاجة به إلى هذه الصفة. كما سيلاحظ
تغيير الحرف «مع» في الشطر الأخير إلى حرف الكاف، وهذا يرجع، ولا
شك، إلى الإحساس بأن الصحبة هنا تفيد التشبيه، كما نص على ذلك
الناقد الأشهر ريتشاردز في كتابه
فلسفة
البلاغة.
٢ ولكن هذه تغييرات طفيفة اقتضتها الموازاة الشكلية بغية
إخراج المقابل في اللغة العربية للقصيدة الإنجليزية؛ فالبيت الأول
في القصيدة العربية يتكون من أربع تفعيلات، وهو تحوير لبحر البسيط؛
إذ حلت تفعيلة بحر الكامل محل تفعيلة بحر الرجز في البداية. وكذلك
الحال في البيت الثالث، فأنا من المؤمنين بتوازي تفعيلة كلٍّ من
البحرين (الرجز والكامل) كما بينت ذلك في مقدمة
تاجر البندقية المشار إليها، وكما أثبت ذلك
الدكتور أحمد مستجير في كتابه
مدخل رياضي
إلى عروض الشعر العربي (القاهرة، ١٩٨٦م). أما البيتان
الثاني والرابع فهما يستخدمان تفعيلة الرجز المزاحفة. ويتضح
التوازي بصورة أشد في الفقرة الثانية؛ إذ تتكون الشطور الفردية من
أربع تفعيلاتٍ، والزوجية من ثلاث تفعيلاتٍ من نفس الإيقاع الذي
أشرت إليه.
أما في سائر ألوان الشعر الغنائي، حيث لا يلتزم الشاعر بشكل
خارجي محدَّد صارم، فللمترجم الحرية في اختيار الشكل الذي تقبله
الأذن العربية وتَطرَب له.
۲
قلنا إن أهم سمة من سمات
هذا الشعر عالميًّا هي الموسيقية الغلَّابة، واستقلال كل قصيدة،
واعتماد الشاعر على الصور في سياق القصيدة الواحدة، حتى إننا
أحيانًا نستطيع إخراج الصور من القصيدة في بيت أو بيتين؛ سواءٌ
ذكرنا سياقهما أم لم نذكره. فالشعر الغنائي القديم يقوم على
استقلال البيت؛ على حين يقوم الشعر الغنائي الحديث على استقلال
القصيدة أو ما يسميه النقاد «وحدة» القصيدة. فإذا كنا نستطيع في
الشعر القديم أن نشير إلى بيت قاله شاعرٌ ما — وكثيرًا ما نفعل —
فنحن لا نستطيع في الشعر الحديث أن نفعل ذلك دون إخلال بالعمل كله،
بل أحيانًا ما تفقِد الصورة التي نستخرجها من القصيدة دلالتَها حين
نعزلها عن السياق، فنحن نشير إلى قول المتنبي مثلًا:
ما كل ما يتمنى المرءُ
يدركه
تأتي الرياحُ بما لا تشتهي
السفنُ
أو قوله في قصيدة أخرى:
وإذا لم يكن من الموت بدٌّ
فمن
العجز أن تكون جبانًا
أو في قصيدة ثالثة:
الخيلُ والليلُ والبيداءُ
تعرفُني
والسيفُ والرمحُ والقرطاسُ
والقلمُ
أو في قصيدة رابعة:
نامت نواطيرُ مصرٍ عن
ثعالبها
فقد بَشِمْنَ ومَا تَفنى
العناقيدُ
فنحن نشير إلى هذه الأبيات ونقتطفها دون أن نشعر بحاجة إلى إدراك
السياق الكامل للقصيدة، ولكننا إذا اقتطفنا أبياتًا من قصائدَ
للشعراء المحدَثين، حتى ولو شكلت فيما بينها صورًا كاملة، فسوف
تفتقد روح السياق الأصلي الذي يهَبُ العمل دلالته الفنية. ولننظر
إلى هذه الأبيات من قصيدة «سلة ليمون» للشاعر أحمد عبد المعطي
حجازي:
سلة ليمون
تحت شعاعِ الشمسِ
المسنونِ
والولدُ ينادي بالصوتِ
المحزونِ
عشرون بقرشٍ بالقرشِ الواحدِ
عشرون!
هذه صورة كاملة في ذاتها، ولكنها لا تكتسب دلالتها
الكاملة إلا إذا وضعناها في سياقها الأصلي؛ لنعرف أن رمزية الليمون
هي نفوس أهل القرية الذين يتوهون ويضيعون في المدينة ويصبحون بلا
ثمنٍ، وكذلك إذا اقتطفنا الأبيات التالية من بداية قصيدته «مذبحة
القلعة»:
الدجى يحضنُ أسوارَ
المدينةِ
وسحاباتٌ رزينة
خرقتها مئذنة
ورياحٌ واهنة
ورذاذٌ وبقايا من
شتاء!
فهذه صورة كاملة في ذاتها، ولكن معناها يتوقف على
القصيدة كلها، حيث يصبح الاحتضان رمزًا للخيانة، وتصبح الأسوار سجن
الموت للمماليك في القلعة، وتصبح الرياح رمزًا لأنفاس الحياة
الأخيرة التي يَلفِظها المماليك، والرذاذُ قطراتِ الدم المسفوك،
وبقايا الشتاء بقايا حياة المماليك الآفلة.
ويقابل هذين اللونين من الشعر الغنائي في الإنجليزية شعر القرن
الثامن بصفة خاصة؛ حيث البيت المستقل
distich، الذي يتكون من شطرين تجمع
بينهما قافيةٌ واحدة. ويسمى هذا البيت «الثنائية البطولية»
heroic couplet؛ لارتباطه بالشعر
البطولي؛ أي: شعر الملاحم القديمة، فأنت تقرأ شعرًا للشاعر ألكسندر
بوب فتجده مثل شعرنا العمودي، واسمعه يقول:
A little learning is a dangerous
thing;
Drink deep or taste not the Pierian
spring;
There shallow draughts intoxicate the
brain,
Drinking largely sobers us
again!
وهذان بيتان مقفَّيان يمكن استخلاصهما من قصيدته
عن النقد الأدبي دون نقصان في المعنى؛ أي: دون أن ينتقص ذلك من
المعنى الفني لهما أو للقصيدة. وفيما يلي ترجمتهما التي راعيت فيها
الوزن والقافية:
إياك أن ترضى برشفاتٍ صغارٍ عند
نبع المعرفة
بل عُبَّ منه لترتوي أو فانصرف
وانسَ الظلالَ الوارفة
من ذاق كأس العلم لا يروي ظماه
سوف يسْكِرُه المذاق
أما إذا نهِل الرحيق وعبَّ عبًّا
سائغًا منهُ أفاق
والصورة هنا — كما هو واضح — تقوم على المفارقة،
وهي صورة مستقلة وقائمة برأسها؛ أي: لا تحتاج إلى ما يليها (أو ما
يسبقها) من صور، وكذلك عندما يكتب «بوب» البيت التالي عن عالم
الفيزياء الأشهر إسحاق نيوتن:
Nature and Nature’s laws lay hid in
night;
God said: Let Newton be! and all was
light!
