الرسالة الرابعة عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم
(١) فصل
اعلم أيها الأخ، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأنَّا قد فرغنا من بيان كيفية نشوء الأنفس الجزئية في الأجساد البشرية، فنريد أن نذكر في هذه الرسالة طاقة الإنسان في المعارف، وإلى أي حد ينتهي فنقول:
اعلم أن الله تعالى لما خلق جسد آدم عليه السلام، أبي البشر، من التراب وصوَّره في أحسن تقويم، وأحسن صورته وأحكم بنيته، ثم نفخ فيه من روحه؛ صار ذلك الجسد الترابي بتلك الروح الشريف حيًّا عالمًا قادرًا، ثم فضله بما علمه من الأسماء على بعض الملائكة، لا عليهم كلهم، وأمرهم بالسجود له؛ من أجل تلك الروح الشريفة التي نفخ فيه لا من أجل الجسد الترابي. وإبليس اللعين لما نظر إلى الجسد الترابي، وعرف ورأى تلك الروح الشريفة الفاضلة العالمة قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ؛ إذ النار خير من التراب؛ لأن النار جسم مضيء متحرك يطلب العلو، والتراب جسم مظلم ساكن يطلب السفل. وكان هذا منه قياسًا خطأً؛ لأن السجود لم يكن للجسد الترابي بل لتلك الروح الشريفة؛ لأن الإنسان إنما يأكل ويشرب وينام من أجل الجسد، ويتحرك ويحس ويتكلم ويعلم بالنفس الشريفة التي من أمر الله.
ثم اعلم أن العلم غذاء للنفس وحياة لها، كما أن الطعام وجميع المتنولات غذاء وشراب للجسد وحياة له.
ثم اعلم أن العلم بالأشياء بعضه طبيعي غريزي مثل ما يدرك بالحواس ومثل ما في أوائل العقول، وبعضه تعليمي مكتسب مثل الرياضات والآداب وما يأتي به الناموس.
فمن الناس من لا يرغب في التعليم والتأدب، بل يتكل على ما تدركه الحواس أو ما في قرائح العقول.
ومنهم من يرغب في التعلم والتأدب، لكن من الناس من لا يقبل من العلم إلا ما يتصور في نفسه أو يقوم عليه برهان هندسي أو منطقي.
ومنهم طائفة لا تقبل إلا ما يدل عليه قول الشاعر، وطائفة لا تقبل إلا برواية وخبر، ومنهم طائفة لا تقبل إلا بالاحتجاج والجدل، ومنهم من يرضى بالتقليد ويقنع بذلك.
وينبغي لنا أن نبين مبلغ قوة الإنسان في إدراك المعلومات والمحسوسات إلى أي نهاية، وهي جهده وطاقته في معرفة حقائق الأشياء وإلى أي حد ينتهي؛ لأن في الناس طائفة من العقلاء لما تفكروا في حدوث العالم وبحثوا عن العلة الموجبة لكونه بعد أن لم يكن لم يعرفوها ولم يتصوروا في عقولهم بدء كون العالم، فدعاهم جهلهم عند ذلك إلى القول بقدم العالم، ومنهم من لاح له شيء غير ما لاح للآخر، فاختلفت أقاويلهم في حدوث العالم والعلة الموجبة لكونه بحسب ما لاح لواحد واحد، ونحن قد بيَّنا في رسالة لنا في المبادئ ما تلك العلة، فاعرفْها من هناك.
(٢) فصل
ثم اعلم أن من تَفكَّر في كيفية حدوث العالم وعلة حدوثه بعد أن لم يكن، ويريد أن يعرفها أو يتصور كيف كان ذلك وهو جاهل لا يعرف كيفية تركيب جسده، ولا يتفكر في بنية هيكله، ولا يدري كيف كان بدء كون ذاته، ولا يعلم ماهية جوهر نفسه، ولا كيفية ارتباطها بجسده، ولا لأي علة ربطت به بعد أن لم تكن مربوطة، ولا لأي علة تفارق الجسد في آخر العمر عند انقضاء الأجل، ولا تدري أين تذهب إذا فارقت الجسد، ولا من أين جاءت قبل ذلك؛ هو يريد أن يعرف بدء كون العالم وكيفية حدوثه وما تلك العلة الموجبة لكونه مع جهله بما ذكرنا من هذه الأشياء التي هي أقرب إلى فهمه وأسهل لتعليمه وأمكن لتصوره؛ فمثله كمثل رجل لا يطيق حمل مائة رطل فهو يتكلف حمل ألف رطل، أو كمثل مَن لا يقدر على المشي وهو يريد أن يعدو، أو من لا يبصر يده إذا أخرجها وهو يريد أن يرى ما وراء الحجب.
