الرسالة الثالثة عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم
(١) فصل
اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه لما فرغنا من بيان قول الحكماء «إن الإنسان عالم صغير»، نريد أن نذكر في هذه الرسالة كيفية نشوء الأنفس الجزئية فنقول: اعلم أن هذا الجسد لهذه الأنفس في المثال بمنزلة الرحم للجنين؛ وذلك أن الجنين إذا استتمَّتْ في الرحم بِنْيته وتكملت هناك صورته خرج إلى هذه الدار تام الخلقة سالم الحواس، وانتفع بالحياة فيها وتمتع بنعيمها إلى وقت معلوم، فهكذا يكون حال الأنفس في الدار الآخرة، وذلك أن الأنفس الجزئية إذا استتمت ذواتها بالخروج من القوة إلى حيز الفعل بما تستفيده من العلوم والمعارف بطريق الحواس، واستكملت صورتها بما تكتسب من الفضائل بطريق المعقولات والتجارب والرياضات وما يدبر في هذه الدار من السياسات من إصلاح أمر المعاش على الطريقة الوسطى، وتمهيد أمر المعاد على سنن الهدى، وتهذيب النفس بالأخلاق الجميلة والآراء الصحيحة والأعمال الصالحة، كل ذلك بتوسط هذا الجسد المؤلف من الدم واللحم.
ثم إن فارقته على بصيرة منها ومن أمرها، وقد عرفت جوهرها وتصورت ذاتها وتبينت أمر عالمها ومبدئها ومعادها كارهة للكون مع الجسد، بقيت عند ذلك مفارقة للهيولى، واستقلت بذاتها واستغنت بجوهرها عن التعلق بالأجسام، فعند ذلك ترتقي إلى الملأ الأعلى وتدخل في زمرة الملائكة، وتشاهد تلك الأمور الروحانية وتعاين تلك الصور النورانية التي لا تدركها بالحواس الخمس، ولا تتصور في الأوهام البشرية، كما ذكر هذا في الرموزات النبوية أن في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من النعيم واللذة والسرور والفرح والروح والريحان، كما قال الله تعالى: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، وقال: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
فأما إذا لم تستتمَّ خلقة الجنين في الرحم ولا استكملت هناك صورته أو عرض له عارض من النفس والاعوجاج في عضو من الأعضاء، فإنه لا ينتفع بالحياة في هذه الدار على التمام، ولا يكمل له نعيمها كالعميان والخرس والطرشان والزَّمنى والمفاليج وأشباههم، فهكذا تكون حال النفوس الجزئية عند مفارقة الأجساد البشرية.
وذلك أن الجزئية إذا لم تستتم بالعلوم والمعارف فإنها ما دامت مرتبطة بالأجساد البشرية متهيئ لها إدراك المحسوسات، فلا تستكمل صورها بمعرفة حقائق الأشياء ما دام لها العقل والتمييز والرؤية، ولا هي تهذبت بالأخلاق الجميلة ما دام يمكنها الاجتهاد والعزيمة، ولا هي قومت اعوجاجها من الآراء الفاسدة وقد أرهقتها أعمالها السيئة وأثقلتها أفعالها القبيحة، فإنها عند مفارقة الأجساد لا تنتفع بجوهرها، ولا تستقل بذاتها، ولا يمكنها النهوض إلى الملأ الأعلى من ثقل أوزارها، ولا يعرج بها إلى ملكوت السماء، ولا تستأهل للدخول في زمر الملائكة، وتغلق دونها أبواب السماء، ويفوتها ذلك الروح والريحان، كما ذكر الله عز وجل: لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ؛ لأنه لا يليق بها ذلك المكان الشريف ما دامت النفس مذمومة بهذه الصفات غير مهذبة بالأخلاق الجميلة، مقيدة بأخلاق دنية وسيرة جائرة وعادات رديئة واعتقادات فاسدة وجهالات متراكمة وأعمال سيئة تبقى مربوطة محبوسة؛ لأنه لا يليق بها ذلك المنزل النوراني والعالَم الروحاني، كما لا يليق بالعميان والزمنى والجهال والبُكَماء مجالس الملوك ومنادمتهم لنقصانهم. فإذا فاتها ذلك المكان الشريف بقيت مقيدة في الهواء تهوى دون السماء، وتجرها شياطينها التي تتعلق عليها من الشهوات الجسمانية والآراء الفاسدة والاهتمام بالأمور الهيولانية، راجعة إلى قعر الأجسام المدلهمَّة، وأسر الطبيعة الجسدانية، وتدفعها أمواج الشهوات المحرقة المؤدية إلى أودية الهاوية حيث لا أنيس لها، وتجرها الشياطين كما تجر العميان والزمنى متجنبين طرقات الناس، كما ذكر الله تعالى (عز وجل): وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، وقال: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وقال: وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ، فيصيبها عند ذلك وهج الأثير تارة وبرد الزمهرير تارة ووحشة الظلام والألم والعذاب إلى أن تقوم القيامة.