وهذه هي الترجمة
التي راعيت فيها أيضًا النظم والقافية:
كان الظلام يلف سر الكون والأشياء
بل يُخفي نواميس الطبيعة
إذ قال رب الكون كن .. فأتى نيوتن
كي ينير لنا خوافيها البديعة
أما في الشعر الحديث، ونحن نعتبر أن بداية العصر
الحديث في الشعر تعود إلى الحركة الرومانسية في أوائل القرن التاسع
عشر، فالصورة وحدها لا تكتمل إلا بموقعها في القصيدة. ولنأخذ مثلًا
من قصيدة شهيرة للشاعر الرومانسي وليم وردزورث؛ يقول في الفقرة
الأولى:
She dwelt’ among the unrodden
ways;
Beside the springs of
Dove
A maiden whom there were none to
praise
And very few to
love.
عاشت بعيدًا حيث لا تخطو
قدم
عند الينابيع بأعلى
النهرِ
حسناءُ لكنْ ما تغنَّى
حُسنَها
ولا هواها عاشقٌ من
بَشر!
فهذه بدايةٌ وحسب، ولن نستطيع إدراك مغزى هذه
الفقرة إلا إذا قرأنا سائر القصيدة:
A violet by a mossy
stone,
Half hidden from the
eye;
Fair as a star when only
one
Is shining in the
sky!
•••
She lived unknown, and few could
know
When Lucy ceased to
be;
But she is in her grave, and
Oh
The difference to
me!
هي كالبنفسج عند صخرٍ
معشبٍ
يخفى عن العين
بهاه
هي فتنةٌ .. هي مثل نجمٍ
ساطعٍ
يبدو وحيدًا في
سماه
•••
عاشت بمعزلها ولم
يعرف
إلا القليل متى
قضت
لكنها في قبرها يا
ويلتا
وا حرَّ قلبي إذ
مضت!
أو خذ نموذجًا القصيدةَ التالية للشاعر وليم بليك،
الذي سبق وردزورث:
O Rose, thou art
sick!
The invisible
worm
That flies in the
night
In the howling
storm
Has found out thy
bed
Of crimson joy
And his dark secret
love
Does thy life
destroy!
عليلةٌ يا
وردتي
فالدودةُ الخفية
التي
تحوم في الليالي حين تعوي
العاصفة
قد عثرت على فراشك
الذي
تحوطه أفراحه
الوردية
لكن عشقها الدفين
والعميق
يمتص من كيانك
الرحيق
ويرشف الحياة من حبل
الوريد!
فهذه قصيدةٌ كاملة لا يكتمل معناها إلا عند آخر
كلمة في البيت. وقد تعمدت في الترجمة أن أبرز السمات الأساسية التي
تميز هذا اللون من الشعر، وأهمها الاتصال النحوي بين الأبيات؛ بحيث
تستطيع قراءة القصيدة من أولها إلى آخرها كأنها عبارة واحدة متصلة؛
ولذلك تجد أن بعض الأبيات تنتهي بالأسماء الموصولة، وإلى جانب ذلك
تجد بعض التفاوت في القافية والوزن؛ بحيث يخضع الإيقاع تمامًا
للحالة النفسية أو الشعورية، ويكسر بذلك الرتابة التي كان يمكن أن
تنتج عن انتظام البناء العروضي وتساوي طول الأبيات.
ومثلما نجد هذا التفاوت في أنماط النظم في الشعر الغنائي، نجد أن
الألوان الأخرى من الشعر تتميز بأشكال إيقاعية متفاوتة؛ فالشعر
المسرحي — مثلًا — نادرًا ما يُكتب في إطار الوزن المنتظم، ونادرًا
ما يستخدم القافية، وهو يستخدم عادةً ما أسميته بالشعر المرسل؛ أي:
النَّظم غير المقفَّى blank verse،
وكذلك الشعر الملحمي والقصصي. وهنا ينبغي أن
يقرر المترجم بنفسه ما ينبغي أن يفعله إزاء عنصرَي الإيقاع
والقافية، فإذا رأى أن الإيقاع يلعب دورًا رئيسيًّا في الموقف الذي
يواجهه، لم يكن ثَم مهرَبٌ من إيجاد إيقاع مقابل (وليته يكون
مماثلًا) للإيقاع الأصلي. أما إن رأى أن الإيقاع يلعب دورًا
ثانويًّا؛ بحيث لا يتوقف المعنى الأدبي للموقف الدرامي عليه، فله
أن يختار: إما أن يجد إيقاعًا خافتًا لا يشد أذن القارئ أو السامع؛
بحيث يطغى عليها ويَصرِفها عن صلب المعاني والصور الدرامية، وإما
أن يتغاضى عن الوزن الشعري برمته؛ لأن وزن الشعر العربي مهما
حاولنا تخفيفه غلَّاب، وهو أشد كثيرًا من إيقاع الشعر
الإنجليزي.
أما في الحالة الأولى — حالة قيام الإيقاع بدور رئيسي في إبراز
المعنى الدرامي — فالمثل عليه تلك القطع الشعرية الموزونة
المقفَّاة التي تَزخَر بها مسرحيات شيكسبير. وخذ المثل التالي من
مسرحية تاجر البندقية:
All that glisters is not
gold;
Often have you heard that
told,
Many a man his soul has
sold
But my outward to
behold!
ما كلَّ براق
ذهب
مثل يدور على
الحقب
کم باع شخصٌ
روحه
كيما يشاهدني
وحسب
أو المثل التالي من مسرحية حلم ليلة صيف:
Now until the break of
day
Through this house each fairy
stray!
To the best bride-bed will
we,
Which by us shall blessed
be;
هيا الآن وحتى
الفجر
نرقص في أبهاء
القصر
ونحيط فراش
عروستنا
ونباركه
بمحبتنا
وعندما يتغير الإيقاع فالمستحسن تغيير الإيقاع في
العربية أيضًا:
Trip away, make no
stay
Meet me all by break of
day!
هيا بنا هيا
بنا
ولتتفرَّقْ يا
جمعنا
عند الفجر
فقابلننا!
