الرسالة السادسة عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم
(١) فصل
اعلم أيها الأخ، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنَّا قد فرغنا من بيان حكمة الموت والحياة، وبيان ماهيتهما، وقلنا ما الحكمة من وجودهما في عالم الكون والفساد، وما العلة في كراهية نفوس الحيوانات الموتَ ومحبتها الحياةَ، ونريد أن نذكر في هذه الرسالة ماهية اللذة والألم والغم والفرح والسرور والحزن والراحة والتعب، ونبين أنها كلها أخوات متضادات أو متشاكلات.
واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، بأن اللذة والألم نوعان: جسمانية وروحانية، وهكذا حكم أخواتها.
فأما اللذات الجسمانية فهي الراحة التي تحس بها النفوس الحيوانية عند زوال الآلام. وأما الآلام التي تحس بها النفوس الحيوانية عند خروج المزج عن الاعتدال من الأمر الطبيعي إلى أحد الطرفين من الزيادة والنقصان بسبب من الأسباب، فهي كثيرة لا يحصي عددها إلا الله تعالى، ولكن نذكر منها طرفًا لتعلم ماهية الآلام واللذة وكيفية حدوثهما.
فمن ذلك ماهية لذة الأكل والشرب، أقول: إن حرارة معدة الحيوانات ذوات المعدة والقوانص فيها بمنزلة نار السراج المشتعلة بالفتيلة، فإذا فَنِيَ الغذاء اشتعلت في رطوبات جرم المعدة، فأفنتها واحترقت تلك العصبات المنسوجة هناك، كما يشتعل نار السراج في الفتيلة إذا فَنِيَ الدهن، فعند ذلك تحس تلك النفوس بالألم فتنهض أجسادها في طلب الغذاء لتخلف على المعدة بدلًا مما قد فَنِيَ وعوضًا عنه، فإذا أوردت تلك المواد إلى المعدة واشتعلت فيها تلك الحرارة للنضج، فيسكن ذلك اللهيب من جرم المعدة، ويجد الحيوان عند ذلك راحة ولذة، وبحسب شدة لهيب تلك الحرارة وسكونها تكون لذة الأكل.
وهكذا أيضًا حكم العطش من لهب حرارة الكبد، فلا يزال الحيوان يجد لذة الأكل والشرب إلى أن تستوفي الطبيعة حاجتها، فعند ذلك تزول تلك اللذة وتسكن، حتى إنه إن زيد على مقدار الحاجة صارت اللذة ألمًا، فيمسك عند ذلك الحيوان عن الأكل والشرب إلى أن يستمرئ ما أكل ويهضم، وتمر إلى أطراف الجسد تلك المواد لتخلف ما تحلل من هناك؛ لأن الحيوان في دائم الأوقات في الذوبان والسيلان لا يقف لحظة ولا طرفة عين. يعلم حقيقة ما قلنا وصحة ما وصفْنا أهلُ البصائر من الأطباء والطبيعيين.
وأما اللذة التي يجدها الحيوان من الجماع، فإن تلك المادة التي تسمى المني، وهي زبدة الدم، إذا كثرت في بدن الحيوان واجتمعت في المواضع المعدَّة لها، وجدت الطبيعة عند ذلك ثقلًا وتمددًا كما تجد عند اجتماع البول في المثانة، والغائط في المعي، فتطلقها الإرادة عند ذلك للبروز، فهكذا حكم المني. وقد جعلت الحكمة الإلهية والعناية الربانية شهوة مركوزة في جبلة الذكران للاجتماع مع الإناث من أبناء جنسها، وكذلك في طباع الإناث الاجتماع مع الذكران ليكون منهما التناسل والنتاج؛ ليبقى النسل في بقاء الأشخاص والصورة في الهيولى إذا كانت الأشخاص لا بقاء لها دائمًا في عالم الكون والفساد لعلل يطول شرحها. وقد ذكرنا طرفًا منها في رسالة البعث والقيامة وطرفًا في رسالة العلل والمعلولات، فإذا خرجت تلك النطفة من بدن الحيوان الفحل، خف عن الطبيعة ما كان يجده من الثقل، ووجد الحيوان عند ذلك راحة ولذة.
وأما اللذة والراحة التي يجدها الحيوان عند السكون والهدوء والنوم، فهي من أجل أن الحركة التي تسخن مزاج أبدانها وتجفف رطوبات العضلات والأعصاب المحركة للأعضاء، فتضعف عند ذلك عليها الحركة، فإذا سكنت وتمددت وهدأت، بردت أبدانها وتولدت من السكون برودة، ومن البرودة رطوبة، فلانت الأعصاب والأوتار المحركة لتلك الأعصاب والعضلات، وسهلت الحركة، وهكذا أيضًا حكمها عند وضع أحمالها وأثقالها تجد راحة؛ لأن الحركة المفرطة والثقل يسخنان المزاج ويخرجانه من الاعتدال.
