الرسالة العاشرة
في تهذيب النفس وإصلاح الأخلاق
بسم الله الرحمن الرحيم
(١) فصل
- أحدها: طريق الحواسِّ الخمس الذي هو أول الطُّرُق، ويكون جمهور علم الإنسان ويكون معرفته بها من أول الصبا، ويشترك الناس كلهم فيها وتشاركهم الحيوانات.
- والثاني: طريق العقل الذي ينفصل به الإنسان دون سائر الحيوانات ومعرفته به تكون بعد الصبا عند البلوغ.
- والثالث: طريق البرهان الذي يتفرَّد به قوم من العلماء دون غيرهم من الناس وتكون معرفتهم بها بعد النظر في الرياضيات الهندسية والمنطقية.
وقد بيَّنَّا لِمَ صارت طرق العلوم ثلاثة في آخِر هذه الرسالة، ونريد أن نذكر الآن طرق الحواس الخمس، ونَصِف كيفية إدراك القوى الحساسة لمحسوساتها، ولكن قبل ذلك ينبغي أن نذكر الأمور المحسوسة التي هي كلها أعراض جسمانية، وبها يكون الجسم محسوسًا، ونضبط أيضًا كيفياتها؛ لأنها أبْيَن وأوضح وأقرب من فهم المبتدئين المتعلمين، ثم نذكر بعد ذلك النفس وقواها الحساسة التي هي كلها أمور روحانية لطيفة غامضة بعيدة عن فهم المبتدئين بالنظر في العلوم والمعارف الحقيقية، فنقول: اعلم — وفَّقك الله — أنه لما كانت الأمور المحسوسة كلها أعراض جسمانية داخلة عليه بعد كونه جسمًا احتَجْنا أن نذكر الجسم المُطلَق ونَصِفه بما هو جسم حسب، ثم نذكر بعد ذلك الأعراض الداخلة التي هي كلها صفات زائدة على كونه جسمًا فنقول: إن الجسم جوهر مركَّب من الهَيُولَى والصورة حسب، والدليل على ذلك قول العلماء في حدِّ الجسم: هو الشيء الطويل العريض العميق، والشيء هو الجَوْهر، وهو الهَيُولَى، والطول والعرض والعمق هي الصُّوَر، والجسم بهذه الصفات يكون جسمًا لا بأنه جوهر؛ لأن النفس والعقل أيضًا هما جوهران لا يوصفان بالطول والعرض والعمق، فهذا أحد الفروق بين الجواهر الجسمانية والجواهر الروحانية.
ثم اعلم أن كل صفة يوصف بها الجسم بعد الطول والعرض والعمق هي صفات زائدة داخلة عليه بعد كونه جسمًا، وتسمى الصورة المتمِّمة.
مثال ذلك: قول الحكماء إن الجسم لا ينفك عن الحركة والسكون، والاجتماع والافتراق، وأن يكون مظلمًا أو مضيئًا، وأن يكون مشفًّا أو غير مشفٍّ، وأن يكون حارًّا أو باردًا، أو أن يكون رطبًا أو يابسًا، وأن يكون خفيفًا أو ثقيلًا، وأن يكون صلبًا أو رخوًا، وأن يكون خشنًا أو ليِّنًا، وأن يكون ذا طعم ولون ورائحة وما شاكلها من الصفات التي كلها أعراض داخلة في الجسم زائدة بعد كونه جسمًا متمِّمة له، فنحتاج أن نذكر ونَصِف هذه الأعراض والصفات واحدة واحدة.
فنقول: إن هذه الأعراض والصفات كلها صورة متمِّمة للجسم مبلغة إلى أفضل غاياته، وإن بعضها بالجسم أَوْلى من بعض، وذلك أن السكون أولى بالجسم من الحركة، والاجتماع أولى به من الافتراق، والظلمة أولى من النور، والمكان أولى من الزمان.
بيان ذلك أن الجسم بالسكون أولى من الحركة، هو أن الجسم ذو جهات ستة، ولا يمكنه أن يتحرَّك إلى جميع الجهات دفعة واحدة، وليست حركته إلى جهة أولى من جهة، فإذن السكون أولى به من الحركة.
فأما كون بعض الأجسام متحرك دائمًا مثل الأفلاك والنار، فهو أمر آخَر على كونه جسمًا.
وقد بيَّنَّا في رسالة الهَيُولَى أن الحركة هي صورة روحانية داخلة على الجسم متمِّمة له، وأما السكون فهو عدم تلك الصورة.
وأما الاجتماع والافتراق الذي يُقال إن الجسم لا ينفك من أحدهما، فليس ذلك من حيث هو جسم، ولكن من حيث تشخُّص بعض الأجسام.
وذلك أن جسم العالَم بأسْرِه لا يفترق بعضه عن بعض، ولا يجتمع مع غيره؛ لأنه ليس إلا عالَم واحد، وإنما الاجتماع والافتراق لأشخاص الحيوانات والنبات والمعادن ولبعض أجزاء الأمهات التي تحت فلك القمر.
فأما ما يقال في الكواكب إنها تجتمع أو تفترق، فليس لذلك حقيقة؛ لأن كل كوكب هو مُلازِم لفلكه أو درجته الذي هو فيها، وأن معنى اجتماعها هو أن يَصِير بعضُها موازيًا لبعض على خط واحد، وهو الخط الذي يخرج من أبصارنا إلى الفلك المحيط.