فالأول من بحر الخَبَب، والثاني يبدأ بالرَّجَز ثم
يتحول إلى مزيج من الرجز والخبب؛ وهذا لا شك جديد في العربية (انظر
ترجمة حلم ليلة صيف المنشورة في
مجلة المسرح، أبريل ١٩٦٤م، أو انظر نفس المسرحية في مشاهد
الجان):
Over hill, over
dale
Through bush through
briar
فوق التل وفوق
الوادي
في الغابات وفي
الأشواك
وقد يقتضي الموقف إيقاعاتٍ مختلفة؛ مما يتطلب من
المترجم مجاراة الاختلاف؛ ولذلك نجد أن
المترجم دائمًا يعتمد على أحكام نقدية تسبق شروعه في الترجمة؛ أي:
أنه لا بد أن يحكم في البداية ما إذا كان الإيقاع الذي يرنُّ في
أذنه من نوع موحَّد، أم أنه متفاوت النبرات أو متفاوت
السرعة؛ لأن بحر «الأيامب» الإنجليزي خدَّاعٌ، فالشاعر
الإنجليزي لا يلتزم به التزام الشاعر العربي ببحور الشعر العربي،
وهو يحوِّر فيه تحويرات كبيرة اهتدى إليها أخيرًا علماءُ اللغة؛
حتى إن بعضهم يقطع بأن السمة الوحيدة المشتركة هي عدد المقاطع في
البيت الواحد من الشعر المرسل المستخدم في الملاحم أو في المسرح.
أما نُظُم النَّبر الداخلية وسرعة الإيقاع فما أكثرَ ما تتفاوت!
وما أشد ما تختلف!
ولقد خضت تجربةً خاصة في هذا الصدد عند ترجمة الخطاب الطويل الذي
تُلقيه «بورشيا» في مسرحية تاجر
البندقية، في الفصل الرابع، والذي اشتهر ببلاغته
السامية الرفيعة heavenly
eloquence. ويبدأ هكذا:
The quality of mercy is not
strained,
It droppeth as the gentle rain from
heaven
Upon the place beneath: it is twice
blessed:
It blesses him who gives and him that
takes:
Tis mightiest in the mightiest: it
becomes
The throned monarch better than his
crown;
His sceptre shows the force of temporal
power,
The attribute to awe and
majesty,
Wherein doth sit the dread and fear of
kings;
But mercy is above this sceptred
sway;
It is enthroned in the hearts of
kings;
ليس في الرحمة إلزام
وقهر
إنها كالغيث يَنْهَلُّ رقيقًا من
سماهُ
دونما نهي
وأمر!
بورکت تلك الفضيلةُ
مرتين:
إنها تُبارك
الرحيم
مثلما تبارك
المُسْتَرْحِمْ؛
وهي أزكى ما تكون إن أتت عن
مقدرة
بل وأزهى من عروش الملك
والتِّيجان
إن يكنْ في الصولجان البطش أو
مُلْكُ الزمان
إن يكنْ رمزُ المهابة
والجلال
مكمنَ الرهبةِ والخوف من
السلطان
فهي أسمى من جلال
الصولجان
عرشها في الصدر في قلب الملوك
الرُّحَماء!
والملاحظ هنا أنني لم ألتزم بعدد الأبيات، أو بطول
كل منها، أو باقتصار هذه على فكرة أو أفكار؛ أيًّا كانت الدلالات
الفنية لهذه الشكليات في الإنجليزية؛ فإن شيكسبير رغم احتفاظه بعدد
المقاطع (عشرة) في كل بيت، يميل إلى استخدام أربع نبرات رئيسية في
كل بيتٍ وحسب، وهو في هذا قريب من شعراء الإنجليزية القديمة
old English، الذين كانوا يستخدمون
بحور النبر stress rhythm، ومن
المحدَثين الذين عادوا إلى هذه البحور مثل ت.س. إليوت؛ ولهذا
فضَّلت بحر الرمل (فاعلاتن)؛ فهو بحر يتيح هذه الحرية في إيقاعاته،
وهو رقيق. ولا عجَبَ في أن الدكتور زاخر غبريال يفضِّله على سائر
بحور الشعر! كما أضفت القافية في بعض الأبيات، رغم عدم استخدام
شيكسبير للقافية؛ لأنني شعرت أنها بديل مقبول في العربية للإيقاعات
الإنجليزية، أو أنها من الضرورات العربية في هذا السياق بعينه؛
فنحن أمام خطبة كثيرًا ما يوردها النقاد في كتب المختارات الشعرية
باعتبارها شعرًا غنائيًّا، وهي في الحقيقة كذلك، رغم افتقارها إلى
سمات الشعر الغنائي التي ذكرتها آنفًا؛ فهي قائمة برأسها، وهي
زاخرة بالصور غير المتصلة بالمسرحية اتصالًا وثيقًا (صور الملوك
والصولجان). وهي موجَّهة إلى يهودي لا يستطيع، بحكم موقعه وملتِه،
أن يستجيب لها؛ ومن ثَم فكأنما يخاطب الشاعر هنا جمهوره العريض
بدلًا من أن تُخاطبَ بورشيا، باعتبارها من شخصيات المسرحية، شيلوك؛
باعتباره شخصيةً أخرى محكومةً بالسياق الدرامي.
ولكن الأمر يختلف تمامًا عندما نتصدى لعمل مثل يوليوس قيصر، وقد خضت هذه التجربة في عام
مضى، وعلى مدى عام كامل، وقد تعرضت في بداية هذه التجربة إلى إغراء
الترجمة المنظومة، ولكنني وجدت أنني سأضحي في سبيل النَّظم بدقة
الصياغة اللغوية التي تقوم عليها المسرحية؛ فالمعروف أن هذه
المسرحية أفقرُ مسرحيات شيكسبير في الصور الفنية. وقد تسابق النقاد
والدارسون في تحليل هذه الظاهرة، وقدم كل منهم تصوراته الخاصة بها؛
فمنهم من قال إن عدم استخدام شيكسبير الأدواتِ الشعريةَ التقليدية
— وأهمها الاستعارة وما يتصل بها من لغة المجاز — كان مُتعمَّدًا؛
لأنه يستخدم اللغة استخدامًا مدروسًا محسوبًا؛ بحيث يسوده منطق
العقل لا منطقُ العاطفة؛ ومن ثَم فلا مكان في الواقع للانفعالات
الجياشة التي يقدمها الشاعر عندما يخرج عن سياق الدراما إلى سياق
الشعر. وينبغي أن أوضح هنا ما يعنيه استخدام اللغة استخدامًا
مدروسًا محسوبًا.
فلنتأمل المشهد الثاني من الفصل الثالث، وهو المشهد الذي كثيرًا
ما يقدَّم وحده باعتباره «قلب» المسرحية، ولا يعني ذلك فحسب أنه
يقع في منتصفها، بل يعني أيضًا أنه محور التغير؛ أي: نقطة الارتكاز
التي يتحول عندها الحدث، بعد مقتل قيصر للانتقام من قاتليه.