وأما اللذة والراحة التي يجدها الحيوان عند الحر والبرد، فهو من أجل أن الحرَّ إذا دام عليها سخن مزاج أبدانها وأخرجها من الاعتدال فيؤلمها ذلك، فعند ذلك يطلب ما يضادها من برد الظلال والأفياء والمواضع الباردة، فإذا دامت هناك زمانًا طويلًا أفرطت البرودة في أبدانها وخرجت من الاعتدال إلى الجانب الآخر، فعند ذلك تطلب الدفء والشمس والنيران وما يضاد البرودة.
فقد تَبيَّن بما ذكرنا أن الحيوانات في دائم الأوقات تتفرج وتستريح تارة من ألم الحرارة إلى ضده وتارة من ضده إليه، وتَبيَّن أيضًا أن اللذات الجسمانية إنما هي من خروج الألم، فهو خروج من الاعتدال إلى أحد الطرفين؛ إما إلى زيادة أو إلى نقصان، أو من حر إلى برد، أو من برد إلى حر، أو من حركة إلى سكون، أو من سكون إلى حركة، أو من جوع وعطش إلى شبع وري، أو من شبع وري إلى جوع وعطش. وعلى هذا المثال والقياس يوجد حكم سائر اللذات والآلام الجسمانية.
وذلك أن الذي تجده النفس من اللذة بالنظر إلى محاسن الموجودات أو بالاستماع للنغمات والشم للروائح الطيبات واللمس للملموسات، فهي كلها تكون بحسب مشاكلات المزاج الموافقات، وألمها بحسب المخالفات المتضادات، وذلك أن كل محسوس يُخرج مزاج الحاس من الاعتدال، فإن الحاسَّة تتألم منه وتكرهه وكل محسوس يرد الحاس إلى الاعتدال والمزاج الطبيعي، فإن الحاسَّة تلتذ به وتحبه وتحن إليه.
فإذا تأملت يا أخي ما ذكرنا علمتَ وتَبيَّن لك بأن هذه الآلام واللذات الجسمانية إنما جعلت لنفوس الحيوانات عند خروج مزاج أجسادها من الاعتدال، ورجوعها إلى الاعتدال لكيما تدعوها تلك الآلام إلى حفظ أجسادها وصيانة هياكلها من الآفات العارضة لها، وتحثها تلك اللذات على طلب جر المنفعة إليها أو دفْع المضرة عنها إذا كانت الأجساد أجسادًا أمواتًا لا تقدر على دفع مضرة عنها ولا جر منفعة إليها، ولا تحترز من الأشياء المهلكة لها أو المحرجة لمزاجها من الاعتدال.
والدليل على صحة ما قلنا وحقيقة ما وصفنا، أن الأجساد لا تقدر على دفع مضرة ولا جر منفعة ما نرى من حالها عند مفارقة نفوسها مستسلمة إلى المهلكات مما لا خفاء به من حال جثة الموتى.
فأما اللذات والفرح والسرور التي تجده عند وجدانها ومنافعها ومحبوباتها، وما تجده من الشفقة والتحنن على صغار نتاجها، وما يعرض من الغم والهم عند فقدانها أو ضرر ينالها؛ فكل ذلك حَث للنفوس على صيانة الأجساد إلى وقت معلوم.
وأما الشهوات المركوزات في جبلة الحيوانات فقد ذكرنا طرفًا من عللها في رسالة الأخلاق، ولكن نذكر ها هنا ما لا بُدَّ من ذكره؛ وذلك أن كل ما في كل طبيعة جسد وجبلة كل مزاج من الشهوات المركوزة هي ما يوافق طباعها ويصلح مزاجها؛ وذلك أن الحيوانات الآكلة للحمان لا تشتهي الحشائش إلا عند الضرورة وفقدان اللحم، وكالطيور والحيوان الآكل للعشب والحَب لا يشتهي اللحم ولا يلتذ به، وهكذا الإنسان لا يشتهي ولا يأكل إلا ما يوافق طبعه ومزاجه أو ما قد اعتاد أكله على ممر الأيام والأوقات، وأما شهوة العليل لما يضره فلأسباب أُخر يطول شرحها.