وأما ما يقال إن الجسم لا ينفكُّ من المكان، فليس ذلك إلا من أجل أن الكواكب والأفلاك لما كان بعضها محيطًا ببعض، قيل للمحيط إنه مكان للمحاط به، وقد بيَّنَّا اختلاف العلماء في ماهية الزمان والمكان في رسالة الهَيُولَى.
وأما ما قيل من أن الجسم لا ينفك من الزمان، فليس ذلك من حدِّ الجسم، ولكن من أجل الحركة، وذلك أن الزمان ليس شيئًا سوى حركة الفلك بالتكرار في دورانه، كما بيَّنَّا في رسالة الهَيُولَى.
فأما ما قيل إن الجسم لا ينفك من أن يكون مظلمًا أو نَيِّرًا، فليس هذه قسمة صحيحة ولكن يُقال إن بعض الأجسام مُظلِم، وبعضها نَيِّر وبعضها لا مضيء ولا مظلم، ولكن مشفٌّ، وذلك أن المظلم من الأجسام ما يكون له ظِلٌّ، والنَّيِّر الذي لا ظِلَّ له، والمشفُّ هو الذي يَقبَل الضوء تارةً والظلمة تارة.
ثم اعلم أنه ليس في العالَم من الأجسام ما له ظل غير الأرض والقمر حسب، ولكنَّ وجْه القمر صَقِيل يَرُدُّ النُّورَ ويَقبَلُه، ووجْه الأرض غير صقيل يعرف حقيقة ما قلنا أهل الصناعة الناظرون في علم الْمَجَسْطي.
وأما الأجسام النَّيِّرة فليس في العالَم إلا جنسان: الكواكب والنار التي عندنا.
وأما النار التي تحت فلك القمر التي تُسمَّى الأثير فليست بنَيِّرة؛ لأنها لو كانت نيرة لمَنَعَتْ عنَّا ضوء الكواكب كما يمنع ضوء أحد سراجين عن أبصارنا ضوء الآخَر إذا كانا على خط واحد وأحدهما خلْف الآخَر.
وأما الأجسام المشفَّة فهي الأفلاك والنار والهواء والماء، وبعض الأجسام الأرضية مثل: البلور والياقوت والزجاج وما شاكل ذلك.
والجسم المشفُّ الذي ليس له لون طبيعي، واللون الطبيعي: هو ما كان ملازمًا للجسم كسواد العين وبياض الثلج وصفرة الزعفران وحمرة العصفر وخضرة النبات.
وأما اللون العَرَضي فهو كالزُّرْقة التي تُرَى في الجوِّ، وفي عمق الماء القعير، وقد جعل الله — عزَّ اسمُه — زرقة الجوِّ وخُضْرة النبات صلاحًا لأبصار الحيوان؛ لأن هذين اللونين مقوِّيان للأبصار، وكل الحيوان محتاج في دائم الأوقات بالنظر إلى الجو في مسالكه وإلى النبات في طلب معائشه.
وأما الحرارة في بعض الأجسام فهي من أجل غليان أجزاء الهَيُولَى وفورانها بالحركة الخفيفة.
وأما البرودة في بعضها فهي من أجل سكون تلك الأجزاء أو جمود ذلك الغليان.
وأما الرطوبة في بعض الأجسام فهي من أجل اختلاط الأجزاء المتحركة مع الأجزاء الساكنة.
وأما اليبوسة في بعضها فهي من أجل حركة تلك الأجزاء كلها أو سكونها كلها، ومن أجل هذا صارت النار حارَّة يابسة من أجْل أن أجزاء الهَيُولَى فيها كلها متحركة، وصارت الأرض باردة يابسة من أجل أن أجزاء الهَيُولَى كلها ساكنة، وصار الماء والهواء رطبين؛ لأن أجزاء الهَيُولَى فيهما بعضها متحرك وبعضها ساكن، ولكن الأجزاء الساكنة في الماء أكثر والأجزاء المتحركة في الهواء أكثر، فصار الهواء من أجل هذا حارًّا رطبًا وصار الماء باردًا رطبًا.
وأما الثقل والخِفَّة في بعض الأجسام فهو من أجل أن الأجسام الكليات كل واحد له موضع مخصوص، ويكون واقفًا فيه لا يخرج إلا بقَسْر قاسر، وإذا خُلِّي رجع إلى مكانه الخاص به، فإن مَنَعَه مانع وقع التنازُع بينهما، فإن كان النزوع نحو مركز العالم يُسمَّى ثقلًا، وإن كان نحو المحيط يُسمَّى خفيفًا، وقد بينَّا في رسالة السماء والعالم كيفية ذلك.
وأما الصلابة في بعض الأجسام، فمن أجل غلبة البرد واليبس عليه، وقد بيَّنَّا ماهية البرد واليبس في رسالة الكون والفساد.
وأما الرخاوة في بعضها فمن أجل غلبة الأجزاء المائية على الأجزاء الأرضية، وأما الخُشونة في بعض الأجسام فمن أجل أن وضع الأجزاء الذي في ظاهر سطحه متفاوت، بعضها مرتفع وبعضها منخفض كالمبرد وما شابهه.
وأما كون بعضها أملس، فمن أجل وضع تلك الأجزاء في سطح واحد كوجه المرآة وما شاكله.
وإذ قد فرغنا من ذكر الأجسام وأعراضها المحسوسة الحالة فيها بقول وجيز، فلنذكر الآن آلات الحواس الخمس ومواضع مجاري القُوَى الحساسة فيها الروحانية.