ثم اعلم أنه إذا اعتبر أحوال الإنسان ومجاري أموره من ذلك وحال جثته، فإنه متوسط بين الصغر والكبر؛ فلا صغير جدًّا ولا كبير مفرط، فهكذا حال بقائه فهو لا طويل العمر في الدنيا ولا قصير المدة فيها.
وهكذا حال وجوده فلا هو متقدم الوجود على الأشياء ولا متأخر عنها؛ لأن من الموجودات ما هو أقدم وجودًا منه كالأركان والأفلاك، ومنها ما هو متأخر الوجود عنه كالموجودات الصناعية.
وهكذا حال مكانه متوسط؛ لا هو من الطرف الأقصى من العالم، ولا هو في المركز سواء.
وهكذا حال رتبته في الشرف والدماثة متوسط؛ لأن من الموجودات ما هو أشرف منه كالملائكة المقربين، ومنها ما هو أدون منه كالبهائم.
وهكذا حاله في القوة والضعف متوسط فلا هو قوي متين ولا ضعيف مهين؛ لأن من الحيوانات ما هو أقوى منه كالأسد، ومنها ما هو أضعف منه كالحيوانات الصغار.
وهكذا حاله في الجهل والعلم متوسط فلا هو راسخ في العلم كالملائكة ولا هو جاهل مهمل كالبهائم.
وهكذا حال معلوماته متوسط المقدار بين الطرفين؛ وذلك أن الإنسان غير محيط بالأشياء المفرطة الكثيرة كتضاعف العدد الكثير، وهو مدرك للأشياء القليلة كالجزء الذي لا يتجزأ الذي هو في جذر العشرة وما شاكله.
وهكذا حال قدرته على الموزونات، فإنه لا يمكنه وزنها إلا المتوسط منها بين الثقيل المفرط الثقل كالجبال، وبين الخفيف النذر الخفة كالذرة.
وهكذا حال قدرته على مساحة الأبعاد والمقادير لا يقدر على مساحة إلا المتوسط منها بين الواسع المفرط السعة كالبراري والبحار، وبين الضيق اللطيف كجرم الإبرة وجرم الخردلة.
وهكذا حال قوة حواسه على إدراك المحسوسات؛ فلا يحس منها إلا المتوسطات بين الطرفين.
وذلك أن القوة الباصرة لا تقوى على إدراك الألوان في الظلمة الظلماء، ولا على إدراكها في النور الباهر كالنظر إلى عين الشمس في نصف النهار في يوم الصيف.
وهكذا قوة السمع لا تطيق استماع الصاعقة لشدتها وجلالتها، ولا تقوى أيضًا على إدراك دبيب النملة لخفائها وخمولها.
وهكذا القوة الذائقة والقوة الشامَّة والقوة اللامسة، لا تقوى على إدراك محسوساتها إلا المتوسطات منها؛ وذلك أن الحر المفرط والبرد المفرط يفسدان المزاج ويخرجانه عن الاعتدال.
وهكذا الطعم المفرط وهكذا الرائحة المفرطة يفسدان آلات الحواس ويغيران المزاج والإحساس، وهذا يكون من اعتدال المزاج. وقد بيَّنا في رسالة لنا كيفية إدراك الحواس لمحسوساتها واحدًا واحدًا، فاعرفه من هناك.