فقد تبين أن الجوع والعطش بحسب الحاجة إلى الطعام والشراب، وأن اللذة بحسب الكفاية، والشهوة بحسب الموافقة للمزاج والطبع. ونريد أن نذكر في هذه الرسالة الملقبة باللذة والآلام كون العلة في كراهية نفوس الحيوانات الموت ومحبتها للحياة، فنقول:
اعلم أن لمحبة الحيوانات الحياةَ وكراهيتها الموتَ علتين؛ إحداهما: ما يلحق نفوسها من الأوجاع والآلام. والثانية: ما في طباع الموجودات من المحبة والبقاء وكراهيتها للفناء هو من أجل أن الباري تعالى لمَّا كان هو علة الموجودات وسبب الكائنات، كما بيَّنا في رسالة المبادئ، وهو أبدي الوجود دائم البقاء؛ صارت من أجل ذلك في جبلة الخليقة محبة البقاء وكراهية الفناء الذي هو ضد البقاء.
ثم اعلم أن الموجودات نوعان: كليات وجزئيات؛ فالكليات تبتدئ من أتمها ثم الأَدْون فالأدون إلى آخرها، وهي تسعة مراتب؛ أولها وأَولاها البارئ تعالى الذي هو علتها كلها، ثم العقل، ثم النفس، ثم الطبيعة، ثم الهيولى الأولى، ثم الجسم المطلق، ثم الفلك ثم الأركان الأربعة، ثم المولدات الثلاثة، وهي آخرها كما بيَّنا في رسالة المبادئ.
والأمور الجزئية تبتدئ من أنقص الحالات، ثم ترتقي أولًا فأولًا إلى أن تنتهي إلى أفضل الحالات، كما بيَّنا في رسالة مسقط النطفة ورسالة نشوء الأنفس الجزئية ورسالة البعث والقيامة ورسالة الكون والفساد، فمن أراد علم ذلك، فليرجع إلى هناك ليعلم صحة ما قلناه وحقيقة ما بيَّناه.
(٢) فصل في ما العلة في وصول الآلام والأوجاع إلى النفوس الحيوانية دون سائر النفوس التي في العالم
فنقول: اعلم أنَّا قد بيَّنا ماهية اللذة والآلام وكيفية إحساس النفوس بهما، ونريد أن نذكر في هذا الفصل ما العلة والحكمة في رباط النفوس الجزئية بالأجساد الحيوانية ووصول الآلام والأوجاع إلى النفوس الحيوانية دون سائر النفوس النباتية والموجودات التي في العالم.
فاعلم أنه لما كانت النفوس الحيوانية من الأمور الجزئية، ولم يكن للنفوس الجزئية أن تبلغ إلى أتم الحالات وأكمل المراتب إلا بأن تقترن بالأجسام الجزئية التي هي أجساد الحيوان، وكانت الأجساد تعرض لها الآفات المفسدة قبل تمامها وكمال نفوسها، ولم يكن للأجساد مَقدرة على دفع تلك الأشياء المفسدة لها؛ لأن جواهر الأجسام عاجزة جاهلة ميتة ناقصة الحال منفعلة حسب، فبواجب الحكمة الإلهية جعل لنفوسها أن تلحقها الآلام والأوجاع من الأشياء المفسدة لأجسادها كيما تدعوها تلك الآلام وتحثها تلك الأوجاع على دفع تلك الأشياء المفسدة لأجسادها، وتحفظها من الآفات المهلكة وتصونها عن عوارض التلف، إلى أن تتم تلك الأجساد وتكمل أيضًا تلك النفوس، ثم يجيئها الموت الطبيعي إن شاءت النفوس أو أبت، كما يجيء الطلق للولادة إن شاء الجنين أو أبى؛ لأن موت الجسد ولادة النفس كما بيَّنا في رسالة حكمة الموت. ولو لم تعرض للنفوس الآلام من الأشياء المفسدة لأجسادها، لتهاونت بها وتركتها متعرضة للآفات، وكانت تفسد أكثرها قبل تمامها وكمال نفوسها.
