الرسالة الخامسة عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم
(١) فصل
اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، إنه لما فرغنا من بيان طاقة الإنسان في المعارف إلى أي حد تنتهي، وبيَّنا الغرض من النواميس الشرعية النبوية والعلوم الحكمية الحقيقية، وهو تهذيب النفس فحسب واستدعاء الخلق إلى الله تعالى، فنريد أن نذكر في هذه الرسالة ماهية حكمة الموت والحياة وما الحكمة في وجودهما.
فنقول: اعلم أن افتتاح جميع العلوم الحقيقية هو في معرفة الإنسان نفسه، ولما كان الإنسان هو جملة مجموعة من جوهرين متباينين وأعراض تحلهما، أحدهما هذا الجسد الجسماني والآخر هو النفس الروحانية، كما بيَّنا في الرسالة التي ذكرنا فيها أن الإنسان عالم صغير، وكان جوهر النفس أشرف من جوهر الجسد صار علم الإنسان بجوهر النفس وأحوالها أشرف من علمه بجوهر الجسد وأحواله.
وقد بيَّنا ماهية الجسم وصفاته المخصوصة به في رسالة الهيولى ورسالة الحاس والمحسوس، ونريد أن نتكلم ها هنا في علم النفس وأحوالها، فنقول:
لما كان علم الإنسان ومباحثه بالمعلومات من تسعة أوجه — كما بيَّنا في رسالة الصنائع العلمية — وهي: هل هو، وما هو، وكيف هو، وكم هو، وأين هو، ومتى هو، ولمَ هو، ومن هو، كما بيَّنا ذلك في رسالة قاطيغورياس.
ثم نريد أن نذكر من هذه المباحث في أمر النفس الجزئية الإنسانية طرفًا، فنقول: ما هي، وكيف هي، وكم هي، مع هذا الجسد وأين كانت قبل رباطها، وكيف تكون حالها إذا فارقته، ولم ربطت بالجسم، وما الغرض في ذلك؟
واعلم أنه قد بيَّنا ماهيتها في رسالة العقل والمعقولات، وكميتها في رسالة العالم إنسان كبير، وأين كانت النفس الجزئية قبل رباطها بالأجساد في رسالة مسقط النطفة، وأين تكون إذا فارقت الجسد في رسالة البعث والقيامة، ونريد أن نذكر في هذه الرسالة الملقبة بحكمة الموت كيف كونها مع الجسد ولم ربطت بالجسم ولم تفارقه.
ولما كانت الأنفس الجزئية قُوًى منبثة من النفس الكلية في الأجسام الجزئية التي تحت فلك القمر، احتجنا أن نذكر أولًا النفس الكلية التي هي نفس العالم بأسره، ولم ربطت بالجسم الكلي الذي هو جملة العالم من أقصى فلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض بعون الله تعالى.
(٢) فصل في غرض رباط النفس الكلية بالجسم الكلي حسب ما تبين ها هنا
فنقول: إنه لما كانت الموجودات كلها مرتبة، بعضها تحت بعض، متعلقة في الوجود بالعلة الأولى، الذي هو الباري تعالى، كتعلق العدد وترتيبه عن الواحد الذي قبل الاثنين، كما بيَّنا في رسالة المبادئ العقلية، وكانت النفس أحد الموجودات، وكانت مرتبتها دون العقل وفوق الجسم المطلق، وكان الجسم فارغًا من الأشكال والصور والنقوش والحياة قابلًا لها بالطبع، وكانت النفس حية بالذات علامة بالقوة فعالة بالطبع، ولم يكن من الحكمة الإلهية والعناية الربانية أن تترك النفس فارغة غير مشغولة بضرب من الحكمة، وأن يكون الجسم مع قبوله للتمام عاطلًا ناقص الحال، ولم يكن للنفس أن تتحكم على الموجودات التي فوق رتبتها الذي هو العقل الفعال عطفت النفس بواجب الحكمة على الجسم المطلق، إذ كان دونها في الرتبة، فتحكمت فيه بالتحريك له والشكل والتصاوير والنقوش والأصباغ، ليتم الجسم بذلك وتكمل النفس أيضًا بإخراج ما في قوتها من الحكمة والصنائع إلى الفعل والظهور والإظهار تشبهًا بحكمة الباري تعالى؛ إذ لم يقتصر على علمه بالكائنات قبل كونها حتى أخرجها إلى الوجود بعد العدم؛ ليظهر الكل للجزء ويشاهد الجزءُ الكلَّ ويخرج ما في القوة من الحكمة والصنائع إلى الفعل والظهور.