يكون ذلك حالها كما ذكر الله عز وجل: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ، وقال: وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ؛ كل ذلك لشدة شوقها إلى الجسمانية التي قد اعتادتها وقد فارقتها ولم تحصل لها اللذات الروحانيات وقد خسرت الدنيا والآخرة ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ.
(٢) فصل
اعلم أيها الأخ الكريم البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنَّ العلم والحكمة للنفس كتناول الطعام والشراب للجسد.
وذلك أن الأجساد ترضع أولًا ثم تتناول الطعام والشراب اللذين هما غذاء الأجساد لينشأ صغيرها وينمو ناقصها ويسمن مهزولها ويقوى ضعيفها ويكتسي رونقها وكمالها، ويبلغ إلى أقصى مدى غاياتها ومنتهى نهاياتها ومحاسنها باللبن ثم بالطعام والشراب اللذين هما غذاؤها ومادتها.
فهكذا أيضًا حالات الأنفس مماثلة لحالات الأجساد بالطعام والشراب الذي هو غذاؤها ومادتها في تصاريفها لاقتران ما بينهما في كون الحياة.
وذلك أن الأنفس الجزئية تتصور بالعلوم جواهرها، وتنمو بالحكمة ذواتها، وتضيء بالمعارف صورها، وتقوى بالرياضيات فكرها، وتنير بالآداب خواطرها، وتتسع لقبول الصور المجردة الروحانية عقولها، وتعلو إلى اشتياق الأمور الخالدة همتها، ويشتد على البلوغ إلى أقصى مد غاياتها عزماتها من الترقي في المراتب العالية بالنظر في العلوم الإلهية، والسلوك في المذاهب الروحانية الربانية، والتعبد في الأمور الشريفة من الحكمة على المذهب السقراطي، والتصوف والتزهد والترهب على المنهج المسيحي، والتعلق بالدين الحنيفي، وهو التشبه بجوهرها الكلي ولحوقها بعالمها العلوي والتوصل إلى علتها الأولى والاعتصام بحبل عصمته وابتغاء مرضاته وطلب الزلفى لديه بالاتحاد بأبناء جنسها في عالمها الروحاني، ومحلها النوراني في دارها الحيواني كما قال الله تعالى: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ.
فإذا كانت الدار هي الحيوان فما ظنك يا أخي بأهل الدار كيف تكون صفتهم ونعيمهم إلا كما قال الله تعالى وتقدَّس: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ، فافهم هذه الإشارات والمرامي والمرموزات.
ثم اعلم أن النفس إذا انتبهت من نوم الغفلة واستيقظت من رقدة الجهالة واجتهدت وألقت من ذاتها القشور الجسمانية والغشاوة الجرمانية والعادات الطبيعية والأخلاق السبعية والآراء الجاهلية وصَفَتْ من درن الشهوات الهيولانية؛ تخلصت وانبعثت وقامت فاستنارت عند ذلك ذاتها وأضاء جوهرها وأشرقت أنوارها واحتد بصرها.
فعند ذلك ترى تلك الصورة الروحانية وتعاين تلك الجواهر النورانية، وتشاهد تلك الأمور الخفية والأسرار المكنونة التي لا يمكن إدراكها بالحواس الجسمانية والمشاعر الجرمانية، ولا يشاهدها إلا من تخلصت نفسه بتهذيب خلقه إذا لم تكن مربوطة بإرادة طبيعية ومقيدة بشهوات جسمانية يلوح فيها فيعاينها.