وذلك أن النفس الإنسانية لم يكن نشوءُها ولا تتميمها ولا تكميلها إلا بتوسط هذا الجسد المملوء من آثار الحكمة، كما بيَّنا في رسالة تركيب الجسد ورسالة الحاس والمحسوس، وقد بيَّنا ذلك في رسالة الإنسان عالم صغير، فبواجب الحكمة الإلهية ربطت بالأجساد البشرية؛ وذلك أن النفس الإنسانية لا تعرف حقائق المحسوسات، ولا تتصور معاني المعقولات، ولا تقدر على عمل الصنائع ولا تتخلق بالأخلاق والأعمال الحميدة إلا بتوسط هذا الجسد طول حياته إلى آخر العمر كما قال تعالى: وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا، وقال: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا، فلو لم يعرض للنفس الألم من الأشياء المفسدة للجسد، لكان الإنسان، مثلًا، إذا نام فاستغرق في نومه ثم مد يده ورجله فدخلتا في نار إلى جنبه فاحترقتا، ولم يكن يحس به حتى ينتبه من نومه، فإذا هو بلا يدين ولا رجلين، وكان يبقى طول عمره بلا آلة للمشي ولا أداة لاتخاذ الصنائع؛ وعلى هذا القياس حكم نفوس سائر الحيوانات، لو لم يكن يعرض لنفوسها الألم من الأشياء المفسدة لأجسادها، لتهاونت بها وتركتها متعرضة للآفات والهلاك، كما أنه لو لم يكن يجعل لها شفقة على صغار أولادها وتحنُّنًا عليها، لتركتها وتهاونت بها ولم تحتمل المشقة في تربيتها، وكانت تهلك كلها قبل التمام، وكان مصير ذلك سببًا لانقطاع النسل ودثور الصورة من المادة. وقيل لبعض الحكماء: أي أولادك أحب إليك؟ فقال: صغيرهم حتى يكبر، وعليلهم حتى يبرأ، وغائبهم حتى يرجع. فإذَنْ بواجب الحكمة جعلت تحس ما يلحقها من الآلام لحفظ أجسادها من التلف، وتحثها على صيانتها من عوارض الآفات والآلام.
(٣) فصل في ماهية الألم واللذة وكيفيتها
فنقول: إن اللذات والآلام التي تحفظ أجسادها من التلف وتحثها على صيانتها نوعان: جسماني وروحاني؛ فاللذات الجسمانية هي التي تجدها النفس عند الخروج من الألم، والآلام التي تحسها النفس عند خروج مزاج الأجساد عن الاعتدال الطبيعي إلى حد الطرفين من الزيادة والنقصان بسبب من الأسباب هي كثيرة لا يحصى عددها؛ مثال ذلك الجوع، أحد الآلام تحس به النفس عند خلو المعدة من الطعام، وذلك أن الحرارة الغريزية التي تنضج الطعام في المعدة إذا لم تجد هناك طعامًا تكون مشتغلة، فإذا اشتغلت في جرم المعدة فنيَت رطوباتها المعدة هناك لمصالحها، فإذا فنيت تلك الرطوبات انفسد جرم المعدة، فإذا أحست النفس بالآلام انتهض الجسد في طلب القوت ليزيل عنه الفساد وعن ذاتها الألم، فإذا وصل ذلك إلى المعدة رجعت تلك النار عن جرم الجسد، واشتغلت عن ذلك الطعام، وسكن الالتهاب عن جرم المعدة، فتجد النفس لذلك راحة، فتسمى تلك الراحة لذة. وهكذا العطش فإنه حرارة تلتهب في جرم الكبد، ولا تسكن إلا بشرب الماء، فتحس النفس عند التهاب تلك الحرارة ألمًا وعند سكونها راحة، فهاتان الخلتان تحثان النفس الحيوانية على طلب مادة أجسادها لتخلف عليها بدل ما يتحلل منها إذا كانت ذات الجسد دائمًا في الذوبان والسيلان من أسباب خارجة وأسباب داخلة، ولو لم تعرض لنفوسها الآلام والأوجاع عند الجوع والعطش لما نهضت أجسادها في طلب غذائها وفي مادة بقائها، وكان يبطل أجسادها الذوبان قبل تمامها وكمالها؛ فإذَنْ قد بان من الألم واللذة إنما هي حث النفوس على ما يصلح الأجساد؛ لأن في صلاح الأجساد صلاح النفوس، كما بيَّنا قبل، وهذه اللذة التي تجدها النفوس الحيوانية عند تناول الغذاء هي أيضًا تجدها النفوس النباتية، وهي التي تحثها على جذب الرطوبات إلى أصول النبات وإلى أعلى فروعها، فإذا لم تجد ذلك جفَّت أجسامها، وهو موتها، ولكن لا يعرض لنفوسها الألم عند فقدان الغذاء كما يعرض للنفوس الحيوانية، فمن أجل هذا لم تجعل لها حيلة التنقل من مكان إلى مكان في طلب الغذاء كما للحيوان ولا فرارًا من المؤذيات؛ لأنه لا يليق بالحكمة الإلهية أن تجعل لها ألمًا وتمنعها حيلة الدفع.