إن المشهد يبدأ بداية نثرية؛ أي: إن شيكسبير نفسَه يتخلى عن
النظم؛ حتى يحكم بناء المنطق الذي يتحكم في بناء المشهد؛ ولذلك فإن
الخُطبة الأولى التي يلقيها بروتس، وطولها سبعة وعشرون سطرًا،
منثورة، ويقاطعه أحد الأهالي بسطر قصير، ثم يستأنف خطبته ويتحدث
على مدى أربعة عشر سطرًا أخرى؛ أي: إنه يقدم لنا خطبةً طويلةً
منثورة تزيد على أربعين سطرًا، قبل أن يتحدث الأهالي في سطور
منفصلة ومقطعة، يُعربون فيها عن اتباعهم بروتس، حتى السطر ٧٨،
وعندها يتكلم أنطونيو مع الأهالي حتى آخر المشهد تقريبًا (حتى
السطر ٢٥٤)، ويستأثر أنطونيو في الحقيقة بما يربو على مئة وثلاثين
سطرًا تتخللها نداءات الأهالي وصيحاتُهم.
ولكن ماذا يقول أنطونيو في هذه السطور الكثيرة؟ إن خطبته الطويلة
التي تستغرق صفحات متوالية، مقسَّمة تقسيمًا دقيقًا بين القسم
الأول (من ٧٤–١٠٩) الذي يضع فيه أنطونيو بعنايةٍ أسسَ إدانته
لبروتس وعصبته، وبين القسم الثاني (۱۲۰–۱۳۹) الذي يلقي فيه بخبر
وصية قيصر حتى يثير فضول الجمهور، والقسم الثالث (١٥١–١٧٠) الذي
يعتبر نقطة التحول من الوصية إلى التركيز على بشاعة الجريمة التي
ارتكبها الخونة، وذلك في القسم الأخير (١٧٠–١٩٩)؛ حيث تتحول مشاعر
الجمهور تمامًا إلى مساندة أنطونيو والعداء السافر لبروتس وكاشيوس
وسائر المتآمرين. وبعد عدد من الصيحات التي يعرب فيها الجمهور عن
عدائه لزمرة الخونة (۲۰۰–۲۱۰) يعود أنطونيو إلى التلاعب بمشاعر
الجمهور؛ لكي يحوِّل استياءهم إلى موقف صلب؛ أي: إلى عمل إيجابي —
وهو يحسب لكل كلمة حسابها في هذا الخطاب — حتى يصل (۲۱۱–۲۳۲) إلى
كلمة «الثورة» التي يردِّدها الشعب؛ أي: الانتقام لمقتل قيصر.
وعندها فقط يعود إلى ذكر الوصية التي يكون الجمهور قد نسيها؛ حتى
يضمن ولاءه التام (٢٣٧–٢٥٤)، فيسود الهَرْج والمَرْج، ويدخل رسول
أوكتافيوس فيجد أن أنطونيو واثق كلَّ الثقة من قدرة «كلماته» على
أن تفعل فعلها في نفوسهم (٢٥٤–حتى آخر المشهد).
إن هذه الخطبة الطويلة مبنية بناءً هندسيًّا يتراوح بين الصعود
والهبوط — كما أوضحت أنفًا — أي: إن أنطونيو يحسب حسابًا لكل كلمة
يقولها، ويعرف معرفةً وثيقة أين يضعها وفي أي سياق بالتحديد؛ ولذلك
فالنظم هنا ثانوي، بل هو إطار خارجي يلتزم به البعض (مثل أنطونيو)،
ولا يلتزم به الآخرون (مثل بروتس والأهالي). وعدد السطور في هذا
المشهد مقسمة بين المنثور والمنظوم تقسيمًا شبه متعادل، كما أن
النظم الذي يستخدمه أنطونيو لا يضم في ثناياه ما اعتدناه من شاعرية
شيكسبيرية؛ فهو أولًا يُكثر من استعمال الزحاف والرخص الشعرية إلى
حد الاقتراب من موسيقى النثر، وهو ثانيًا يستخدم لغةً منطقية تخلو
من الصور الشعرية، وليس من قبيل المصادفة أن تخلو هذه السطور
جميعًا من الاستعارات الغلَّابة أو المهيمنة
dominant metaphors؛ أي: الاستعارة
التي تلقي بظلالها على الحديث برمته، وتشكِّل إطارًا نفسيًّا
ومجازيًّا له، كل ما هنالك هو استعارات محدودة ومقصورة على موضعها
في السياق.
لقد بيَّنَت لي هذه التجربة أن إقحام أوزان الشعر العربي يمكن أن
يغير من هندسة العبارة، بل وأن تغلب الموسيقى العربية على المعاني
الدقيقة المحسوبة التي هي صلب العمل الدرامي. ولنأخذ مثلًا السطور
من ٢١٩ إلى ٢٢٥؛ إذ يقول أنطونيو:
I am no orator, as Brutus
is;
But as you know me all, a plain blunt
man,
That love my friend; and that they know
full well
That gave me public leave to speak of
him
For I have neither wit, nor words, nor
worth,
Action, nor utterance, nor the power of
speech
To stir men’s blood: I only speak right
on.
في هذه السطور السبعة يلخص لنا أنطونيو صفات
الخطيب المُفْلِقِ في زمانه، وهي الخصال الست المعروفة:
«الألفاظ المنتقاة» words
«البديهة الحاضرة» wit «براعة
الأداء» action
«المكانة المرموقة» worth «ذلاقة
اللسان» power of speech «حسن
الإلقاء» utterance. وقد أجمع
النقاد على أن شيكسبير كان يتعمَّد وضعها في هذا الترتيب؛ ليبين أن
الصفة الأولى هي البديهة الحاضرة، وهي الصفة التي تميز أنطونيو
أكثر من غيره من الشخصيات. ويليها حسن اختيار الألفاظ، ومكانة
الخطيب في المجتمع، ثم براعة أدائه التمثيلي أثناء الخطبة، وحسن
إلقائه. وأخيرًا ذلاقة اللسان أو قدرة المتحدث على إثارة مشاعر
الناس. والواضح أن هذه الصفات التي ينكرها أنطونيو في نفسه هي أهم
صفاته هو، مع أنه ينسُبها إلى بروتس؛ أي: إنه يثبتها حين ينكرها،
وبهذا الترتيب.