وهكذا قوة علم الإنسان ومعرفته بالأمور الماضية وأخبار الماضين مع الزمان البعيد لا يمكنه علمها إلا ما قرب كونه من زمانه؛ مثل معرفتنا بآبائنا وأجدادنا القريبين منا، ومثل علمنا بأخبار بني إسرائيل وما كان بعد الطوفان أو قبل ذلك إلى آدم عليه السلام.
فأما ما كان قبل آدم عليه السلام من أخبار الملائكة وقصة الجان الذين كانوا يفسدون في الأرض قبل خلق آدم عليه السلام فليس للبشر علم بها، ولا لهم ميل إلى معرفتها إلا من طريق الوحي عن الملائكة تسليمًا.
وهكذا علْم الإنسان بالأمور الآتية في الزمان المستقبل لا يمكنه معرفتها والاستدلال على كونها بدلائل النجوم إلا ما يكون قريب الكون؛ مثل استدلال المنجمين بالقرانات التي تكون في كل عشرين سنة مرة، وفي كل مائتين وأربعين سنة مرة، وفي كل تسعمائة وستين سنة مرة.
وأما القرانات التي تكون في كل ثلاثة آلاف وثمانمائة وأربعين سنة مرة وفي كل سبعة آلاف سنة، فليس على معرفة الاستدلال بها على الكائنات سبيل؛ لبعدها من الزمان المستقبل.
وهكذا قوة عقل الإنسان متوسطة لا يقوى على تصور الأشياء المعقولة إلا لما كان متوسطًا بين الطرفين من الجلالة والخفاء؛ وذلك أن من الأشياء المعقولة ما لا يمكن عقل الإنسان إدراكه وإحاطة العلم به لجلالته وشدة ظهوره وبيانه ووضوحه؛ مثل جلالة الباري عز وجل، فإنه لا يقوى عقل الإنسان على إدراكه وإحاطة العلم بماهية ذات جلالته وشدة ظهوره ووضوح بيانه لا لخفاء ذاته وشدة كتمانه.
ومثل عجز الإنسان عن تصور صورة العالم بكليته لشدة كبره وظهوره لا لصغره وخفائه، ومثل عجزه أيضًا عن إدراك الصور المجردة عن الهيولى لشدة صفائها ولطافتها ونفوذها في الأشياء.
ومن الأشياء ما لا يمكن إدراكها وتصورها لخفائها ودقتها وصغرها مثل الجزء الذي لا يتجزأ، ومثل الهيولى الأولى المجردة من الصور والكيفيات، ومثل عجزه أيضًا عن معرفة كيفية تصوير الجنين في الرحم وخلقة الفرخ في جوف البيضة والحب في الغلف والثمر في الأكمام.
ثم اعلم أن هذه الأشياء التي تدرك حسًّا مفروغ من صنعتها، فأما في وقت تكوينها فالحس لا يدركها والوهم لا يتصورها، فمن يريد أن يعلم كيفية حدوث العالم وعلة كونه فينبغي أن يتفكر أولًا في هذه الأشياء، فيعلمها ويتصور كيفية حدوثها، ثم بعد ذلك يتفكر في كيفية حدوث العالم وعلة كونه، فمن ادعى أنه يعرف ذلك فليخبرنا عن صورة العالم كيف هي على ما هي عليه الآن؛ لأن حواسه هي تباشرها وتشاهدها، ودع ما كان مضى مع الزمان الماضي لنسيانه عن ذلك أو الذي يكون في الزمان المستقبل كيف يكون؛ أو فليخبرنا عن علة كثرة الكواكب وعلة أبعادها ومقاديرها وأعظامها وحركاتها وما هي عليه الآن، وما العلة في ذلك؛ أو فليخبرنا عن المجرة وما هي، فإنَّا لم نجد إلى وقتنا هذا أحدًا من الحكماء قد قال فيها قولًا مُرضيًا؛ أو فليخبرنا عن شيء واحد وهو الأثر الذي نراه في وجه القمر ما هو، والناس يشاهدونه دائمًا، ودع ما لا يشاهدونه من كون العالم؛ أو فليخبرنا عن علة اختلاف أجناس المعادن وأشكال الناس وهياكل الحيوان بما هي عليه الآن، وما العلة في ذلك.