فإذا عاينت تلك الأمور، تعلقت بها تعلق العاشق بالمعشوق، والتزمتها التزام الحبيب المحبوب، واتحدت بها اتحاد النور بالنور، فتبقى معها ببقائها، وتدوم مع دوامها، وتفرح بروحها وريحانها، وتشم بنفحتها وتلذ بلذاتها التي عجزت الألسن الإنسانية عن التعبير عنها وقصرت أوهام المتفكرين عن أن نتصورها بكُنه صفاتها كما قال تعالى: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وقال: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
(٣) فصل
ثم اعلم أنه إذا خرج الجنين من الرحم سالمًا من الآفات العارضة صحيح الحواس قوي البدن، واشتدت أركانه وانبسطت قوى النفس في الجسد؛ باشرت القوى الحساسة ذوات المحسوسات وإدراكها على هيئاتها.
ثم أدت رسومها إلى القوة المتخيلة التي في مقدم الدماغ ودفعتها المتخيلة إلى المفكرة.
ثم غابت المحسوسات عن مشاهدة الحواس وبقيت آثار تلك الرسوم مصورة في فكرة النفس، فاستقلَّت بذاتها واستغنت بجوهرها عن حواسها، وتصرفت فيها من غير أن يشاركها شيء خارج من ذاتها ويتأملها من غير أن يحتاج إلى غير نفسها.
فإذا تأملتها النفس وميزتها بعقلها لا تجد شيئًا سوى صور تلك المحسوسات منتزعة من هيولاتها، ومصورة في جوهر النفس، فيكون جوهر النفس لتلك المصورة في ذاتها كالهيولى، وتلك الرسوم فيها كالصورة.
وهكذا أيضًا حكم صور المعقولات في النفس؛ وذلك أنها ليست شيئًا سوى صور الأجناس والأنواع، انتزعتها النفس بقوتها المتفكرة وصورتها في ذاتها، وحملتها كما حمل الهواء صوت المسموعات؛ وذلك أن الهواء يحمل الأصوات والنغمات المختلفة ويؤديها إلى المسامع.
ويحمل أيضًا الروائح ويؤديها إلى المشامِّ بهيئاتها لا يغير منها شيئًا إلا بعارض يعرض لها؛ لأن الهواء جسم لطيف روحاني حافظ للصورة.
وهكذا الضياء أيضًا يحمل الأشكال والألوان ويؤديها إلى الأبصار ولا يخلط بعضها ببعض.
فهكذا أيضًا النفس تقبل صور المعلومات من المحسوسات والمعقولات في ذاتها وتصورها بفكرها وتحفظها بالقوة الحافظة من غير أن تخلط بعضها ببعض؛ لأن جوهر النفس أشد روحانية من جوهر الهواء، وجوهر الضياء جميعًا، فاستغنت بنفسها واستقلت بذاتها وفرحت بنجاتها واستبشرت بخلاصها وساحت في الملكوت وتبوأت من الجنة حيث شاءت، فنعم أجر العاملين.
ثم اعلم أنه كما يعرض للأجسام أمراض وأعلال تخرجها من الاعتدال وتميل بها عن صحة مزاجها حتى تسقمها فلا تنتفع بالحياة في هذه الدار ولا تنتفع بنعيمها على التمام ولا يهنيها عيشها على الكمال.
فهكذا يعرض للنفوس الجزئية الحيوانية أمراض تخرجها عن الاعتدال والطريقة الوسطى والصحة والحق والصراط السوي والهدى، وتميل بالإنسان عن قصد سنن الهدى حتى لا تنتفع بالحياة في الأولى ولا تنال السعادة في الأخرى.
وإن أمراضها أربعة أنواع؛ وهي الجهالات المتراكمة والأخلاق الردية والآراء الفاسدة والأعمال السيئة.
ثم تتفرع هذه كلها للنفوس الجزئية البشرية لشدة ميلها إلى الشهوات الجسمانية التي هي نيران واقدة تتوقد على الأفئدة بأنواع الغموم المقلقة والهموم المحرقة لشدة غرورها باللذات الجرمانية التي هي استراحات عن الآلام الطبيعية والمؤذيات الهيولانية.