وأما النفوس الحيوانية لمَّا جعلت لها حيلة الدفع عن أجسادها الأشياء المفسدة لها، جعل لها ألم يحثها على ذلك؛ إما بالطلب وإما بالهرب وإما بالتحرز، كما بيَّنا في رسالة الحيوان.
وأما لذة الانتقام فهي أيضًا خروج من الألم، وذلك أن الغضب نار وحرارة تشتعل في جرم القلب، وهو شهوة الانتقام من المؤذي الذي أثار الغضب، فإن وصل إلى الانتقام سكنت تلك الحرارة وخمدت نارها، وإن لم يقدر على ذلك ولم يصل إليه صار الغضب حزنًا ومصيبة؛ مثال ذلك إذا قُتل لأحد قتيلٌ أَوقدت نارُ غضبه على القاتل شهوةَ القوة، فإن قَتَلَ القاتلَ سكنت تلك الحرارة، وإن قلته الموتُ صار حزنًا ومصيبة؛ لأنه لا يمكن أن يؤخذ من الميت القوة. وعلى هذا القياس سائر الشهوات، نيران تشتعل في الأجساد وتحس النفوس آلامها.
ثم اعلم أن الأجساد كلها نيران بالقوة جامدة، فإذا أصابتها نار بالفعل صارت نيرانًا بالفعل، والدليل على ذلك أنها كلها يمكن أن تحرق بالنار، فلو لم تكن من النار لما أمكن إحراقها بها، وهكذا حكم مأكولاتها وملبوساتها كأنها نيران جامدة كُوِّنت من النار والهواء والماء والأرض، وإليها تستحيل بعد مفارقة النفوس لها، ومن أجل هذا قال رسول الله ﷺ: «أهل النار خلقوا ومن النار يأكلون وعلى النار يتقلبون.» وهذه حال الأجساد ومرافقها ومادتها كلها نيران جامدة إذا اشتعلت التهبت على الأفئدة، كما قال الله عز وجل: نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ، وهي آمال طوال وآجال قصار لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا إشارة إلى ما ذكرنا كلما نضجت جلودهم، يعني أجسادهم بالبلى، بدلنا لهم جلودًا غيرها، بدلوا بالكون ثانيًا.
فصل
اعلم يا أخي بأن الله عز وجل قد أكثر في القرآن مدح المؤمنين وذم الكافرين؛ لأنهما خلتان بينهما بعد بعيد؛ إحداهما مجمع الخير كله وفضيلة الإنسانية فيها كلها وهي الإيمان، والأخرى ضدها وهي الكفر وهو مجمع الشرور كلها.
وقد بيَّنا في رسالة الناموس ورسالة المؤمنين معنى قولنا ما الإيمان ومَن المؤمن، ونذكر في هذا الفصل ما الكفر؛ ليعلم من الكافرون بالحقيقة، فنقول:
اعلم أن الكفر في لغة العرب الغطاء، وهو شيء يعرض للنفس من جهة الجسد، وذلك أنه إذا استقرت النفس في الجهالة، تغطى عليها أمر ذاتها وذهب عليها معرفة جوهرها وتنسى مبدأها، ولا تذكر من أمر معادها حتى تبلغ من جهالتها، ألا تعلم بأن لها وجودًا خلوًا من الجسد حتى تظن أنها جسم كما يظن ويقول كثير ممن يتعاطى النظر في العلوم، وهو قولهم إن الإنسان هو هذا الجسد الطويل العريض العميق المؤلف من اللحم والدم، ولا يدرون أن مع هذا الجسد جوهرًا آخر، وهو المحرك له؛ وهي النفس المطهرة به ومنه أفعالها.
فمن لا يعرف جوهر النفس فهو لا يعرف شيئًا من الأمور الروحانية ولا يتصورها، وإذا سمع ذكرها أنكرها لشدة استغراقه في بحر الهيولى وظلمات الجهالات، فهؤلاء إذا سمعوا بذكر جهنم لا يتصورونها إلا أمرًا صناعيًّا، وهو أنهم يظنون أن جهنم هي خندق محفور كبير واسع مملوء من نيران تشتعل وتلتهب، وأن الله تعالى يأمر الملائكة قصدًا منه وغيظًا على الكفار أن يأخذوهم ويرموا بهم في ذلك الخندق.
ثم إنه كلما أحرقت أجسادهم وصارت فحمًا ورمادًا أعاد فيها الرطوبة والدم حتى يشتعل من الرأس ثانيًا كما اشتعل أول مرة.