ومعنى ذلك ببساطة هو أن أي تغيير في ترتيب الألفاظ والعبارات سوف
يقلل من تأثير هذه الفقرة التي تبدأ بإنكار صفة الخطيب المُفْلِقِ،
وتنتهي بادعاء الحديث العفوي. وها هي ذي إذن ترجمتي لها التي أعتقد
أنها أقرب ما تكون إلى هذا البناء:
لست خطيبًا مفوَّهًا مثل
بروتس
لكنني — كما تعرفون جميعًا — رجل
بسيط ساذج
يخلص الحب لصديقه، ولأنهم يعرفون
ذلك خير المعرفة
سمحوا لي أن أتحدث معه
أمامكم
فأنا أفتقر إلى البديهة الحاضرة،
والألفاظ المنتقاة
والمكانة المرموقة، وبراعة
الأداء، وحسن الإلقاء
وذلاقة اللسان التي تثير مشاعر
الناس
لكنني أتحدث عفوَ الخاطر
فحسب.
أما زيادة بعض الألفاظ (وكلها صفات) في النص
العربي، فهذا يرجع إلى ما أسميته بضرورة التفسير الخاص للنص قبل أن
يَشرع المترجم في نقل العمل الأدبي، ولكن هذا يحتاج إلى دراسة
مستقلة.
۳
ولكن ما معنى الأمانة في الترجمة الأدبية؟ وما معنى
الخيانة؟
عندما يترجم اثنان من المترجمين نصًّا واحدًا، ولو كان بيتًا من
الشعر أو عبارةً من العبارات المألوفة، فإنهما قد يختلفان اختلافًا
بيِّنًا، وقد يرجع الاختلاف إلى اختلاف العصر الذي تُرجمت فيه
العبارة، أو إلى اختلاف مفهوم العبارة في ذهن كل من المترجمَين، أو
إلى اختلاف جمهور السامعين للبيت أو للعبارة. ولنبدأ من البداية؛
أي: من اختلاف فَهم المترجم للنص، ولننظر إلى العوامل التي تتحكم
في هذا الفهم.
اللغة كائن إنساني حضاري، والقارئ يحيل الألفاظ إلى مدلولات
حياته التي يعرفها حتى يثْبُتَ له أنه فهِم ما يقرأ؛ فالذي يقرأ
كلامًا بالإنجليزية عن الزهور يحيل هذا الكلام إلى واقع خبرته
بالزهور؛ إما في حياته المادية أو في خبرته الذهنية وحسب، فهو قد
يتصور ما يعرف من الزهور حتى يطمئن إلى فَهمه ما يقرأ، وقد يتصور
ما يقرؤه بالإنجليزية عن الزهور في إطار ما يعرفه بالعربية عن
الزهور. وهذا يحتاج لإيضاح: فعندما يقرأ قارئٌ قصيدةَ وِردزوِرث
الشهيرة عن زهور اﻟ daffodils،
ومطلعها:
I wandered lonely as a
cloud
That floats on high o’er dales and
hills
When all at once I saw a
crowd
A host of golden daffodils
…
كنت أتجول وحيدًا مثل
سحابة
تطفو عاليًا فوق الوديان
والتلال
عندما أبصرت فجأةً
حشدًا
جمعًا من الأقاحي
الذهبية!
أقول: عندما يقرؤها القارئ العربي فماذا سيتمثل في
خياله؟ صورة السحابة مألوفة في بلادنا مثلما هي مألوفة في بلاد
الإنجليز، ولكن أية صورة من صور السحاب؟ هل هي السحابة البيضاء
التي تشبه القطن الفضي في خفتها وزَهْو لونها ومِن خلفها السماء
الزرقاء؟ هل هي السحابة الدكناء المنذِرة بالمطر؟ والعرب يسمونها
الديمة والجمع دِيَم:
دِيمةٌ سمحة القياد
سكوبٌ
مستغيثٌ بها الثرى
المكروب
أم هي السحابة الكثيفة التي
يسميها العرب ربابًا؟ أم هي سوى ذلك من أنواع السحاب التي فصَّلها
القدماء، وجمعها الثعالبي في فقه
اللغة؟ وهل يستطيع المترجم أن يستخدم كلمة المُزْنة
(المُزْن) أو البُعاق أو النشء أو الزِّبْرِج أو الجَوْن؟ إن
الكلمة الإنجليزية تشير إلى الجنس نفسه، وعلى ذلك فلا بأس من
استخدام اسم الجنس (السحاب) في الترجمة؛ أي: إن الشاعر الإنجليزي
لم يستخدم كلمة nimbusولا
cumulus ولا سواهما من أنواع
السحاب الذي تزخَر بها الإنجليزية، وتشيع في شعرِ شاعر آخر هو
«شلي». ولكن مشكلة الصورة التي تستدعيها الكلمة ستظل قائمة، مثلًا
صورة الطفو، وهي استعارة ترتكن على صورة الماء بشتى أنواعه في
إنجلترا من نهرٍ وبحر وبحيرة، بل من غدران وجداول وينابيع.
والسحابة التي تطفو في السماء الزرقاء لا بد أن توحي بأن زرقة
السماء زرقةُ بحر صافٍ هادئ ساجٍ ساكن. فإذا انتقلت إلى الكلمتين
التاليتين، وهما الوديان والتلال، فأعترف أنني لم أدرك ما تعنيه
هذه الصورة حتى رأيت تلال حي البحيرة في شمال إنجلترا ووديانه،
وشاهدت ما يعنيه طفو السحابة فوقها؛ إنها تلال خضراء ووديان خضراء
(انظر حيرتي في البحث عن ظلال ودرجات للَّون الأخضر في العربية!)
وهي تتعاقب تعاقُبَ الموج الطامي في البحر الكبير. وأعترف أنني كنت
دائمًا أتصور الوديان والتلال بلون أصفر أغبر، ولا أستطيع أن أتخيل
للتل لونًا سوى ما اعتادته عيناي منذ الطفولة في بلادي؛ حيث الرمال
وحيث الأحجار.
المترجم هنا إذن ينقُل ألفاظًا إلى ألفاظ لا صورًا إلى صور، وهو
يعتمد على أن الجمهور قد اعتاد المقابلة بين كلمة
hill وكلمة تل، وكلمة
dale وكلمة وادٍ، رغم بُعدِ الصورة
التي يمثلها كلٌّ من اللفظين في الإنجليزية عن الصورة في لغته
الأم. وهو إذا أضاف صفة الخضراء، هبَّ له ناقد يقول: «لقد أضفت
فحرَّفْتَ وخُنْتَ النص يا خائن!» ولا أدلَّ على ذلك جميعًا من
كلمة daffodils مربط الفرس كما
يقولون! إن هذه الزهور غير معروفة في العربية، وإن عُرفت وكان لها
اسم محدد، فقد ضاع وانمحى، ولا نستطيع أن نعثر عليه الآن؛ ولذلك
فنحن نستخدم الكلمة الفارسية المعرَّبة «أقحوان»، وربما كانت تعني
معجميًّا daisy في ترجمة الكلمة
الإنجليزية الواردة في النص، وعادةً ما نضيف إليها صفة الصفرة
فنقول: الأقحوان الأصفر. وشتان ما بين شكل اﻟ
daisy واﻟ
daffodil (يسميها البعض النرجسَ
الأصفر)، بل وشتان بين صفرة هذا وصفرة ذاك!