(٢) فصل في ما هي الحواس الخمس؟ وما هي القوى الحساسة؟
فنقول أولًا: ما الحواس الخمس؟ وما القوى الحساسة؟ وما الحس؟ وما الإحساس؟ وما المحسوسات؟ جواب ذلك: فاعلم أن الحواس هي آلات جسدانية، وهي خمس: العين والأذن واللسان والأنف واليد، وذلك أن كل واحد منها عضو من الجسد.
وأما القوى الحساسة فهي قوى روحانية نفسانية يختص كل منها بعضو من أعضاء الجسد كما بيَّنَّا بعد هذا الفصل.
وأما المحسوسات فالأشياء الْمُدرَكة بالحواس، والْمُدركة بالحواس هي أعراض حالَّة في الأجسام الطبيعية مؤثِّرة في الحواس مُغيِّرة لكيفية مزاجها.
والحس هو تغيير مزاج الحواس عن مباشرة المحسوس لها، والإحساس هو شعور القُوَى الحساسة لتغييرات كيفية أمزجة الحواس.
بيان ذلك: أن القُوَى الباصرة مجراها في العينين، وهي مستبطنة الحدقتين في الرطوبة الجلدية، والقوة السامعة مجراها في الأذنين، وهي مستبطنة الصماخين مما يلي البطن المؤخَّر من الدماغ، والقوة الشامَّة مجراها في المنخرين، وهي مستبطنة الخياشيم مما يلي البطن المقدَّم من الدماغ والقوة الذائقة مجراها الفم، وهي مستبطنة في رطوبة اللسان، والقوة اللامسة مجراها في عامة سطح بدن الحيوان الرقيق الجلد، ولكنها في الإنسان أظهر، وخاصة في الأنملة كما قيل: الأنامل حاكمة البدن، وهي مستبطنة في الجلدين اللذين أحدهما ظاهر البدن والآخَر مما يلي.
واعلم أن المحسوسات كلها خمسة أجناس منها: المدركات بطريق اللمس وهي عشرة أنواع: الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والخشونة واللين والصلابة والرخاوة والخِفَّة والثقل.
والجنس الثاني: المدركات بطريق الذَّوْق التي هي الطعوم، وهي تسعة أنواع: الحلاوة، والمرارة، والملوحة، والدسومة، والحموضة، والحرافة، والعفوصة، والعذوبة، والقبوضة.
والجنس الثالث: هي الروائح المدركة بطريق الشم، وهي نوعان الطيب والنتن.
والجنس الرابع: هي الأصوات المدركة بطريق السمع وهي نوعان: حيوانية، وغير حيوانية وهذه نوعان: طبيعية وآلية، والحيوانية نوعان: منطقية وغير منطقية، والمنطقية نوعان: دالَّة وغير دالة.
والجنس الخامس: هي المبصَرات المدركات بطريق البصر وهي عشرة أنواع: الأنوار، والظلم، والألوان، والسطوح، والأجسام؛ نفسها، وأشكالها، وأوضاعها، وأبعادها، وحركاتها.
وإذ قد فرغنا من تعديد أجناس المحسوسات بقول وجيز، فلنذكر الآن كيفية إدراك القوى الحساسة لمحسوساتها واحدًا واحدًا، ونبتدئ أولًا بالقوة اللامسة ووصفها لأن إدراكها للمحسوسات كان إدراكًا جسمانيًّا، ثم نختم بوصف القوة الباصرة؛ لأن إدراكها لمحسوساتها كان إدراكًا روحانيًّا.
(٣) فصل في كيفية إدراك القوة اللامسة للحرارة والبرودة
أولًا: هو أن مزاج بدن الحيوان في دائم الأوقات يكون على قدر ما من الحرارات والبرودات، فإذا لاقاه جسم آخَر فلا يخلو أن يكون ذلك الجسم أشد حرارة من البدن وأشد برودة منه أو مساويًا له في ذلك، فإن كان أشد حرارة منه زاد سخونة ما عند ملاقاته إياه، وإن كان أبرد منه زاد برودة ما، فتحس القوة اللامسة بذلك التغيير والاستحالة فتؤدِّي خبرَها إلى القوة المتخيلة التي مسكنها مقدم الدماغ، وإن كان ذلك مساويًا لمزاج البدن في الحرارة والبرودة جميعًا، فلا يغير منه شيئًا ولا يؤثر فيه، ولا تحس القوى بشيء، ولكن لا يخلو ذلك الجسم من أن يكون أخشن من البدن أو ألْيَن منه فتحس القوة بذلك التغيير والاستحالة، وإن كان مساويًا أيضًا في هاتين الصفتين فلا يؤثر فيه شيئًا ولا يقع الحس فيه، ولكن لا يخلو ذلك الجسم من أن يكون أشد صلابة من البدن وأشد رخاوة منه، فيؤثر فيه فتحس القوة بذلك التغيير، وقلَّ ما يوجد جسمان يكونان متساوِيَيْن في هذه الصفات الستة من الحرارة والبرودة واللين والخشونة والصلابة والرخاوة.
وأما كيفية إدراك هذه القوة والصلابة والرخاوة فهو أن بدن الحيوان متى صدمه جسم آخَر فلا يخلو من أن يُقعِّر أحدُهما في الآخر، فإن وقع التقعير في ذلك الجسم مثل ما يغمر الإصبع في العجين، فتحس القوة بذلك اللين فتؤدي خبره إلى القوة المتخيلة، فإن وقع التقعير في البدن مثل ما يغمر الإصبع على الحديد فتحس القوة بالصلابة فتؤدي خبرَها إلى القوة المتخيلة.