وهكذا يكون دأبهم أبدًا، ويحتجون بقوله تعالى: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ولا يدرون معنى قوله تعالى ولا تأويل كتابه أنهم إذا سمعوا أن الله غفور رحيم حنَّان منَّان رءوف ودود، وما شاكل ذلك من أسمائه الحسنى، وتفكروا فيها؛ أنكرت عليهم عقولهم ما اعتقدوا فيه من الحقد وقلة الرحمة لخلقه، فعند ذلك يتحيرون ويتشككون فيما أخبرت به الأنبياء عليهم السلام؛ إذ لا يعرفون شيئًا عن صفة جهنم وعذاب أهلها، ولا يعرفون تأويل كتبهم ولا معاني إشاراتهم ورموزاتهم ودقائق أسرارهم.
فهكذا إذا سمعوا ذكر الجنة ونعيمها وسرور أهلها ولذاتهم، فلا يتصورونها إلا أمورًا جسمانية شبه بساتين فيها أشجار وعليها ثمار وقصور بينها أنهار، وفي تلك القصور حور وغلمان وولدان مردان على أمثال أبناء الدنيا ونعيم أهلها، وإذا سمعوا بأن أهل الجنة في جوار الرحمن حيث قال: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ، وإنهم يزورون رب العالمين فيرونه وينظرون إليه كما قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ، وأن الملائكة يزورونهم بالهدايا والتحف كما قال الله تعالى: وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ وما شاكل هذا من وصف أهل الجنة من شرب الشراب أو مباشرة مع الأبكار، وأنهم أحياء لا يموتون، وشبان لا يهرمون، وأصحاء لا يمرضون، ولا يجوعون ولا يعطشون، ويأكلون ويشربون ولا يبولون ولا يتغوطون، وما شاكل هذه من الصفات التي لا تليق بأجسام الطبيعة الكائنة الفاسدة فضلًا بالأشياء الروحانية.
فإذا فكروا فيها تحيروا أيضًا فيما يعتقدون من أمر الجنة ونعيمها وحالات أهلها، فيشكُّون أيضًا في الجنة وما خبرت به الأنبياء عليهم السلام من وصف الجنان ونعيم أهلها وحالاتهم، وما يقصر الوصف عنها، فإذا ذهب عليهم معرفتها وتغطى عليهم علمها، أنكروها بقلوبهم، وإن كانوا لا يظهرونها بألسنتهم مخافة السيف والصَّلب كما قال الله تعالى: فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ.
فهذا هو حقيقة الكفر والضلال والجهالة وعمى البصر؛ لأن هؤلاء لا يؤمنون بظواهر الآيات والأخبار، ولا يتفحصون عن حقائق أسرار كلام الله وأسرار الأخبار النبوية حين قالوا وبينوا، فجملة ذلك حق وصدق لا مرد عليه، حسب ما اقتضى العقل حقيقة ذلك، كما لا يفهم هؤلاء الظلمة الكفرة، أعاذنا الله وإياك أيها الأخ من الكفر والنفاق والفسق والعصيان، ورزقك وإيانا الإيمان والغفران إنه رءوف رحيم بالعباد.
فصل
ثم اعلم وتيقن ولا تشكَّ في أن جهنم هي عالم الكون والفساد الذي هي دون فلك القمر، وأن الجنة هي عالم الأرواح وسعة السموات، وأن أهل جهنم هي النفوس المتعلقة بأجساد الحيوانات التي تنالها الآلام والأوجاع دون سائر الموجودات التي في العالم.
وأن أهل الجنة هي النفوس الملكية التي في عالم الأفلاك وسعة السموات في روح وريحان، البريئة من الأوجاع والآلام، والدليل على ذلك قوله تعالى: انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ إشارة إلى النفوس المتحدة بالأجسام؛ ذي الطول والعرض والعمق، إلى دون فلك القمر.
وذلك أن تلك النفوس لما جَنَتْ هناك الجناية التي ذكرت في قصة آدم عليه السلام، وقيل اهْبِطُوا منها جميعًا بعضُكم لبعضٍ عدوٌّ ولكم في الأرض مستقرٌّ ومتاعٌ إلى حين، وقال: فيها تحيون، يعني في الأرض، وفيها تموتون ومنها تخرجون عند النفخ في الصور.
وإنما قيل إن جهنم هي سبع طبقات؛ لأن الأجسام التي دون فلك القمر سبعة أنواع؛ أربع منها هي الأمهات المستحيلات، التي هي الأركان الأربعة؛ وهي: النار والهواء والماء والأرض، وثلاث هي المولدات الكائنات الفاسدات التي هي: المعادن والنبات والحيوان.