(٣) فصل
ثم اعلم أنه ليس إلى معرفة علل هذه الأشياء وصول، إلا أن تؤخذ من الأنبياء عليهم السلام تقليدًا كما أخذوها عن الملائكة تسليمًا.
ثم اعلم أن نسبة علم البشر إلى علم الملائكة ومعرفتهم كنسبة علم حيوان البحر إلى حيوان البر ومعرفتها بأمورها، وكعلم حيوان البر إلى علم البشر ومعرفته بأمورها؛ وذلك أن حيوان الماء لها حس وحركة وتمييز تتصرف فيها من طلب غذائها ومصالحها ومنافعها والهرب من عدوها وعرفانها ذكرانها وإناثها وأبناء جنسها.
فأما إحساسها بأحوال حيوان البر ومعرفتها بأمورها فليس لها إلى معرفة ذلك إلا شيء يسير.
وهكذا حيوان البر بأحوال البشر ومعرفتها بأمور الناس فليس لها إلا شيء يسير.
وهكذا علم البشر بأحوال الملائكة ومعرفتهم بأمور الذين في فضاء الأفلاك وطبقات السموات فليس لهم بها علم إلا شيء يسير.
وهكذا أحوال الملائكة في مراتبها ومقاماتها متفاوتة متباينة، الأول فالأول والأشرف فالأشرف، وفوق كل ذي علم عليم، وإلى ربك المنتهى، كما أخبر عز وجل عن أحوال الملائكة في مراتبها ومقاماتها فقال تعالى: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ * مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ، وقال في حكاية عن الملائكة: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ، وقال: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ؛ يعني أجناس الملائكة وقبائل الجن والإنس والحيوانات أجمع.
ثم اعلم أن علم جميع الخلائق بالنسبة إلى علم الله تعالى ليست إلا كالجزء اليسير كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ؛ يعني علم الله، قال: وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ. ونحن قد جعلنا هذه الرسالة تنبيهًا لإخواننا على نهاية مبلغ طاقة الإنسان في العلوم والمعارف، وتوبيخًا لأقوام جهال يعارضون العلماء بالكلام والجدال ويسألونهم عن علل أشياء ليس في طاقة الإنسان معرفتها، وهم قد تركوا البحث عن أشياء واجب عليهم تعلمها والبحث عنها ثم لا يسألون عنها ولا يتفكرون فيها لجهلهم.
(٤) فصل
اعلم أنه ليس من علم ولا عمل ولا تجارة إلا وبين أهلها فيها منازعة وخلف، فمن ذلك الخلف الذي بين العلماء في حدوث العلم وقدمه، وهما طائفتان الفلسفية والشريعة؛ فالأنبياء عليهم السلام كلهم يرون ويعتقدون أن عالم الأجسام محدث لا شك فيه.
وهكذا يرى بعض الفلاسفة الفضلاء الراسخون في العلم، فأما المتفلسفة الناقصون فمشككون فيما يقولون متحيرون فيما يزعمون من قدم العالم.
وهكذا حكم كثير من أتباع الأنبياء عليهم السلام والمقربون بما خبرت به، فإنهم شاكون أيضًا فيما يقلدون ومتحيرون فيما يعتقدون. وأعيذك أيها الأخ الفاضل بالله أن تكون منهم؛ لأن ما مَثَلُهم في هذه الرسالة وما يختلفون فيها إلا كمثل أولئك الصبيان الأغبياء البُلْه الجهلاء.
وذلك أنه كان رجل حكيم له أولاد صغار، وكان فيهم جماعة أذكياء فُهَماء نجباء، وكان فيهم جماعة أغبياء بله جهلاء، فنظر أولئك الإخوة يومًا في بعض خزائن أبيهم فوجدوها مملوءة بالحلاوة، مختلفة الطعام والألوان والروائح والأشكال، فتأملوها وفكروا فيها، فوقع في أفكارهم أن قالوا ألَا ترى مَن عمل هذه العجائب وصوَّر هذه الأشكال ومَن صنع هذه الألوان.