وقد يقول قائل: «ما حاجة المترجم إلى تحديد نوع الزهور تحديدًا
علميًّا عند ترجمة الشعر؟ إن التحديد الدقيق مطلوب في الترجمة
العلمية؛ حيث المفاهيم التي لا
تَحتمِل أقل درجة من الخطأ، ولكن الترجمة الأدبية طراز آخرُ من
الترجمة يعتمد على نقل الأحاسيس والمشاعر!»
والرد على هذا يسير؛ فإن المشاعر والأحاسيس لا تنتقل إلا عن طريق
الصور، وعدمُ الدقة في التصوير يمكن أن يُخرج مشاعر مختلفة، ولا
أقول مناقضة، للمشاعر الأصلية. خذ الكلمة الأولى في هذا النص
wander، إنني ترجمتها حسب ما اتفق
عليه الجمهور ﺑ «يتجول».. والواقع أن معناها هنا يمكن أن يبتعد
كثيرًا عن معنى التَّجوال، فما معنى التجوال بالعربية؟ صال وجال!
إن معناها بالعربية السيرُ في أماكنَ متفرقة، بل لقد ترجم أجدادنا
تعبير wandering stars بالنجوم
السيارة؛ ومن ثَم حُوِّلت إلى الكواكب السيارة أو الكواكب وحسب.
أما المعنى الإنجليزي فيتضمن الضرب على غير هدًى، وهو وصف لمن يهيم
على وجهه أو ينطلق لا يلوي على شيء؛ وهذا هو ما يعنيه الشاعر
تمامًا، فهو هائمٌ على وجهه يسير أنَّى قادته خُطاه، وهو يضرب على
غير هدًى، وهو لا يَلوي على شيء.
تُرى كم ابتعدت الصورة التي حللنا عناصرها الآن عما قرأناه فيما
يسمى بالترجمة الحرفية؟ وإنما ضربت هذا المثل لأبين أن المترجم
الذي يتصور أنه دقيق وأنه يلتزم الحرفية؛ أي: الأمانة المطلقة، هو
أحيانًا أبعدُ ما يكون عن الأمانة للعمل الشعري؛ بسبب هذه الصعوبة
الأولى التي يتجاهلها المترجمون، وهي الاختلاف الحضاري (أو
الثقافي) الذي يتحكم في مدلولات الألفاظ. وهذه هي الصعوبة الأولى!
تُرى كيف نتغلب عليها إذا شئنا الأمانة الحقة؟ قد يقول قائل: وما
حاجتك إلى الترجمة الحرفية؟ تَرجِم النص وَفقًا لمفهومك أنت.. أي:
كما ترى الصورةَ عيناك! والصورةُ الكاملة كما أراها قريبة مما يلى
نَثرًا:
كنت أهيم على وجهي
وحيدًا
كسحابةٍ تطفو على وجه
السماء
فوق الوديان وفوق التلال
الخضراء
حين لاح لي دون انتظار حشد
حاشد
من الأقاحي الصفراء
الذهبية
وللقارئ أن يقارن بين هذه الصيغة وما وصفته أولَ
الأمر بأنه ترجمة حرفية، فالصعوبة في الواقع ليست في إيجاد مرادفات
اتفق عليها المجتمعُ لكل كلمة، ولكن في نقل الصورة بأي عدد من
الكلمات. وإذا كان هذا هو سرَّ الترجمة العامة (حسب تعريفي السابق
لها) فما بالك بالترجمة الأدبية؟ وقبل أن نناقش معنى الترادف بين
اللغات، سأقدم للقارئ هذه الصورة نفسَها بعد نسْجِها نسجًا
شعريًّا؛ أي: بإضافة الوزن والقافية، وسوف يلاحظ على الفور ما
ذكرته من تفاوتٍ في التطابق نتيجةً للضرورات الشعرية:
شَرَدَتْ بي الخُطُواتُ وحدي ذات
يوم
كسحابةٍ تطفو على وجه
السماء
فوق التلال وتحتها ودْيانها
الخضراء
إذ لاح لي دون
انتظار
حشدٌ من الأزهار من صفر
الأقاحي
لونُها الذهبي خلابُ
الرُّواء
أما الاختلاف فهو إضافة آخرِ كلمتين في البيت
الأخير، وإن كانا في الواقع مما تمليه ضرورة إخراج معنى الصورة —
وهو جمال الزهور — لا مجرد زيادة لضبط الوزن والقافية. كما سيلاحظ
القارئ أن مصطلح العربية الأصيل اقتضى مني إضافة «ذات يوم» في
البيت الأول؛ لأن المعنى بالإنجليزية أوحى بها، وهي إذن من صميم
المعنى لا من حواشيه. وسيلاحظ أيضًا أنني ابتعدت عن «همت على وجهي»
هي أقرب إلى rove أو
roam، وفضَّلت عليها شرود الخطوات،
فهذا من صميم الرؤية في الأبيات الأصلية، ويكفي كي نعرف الفرق أن
ننظر إلى قصيدة أخرى للورد بايرون يستخدم فيها فعل
rove بهذا المعنى؛ إذ يقول في
الفقرة الأولى:
Then we shall go no more
aroving
So late into the
night
Though the heart be still as
loving
And the moon be still as
bright!
وهذه فقرة لم يكتب لها الترجمة النثرية إلا في
كتاب عبد الوهاب المسيري ومحمد علي زيد «الرومانتيكية في الأدب الإنجليزي»؛ حيث يخطئ
المترجمان في فَهم كلمة still،
فيتصوران أنها تعني «ساكنًا»، وإنما هي تعني «لا يزال»، وهذا غريب
خصوصًا بعد مراجعة الدكتور محمد مصطفى بدوي للكتاب. وأغلب الظن
أنهما سيصححان الترجمة في طبعة لاحقة. أقول: لم يُكتب لها أن تترجم
عندي نثرًا بل خرجت منظومةً من البداية، وهذه هي:
إذن لن نهيم على
وجهنا
بعيدًا وحتى الهزيع
الأخير
وفي القلب لما يزل
حبنا
وما زال في الكون بدر
منير!
وهذا يعود بنا إلى موضوع الترادف باعتباره قضية
القضايا في عصرنا هذا.