(٤) فصل
ثم اعلم أن لمرض النفوس علاجات وطبًّا تداوى بها، كما أن لمرض الأجساد طبًّا يعالج به وعقاقير يداوى بها، ولها كتب وضعتها الحكماء موصوف فيها علاجاتها.
فهكذا أيضًا لمرض النفوس كتب وقوانين علمية جاءت بها الأنبياء والحكماء مذكور فيها علاجات الأمراض النفسية؛ وهو الاقتداء بسنة الناموس، واجتناب المحارم والانتهاء عن المناهي، والأخذ بسنته الحسنة والسير بسيرته العادلة، ولزوم طلب المعارف والتخلق بالأخلاق الجميلة، ولزوم سنة الهدى على الطريقة الوسطى في طلب معيشة الحياة الدنيا، والسعي بالأعمال الصالحة في طلب نعيم الآخرة، ومداواة النفوس المريضة بتذكيرها أمر مبدئها وما قد نسيته من أمر معادها بضروب الأمثال بالوعد والترغيب في جزيل الثواب والمدح والثناء لمن تاب وأناب لعلهم يذكرون.
ثم اعلم أنه ذكر في كتب الطب أصل تركيب الجسد ومزاج الأخلاق وأسباب الأمراض وكيفية المداواة من مفردات الأدوية ومركباتها، التي تختلف شرباتها بحسب اختلاف الأمزجة والأهوية والعادات.
فهكذا ذكر وتبين في كتب الأنبياء المنزَّلة عليهم السلام الذين هم أطباء النفوس وبيان ماهية النفس وبدء كون العالم وسبب كون عصيان النفوس التي هي مرضها وسقطها عن مراتبها الذي هو موتها الأول وسبب صحتها وسبب تغيرها وفسادها وأنواع أمراضها.
ووصف كيفية مداواة النفوس المريضة بالندم والتوبة وحسن الأخلاق والأفعال الحسنة، والاجتناب عما نهى الله تعالى ورسوله، وبالتذكار لأمر المعاد والأفعال الحسنة، والتوكل على الله في جميع الأمور كما قال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا، وقال: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، وقال: فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ.
ثم اعلم أن طائفة من العقلاء قد مالوا وأعرضوا عن الحق والديانات النبوية إلى الآراء الحكمية؛ وذلك لقصور فهمهم عن صور تلك الأمور التي أشارت إليها الأنبياء عليهم السلام في إشاراتهم ورموزهم، فعجزوا عن إدراك حقائق تلك المعاني التي ألقتها إليهم الملائكة من الوحي والإلهام والتأييد والإشارات.
وإنما قبلت الأنبياء الوحي من الملائكة بصفاء جوهر نفوسها ومجانسة أرواحها لأرواحهم، لا لقياسات منطقية ولا برياضات حكمية، مثل الأدوية الشافية والعقاقير النافعة يدرون سبب شفائها وخاصية منفعتها.
ثم اعلم أن من سنة الناموس والآداب الحسنة تناول الطعام، الذي هو غذاء الجسد، بثلاثة أصابع، فهذه السنة كأنها إشارة من واضع الناموس للنفوس والتنبيه لها، والحث على أنه واجب طلب العلوم من ثلاث طرقات؛ لأن العلم غذاء النفس كما أن الطعام غذاء الجسد، وأحوال النفس مماثلة لأحوال الجسد لشدة اقتران ما بينهما؛ فأحد الطرق التي تنال بها النفسُ العلومَ قوةُ الفكرة الذي تدرك به النفس الموجودات المعقولات.
ومن هذه الطريق أخذت الأنبياء عليهم السلام الوحي من الملائكة.
والطريق الآخر السمع الذي تقبل به النفس معاني اللغات وما تدل عليه الأصوات من الأخبار الغائبة، والآخر طريق النظر الذي به تشاهد النفوس الموجودات الحاضرة، فهذه الثلاث الطرقات يجب أن تتناول العلوم بها، كما بيَّنا وكما نبَّهَنا الله عز وجل وقال: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ، وذم من لا ينتفع بالنعم فقال: لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ، وقال: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ؛ فهم صم عن الحقائق، بكم عن الدقائق، عمي عن المبصرات المعنوية العقلية بعين القلب، وليس يريد بهذا الذم بحيث إنهم لا يسمعون الأصوات ولا يبصرون الألوان ولا يعرفون ولا يفقهون أمر المعاش، بل إنما ذمهم بحيث إنهم لا يعقلون أمر المعاد كما قال تعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ.