فمن كان منهم ذكيًّا فهيمًا مدركًا نجيبًا عَلِمَ أنه عملُ صانعٍ حكيم، ومَن كان منهم غبيًّا أبله ساهيًا خفيَ عليه ذلك وانغلق.
ثم تَفكَّر الذين علموا أنه صنعة الحكيم أترى من أي شيء عَمِلَها وبأي شيء صوَّرها. فمَن كان منهم أذكى وأفهم علم أنه من شيء آخر عملها، ومَن كان دونهم في الفهم والذكاء خفي عليه ذلك.
ثم تفكر الذين علموا أنه من أي شيء عملها ترى كيف عملها ولم صورها بهذه الأشكال. فمن كان منهم أذكى وأفهم وأنجب عَقَلَ ذلك وتصوَّرها وتحقق واستغنى عن سؤالِ لِمَ وكيف. ومن كان منهم دون ذلك في المرتبة خفي عليه وقصر فهمه عنه وتوقف يتفكر ويتروى في ذلك.
ثم عند ذلك سألوا إخوة لهم بالغين عاقلين عن هذه الحلاوة، فأجابوا أنها عَمِلَها الحلواني، فقالوا: مَن الحلواني؟ فقالوا: صانع حكيم. فمنهم مَن فَهِمَ وعَقَلَ وصدقهم، ومنهم من خفي عليه لغباوته فكذب وأنكر؛ إذ لم يرَ الحلواني قبل ذلك ولا سمع بذكره.
ثم سأل أولئك الإخوة الصغار إخوانهم الكبار البالغين العقلاء أترى من أي شيء عمل الحلواني هذه العجائب، فأجابوهم أنه عملها من السكر والدهن والنشاء. فمنهم من صدقهم إذ كان موفقًا هادئًا مؤيدًا رشيدًا، ومنهم من كذب وأنكر إذ لم يروا هذه الأشياء عيانًا ولم يعرفوها عقلًا.
ثم قالوا: أرونا منها شيئًا. فقالوا لهم: لم يبقَ للصانع منها شيء، بل استعملها كلها. فمنهم من كان موفقًا فصدقهم، ومنهم من كذب وأنكر ولم يرشد.
ثم إنهم سألوهم كيف عمل الحلواني هذه، قالوا بنى الدبكدان وأوقد النار ونصب الطنجير وصب فيه الدهن، وطرح فيه السكر وحركها بإسطام وعقدها بالنشاء. فمن كان منهم أذكى فهمًا تصوره بجودة ذكائه وحسن رويته وقريحة قلبه وصفاء جوهر نفسه وضياء نور عقله، ومنهم من عميت عليه الأنباء إذ لم يكن له ذكاء ولا لقلبه صفاء ولا لنور عقله ضياء.
ثم إن أولئك الإخوة اختلفوا فيما بينهم، وصاروا فرقًا يتجادلون فيما بينهم في هذه المسألة ويتنازعون ويتخاصمون، وأنشبت بينهم نيران الفتنة والبغضاء.
ثم إن والدهم الشفيق رثى لهم ورحمهم لما رأى ما وقعوا فيه من المحنة والبلوى، وأمر بعض إخوانهم العقلاء المستبصرين أن يكونوا قضاة وعدولًا بينهم ويقضوا الحكم بأرفق ما يقدرون عليه.
فقال لهم: إذا سألكم إخوتكم وتحاكموا إليكم فيم يختلفون فيه، فأرشدوهم ودلُّوهم على ذلك. فكان من جواب أولئك الإخوة القضاة إذا سئلوا عن عمل هذه الحلاوات، أجابوا إخوتهم بأنها مِن عمل أبيهم، فسكنت نفوس أولئك الإخوة الصغار إلى قولهم؛ لأن معرفتهم بأبيهم أقرب إلى فهمهم من معرفتهم بالحلواني.
وإذا سألوهم من أي شيء عمل، قالوا لا من شيء تعرفونه، فسكنت نفوسهم إلى قولهم أكثر من سكونهم إلى قول مَن أجاب أنه عمل من السكر والشيرج والنشاء؛ لأن الصبيان قد تبين لهم بأن أشياء كثيرة ما رأوها بعدُ ولا عرفوها.