فمن أجل هذا ربطت النفس الكلية بالجسم الكلي المطلق الذي هو جملة العالم من أعلى فلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض، وهي سارية في جميع أفلاكه وأركانه ومولداته، ومدبرة لها ومحركة بإذن الله تعالى وتَقدَّس.
(٣) فصل في سريان النفس الكلية في الجسم الكلي
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه إذا فاضت قوى النفس الكلية الفلكية في الجسم الكلي — الذي هو جملة العالم الجسماني — ابتدأت من أعلى فلك المحيط متوجهة نحو مركز العالم، وسرت في الأفلاك والكواكب والأركان الأربعة والأوقات الزمانية أولًا فأولًا، حتى إذا بلغت إلى منتهى مركز العالم اجتمعت كلها هناك، ويكون ذلك سببًا لكون الأجسام الجزئية الكائنة الفاسدة التي دون فلك القمر، وهي الحيوانات والنبات والمعادن؛ لأنها إذا علت إلى أقصى مدى غاياتها، الذي هو الغرض الأقصى بطول الزمان، وعطفت عند ذلك راجعة — أعني تلك القوى نحو المحيط — فيكون سبب بعث الأنفس الجزئية الإنسانية الكلية من الأجسام الفاضلة، وهذا قول مجمل يحتاج أن نشرحه ونبين أيضًا أن الموت حكمة.
واعلم أن الحيوانات كلها تكره الموت وتحب الحياة، ولكن من أجل أن كثيرًا من العقلاء يقولون إن الموت حق، وفي ذلك حكمة، ولا يدرون ما تلك الحكمة، ويحتجون بقوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، ولا يدرون معنى قوله تعالى وما المراد في ذلك، ثم إنهم مع إقرارهم بذلك، كلهم يحبون الحياة ويكرهون الموت، ثم يذمون الحياة عند تنغيص العيش ويتمنون الموت عند الشدائد، احتجنا أن نبين ما الموت وما الحياة، ولم يُكره الموت وتُحب الحياة، وما الحكمة في خلقتهما.
(٤) فصل في اعتبار الموت والحياة
فاعلم أنه إذا فكر العاقل العالم في تركيب هذا الجسد وما هو عليه من إتقان البنية وإحكام الصنعة — كما ذُكر في كتاب التشريح، وكتاب منافع الأعضاء بشرح طويل — من عجائب تأليف أعضائه وغرائب تركيبه وحسن هندام مفاصله، وكيفية تشعب الأعصاب الممتدة على أعضائه وعظامه المؤتلفة عليها المتمكنة بمفاصلها المنتشرة إلى أطراف بدنه المنشأة منها الأوتاد اللينة الرقيقة للحس وللشعور، وكيفية تشعب العروق الواردة التي منشؤها من عمق الكبد المنتشرة في خلل اللحم الموردة للدم إلى أطراف البدن، وكيفية تشعب العروق الضاربة التي منشؤها من القلب المنتشرة في عمق البدن الموصلة للنبض إلى أطراف الجسد، وكيفية طبقات بنية بدنه بعضها فوق بعض، كما بيَّنا في رسالة تركيب الجسد والأوعية المعدة للأغراض المختلفة لجر المنفعة أو لدفع المضرة، وكيفية ابتدائه من النطفة وتتميمه في الرحم ونشئه في أيام الصبى وتكميله في أيام الشباب وتنضيجه في أيام الكهولة؛ فيرى أنه غاية الكمال والحكمة والصواب والإتقان.
ثم إذا تفكر في أيام الشيخوخة وفي ذهاب قوته وتغييرات رونقه وإدباره ونقصانه، ثم هدمه بالموت وتغيره بعد ذلك بالانتفاخ والنتن وفساده، ثم كيف يبلى في التراب ويضمحل ولا يعرف ما وجه الحكمة فيه، فيتحير ويتشكك ويضل عن الصواب؛ فمن أجل هذا احتجنا أن نذكر في هذه الرسالة الموت والحياة ونبين ما الحكمة في خلقهما وكونهما.