واعلم أن العلم قنية للنفس كما أن المال قنية للجسد؛ لأن المال يراد لصلاح أمر الجسد والعلم يراد لصلاح أمر النفس، فمتى لم تنل النفس العلم من هذه الطرقات الثلاث، وذلك تناوله بثلاثة أصابع إلا من طريقة واحدة — أي بإصبع واحد — فمثله كمثل المريض الذي ليس له حظ من ماله إلا الثلث؛ لأن المريض واقف بين رجاء الحياة وخوف الممات، وهذا مثل أهل التقليد الذين لا يعرفون أمر الدين إلا من طريق السمع، فهم موقوفون بين الشك واليقين، والشك مرض النفوس واليقين صحتها، فهؤلاء ليس لهم من العلم إلا الشك من أجل مرض نفوسهم.
ثم اعلم أن السائلين اثنان؛ سائل سأل حاجة من عرض الدنيا لصلاح الجسد المستحيل الفاني، وسائل سأل مسألة من العلم يكون فيه خلاص النفس من ظلم الجهل وإصلاح الدين وأمر المعاد وطلب نعيم الآخرة الباقي.
وهكذا المجالس اثنان؛ مجلس للأكل والشرب والغناء واللذات الجسمانية من نبات الأرض ولحوم الحيوان لصلاح هذا الجسد المستحيل المتغير الفاني، ومجلس للعلم والحكمة والسماع واللذات من نعيم الآخرة الباقية للنفوس الخالدة التي لا يبيد جوهرها ولا تفنى لذتها ولا ينقطع سرورها.
ثم إن كل ما يؤكل من الطعام والشراب يتبين النقصان في مال صاحبه، وإذا أكل وشرب قدر ما بلغ الشبع والري وزاد على ذلك صارت اللذة ألمًا، وإذا مكثتْ تلك المأكولات المشتهيات في المعدة ساعة واستمرأت وأخذت الأعضاء كل واحد قسطًا منها تَغيَّر ما بقي واستحال واحتيج إلى إخراجها، وإلا صارت اللذة ألمًا ومشقة ومرضًا وإعلالًا.
وأما مجالس العلم والحكمة والاستماع منها فليست تمل النفس منها؛ لأنها لذات روحانية من نعيم الآخرة وأنموذجها ولا ينقص من علم العالم المرشد وإن كثر المعلمون والسامعون لأنها من كنوز رموز الآخرة.
(٥) فصل
ثم اعلم أنه ليس في كثرة الأكل افتخار، ولا يحتاج من الأكل والشرب إلا إلى ما يسكن الجوع والعطش، فإذا سكن ذلك كان سكونه بألوان من المأكولات أو بكسرة من خبز الشعير أو بشرب الماء القراح، كما قال عيسى عليه السلام للحواريين إنَّ أكل خبز الشعير وشرب الماء القراح اليوم في الدنيا لكثير لمن يريد أن يدخل الفردوس غدًا.
ثم إن الافتخار والثناء ينبغي أن يكون في اقتناء الفضائل الحكمية، وفي الاستضاءة بنور العلم والاستبصار بالآيات والدلالات على معرفة حقائق الأشياء، والحكمة والتألُّه والزهد والتصوف، ولزوم مذاهب الربانيين، والتهاون بأمر الجسد، والاهتمام بأمر النفس، والحرص على خلاصها من ظلمة الجهالة، واستنقاذها من بحر الهيولى، وعتقها من أسر الطبيعة، والخروج من قعر الأجسام والصعود إلى عالم الأرواح والدخول في زمر الملائكة كما ذكر الله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ؛ يعني به روح المؤمنين، وقال: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وقال: إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ؛ يعني به أنفس الأبرار، وقال: حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ، وقال: وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الجسد إذا خرج من الرحم سالمًا من الآفات العارضة صحيح الحواس وقوي بدن الطفل، استتبت وانبسطت قوى النفس في الجسد، وباشرت القوى الحساسة ذوات المحسوسات وأدركتها على هيئتها، ثم أدت رسومها إلى القوى المتخيلة التي في مقدم الدماغ، وأدتها المتخيلة إلى القوة المتفكرة، ثم إذا غابت المحسوسات عن مشاهدة الحواس لها بقيت تلك الرسوم مصورة في فكر النفس، فإذا تأملتها النفس وميَّزتها بعقلها فليست تجد شيئًا سوى صورة تلك المحسوسات منتزعة إلى هيولاها ومصورة في جوهر النفس، فيكون جوهر النفس لتلك الصورة فيها كالهيولى، وتلك الرسوم فيها كالصورة.