وإذا سألوهم كيف عملها وكيف صورها، قالوا كما شاء وكيف شاء.
وكانت هذه الجوابات أسكن لنفوسهم مِن قول مَن يطول فيه الخطب، وقال كيت وكيت وفعل وصنع.
فهذا مثل اختلاف العلماء في حدوث العالم وقدمه والسائلين لهم وإخوتهم المجيبين عنه، فمَثل العالم بما فيه من العجائب وطرق أجناس الموجودات وغرائبه وصنوف صنائع المصنوعات، كمثل تلك الخزانة المملوءة من الحلاوة.
ومَثل السائلين عن حدوث العالم وكيفية صنعته وعن هيولاه وصنايعها، كمثل سؤال أولئك الإخوة الصغار الضعفاء العقول القليلي الفهم.
ومَثل ذلك الإخوة العقلاء الذين سئلوا فأجابوا بشرح طويل فأوقعوا الخلف بين الإخوة، كمثل الفلاسفة في أجوبتهم عن كيفية حدوث العالم والهيولى والصورة والعنصر والطبيعة وما شاكلها من الألفاظ الغريبة المعاني البعيدة التصور.
ومَثل أولئك الإخوة القضاة والعدول في أجوبتهم كمثل الأنبياء عليهم السلام وخلفائهم.
ومَثل ذلك الأب الشفوق الرحيم هو الباري تعالى باعث الأنبياء عليهم السلام؛ ليكونوا قضاة بين خلقه فيما يختلفون فيه من هذه المسائل، ويجيبونهم بحسب ما يليق بعقولهم ومبلغ فهمهم.
(٥) فصل
ثم اعلم أنَّا قد أخبرنا عن علة حدوث العالم وبينا كيفية صنعته وماهية هيولاه وصورته في المبادئ العقلية مثل ما ذكر القدماء الفضلاء الموحدون منهم القائلون بحدوث العالم.
ولكن يحتاج الناظر فيها والسائل عن هذه المسائل أن تكون له نفس زكية وفهم دقيق وقوة روية وجودة تصور روحانية كما يفهمها، فمن لم يفهم ما وصفنا فينبغي له أن يقنع بما قالت الفلاسفة؛ إن العالم معلول وعلته الباري. وربما قالت الأنبياء بأجمعها عليهم السلام إن العالم بأسره مخلوق وإن الله عز وجل هو خالقه ومبدعه ومخترعه.
فإن لم يعقل ما قالت الفلاسفة وما أخبرت عنه الأنبياء عليهم السلام، ولم يثق بقولهم ولم تسكن نفسه إلى حكمهم، ولم يطمئنَّ إلى قولهم ويتكل على ما تخيله القوة الوهمية؛ فلا ينبغي له أيضًا أن يثق بحكمها ولا أن يسكن إلى تخيلها؛ لأنه تخيل ما له حقيقة وما لا حقيقة له، فلا يوثق به ولا يحكم بصحته كما لا يثق ولا يحكم بصحة القوة الباصرة إذا أَرَتْكَ لون شيء من الطعام بأن تحكم على حقيقته إلا بعد أن تستعين بالقوة الشامَّة، فإن عرفت حقيقته وإلا استعنت بالقوة الذائقة.
فهكذا ينبغي لك يا أخي إذا شككت في مسألة مشكِلة ألا تثق بنفسك دون أن تستشير فيها إخوانك الكرام الفضلاء، كما تستعين في أمور الدنيا إذا لم تنهض بشيء منها بإخوانك وجيرانك وأصدقائك الفضلاء الكرام.
فهكذا يجب أن تكون سيرتك في أمر الدين وطلب الآخرة. وفقك الله أيها الأخ للسداد، وهداك إلى سبيل الرشاد وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد.
(٦) فصل
ثم اعلم أن الحكماء الأولين قد تكلمت في فنون من العلوم وضروب من الآداب وغرائب من الحِكَم كثيرة لا يحصي عددها إلا الله الواحد القهار.
فمنها من تكلم في تركيب الأفلاك وأحكام النجوم.