وأما كيفية إدراك هذه القوة الخشنة والملاسة فهو كما قلنا: إن الأجزاء التي في ظاهر سطوح الأجسام إذا كان وضعها متفاوتًا بعضها مرتفع وبعضها منخفض يكون ذلك جسمًا خشنًا إذا كان صلبًا.
وإذا كان وضعها كلها في سطح واحد فإذا تلاقيا جسمان أملسان انطبق السطحان المتماسَّان أحدُهما على الآخَر بلا خلل بينهما، وإذا كانا غير أملسين أو أحدهما فلا ينطبقان؛ لأنه يَبقَى بينهما خلل.
وأما بدن الحيوان فإذا لاقاه جسم صلب ردَّت الأجزاء الناتئة منه بعض أجزاء البدن إلى داخله، فيصير سطح البدن خشنًا فتحس القوة بذلك التغيير، فتؤدي خبرَه إلى القوة المتخيلة، وإذا لاقاه جسم أملس ردَّ ما كان من أجزاء البدن ثانيًا إلى داخله فيصير سطح البدن أملس فتحس القوة بذلك التغيير.
فهذا الباب يختلف بحسب اختلاف مزاج أعضاء البدن وذلك أن الإنسان إذا وضع يده على ثوب فوجده لينًا ثم مسحه على خدِّه وجَدَه خشنًا؛ لأن خد الإنسان أبدًا ألْيَن لمسًا من يده في أكثر الأوقات.
وكذلك لو مسح يده على مسح، فوجده خشنًا ثم مسحه برجله لوجده لينًا؛ لأن الرجل أخشن من اليد.
وكذلك إذا دخل الإنسان الحمام وهو مقرور وجد البيت الأول حارًّا وإذا خرج من البيت الحارِّ وجدَه باردًا؛ لأن المزاج قد تغيَّر به، أفلا ترى أن وجدان القوة اللامسة محسوساتها بحسب اختلاف مزاج البدن من الحر والبرد والخشونة واللين والصلابة والرخاوة، وبحسب اختلاف أحوال المحسوس؛ لأن القوة مختلفة في ذاتها وجوهرها.
وأما كيفية إدراك هذه القوة: الرطوبة واليبوسة فهو أن البدن إذا لاقاه جسم يابس تنشف رطوبة البدن ونداوته، فتحس القوة بذلك التغيير، وإذا لاقاه جسم رطب زاده رطوبة ونداوة.
وأما كيفية إدراك هذه القوة للثقل والخِفَّة فهو عند الدفْع والجذْب والحَمْل تُحِسُّ بها، وقد يختلف الثقيل والخفيف بحسب قوة البدن، فإن من الحيوان ما يحمل مثل وزن بدنه أضعافًا كالنمل.
ومن الحيوان ما لا يقدر أن يحمل غير وزن بدنه، وقد بيَّنَّا في الرسالة التي ذكرنا فيها خواص الحيوانات الغرض والعلة في ذلك.
(٤) فصل في كيفية إدراك الذائقة لمحسوساتها
وأما كيفية إدراك الذائقة لمحسوساتها التي هي الطعوم حسب، وهي تسعة أنواع؛ أولها: الحلاوة الملائمة لمزاج اللسان، والثاني: المرارة المنافرة لمزاج اللسان، والثالث: الملوحة، والرابع: الدسومة، والخامس: الحموضة، والسادس: الحرافة، والسابع: العفوصة، والثامن: العذوبة، والتاسع: القبوضة.
فإدراكها هو أن تتصل رطوبة هذه الطعوم برطوبة اللسان، فتمتزجان فيعتبر مزاج اللسان بحسب ذلك الطعم إن كان حلوًا فحلوًا، وإن كان مرًّا فمرًّا، وإن كان حامضًا فحامضًا، وغيرها من الطعوم، فيحس بذلك، وليس الحس شيء أكثر من أن يصير مزاج الحاس مثل المحسوس بالكيفية حسب، والإحساس ليس شيئًا أكثر من شعور النفس بتغيير تلك الأمزجة.
وأما كيفية إدراك القوة الشامَّة لمحسوساتها التي هي الروائح وهي نوعان: طيب، ومنتن، فهو أن الأجسام ذوات الروائح يتحلَّل منها في دائم الأوقات بخارات لطيفة تمتزج مع الهواء مزاجًا روحانيًّا، ويصير الهواء مثلها في الكيفية إن كان طيبًا فطيبًا وإن منتنًا فمنتنًا.
فالحيوان الذي له رئة يستنشق الهواء دائمًا لترويح الحرارة الغريزية التي في القلب، فيدخل ذلك الهواء في منخريه ويبلغ إلى خياشيمه فيصير ذلك الهواء الذي هناك أيضًا مثلها في الكيفية، فتحس القوة الشامة بذلك التغيير، فتؤدِّي خبرَها إلى القوة المتخيلة، فإن كانت الرائحة طيبة استلذَّتْها الطبيعة، وإن كانت منتنة كرِهَتْها ونَفرَتْ منها.
وقد تختلف في مشامِّ الحيوانات الروائح في اللذَّة والكراهية اختلاف التضادُد.
وذلك أن من الحيوانات ما يستلذُّ رائحة السماد والجِيَف مثل الخنازير وبنات وردان والذباب وما شاكلها، ومنها ما يكره الرائحة الطيبة.