وهكذا أيضًا حال الصور المعقولة في النفس، فإنها ليست شيئًا سوى صور الأجناس والأنواع، انتزعتها النفس بقوتها المفكرة وصورتها في ذاتها وحملتها كحمل الهواء صور المحسوسات.
وذلك أن الهواء يحمل الأصوات المختلفة ويؤديها إلى المسامع، ويحمل الروائح ويؤديها إلى المشامِّ بهيئتها لا يغير منها شيئًا إلا أن يعرض عارض لها؛ لأن الهواء جسم لطيف روحاني حافظ للصورة.
وهكذا الضياء يحمل الألوان ويؤديها إلى الأبصار بأصباغها ولا يخلط بعضها ببعض؛ لأن جوهر النفس أشد روحانية من جوهر الهواء والضياء جميعًا.
ثم اعلم يا أخي أن النفوس الجزئية يفضل بعضها على بعض بإحدى هذه الخصال الأربع.
إحداها معارفها التي استفادتها بكونها مع الجسد، والثانية أخلاقها التي عددناها، والثالثة آراؤها التي اعتقدتها، والرابعة أعمالها التي اكتسبتها.
فإذا كانت النفس كثيرة المعارف في العلوم وحسنة الأخلاق صحيحة الآراء صالحة الأعمال، صورتها هذه الخصال صورة حسنة صحيحة بهية بهجة روحانية. فإذا فارقت الجسد واستقلَّت بذاتها، واستغنت بجوهرها عن التعلق بالأجسام، وانجلت عنها أصداء الطبيعة؛ أبصرت ورأت عند ذلك ذاتها، وتراءت لها صورتها فعاينت جمالها ورونقها، فرأت كل ما عملت من خير محضرًا، وكلما لاحظت ذاتها ازدادت فرحًا وسرورًا ولذة، وذلك هو جزاؤها ونعيمها وجنتها لا نقلة لها أبدًا كما قال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا.
وإذا كانت أعمالها سيئة وسيرتها جائرة، وآراؤها فاسدة وأخلاقها ردية، ومعارفها باطلة؛ أكسبتها هذه الخصال صورة قبيحة سمجة وحشة وهي لا تحس بها ما دامت مربوطة بالجسد مشغولة بالمحسوسات مستروحة إلى بهجة الطبيعة وزينة الهيولى، فإذا جاءت سكرة الموت وحسرة الفوت بالحق التي لا بُدَّ لكل شخص من ذلك، ولكل أجل مسمًّى، وهي مفارقة النفس الجسد فارقته على رغم منها جبرًا وقهرًا وبطلت آلات الحواس التي تنال بها اللذات الجسمانية وبقيت فارغة، نظرت عند ذلك إلى ذاتها فرأت ما عملت من سوء محضرًا وتحيرت وهي صورة قبيحة سمجة وحشة واغتمت وحزنت واستوحشت كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ، وودت أن لو كان بينها وبينه أمدًا بعيدًا وتبقى على تلك الحالة متألمة معذبة في ذاتها، فذلك هو جزاؤها وأليم عذابها وجحيمها وعقابهما، كما قال النبي ﷺ: «إنما هي أعمالكم التي ترد إليكم»، وكما قال الله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى، إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ، فأما أصحاب اليمين ففي سدر مخضود، وأما أصحاب الشمال ففي سموم وحميم. وفقك الله وإيانا وجميع إخواننا للسداد، وهداك وإيانا وجميع إخواننا سبيل الرشاد وصلى الله على النبي محمد وآله الأمجاد.