ثم اعلم أن تلك النفوس لما أخرجت من الجنة — عالم الأفلاك — أهبطت إلى الأرض، عالم الكون والفساد الذي دون فلك القمر، وهي ساكنة في عمق هذه الأجساد وغريقة في بحر الهيولى القابل للكون والفساد، وغائصة في هياكل هذه المتولدات، منقطعة فيها كما قال تعالى: وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ، وقال: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ.
وإنما قال لها سبعة أبواب، لكل باب منهم جزء مقسوم؛ لأن كل ما يجري في عالم الكون والفساد فبدلائل هذه السبعة السيارة، وإنما قال عليها تسعة عشر؛ لأن دلائلها لا تظهر في عالم الكون والفساد إلا بمسيرها في هذه البروج الاثنا عشر، فجملتها تكون تسعة عشر، وهي التي بها يكون تقلُّب أحوال الدنيا، وما تقتضيه موجبات أحكامها في مواليد هذه الأجساد، وما يدل عليها مما يصيبهم من الآلام والأوجاع والأسقام والأمراض والأحزان، من الجوع والعطش والحر والبرد، والفقر والغنى والذل والعبودية، والغموم والهموم، ونوائب الحدثان وعداوة الأقران، وحسد الجيران وجور السلطان ووساوس الشيطان، ونكبات الزمان ومصائب الإخوان، وخوف الموت ووعيد ما بعد الموت المذكور في القرآن، وما شاكل هذه المصائب التي لا يحصى عددها التي هي النفوس المرهونة بها ما دامت مع هذه الأجساد.
فإذا فكر العاقل اللبيب في حال النفوس المتجسدة وما يلحقها من المحن والمصائب بتوسط هذه الأجساد وما يعرض لها من الآلام والأوجاع والمناحس، كما بيَّنا قبل، وتَفكَّر أيضًا في حالات النفوس التي هي أهل الجنة، وعالم الأفلاك الذين هم سكان السموات، إذا سمع بأنهم أحياء لا يموتون، وشبان لا يهرمون، وأغنياء لا يفتقرون، وجيران لا يتحاسدون، وإخوان على سرر متقابلين متنعمين ملتذين، خالدون فيها آمنون لا يخافون ولا يحزنون، فهم في روح وريحان ورضوان؛ رغبت نفسه إلى ما هناك وزهدت في الكون ها هنا.
فكلما نظر بعين رأسه إلى جسده في عالم الكون والفساد معذبًا من أبناء جنسه، استعاذ بالله وسأله الخلاص والنجاة مما هو فيه من مشاركة أبناء الدنيا. وكلما نظر بعين عقله إلى نفسه وأبناء جنسه في عالم الأفلاك وما هم فيه من الروح والريحان، تمنى الوصول إلى هناك وسأل ربه اللحاق بهم، كما سأل يوسف الصديق عليه السلام، وكذلك إبراهيم عليه السلام، وعند ذلك تصير الدنيا عليه سجنًا؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر»، ويكون عند ذلك من أصحاب الأعراف الذين هم أهل المعارف كما وصفهم الله تعالى: وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ — يعني أهل الدنيا التي في عالم الكون والفساد — قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وهؤلاء الرجال الذين على الأعراف هم الذين مدحهم الله تعالى بقوله تعالى: رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وقال: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ، فهؤلاء هم أولياء الله الذين هم يتمنون الموت لِمَا قد تبين لهم ما بعد الموت من الوجود المحض والبقاء الدائم والروح والريحان والنجاة من الآلام والأوجاع والأسقام التي كلها جهنم ونيران.
وأما من لا يعرف ما وصفنا له لا يعقل ما بيَّن الله تعالى في كتابه على ألسنة أنبيائه إلا هذه الدنيا التي كلها آلام جسدانية من الشهوات الجسمانية واللذات الحيوانية، فهو لا يرغب إلا فيها ولا يتمنى إلا الخلود معها، كما وصفهم الله تعالى فقال: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ، فهؤلاء هم الكفار الذين تغطى عليهم الصفات الحقيقية والأسرار الخفية، التي كلها رموز أخروية ثابتة للنفوس الناجية من نيران الهاوية، نجانا الله وإياك أيها الأخ، ورزقنا وإياك الدخول في زمر الملائكة.