واعلم أنه إذا فكر العاقل اللبيب في خلقة الرحم وحال المشيمة وكون الجنين من النطفة، وكيفية ذلك المكان وما قد أعد هناك من المرافق والمرافل لتتميم الخلقة وتكميل الصورة، فيراها في غاية الحكمة وإتقان الصنعة من الصواب وما يتعجب منه أولو الألباب.
ثم إذا فكر في حال الولادة وكيف ينقلب في الرحم وتنخرق المشيمة وتنقطع تلك الأوتار وتسترخي تلك الرباطات التي كانت تمسك الجنين هناك، وكيف يسيل الدم والرطوبات المعدَّة التي كانت هناك لمرافقه، وما تلقاه الوالدة من الجهد والشدة، فإنه يرى شيئًا يدهش العقل ويحير أولي الأبصار والألباب.
ولكن لما كان من حال ما ينقل إليه الجنين من فسحة هذا العالم وطِيب نسيمه وإشراق أنواره، وما يستأنف الطفل من العمل في مستقبل العمر من لذة العيش والتمتع بنعيم الدنيا، وإذا قدر ونجاه الله من ذلك المكان الضيق المظلم الناقص الحال بالإضافة إلى أحوال هذه الدار من التصرف والتقلب، فيرى أن الحكمة والصواب كان في الخروج من هناك.
فهكذا ينبغي لك يا أخي أن تعتبر لتعلم أن حال النفس مع الجسد كحال الجنين في الرحم، وأن حالها بعد الموت كحال الطفل بعد الولادة؛ لأن موت الجسد ولادة النفس.
وكذلك ولادة الطفل ليست شيئًا سوى خروجه من الرحم.
وكذلك ولادة النفس ليست هي شيئًا سوى مفارقة النفس إياه.
(٥) فصل في ماهية الحياة
فنقول: اعلم أن الموت والحياة نوعان: جسداني ونفساني، والحياة الجسدانية ليست شيئًا سوى استعمال النفس الجسد، والموت الجسداني ليس شيئًا سوى تركها استعماله، كما أن اليقظة ليست شيئًا سوى استعمال النفس الحواس، وليس النوم شيئًا سوى تركه استعمالها.
فأما النفس فحياتها ذاتية لها؛ وذلك أنها بجوهرها حية بالفعل علامة بالقوة فعالة في الأجسام والأشكال والنقوش والصور طبعًا وأن موتها هو جهالتها بجوهرها وغفلتها عن معرفة ذاتها، وأن ذلك عارض لها من شدة استغراقها في بحر الهيولى ولبعد ذهابها في هاوية الأجسام ولشدة غرورها في الشهوات الجسمانية، والناس أكثرهم لجهالاتهم بجوهر نفوسهم وغفلتهم عن حياتها الأبدية لا يعرفون إلا هذه الحياة الدنيا الجسدانية الدنية المتقطعة وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ، أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، فصاروا يريدون البقاء في الدنيا ويتمنون الخلود فيها كما قال تعالى: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ، وقال يريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى، وقال: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى، وقال: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ … وآيات كثيرة في ذم الذين يريدون الحياة الدنيا هي حياة الجسد، ويغفلون عن الحياة الآخرة التي هي حياة النفس بالحقيقة، وتلك حياة أبدًا دائمًا، فأما ماهية حياة الجسم فنقول:
اعلم أن الجسد ميت بجوهره، وأن حياته عرضية لمجاورة النفس إياه، كما أن الهواء مظلم بجوهره، وإنما ضياؤه بإشراق نور الشمس عليه والقمر والكواكب.
والدليل على أن الجسد ميت بجوهره ما يُرى من حاله بعد مفارقة النفس له؛ كيف يتغير ويفسد ويتلاشى ويرجع إلى التراب كما كان بديئًا مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ.
(٦) فصل في غرض رباط النفس الجزئية بالجسد الجزئي
فنقول: اعلم أنما ربطت الأنفس الجزئية كيما تكمل بالرياضة وتخرج ما في جوهرها من الحكمة والصنائع والفضائل من حد القوة إلى حد الفعل لتتم الهيولى الجزئية.