وذلك أن الخنفساء إذا دُفِنتْ في الورد غُشِيَ عليها حتى لا تتحرك، فإذا أراد المُرِيد أن تَعِيش رُدَّتْ إلى السماد فعاشتْ وتحرَّكت.
ومن الناس أيضًا مَن بهذا الوَصْف مثل السمَّادِين والكنَّاسِين، فإنه يُحكَى أن كناسًا جاز في سوق العطَّارين، فغُشِيَ عليه حتى ظنُّوا أنه قد مات، فمرَّ عليه طبيب فرآه وعَرَف حالَه وسبب غشيته، فأمر بإتيان رجيع يابس، فأمر بدقِّه وسعط فعطس من ساعته وأفاق.
ومن المرضى مَن هو أيضًا بهذا الوصف مثل ما يغلب الصفراء عليه، فإنه يتأذَّى برائحة المسك ويستلذُّ رائحة الطين، وهذا الاختلاف يكون بحسب مزاج الأبدان، وبحسب الخلط الغالب عليه.
وهذه الثلاث القوى التي تقدَّم وصفُها تُدرِك محسوساتِها إدراكًا جسمانيًّا بالمماسة.
وأما القوة السامعة والقوة الباصرة، فإنهما يدركان محسوساتهما إدراكًا روحانيًّا قطعًا.
(٥) فصل في إدراك القوة السامعة
أما إدراك القوة السامعة لمحسوساتها التي هي الأصوات، فاعلم أن الأصوات نوعان: حيوانية وغير حيوانية، وهي نوعان: طبيعية وآلية، فالطبيعية الحَجَر والحَدِيد والخشب والرَّعد والرِّيح وسائر الأجسام التي لا روح فيها من الجامدات، والآلية كصوت الطَّبْل والبُوق والزَّمْر والأوتار وما شاكلها، وهو هواء يتقلَّب بين جسمين متصادِمَيْن بعُنْف، فيصكُّ الهواء الراكد في آلة السمع، وتحته أنواع كثيرة.
والحيوانية نوعان: منطقية وغير منطقية، فغير المنطقية هي أصوات سائر الحيوانات الغير الناطقة، والمنطقية هي أصوات الناس وهي نوعان: دالة وغير دالة، فغير الدالة: كالضحك والبكاء، وبالجملة كل صوت لا هجاء له، والدالة هي كالكلام والأقاويل التي لها هجاء، وهي تقطيع الصياح بانضمام أجزاء الفم، فتحدث منه حروف كما تضم الشفتين بنوع ما فتحدث الباء، وتضم بنوع آخَر فتحدث الميم، وكل هذه الأصوات إنما هي قرع يحدث في الهواء من تصادم الأجسام، وذلك أن الهواء لشدة لطافته وخِفَّة جوهره وسرعة حركة أجزائه يتخلل الأجسام كلها، فإذا صادم جسم جسمًا انسلَّ ذلك الهواء من بينهما بحمية وتدافع، وتموج إلى جميع الجهات، فحدث من حركته شكل كروي، واتسع كما تتسع القارورة من نفخ الزجاج فيها، أو الماء الساكن إذا أُلقي فيه حجر فيتزاحم الماء حتى يبلغ إلى أطراف الغدير، وكلما اتسع ذلك الشكل ضعفت حركته وتموجه إلى أن يسكن ويضمحل، فمَن كان حاضرًا من الناس وسائر الحيوانات التي لها أذن بالقرب من ذلك المكان تموج ذلك الهواء الذي هناك، فحسَّتْ عند ذلك القوة السامعة بتلك الحركة والتغيير.
واعلم أن كل صوت له نغمة وصيغة وهيئة روحانية خلاف صوت الآخر، وأن الهواء من شرف جوهره ولطافة عنصره يحمل كل الصوت بهيئة وصيغة، ويحفظها لئلا يختلط بعضها ببعض فتفسد هيئاتها إلى أن يبلغها مدى غاياتها عند القوة السامعة، لتؤدِّيَها إلى القوة المتخيلة، ذلك تقدير العزيز العليم الذي جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلًا ما تشكرون.
(٦) فصل في إدراك القوة الباصرة
أما كيفية إدراك القوة الباصرة لمحسوساتها التي هي عشرة أنواع: أولها الأنوار والظلمة والألوان والسطوح والأجسام أنفسها وأشكالها وأبعادها وحركاتها وسكونها وأوضاعها، فالْمُدرَك من هذه الأنواع بالحقيقة والذات النور والظلمة حسب، إلا أن الظلمة شيء يُرَى ولا يُرَى بها شيء آخَر، والنور هو الذي يُرى ويُرى به شيء آخَر.
أولها الألوان: ولما كانت الألوان لا توجد إلا في سطوح الأجسام صارت السطوح مرئية بها، ولما كانت السطوح أيضًا لا توجد إلا في الأجسام صارت مرئية بتوسط سطوحها، ولما كانت الأجسام أيضًا لا تخلو من الأشكال والأوضاع والأبعاد والحركات صارت هذه كلها مرتبة بالعَرَض لا بالذات.
ثم اعلم أن النور والظلمة لونان روحانيان، وأن السواد والبياض لونان جسمانيان، وأن النور مُشاكِل للبياض، وأن الظلمة مشاكلة للسواد، وذلك أن البياض يلوح على سائر الألوان كما أن في النور تُرَى سائر المرئيات، وعلى السواد لا تتبين الألوان، وفي الظلمة لا يُرى شيء.