لقد ضربت المثل في أول المقال باسم زهرة من الأزهار ومشكلة إيجاد
المقابل، وهذه مشكلة على ضخامتها هيِّنةٌ إذا قورنت بمشكلة ترجمة
المجردات؛ فترجمة المجسدَّات أمر هين؛ إذ تعكُف مجامع اللغة
العربية في القاهرة ودمشق وبغداد على إيجاد المرادفات العربية
للكلمات الإنجليزية والفرنسية، وهي تحقق في هذا الصدد ما لم يحققه
الأولون من الإتيان بألفاظ الحضارة الحديثة، فقديمًا كان العرب
يأخذون اللفظة من لغتها الأجنبية كما هي فيدرجونها في السياق
العربي فتتعرَّب، وما البلبل والعندليب إلا اسمان أعجميان تعرَّبا
فأصبحا جزءًا من لغتنا، وقس على ذلك آلاف الكلمات التي دخلت
العربيةَ قبل الإسلام وبعده، من القلم (السريانية) إلى الكوز
والطست والإبريق (الفارسية) إلى التنبلة والتنابل (التركية)
والأسطرلاب والجغرافيا (اليونانية) وما إلى ذلك. فاللغة العربية
ذات قدرة فائقة على تطويع الغريب وقبوله وإحلاله محلًّا عربيًّا لا
شك فيه، ويكفي أن ننظر إلى الكلمات الفارسية التي استخدمها القرآن
الكريم نفسه، مثل السندس والإستبرق والسُّرادق والنمارق وما إليها.
إن وجود هذه الكلمات تصريحٌ ربانيٌّ لنا بتعريب الكلمات التي نحتاج
إليها في لغتنا العربية، أو قل هي الرخصة التي لا ينبغي أن يجادل
فيها أحد. وكثيرًا ما أعجب للذي ينفر من كلمة «الميدان» باعتبارها
فارسية الأصل، مفضِّلًا عليها كلمة «الحقل»، على حين يكتب في آخر
كتابه «فهرسًا» وهي أيضًا فارسية الأصل.
إن المترجم المعجمي؛ أي: ذلك الذي يُصر على إيجاد المقابل لكل
لفظة تصف المجسدات في اللغات الأوروبية؛ سوف يصل يومًا ما إلى
غايته، مستعينًا بجهود مجامع اللغة العربية وبالقواميس التي ما
تفتأ تنير السبيل في هذا الباب. بل إن الاستخدام والعرف الشائع من
الوسائل التي تعين المترجم في العثور على ضالته، فنحن نرتدي ملابسَ
منوعة في عالمنا الحديث تختلف عن ملابس أسلافنا، ونسكن في مساكنَ
تختلف كثيرًا عن مساكن أجدادنا، ونركب سيارات (والسيارة كانت تعني
القافلة قديمًا، قال تعالى في سورة يوسف: وَجَاءَتْ سَيارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ
قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَروهُ بِضَاعَةً)،
ونستخدم دواوين الحكومة في قضاء حاجاتنا وما إلى ذلك، وكلُّه — كما
قال ابن خلدون — من دلائل العمران التي تقتضي تجديد اللغة
وتطويرها. وربما استطعنا بمضاعفة الجهد أن نصل إلى تعريب كل شيء
دون خوف من تقبُّل كلمة أجنبية في لغتنا — وأقصد كلمات الحضارة —
وقد سبقنا في هذا المضمار كبارُ المولِّدين الذين ملئوا اللغة
العربية بالألفاظ التي شاعت اليوم، وعلى رأسهم رفاعة رافع الطهطاوي
وأحمد فارس الشدياق، كما سبقنا كبار الكتَّاب الذين لم يجدوا حرجًا
في استخدام الألفاظ العامية في نصوصهم الفصحى؛ من إبراهيم عبد
القادر المازني إلى شكري محمد عياد.
أما المشكلة الكبرى فهي — كما ذكرت في الفصل الأول — مشكلة ترادف
المجردات؛ أي: الأشياء غير المحسوسة، مثل الحالات النفسية أو
الأفكار أو المفهومات الفلسفية أو الاجتماعية أو الاقتصادية
ونحوها؛ فالترادف هنا وهم، والعثور على كلمة تتساوى مع غيرها كلَّ
التساوي مُحال، وأقصى ما ننجح فيه أن نتبع النهج الذي نسلكه في
إيجاد مرادفات المجسدات؛ ألا وهو اللجوء إلى المصطلح أو الاصطلاح،
ومعنى هذا هو أن نصطلح على أن تكون الكلمة «أ» في اللغة الأجنبية
مساويةً في المعنى للفظة «ب» في العربية؛ إما أن يكون ذلك وَفقًا
للعرف، أو بأن نتفق أن يكون ذلك هو العرف.
فأما أن يكون ذلك وَفقًا للعرف، فأمثلته كثيرة من الحالات
النفسية الشائعة، كأن نتفق على أن تعني
aversion النفور، وأن تعني
wrath الغضب،
وdissatisfaction الاستياء؛
وhatred الكراهية، وغير ذلك مما
يجري مجرى الموازنة البسيطة بين العربية والإنجليزية. وأما ما نتفق
أن يكون عليه العرف، فهو أن تكون
fury غضبة جائحة، وأن تكون
rage سَوْرة الغضب، وما إلى ذلك؛
أي: إننا نضيف اسمًا أو صفة لكلمة من الكلمات؛ حتى نفرِّق بين
دلالة ودلالة. وعلى هذا نستطيع أن نفرق بين درجات الحزن؛ من الكآبة
البسيطة إلى آلام الحزن العميقة، مرورًا بالأسف والأسى واللوعة وما
إلى ذلك.
وفي كل حال نجد أن العربية قادرة على إخراج الموازي من الألفاظ
والتعبيرات التي نُحِسُّ بمساواتها للمعنى المحدد الذي يوحي به
السياق.
ولكن للترجمة الأدبية
شرائطُ أخرى، مثل السياق المحدد الذي تُستخدم فيه الكلمة، أو روح
النص الذي يُملي معانيَ محددة، أو ظلال معانٍ قد لا يفطن إليها
المبتدئ. فقد نتفق على أن كلمة
love الإنجليزية ومقابلاتها
بالفرنسية والإيطالية والألمانية مثلًا توازي الكلمة العربية
الفضفاضة «الحب»؛ إذ إن الكلمة الأجنبية تطلق على حب الإنسان أخاه
وحبه الوطن واللبن والتمر مثلما تطلق على حبه زوجَه. ولكن ثمة
مواضع تقتضي «تحديد» معنى هذه الكلمة بما يتفق وتلك المواضع. وهنا
أيضًا نُضطر إلى اتخاذ أعرافٍ جديدة قد تختلف من مترجم إلى مترجم
(والمترجم الأدبي كاتب ذو أصالة وفردية؛ إذ يتحكم ذوقُه الفردي في
تفضيله لفظًا على لفظ، واختيارِه مفهومًا بدلًا من مفهوم)، ولكن
جهدنا في إنشاء المصطلح لن يواجَه بالنكران إذا حددنا أنواع الحب
ودرجاته وَفقًا للسياقات المختلفة؛ فقد يوحي السياق بنوع من الحب
البسيط الذي يقترب من الميل، حتى لَتعني الكلمة ما يعنيه الإنجليز
بكلمة like، وقد يستخدم الكاتب
الكلمة في سياق يوحي بالولع بشيء أو الولوع به، وقد يستخدمها في
سياق آخر لتعني الصبابة والتولُّه، أو في وصف العلاقة الحميمة بين
الزوج والزوجة، أو الغرام المشبوب بشيء لا بإنسان، وهلم
جرًّا.