وتكمل هي أيضًا ويتشبه ذلك الجزء بالكل، وهو أن تتعلم النفس الجزئية السياسة والتدبير والتهذيب بالأخلاق الجميلة والآراء الصحيحة والأعمال الزكية والمعارف الحقيقية.
وهكذا تشبه الجزء بالكل كما قيل في حد الحكمة إنها التشبه بالإله بحسب الطاقة الإنسانية.
وإذا بلغت النفس الإنسانية إلى أقصى مدى غاياتها، وكملت بما أظهرت من الفضائل وهدم الجسد، نقلت هذه الأنفس بعد مفارقة الجسد إلى حالة أخرى ونشوء آخر أعلى وأشرف من هذا الجسد المؤلف من اللحم والدم والأخلاط الأربعة القابلة للكون والفساد، كما قال الله تعالى: وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ.
ثم إن الله ينشئ النشأة الآخرة، فتكون نسبة تلك الحال التي تنقل إليها النفس بعد مفارقة الجسد بالإضافة إلى هذه الحال، كنسبة حال الجسد في الرحم إلى الحال التي نقل إليها بعد الولادة؛ من فسحة هذا العالم وطيب نسيمه وإشراق نوره، بالإضافة إلى ظلمة الأحشاء والمشيمة والرحم التي هي ثلاث ظلمات.
ثم اعلم أن النفس لا تحس تلك الحال التي تنقل إليها إلا بعد مفارقة الجسد، كما أن الجنين لا يحس بأحوال هذه الدنيا إلا بعد الولادة.
فمن أجل هذا قال النبي — صلى الله عليه وآله: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا.» وإنما نومهم غفلتهم عما بعد الموت.
فإذا جاءت سكرة الموت بالحق التي هي مفارقة النفس الجسد، وعاينت الحقيقة التي كانوا بها يوعدون، كما قال الله تعالى: فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ.
وقال لنبيه عليه السلام: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ؛ يعني الموت بعد مفارقة الجسد، وقال: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ.
فإذَن الموت حكمة؛ إذ لا رجوع لها إلى ربها الرحمن الرحيم إلا بعد الموت، ولا وصول للنفس إلى ما وعد الله ورسوله إلا بعد مفارقتها الجسد يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فإذَن الموت حكمة ومنَّة مِن الله تعالى على عباده، بل بالموت سبب بقاء الحياة الجسدانية وسبب فناء الجسد.
(٧) فصل في حكمة الموت
اعلم بأن لكل كون نشوءًا أولًا وابتداءً، وله غاية ونهاية، إليها يرتقي، ولغايتها ثمرة تجتنى، فمسقط النطفة كون قد ابتدئ، وغايته الولادة التي إليها المنتهى.
والولادة أيضًا كون قد ابتدئ، والموت غايته التي إليها المنتهى، وكما أن ثمرة مسقط النطفة لا تكون إلا بعد الولادة، لأن الطفل لا يتمتع إلا بعد الولادة، فهكذا النفس لا تتمتع إلا بعد مفارقة الجسد؛ لأن موت الجسد ولادة النفس؛ وهي الروح.
وذلك أن موت الجسد ليس شيئًا سوى مفارقة النفس له، كما أن ولادة الجنين ليست شيئًا سوى مفارقة الرحم؛ فإذَن الموت حكمة كما أن الولادة حكمة.
وكما أن الجنين إذا تمت في الرحم صورته، وكملت هناك خلقته، لم ينتفع في الرحم بل ينتفع بعد الولادة في الحياة الدنيا.
كذلك النفس إذا كملت صورتها وتمت فضائلها بكونها مع الجسد، انتفعت بعد مفارقتها الجسد في الحياة الآخرة.
فإذَن الموت حكمة؛ إذ البقاء الأبدي لا يتيسر إلا بعد حصول الموت؛ فالموت سبب لحياة الأبد، والحياة الدنيا سبب للموت في الحقيقة؛ إذ الإنسان ما لم يدخل في هذا العالم لا يمكن له أن يموت، فإذا وجد الإنسان فتكون حياته سببًا لموته وموته سببًا لحياته الباقية أبد الآبدين.