وتكلموا أيضًا في الطب والطبائع والكائنات التي تحت فلك القمر، وقوم من العلماء الشرعيين ينكرون أكثره.
إما لقصور فهمهم عما وصف القوم أو لتركهم النظر فيها واشتغالهم بعلم الشرع وأحكامه أو لعناد بينهما.
وكذلك أيضًا إن أكثر من ينظر في العلوم الحكيمة، من المبتدئين فيها والمتوسطين من بينهم، يتهاونون بأمر الناموس وأحكام الشريعة ويزرون بأهله ويأنفون من الدخول تحت أحكامه إلا خوفًا وكرهًا من قوة الملك الذي هو أخ النبوة.
كل ذلك لقصور فهم الفريقين جميعًا عن معرفة حقائق هذه الأشياء المذكورة ولقلة علمهم أيضًا بماهيات الكائنات.
ولما كان مذهب إخواننا الفضلاء الكرام النظر فيها جميعًا والكشف عن حقائق أشيائها، أعني العلوم الحكمية والنبوية جميعًا، وكان هذا العلم بحرًا واسعًا وميدانًا طويلًا؛ احتجنا أن نتكلم فيما دعت الضرورة إلى عمل هذه الرسائل التي هي إحدى عشرة وخمسون رسالة، والكلام فيها بأوجز ما يمكن وإيراد النكت التي هي اللب، ولا يفهم ذلك إلا بأمثال تضرب ليقرب من فهم المبتدي النظر في العلوم، وتسهل تصور الحقائق للمتأملين.
ثم اعلم أن العلوم الحكمية والشريعة النبوية كلاهما أمران إلهيان يتفقان في الغرض المقصود منهما الذي هو الأصل ويختلفان في الفروع.
وذلك أن الغرض الأقصى من الفلسفة هو ما قيل إنها التشبه بالإله بحسب طاقة البشر كما بيَّنا في رسائلنا أجمع، وعمدتها أربع خصال؛ أولها معرفة حقائق الموجودات، والثانية اعتقاد الآراء الصحيحة، والثالثة التخلق بالأخلاق الجميلة والسجايا الحميدة، والرابعة الزكية والأفعال الحسنة.
والغرض من هذه الخصال هو تهذيب النفس والترقي من حال النقص إلى التمام، والخروج من حد القوة إلى الفعل بالظهور لتنال بذلك البقاء والدوام والخلود في النعم مع أبناء جنسها مع الملائكة.
وهكذا الغرض من النبوة والناموس هو تهذيب النفس الإنسانية، وإصلاحها وتخليصها من جهنم، عالم الكون والفساد، وإيصالها إلى الجنة ونعيم أهلها في فسحة عالم الأفلاك وسعة السموات والتنسم من ذلك الروح والريحان المذكور في القرآن، فهذا هو المقصود من العلوم الحكيمة والشريعة النبوية جميعًا.
وأما اختلافهما في الطرق المؤدية إليها فمن أجل الطبائع المختلفة والأعراض المتغايرة التي عرضت للنفوس، وبذلك اختلفت موضوعات النواميس وسنن الديانات ومفروضات الشرائع، كما اختلفت عقاقير الأطباء وعلاجاتها بحسب اختلاف الأمراض العارضة للأجساد من الآلام والأوجاع وبحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة.
ومثال آخر في اختلاف سنن الديانات النبوية والفلسفية جميعًا وفنون مفروضات النواميس والمقصد واحد، كاختلاف طرقات القاصدين نحو بيت الله الحرام وتوجههم شطره بحسب مواضع بلدانهم ومراحلهم ومرافقهم من البيت شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالًا كما بيَّنا في رسالة جغرافيا.
(٧) فصل
ثم اعلم أن الموجودات كلها نوعان: كلية وجزئية.
فالموجودات الكلية الدائمة الوجود والبقاء؛ لأنها ابتدأت في الترتيب من أشرفها وأتمها إلى أدونها وأنقصها كما بيَّنا في رسالة المبادئ العقلية.