هذا بالنسبة للسياق
وللألفاظ المفردة، ولكن ثم عاملًا آخر ألمحنا إليه، وهو تغير
الألفاظ (والسياقات معها) من عصر إلى عصر؛ فالذي يلتزم بالعرف في
عصر ما أو ما اصطُلح عليه من أعراف في عصر ما؛ يُعتبر أمينًا، ولكن
أمانته محكومة بعصره؛ إذ قد تتغير الأعراف في عصر لاحق فتصبح
ترجمته غير مفهومة للجمهور، ويعتبر خائنًا للنص بمقياس العصر
الجديد؛ ولذلك فنحن نقرأ ترجمات السلف عن اليونانية مثلًا، فنرى
بعضها خائنًا وقد كان أمينًا في عصره، بل إننا نقرأ ترجمات لرواد
الأدب في الجيل الماضي، فنعتبر بعضها خائنًا؛ وقد كان ناجحًا
وأمينًا على النص في أيامه. وإني لأعجب مما يقول أولئك المترجمون
الأوائل إذا بُعِث أحد منهم وقرأ في صُحُفنا عن «الأمن الغذائي»،
أو عن «سياسة الانفتاح»، أو عن «التوسع الأفقي في الزراعة والتوسع
الرأسي»، أو العبارة المترجمة التي توقفت عندها وأنا أراجع مقالةً
تقول بأن: «المسرح العالمي يتجه إلى الكوميديا، ويبتعد عن
التراجيديا؛ بسبب التحولات الدرامية التي استحدثها التليفزيون.»
تُرى هل سيفهم أحد من أجدادنا هذا الكلام؟ تُرى هل يفهمون الكلمات
التي شاعت بيننا هذه الأيامَ عن المأساة والملهاة والهزلية، بل
كلمة «المسرح» نفسها و«المسرحية»؟
وليت الأمر يقتصر على
الألفاظ، ولكن التراكيب اللغوية تتغير في زماننا يومًا بعد يوم،
ولغتنا العربية لغة حية مرنة تقبل في كل آنٍ تعبيراتٍ جديدةً
مستمدة من التراكيب الأجنبية الجديدة، ونحن نقبلها لسبب بسيط هو
أنها تمثل أفكارًا جديدة أتت بها الحياة الحديثة؛ فتعبير «فاته
القطار» جديد ولكنه مقبول ومفهوم، وهو مستخدم في قصص المحدَثين
«فاته قطار الحياة» أو «فاته قطار السعد»؛ استلهامًا للتعبير
الإنجليزي he missed the bus، ولم
يكن الأتوبيس (الحافلة) ولا القطار بمعناه الحديث معروفًا لدى
الأجداد. ولا داعي لضرب أمثلة أخرى فهي كثيرة، وزملاؤنا من أساتذة
اللغة العربية قد أفاضوا فيها وأسهبوا.
ومعنى هذا أن مفهوم اللغة الأدبية الذي تغير هو الآخر يفرض على
المترجم أن يختار ما إذا كان سيجنح في أسلوبه إلى اللغة القديمة
التي أبدعها السلف، أو أن يستخدم أسلوبًا معاصرًا مستمَدًّا من لغة
الخلف. وقد كان مذهبي دائمًا هو استخدام اللغة المعاصرة التي تنهل
من لغة الأقدمين، وتستفيد بإبداعات المحدثين؛ بحيث أستخدم في
ترجمتي لغةً حافلةً بإيقاع العربية العريقة، وقادرة في الوقت نفسه
على الوصول إلى أسماع وأفهام وقلوب المعاصرين، وذلك هو ما فعلته في
ترجمتي مسرحية شيكسبير روميو
وجولييت التي ظهرت أول مرة في قالب نثري عام ١٩٦٥م في
مجلة المسرح، وأعيدَ طبعها عام
١٩٨٣م في مجلة المسرح الثانية،
ثم أعدتُ صياغتها للتقديم في قالب غنائي على المسرح عام ١٩٨٥م،
وصدرت في كتاب عام ١٩٨٦م. وقد استخدمت فيها مزيجًا بين الشعر
والنثر؛ بحيث يكون الحوار العادي — خصوصًا في المشاهد الكوميدية —
منثورًا، ويكون الحوار الشعري منظومًا، وهكذا. وتجد ما يلي آخر
المشهد الذي يطلب فيه كابيوليت والد جولييت من باريس الذي جاء
ليخطب ابنته الانصراف بعد الاتفاق على موعد القِران، فيوجه الحديث
إليه ثم إلى الضيوف قائلًا:
كابيوليت: جميل .. تفضل أنت إذن .. مع
السلامة! موعدنا يوم الخميس.. واذهبي أنتِ إلى جولييت قبل أن تنامي
.. وداعًا .. وداعًا.
فهذا حديث مكتوب بلغة عادية منثورة، وهو يخرج كذلك في لغة عصرية
تقترب من العامية، وما أبعدَه عن بداية المشهد الذي يليه — المشهد
الذي نرى فيه جولييت مع زوجها روميو بعد أن قضيا الليلة السابقة
لرحيله (تنفيذًا لحكم النفي من بلده فيرونا) معًا، وهو قلق يريد أن
يرحل وإلا حلت عليه عقوبة الإعدام؛ على حين تحاول جولييت أن
تستبقيَه، فتقول له إن صوت القبرة (بشيرة الصباح) ما هو إلا صوت
البلبل:
جولييت
:
هل
سترحل؟
إنما الفجر
بعيد!
جولييت
:
لم تكن قبرة تلك
ولكن
كان صوت
البلبل
إن آذانك تخشى كل
صوت!
ذلك البلبل يشدو كلَّ
ليلة
فوق رمان
الحديقة
روميو
:
بل كان صوت
القبرة
بشيرة
الصباح
هيا انظري
حبيبتي
إن خيوط
النور
تنسجها أصابع
النهار
ذلك
الغيور
فوق أهداب
السحب
عند حافة
الأفق
وها هو الصباح
يَشْرَئب
في وسط
الضباب
فوق قمة
الجبل!
لا بد أن
أرحل!
لا بد أن أنجو
بنفسي
أو أموت لو
بقيت!