واعلم يا أخي أن مثل النفس مع الجسد كمثل الصبي في المكتب ليتعلم ويتأدب ويرتاض، فإذا تعلم وأحكم ذلك فليس حال أخرى إلا الخروج من المكتب والانتفاع بما حصل في المكتب؛ لأنه قد تم ما يراد منه وبقي الإكرام والمجازات.
فهكذا حكم النفس مع الجسد إذا أحكمت ما يُراد منها بكونها معه، فليس من طريقة إلا المفارقة.
وكما أن الصبي إذا أحكم ما يراد منه في المكتب، استغنى عن حمل اللوح والدواة والمداد والقلم وسواده؛ لأنه كان يكتسب به ويقرأ منه ويمحو ليحصل العلم في نفسه محفوظًا من القرآن والأخبار والأشعار والنحو واللغة وما شاكلها مما يحفظ الصبيان في المكتب؛ فهكذا حكم النفس مع الجسد إذا هي أحكمت أمر المحسوسات بطريق الحواس، وأمر المعقولات بطريق الفكر والروية، وعرفت حقائق أمور هذا العالم من الكون والفساد، وارتقت بعد ذلك بطريق الرياضيات التي هي البراهين إلى معرفة الغائبة عن الحواس، وارتاضت فيها وعرفتها حق معرفتها، واستبان لها أمر عالمها ومبدئها ومعادها، وعاينت بعين البصيرة أحوال أبناء جنسها من السابقين الذين مضوا على سنن الهدى، وارتقوا إلى ملكوت السماء وفسحة الأفلاك وسعتها، اشتاقت هي عند ذلك الصعود إلى هناك واللحاق بأبناء جنسها، ولا يمكنها ذلك بهذا الجسد الثقيل إلا بتركها ومفارقتها إياه؛ وهو الموت. فلو لم يكن الموت لكانت ممنوعة من الوصول إلى هناك؛ فإذَن الموت حكمة ونعمة ورحمة وفضل ورضوان من الله عز وجل للنفوس المخيرة المستبصرة.
فصل حكمة أخرى من حكمة الموت
واعلم يا أخي بأن الجسد كالسفينة، والنفس كالملاح، والأعمال الصالحة كالبضاعة والأمتعة للتاجر، والدنيا كالبحر، وأيام الحياة كالمعبر، والموت كالساحل المتوجه إليه، والدار الآخرة كمدينة التاجر، والجنة هي الربح، والله تعالى هو الملك المجازي، كما أن التاجر إذا عبر البحر وسَلِمَت أمتعته وبضاعته ولما لم يخرج من السفينة لا يمكنه الدخول إلى مدينة للتجارة ويفوته ربح بضاعته، فهكذا حكم النفس مع الجسد أيضًا؛ وذلك أنها إذا قطعت أيام الحياة الدنيا بالأعمال الصالحة، وسارت سيرة عادلة وتخلقت بالأخلاق الجميلة، واعتقدت آراء صحيحة، ونظرت في أمور المحسوسات، فعرفتها معرفة صحيحة، وبحثت عن حقائق المعقولات وأحكمتها، وبلغت آخر العمر، وهدم الجسد؛ فليس التدبير والحيلة إلا الفراق الذي هو موت الجسد. فلو لم يكن الموت لما أمكنها الصعود إلى ملكوت السماء، ولا الدخول في زمرة الملائكة، ولا الوصول إلى الجنة، وكان يفوتها لقاء الله تعالى ونعيم الدار الآخرة، كما يفوت الجنين مشاهدة هذا العالم على حقيقته لو لبث في المشيمة ولم يظهر منها؛ فإذَن الموت حكمة ورحمة ونعمة، إذ لا وصول لنا إلى ربنا إلا بعد خروجنا من هذا الهيكل ومفارقة أجسادنا كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ.
فصل في حكمة الموت
اعلم أن الدنيا كالميدان، والأجساد خيل عتاق، والنفوس السابقة إلى الخيرات فرسان، والله تعالى الملك الجواد المُجازي. وكما أن الفارس السابق إذا بلغ باب الملك إن لم ينزل عن فرسه لا يمكنه الدخول إلى حضرة الملك فتفوته جائزته والخلع والكرامة، فهكذا حكم نفوس السابقين في الخيرات والأعمال الصالحة إذا قطعوا أيام الحياة الدنيا سبقًا إلى الخيرات، كما مدحهم الله تعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ.