ثم اعلم أن النور والظلمة يسريان في الأجسام المشفَّة كسَرَيَان الرُّوح في الجسد، وينسلَّان منها بلا زمان، ولكن الضوء إذا سَرَى في الأجسام المشفَّة حَمَل معه ألوان الأجسام وأوصافَها التي تقدَّم ذكرُها حملًا روحانيًّا، وحفظها بهيئاتها حتى لا يختلط بعضها ببعض فيفسد هيئاتها، كما حمل الهواء الأصوات بهيئاتها كما وصفنا قبل، حتى يبلغها إلى أقصى مدى غاياتها عند القوة الباصرة المستبطنة في الرطوبة الجليدية التي في الحدقتين.
ثم اعلم أن الحدقتين هما من أحد الأجسام المشفَّة، وهما مرآتا الجسد، وذلك أنهما رطوبتان مغطاتان بغشائين شفافين، وهما غشاء القرنية ويَعرِف هذا الأصل مَن كان خبيرًا بصناعة الطب، فإذا سَرَى الضوءُ في الأجسام المشفَّة وحمل معه ألوان الأجسام الحاضرة واتصل بحدقتي الحيوان الحاضرة هناك، وسرى فيهما كسريانه في سائر الأجسام المشفة انطبعت الجليدية بتلك الألوان كما ينطبع الهواء بالضياء، فعند ذلك تحس القوة الباصرة بذلك التغيير، فتؤدِّي خبرَه إلى القوة المتخيلة، كما تؤدِّي سائر القوى الحساسة أخبار محسوساتها، ومَن يتعجَّب مِن وصْفِنا كيفية حمل الألوان أشكال الأجسام حملًا روحانيًّا، وكيفية حمل الهواء الأصوات أيضًا مثل ذلك، فلا ينبغي أن يُنكِرها من أجْل أنه لا يتصوَّرها، فإن حمل القوى الحساسة صور المحسوسات أعجب وأشد روحانية، وقد بيَّنَّا ذلك في رسالة العقل والمعقول وكيفيتها.
وقد ظن كثير من أهل العلم أن إدراك البصر المبصَرَات إنما يكون بشعاعين يخرجان من العينين وينفذان في الهواء وفي الأجسام المشفَّة ويُدرِكان هذه المبصرات، وهذا ظن مَن لا رياضة له بالأمور الروحانية ولا بالأمور الطبيعية، ولو ارتاض فيها لَبَانَ له صحة ما قلنا ووصفنا.
فصل في أن القوة الحساسة ليست هي من أجزاء النفس
ثم اعلم أن هذه القوة الحساسة ليست هي من أجزاء النفس كما أن الحواس كل واحد منها عضو من الجسد وجزء منه، ولكن كل واحد منها هي النفس بعينها، وإنما وقعت عليها هذه الأسماء المختلفة من أجل اختلاف أفعالها، وذلك أنها إذا فعلتِ الإبصارَ سُمِّيَتِ الباصرة، وإذا فعلتِ الإسماعَ سُمِّيَتِ السامعة، وإذا فعلتِ الذَّوْق سُمِّيَتِ الذائقة.
وهكذا إذا فعلت في الجسم النموَّ سُميت النامية، وإذا فعلتْ في الجسم الحِسَّ والحَرَكةَ سُميت حيوانية، وإذا فعلتِ الفِكْرَ والتمييز سُميت ناطقة.
وعلى هذا القياس سائر الأسماء التي يقع عليها بحسب اختلاف أفعالها، واختلاف أفعالها بحسب اختلاف أعضاء الجسد، كما أن اختلاف أفعال الصُّنَّاع يكون بحسب اختلاف أدواتهم، فإن النَّجَّار يَنحَت بالفأس وينشر بالمنشار، وكذلك الحَدَّاد يطرق بالمطرقة ويبرد بالمبرد، وعلى هذا المثال سائر الصناع؛ تَختَلِف أفعالُهم في صنائعهم بحسب اختلاف أدواتهم.
فهكذا تختلف أفعال النفس في الجسد بحسب اختلاف أعضائه؛ لأن أعضاء الجسد للنفس بمنزلة أدوات الصانع.
(٧) فصل في كيفية وصول آثار المحسوسات إلى القوة المتخيِّلة التي مجراها مقدَّم الدماغ حسب ما تبيَّن ها هنا
فنقول: إنه ينتشر من مقدَّم الدماغ عصبات لطيفة ليِّنة تتصل بأصول الحواس، وتتفرَّق هناك وتنسج في أجزاء جرم الدماغ كنسج العنكبوت، فإذا باشَرَتْ كيفية المحسوسات من أجزاء الحواس وتغيَّر مزاج الحواس عندها وغيرتها عن كيفياتها وصل ذلك التغيير في تلك الأعصاب التي في مقدَّم الدماغ، والتي منشؤها من هناك كلها، فتجتمع آثار المحسوسات كلها عند القوة المتخيِّلة، كما تجتمع رسائل أصحاب الأخبار عند صاحب الخريطة، فيُوصل تلك الرسائل كلَّها إلى حضرة المَلِك، ثم إن الملك يَقرَؤها ويَفهَم معانيَها ثم يُسلِّمها إلى خازِنِه ليحفَظَها فيحفَظُها إلى وقت الحاجة إليها.
فهكذا حكم القوة المتخيِّلة إذا اجتمعتْ عندها آثار هذه المحسوسات التي أدَّتْ إليها القوة الحساسة، دفعتْها إلى القوة المفكِّرة التي مسكنها وسط الدماغ لتنظر فيها وترى في معانيها وتعرف حقائقها ومضارَّها ومنافعَها ثم تؤدِّيها إلى القوة الحافظة لتحفظها إلى وقت التذكار.