والموجودات الجزويات دائمة في الكون متوجهة نحو التمام؛ لأنها تبتدئ بالكون من أنقص الوجود متوجهة إلى أتم الوجود، ومن أدون الأحوال مترقية إلى أشرفها وأتمها.
ثم اعلم أن الإنسان هو من الأمور الجزوية، وهو مجموع من جوهرين: أحدهما هذا الجسد الجسماني، والآخر هو النفس الروحانية؛ فأنقص حالات جسده ابتداؤه من النطفة متوجهًا إلى أن يصير رجلًا جلدًا، وأنقص حالات نفسه وأدونها أن تكون ساذجة لا تعلم شيئًا كما قال الله تعالى: وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وأتم حالاتها أن تخرج كل ما في قوتها من الفضائل إلى الفعل، وهو أن يصير الإنسان مؤمنًا حقًّا عالمًا ربانيًّا حكيمًا فيلسوفًا محققًا، كما قال تعالى: وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ، وقال: عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، وقال: كُونُوا رَبَّانِيِّينَ.
ثم اعلم أن كل عمل متقَن فمِن صانعٍ حكيم في أولية العقل، وكل فاعل حكيم فله في فعله غرض ما، والغرض هو غاية يسبق إليها وهم النفس، وإذا بلغ الفاعل إلى الغاية قطع الفعل.
ثم اعلم أن دوران الأفلاك فعل متقن؛ ففاعله إذَنْ حكيم، فله إذَنْ في إدارة الأفلاك غرض ما، فإن كان قد بلغ إلى غرضه فسبيله أن يقطع الفعل ليقف الفلك عن الدوران.
فأما الأجسام، فإن أفضلها ما كان يظهر عنه أفضل فعل، وأجلَّ النفوس ما بدا منها العلم وزال عنها الجهل.
ثم اعلم أن ألذَّ ما يأكل الإنسانُ هو العسل، وأنعم ما يلبس هو الإبريسم، فإن كان الفاعل لهما هي الدودة والزنابير، فإذَنْ أصغر الأجسام أكرمها فعلًا، وقد قام البرهان بأن الجسم لا فعل له البتة.
ولا يخفى عليك بأن الزرع والشجر في إخراج الحب والثمر، وغايتهما الحصاد، وتمام الغرض منهما بعد ذلك تمام الحيوان في الإدراك، وغايته النتاج، وحصاده وصرامه الموت.
فالغرض من الحيوان إذَنْ بعد الموت، كذلك الحَبُّ إذا لم يتم ولم يستحكم قبل حصاد الزرع لا ينتفع به بعد الحصاد، كذلك الثمر إذا لم ينضج وينعقد قبل إخراجه لم ينتفع فيما يراد منه.
وهكذا حكم النفس الإنسانية إذا هي لم تتم بالمعارف الحقيقية صورتها، ولم تستتم بالأخلاق الجميلة جوهرها، ولا بالآراء الصحيحة عقلها، ولا بالأعمال الزكية ذاتها في الدنيا؛ لا تنتفع بعد مفارقة الجسد بحياتها، ولا تستقل بذاتها، ولا تلتذ بالنعيم في الآخرة على التمام والكمال. كما أن الجنين إذا لم تستتم في الرحم خلقته ولم تستكمل هناك صورته، لا ينتفع بالحياة في الدنيا.
فهكذا حكم النفس؛ لأن موت الجسد ولادة النفس كما أن الطلق ولادة الجنين. فانتبه أيها الأخ من نوم الغفلة ورقدة الجهالة؛ فإن الغرض في ذلك أن تصير ملكًا بالفعل؛ فاجتهد غاية الجهد، وقوِّ ظهرك بالحبل المتين واعتصم بحبل الله وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ واجتهد أن تتوجه نحو الصراط المستقيم؛ إذ ذلك أقرب طرق من الخط المعوج إلى الغرض الأقصى لتنال بذلك السعادة وبقاء الأبد، وتتلذذ بلذات النعيم من الروح والريحان والحور والغلمان. وفقك الله وإيانا وجميع إخواننا للسداد، إنه رءوف بالعباد، وبحق محمد وآله الأمجاد، صلوات الله عليهم إلى يوم التناد.