فإذا فَنِيَ العمر وهدم الجسد وشاخ ونبت النفس وكملت إن لم تفارقه، لا يمكنه الصعود إلى ملكوت السماء؛ لأن هذا الجسد الثقيل المتغير الفاسد لا يليق بذلك المكان العالي الشريف، بل النفس هي التي يمكنها الصعود إلى هناك لتجازى بما عملت من خير؛ فإذَن الموت حكمة ورحمة.
وأيضًا إن الدنيا مزرعة وأرحام النساء كالحرث، كما قال الله تعالى: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ، والنطفة كالبذر، والولادة كالنبت، وأيام الشباب كالنشوء، وأيام الكهولة كالنضج، وأيام الشيخوخة كاليبس والجفاف.
فبعد هذه الحالات لا بُدَّ من الحصاد والصرام وهو الموت والصراط والآخرة كالبيدر، فكما أن البيدر يجمع الغلات من كل جنس ويدرس وينقى ويرمى القشور والورق والتين والحَب والثمر ويجعل علفًا للدواب وحطبًا للنيران.
فهكذا تجتمع في الآخرة أمم الأولين والآخرين من كل دين، وتنكشف الأسرار، ويميز الخبيث من الطيب، فيجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعًا فيجعله في جهنم وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون.
وهذا كله بعد الموت هو حكمة ورحمة ونعمة من الله تعالى لأوليائه، فلأجل هذا يتمنى أولياؤه الموت، كما عاتب من ظن أنه منهم بغير حق: قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فدل بهذه الآيات علامة أولياء الله تعالى أنهم يتمنون الموت إذا علموا أنهم إلى ربهم راجعون بعد الموت؛ فإذَنْ الموت حكمة ونعمة.
فصل في حكمة الموت أيضًا
واعلم يا أخي أن النفوس كالصناع، والأجساد كالدكاكين، وأعضاء الجسد كالأدوات؛ كما بيَّنا في رسالة تركيب الجسد.
ثم اعلم أن الصناع يجتهدون في الصنائع ويحملون مشقة العمل لكسب المال وطلب الغناء، فإذا استغنى واحد منهم ترك الدكان والأدوات واستراح من العمل.
فهكذا حكم النفوس إذا هي أحكمت ما يراد منها بكونها مع الجسد من الزاد للآخرة استغنت عن الجسد فاستقلت بذاتها. فلو لم يؤخذ منها الجسد، لكان وبالًا عليها، ومانعًا لها من الصعود إلى ملكوت السماء والدخول في زمرة الملائكة والسيحان في عالم الأفلاك والسريان في فسحة فضاء السموات والتنسم من الروح والريحان؛ فإذَن الموت حكمة ونعمة من الله تعالى لعباده الصالحين.
وقال يوسف الصديق: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ، أما ترى أنه عليه السلام تمنى بقوله: تَوَفَّنِي مُسْلِمًا لمَّا علم أن اللحاق بالصالحين لا يكون إلا بعد الموت؛ فإذَن الموت حكمة ونعمة.
وقال خليل الرحمن عليه السلام: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ؛ فإذَن الموت حكمة إذا كانت وراثة الجنة لا تتيسر إلا بعد الموت.
ثم اعلم أن الكرامة للنفس من الله واردة للنفس خاصة لا للجسد؛ لأن الجسد قد بَلِيَ في التراب، وإنما ألحقت بالصالحين نفسه.
(٨) فصل في كيفية خروج النفس من القوة إلى الفعل
فنقول: اعلم — أنار الله برهانك — بأن نفوس الصبيان عاقلة بالقوة، ونفوس البالغين عاقلة بالفعل، ونفوس العقلاء علامة بالقوة، ونفوس العلماء علامة بالفعل، والعلماء نفوسهم فلسفية بالقوة، والفلاسفة نفوسهم حكماء بالفعل، والحكماء الأخيار ملائكة بالقوة، فإذا فارقتْ نفوسها أجسادها كانت ملائكة بالفعل؛ فإذَن الموت حكمة ورحمة.