(٨) فصل في بيان المحسوسات بعضها بالذات وبعضها بالعرض
فنقول: اعلم أن الإنسان إذا رأى ثمرة من بعيد يعلم مِن وقته أنها حلوة أو مرة، أو طيبة الرائحة أو منتنة، أو أنها خشنة أو لينة، أو صلبة أو رخوة، أو حارَّة أو باردة، أو رطبة أو يابسة، وليس عِلْمه بهذه الصفات كلها بطريق البصر، ولكن بالقوة المفكِّرة وبرؤيتها وتجاربها وما جَرَتْ لها به العادة.
وكذلك إذا أخطأ في حكم شيء من هذه فليس الخطأ من قِبَل الباصرة، ولكن من قِبَل المفكِّرة إذا حَكَمَتْ من غير رَوِيَّة ولا اعتبار.
مثال ذلك: إذا رأى إنسان السَّرَاب فظن أنه الماء فليستِ الباصرة هي المخطئة، ولكن المفكِّرة حَكَمَتْ بأن ذلك المتلوِّن يناله اللمس والذَّوْق وهو جسم سيَّال رطب، فلما جاءه لم يَجِدْه بهذا الوصف، فبَانَ خطَؤُها، فسبيل المفكِّرة إذا أدَّت إليها المتخيِّلة أثَرَ حاسَّة واحدة ألَّا تحكم أو تستخبر حاسَّة أخرى، فإنْ شهدَتْ لها حَكَمَتْ عند ذلك بأنها كيت وكيت.
مثال ذلك: إذا رأتِ الباصرة تفاحة معمولة من الكافور مصبوغة كلون التفاح فأوردتْ خبرَها إلى المتخيِّلة فأوردتْها هي إلى المفكِّرة، فليس سبيلها أن تحكم أن طعمها ورائحتها وملمسها مثل التفاحة التي هي الثمرة أو تستخبر قوة الذائقة والشامَّة واللامسة.
فإذا أَخبَرَتْ كل واحدة منها بما لها أن تُخبِر به حكمتْ عند ذلك المفكِّرة بأنها كيت وكيت، حتى يكون حكمها صوابًا لا خطأ فيه.
ثم اعلم أن من أجل هذه العلة منعت القوة الناطقة بأن تعبِّر على أَلْسِنَة الأطفال حكم شيء من معاني المحسوسات؛ لأن المفكِّرة بعدُ لم تُحكِم معانيها ولم تُميِّزها تمييزًا صحيحًا، فإذا مَضَتْ سِنُون التربية ودفع القمر التدبير إلى عُطَارد صاحب المنطق والتمييز أطلق لسان المولود بالعبارة والبيان عن معاني المحسوسات التي أدَّتِ الحاسة إلى المفكرة.
(٩) فصل في ماهية اللَّذَّة والأَلَم والتَّعَب والراحة وكيفية إدراك الحواس
فنقول: اعلم أن الحيوانات في دائم الأوقات لا تخلو من اللذة والألم والتعب والراحة؛ لأن أبدان الحيوانات مركبة من مزاج الأمهات الأربعة، وهي الأخلاط الأربعة وهي متضادات الطباع من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، وهي كلها في التغيير والاستحالة بين الزيادة والنقصان، وهما يُخرِجان المزاج تارةً من الاعتدال إلى الزيادة في أحَدِ الأخلاط والطِّبَاع، أو إلى النقصان في واحد منها، واللذة هي رجوع المزاج إلى الاعتدال بعدما كانت خارجة عنه.
فمِن أجل هذا لا يحس الحيوان باللذة إلا بعدما يتقدَّمَها أَلَمٌ.
واعلم أن كل محسوس يُخرِج المزاج من الاعتدال فإن الحاسة تَكرَهُه وتتألَّم منه، وكل محسوس يَرُدُّ المزاجَ إلى الاعتدال فإن الحاسة تُحِبُّه وتَلْتَذُّ به.
ثم اعلم أن الراحة هي الثبات على الصحة والاعتدال، وأن التعب هو التردُّد بينَ الأَلَم واللذة.
ثم اعلم أن مَن نَظَر في هذه الرسالة وتفكَّر فيما وصَفْنا من كيفية أحوال هذه الحواس والمحسوسات تبيَّن له بأن المحسوسات كلها أعراض جسمانية، وهي صور في الهَيُولَى، وأن إدراك النفس لها بقواها الخمس الحساسة بطريق الحواس، وأن الحواس هي آلات جسدانية، وأن الحس إنما هو تغيير مزاج تلك الحواس عن مباشرة المحسوسات لها، وأن الإحساس إنما هو شعور القُوَى الحساسة بتغييرات تلك الأمزجة.
(١٠) فصل في ذكر القوى الخمس الروحانية
فنقول: اعلم — وفَّقك الله — أن للنفس الإنسانية خمس قُوًى أُخَر روحانية، سيرتها غير سيرة الخمس الحساسة الجسمانية، وهي: القوة المتخيِّلة والمفكِّرة والحافظة والناطقة والصانعة، وذلك بإدراكها رسوم المعلومات إدراكًا روحانيًّا من غير هيولاها.
فأما الحسَّاسة فلا تُدرِك محسوساتها إلا في الهَيُولَى كما بيَّنَّا قبلُ.