واعلم يا أخي أن المعادن تستحيل إلى أجسام النبات، وأجسام النبات تستحيل إلى أجسام الحيوان، وأشرف الحيوان الإنسان، فصورة النبات صراط منكوس إلى العمق وقد جازتها النفس الحيوانية ونجت منها، وصورة الحيوان صراط ممدود على السطح وقد جازتها النفس الإنسانية ونجت منها، وصورة الإنسان صراط مستقيم كالخط قائمًا منتصبًا بين الجنة والنار وهي أخريات جهنم؛ فأي نفس جازتها نجت من جهنم ودخلت الجنة التي هي صورة الملائكة، وإلا رُدَّت إلى أسفل السافلين، كما ذكر الله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ.
فانظر يا أخي في هذا الباب وتَفكَّر فيه فإنك على خطر عظيم، وقد بلغتَ قريبًا من باب الجنة، فإن بادرتَ قبل مفارقة الجسد للنفس واستعديت وتزودت بالأعمال الصالحة والآراء الصحيحة والأخلاق الجميلة والعلوم الحقيقية، رجوت لك أن تنجو من نيران الهاوية التي هي عالم الكون والفساد، وتصل إلى الجنة بالصعود إلى عالم الأفلاك وفسحة السموات، عالم الدوام والبقاء والخلود في النعيم والسرور مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، ذلك الفضل من الله.
(٩) فصل في غرض السياسات
اعلم أن الجسد مَسُوس والنفس سائس، فأي نفس ارتاضت في سياسة جسدها كما يجب أمكنها سياسة الأهل والخدام والغلمان، ومن ساس أهله بسيرة عادلة أمكنه أن يسوس قبيلة، أمكنه أن يسوس أهل المدينة كلهم، ومن ساس أهل المدينة كما يجب أمكنه أن يسوس الناموس الإلهي، ومن ساس الناموس الإلهي أمكنه الصعود إلى عالم الأفلاك وسعة السموات، عالم الدوام، ليجازى هناك بما عمل من خير؛ فإذَن الموت حكمة.
فإن لم يستوِ لك يا أخي سياسة الناموس الإلهي، فكن حاذقًا فيه؛ فلعلك تنجو من جهنم بشفاعة أهلها، وتصعد إلى ملكوت السماء بمعاونتهم، وتدخل الجنة برحمة الله وفضله وسعة رحمته. وفقك الله يا أخي للصواب، وهداك الرشاد وجميع إخواننا حيث كانوا في البلاد أنه رحيم جواد.
(١٠) فصل في عيوب الجسد ومثالبه
فاعلم يا أخي أنَّا قد بيَّنا في رسالة تركيب الجسد ورسالة الإنسانُ عالمٌ صغيرٌ ورسالة الحاس والمحسوس؛ ما تستفيد النفس بكونها معه من الحكمة والعلوم والفوائد، وما ترتاض من اتخاذ الصنائع والسياسات والتدبير والربوبية والتشبه بالإله بحسب الطاقة الإنسانية، إذا أخذَت النفس طريق ذات اليمين؛ لأن هذا الجسد لهذه النفس صراط ممدود بين الدنيا والآخرة، فإذا عبرت النفس على هذا الصراط وسَلِمت من آفاته، سهل عليها سائر ما بعد ذلك.
فمن عيوب هذا الجسد كون النفس كمحبوس في كنيف؛ لأن الكنيف بالحقيقة هو هذا الجسد، فهو ينبوع لكل قاذورات من وسخ وبول وغائط ومخاط وبصاق ودم وصديد ولعاب وعرق نتن وبخر وصنان، وأن كل ما يكون في الكنيف من القاذورات، فمنه يخرج وفيه يتكون؛ فأوله نطفة قذرة وآخره جيفة منتنة، وما بين الحالتين مملوء عذرة، والنفس على دوام الأوقات في تنظيفه وغسله وتنقيته ومداواته وستر عوراته، وحفظه من آفات الحر والبرد والجوع والعطش والصدمة والضربة والآفات العارضة التي لا يحصى عددها.
وبالجملة فليس في العالم نتن ولا نجاسة ولا قاذورة ولا جيفة إلا منه. ومِن وجه آخر، فنقول: مَثل النفس مع الجسد كعابد صنم يعبده بالليل والنهار؛ وذلك أن النفس إذا تركت تعلُّم العلم وعبادة الله عز وجل والنظر في أمور معادها بعد فراق الجسد والاستعداد له والتزود للرحلة من الدنيا إلى الآخرة، واشتغلت بما يكون فيه صلاح الجسد من الأكل والشرب واللباس والمسكن والمركب، وما شاكلها من أنواع زينة الدنيا؛ فتكون كأنها هودي يعبد صنمًا كما ذكر الله تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ.
ومن وجه آخر فنقول: «الجسد كأنه كافر محجوب عن الله تعالى، لا يعرفه ولا يدري مَن خلقه ورزقه.»
ومن وجه آخر كأنه صاحب بدعة يدعي إلى هواه، ويريد أن تكون الأمور بمراده.
ومن وجه آخر كأنه جاهل عجول لا ينظر في العواقب، وأيضًا كأنه عدو للنفس يُظهر الصداقة ويكتم العداوة.
وأيضًا كأنه شيطان من كثرة الوساوس، وأيضًا كأنه إبليس يدعو إلى العداوة، وأيضًا كأنه ميت على جنازة حملتها النفس على كتفها لا تستريح منه، يا ويلتها، حتى إذا دفنته في التراب. وأيضًا كأنه غيم بين أبصار الناظرين ونور الشمس؛ لأن ظلمات أخلاط الجسد تمنع عن النظر إلى نور العقل وهو يمطر الآمال وينسي الآجال.
وأيضًا مَثل هذه النفس الجزئية مع شرفها وشرف جوهرها، وما هي عليه من غربتها في هذا العالم الذي تحت الكون والفساد، وما ابتليت به من آفات هذا الجسد وفساد هيولاه؛ كمَثل رجل حكيم خبير في غربة، قد ابتلي بعشق امرأة رعناء فاجرة جاهلة سيئة الخلق رديئة الطبع، فهي دائم الأوقات تطالبه المأكولات الطيبة والمشروبات اللذيذة واللباس الفاخر والمسكن المزخرف والشهوات الرديئة، وإن ذلك الحكيم من شدة محنته بمحبتها وعظم بلائه بصحبتها قد صرف كل همته إلى إصلاح أمرها، وأكثرَ عنايتَه بتدبير شأنها، حتى نسي أمر نفسه وصلاح شأنه، وبلدته التي خرج منها، وأقربائه الذين نشأ معهم، ونعمته التي كان فيها بدءًا؛ فكأنه قد قرن بشيطان مريد وعدو مبين، فهذا الشيطان هو الذي قال الله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ؛ فهو إذَنْ إبليس الذي أخرج آدم من الجنة.
ثم اعلم أن جوهر النفس جوهر سماوي وعالمها عالم روحاني، وهي حية بذاتها غير محتاجة إلى الأكل والشرب واللباس والمسكن، وما شاكل ذلك مما يحتاج إليه الجسد في قوام وجوده ومادة بقائه، وأن كل ما يحتاج إليه الإنسان من أعراض هذه الدنيا فإنما هو من أجل هذا الجسد المستحيل الفاسد ولإصلاح شأنه وقوام وجوده وجر المنفعة إلهي ودفع المضرة عنه وهو لا يثبت على حالة واحدة طرفة عين.
ثم اعلم أن النفس ما دامت مع هذا الجسد إلى الوقت المعلوم، فإنها متعوبة بكثرة غمومها لإصلاح أمر هذا الجسد، شقية بشدة عنايتها فيما تتكلف من الأعمال الشاقة والصنائع المتعبة لاكتساب المال والمتاع والأثاث، وما يحتاج إليه الإنسان في طول حياته الدنيا.
ثم اعلم أن النفس ما دامت مربوطة بالجسد لا راحة لها دون مفارقتها هذا الجسد، كما أن ذلك الرجل الحكيم المبتلى بعشق تلك المرأة الفاجرة الرعناء لا راحة له مما قد ابتلي به إلا بمفارقتها والتسلي عن حبها وعشقها؛ فإذَن الموت حكمة ورحمة ونعمة لنفوس الأخيار بعد بوار الأجساد، فما الموت إلا نعمة وسرور، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور.
الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، إن ربنا لغفور شكور. وفقك الله وإيانا وجميع إخوانا للسداد، إنه رحيم رءوف بالعباد.