وأيضًا فإن هذه القوى الروحانية تتناول رسوم المعلومات بعضها من بعض على غير سيرة الحساسة، وذلك أن القوى الحساسة كل واحدة منها مختصة بإدراك جنس من المحسوسات، كما بيَّنَّا، وذلك أن الباصرة لا تُدرِك الأصواتَ ولا الطعومَ ولا الروائح ولا الملموساتِ إلا الألوانَ.
وكذلك السامعة لا تدرك الألوان ولا الطعوم ولا الروائح ولا الملموسات ولا الأصوات، وهكذا الشامَّة والذائقة واللامسة كل واحدة لا تشارك غيرها في محسوساتها.
وأما القوى الخمس الروحانية فإنها كالمتعاونات في إدراكها رسوم المعلومات، وذلك أن القوة المتخيِّلة إذا تناولت رسوم المحسوسات كلها، وقَبِلَتْها في ذاتها كما يَقبَل الشمع نقش الفص، فإن من شأنها أن تُناوِلها كلها إلى القوة المفكِّرة من ساعتها، فإذا غابتِ المحسوسات عن مشاهدة الحواس لها بَقِيَتْ تلك الرسوم مصوَّرة صورة روحانية في ذاتها كما يَبقَى نقش الفص في الشمع المختوم مصورًا بصور روحانية مجردة عن هيولاها، فيكون عند ذلك لها كالهَيُولَى وهي فيها كالصورة.
ثم إن من شأن القوة المفكِّرة أن تنظر إلى ذاتها وتراها مُعايَنة وتتروَّى فيها وتميِّزها، وتبحث عن خواصِّها ومنافعها ومضارِّها، ثم تؤدِّيها إلى القوة الحافظة لتحفظها إلى وقت التذكار.
ثم إن من شأن القوة الناطقة التي مجراها على اللسان إذا أرادت الإخبار عنها والإنباء عن معانيها والجواب للسائلين عن معلوماتها أَلْقَت لها ألفاظًا من حروف المعجم، وجعلتْها كالسِّمات لتِلْك المعاني التي في ذاتها وعبَّرتْ عنها للقُوَّة السامعة من الحاضرين.
ولما كانت الأصوات لا تمكث في الهواء إلا ريثما تأخذ المسامع حظَّها، ثم تضمحل، احتالتِ الحكمة الإلهية بأن قيَّدت معاني تلك الألفاظ بصناعة الكتابة.
ثم إن من شأن القوة الصانعة أن تصوغ لها من الخطوط الأشكال بالأقلام وتُودِعها وجوه الألواح وبطون الطوامير ليَبقَى العِلْم مفيدًا فائدة من الماضين للغابرين وأثرًا من الأوَّلين للآخِرين وخطابًا من الحاضرين للغائبين، وهذه من جسيم نِعَم الله — عزَّ وجلَّ — على الإنسان كما ذكر — جلَّ ثناؤه — فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ.
(١١) فصل في العلة التي من أجلها صار علم الإنسان بالمعلومات من ثلاثة طرق
فنقول إنه لما كان الإنسان من جملة مجموعة بدن جسماني ونفس روحانية صار بنفسه الروحانية يُدرِك العلم، كما أنه بجسده الجسماني يعمل الصانع.
ولما كانت النفس في الرتبة الوسطى من الموجودات كما بيَّنَّا في رسالة المبادئ؛ وذلك أن من الأشياء ما هو أعلى وأشرف من جوهر النفس كالباري — تعالى — والعقل والصور المجردة من الهَيُولَى الذين هم ملائكة الله المقرَّبون.
ومنها ما هو أدْوَن من جوهر النفس كالهَيُولَى والطبيعة والأجسام أجمع، فصارت معرفة النفس بالأشياء التي دونها في الشرف بطريق الحواس التي هي المباشرة والمتماسة والمخالطة والإحاطة.
وأما ما كان أشرف منها وأعلى فصارت معرفتها لها بطريق البرهان الذي يضطر العقول إلى الإقرار به من غير إحاطة ولا مباشرة، وصارت معرفتها بذاتها وجوهرها بطريق العقل؛ لأن نسبة العقل إلى النفس كنسبة الضوء من البصر وكنسبة المرآة إلى الناظر فيها، فكما أن البصر لا يَرَى شيئًا من الأشياء إلا بالضوء كالإنسان لا يَرَى وجهَه إلا بالمرآة والنظر فيها، كذلك النفس لا تنظر ذاتها إلا بنور العقل ولا تعرف حقائق الموجودات إلا بالنظر إلى العقل.
وإنما يتسنَّى للنفس النظر إلى العقل بعين البصيرة إذا هي انفتحت، وإنما تنفتح لها عين البصيرة، إذا هي انتبهت من نوم الغفلة ورقدة الجهالة ونظرت بعين الرأس إلى هذه المحسوسات، وفكَّرت في معانيها واعتبرت أحوالَها حتى تعرفها حق معرفتها.
فمن أجل هذا قدَّمنا رسالة الحاس والمحسوس على رسالة العقل والمعقول، فاعتَبِرْ يا أخي هذه الأمور التي وصفنا، وتفكَّرْ في معانيها وحقائقها تنتبه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة وتنفتح عين البصيرة فتُعايِن في ذاتها صور الأشياء، وتبين في جوهرها معاني الموجودات؛ لأنها معادن العلوم كلها ومأوى الحكمة، كما قال الحكيم الفاضل: إن العلوم كلها في النفس بالقوة، فإذا فكرت في ذاتها وعرفتها صارت العلوم كلها فيها بالفعل.