(٤) فصل في كيفية وجدان اللذة والآلام معًا في وقت واحد
فنقول: اعلم أن الإنسان في دائم الأوقات لا يخلو من ألم ولذة جسمانية وروحانية من عدة وجوه؛ مثال ذلك العاشق يرى معشوقه وهو على خيانة، فتسره رؤيته له ويلتذ بها، وتغمه خيانته له وتؤلمه، كما قال:
وكمثل من يأكل طعامًا يشتهيه وله رائحة منكرة تؤذيه مثل الصحنا والماميامه لساكن السواحل، فهو يلتذ بأكله وتؤلمه رائحته؛ ومثل من يسمع لحنًا طيبًا ونغمة لذيذة كغناء أبيات من الشعر فيها هجو له، فإنه يلتذ باستماع اللحن اللطيف ويغمه هجوه في وقت واحد؛ ومثل من يسمع بموت مورث له تركته، فيغتم لخبر موته ويسره ما ورث؛ ومثل من به جرب مؤذٍ يحكه فيجد له لذة وغمًّا في وقت واحد وألمين متضادين وراحة بينهما؛ وكمن هو يعمل عملًا متعبًا أو صناعة شاقة يرجو عليها ثوابًا جزيلًا وأجرة وافرة، فهو يجد ألمًا من عمله المتعب ولذة وفرحًا لما يرجو من ثوابه.
وعلى هذا القياس حكْم سائر الآلام واللذات الجسمانية كما قال القائل:
أو كمن سكن عنه وجع العين وضرب ضرسه، فإنه يجد ألمًا وراحة في وقت واحد؛ وكمن له خلقٌ حسن وخلق سيئ، فإنه يجد من أحدهما راحة ومن الآخر ألمًا في وقت واحد؛ ومثل من يرى صديقًا قد غاب دهرًا وأخبر بسوء حاله، فيسره رؤيته ويغمه سوء حاله؛ أو كمثل من يضع إحدى رجليه في ماء بارد والأخرى في ماء مغلي، وإحدى يديه في ماء فاتر، فإنه يجد لذة وألمًا في حالة واحدة؛ ومثل من عمل عملًا حسنًا يرجو جزاءً عليه وعملًا سيئًا يخاف عقوبة عليه، فيكون متألمًا ملتذًّا في وقت واحد. وعلى هذا المثال إذا اعتبر أحوال الناس فلا يخلو من ألم يؤذيه وراحة من ألم قد زال عنه، فيكون الإنسان الواحد في وقت واحد ملتذًّا متألمًا معاقَبًا مثابًا.
وإنما ذكرنا هذه الإشارات وأوردنا هذه الأمثلة من أجل أن كثيرًا ممن يتكلم في علم النفس ويبحث عن ماهية جوهرها وكيفية تشخيصها يرى ويعتقد أنها أشخاص متباينة كثيرة، فأكثر ما يُقوي رأي مَن ظنَّ أن النفس أشخاص كثيرة، ما يظهر من اختلاف أحوالها وأفعالها وأخلاقها وآرائها وأعمالها، وأن بعضها ملتذة وبعضها متألمة، فحَكَمَ بهذا الاعتبار أنها أشخاص كثيرة منفصلة متباينة كتباين الأشخاص الجسمانية المركبة، ثم ناقَض رأيه بقوله بأنها جواهر بسيطة، كأنه لا يدري ما معنى البسيطة، ونحن قد أخبرنا بأنها نفس واحدة تجنست أجناسها وتنوعت أنواعها، وقد تشخصت بحسب اختصاصها بالأجناس الجسمانية وأنواعها وأشخاصها؛ لأنها في ذاتها متكثرة منفصلة متباينة؛ لأن اختلاف أفعالها بحسب استعمالها الأجساد المختلفة الأجناس والأنواع والأشخاص، كما بيَّنا في رسالة تركيب الجسد.
إن اختلاف أفعال نفس إنسان واحد هو من أجل اختلاف أشكال أعضائه وفنون مفاصله، وإن نفس الإنسان نفس واحدة، وقد ظن كثير من أهل العلم أن للإنسان الواحد ثلاث نفوس: شهوانية وغضبية وناطقة، ونحن قد بيَّنا بأن هذه الأسماء تقع على نفس واحدة بحسب أفعالها المختلفة؛ وذلك أنها إذا فعلت في الجسم الغذاء والنمو سميت نباتية وشهوانية، وإذا فعلت الحس والحركة سميت حيوانية غضبية، وإذا فعلت النطق والتمييز والروية والفكر سميت ناطقة، كما أن الرجل الواحد حداد نجار بنَّاء، إذا كان يحسنها كلها ويعقلها.
فصل
فنقول: لما فرغنا من ذكر الآلام واللذات الجسمانية، وبيَّنا أنها كلها هي راحة تجدها النفس عند رجوع الأمزجة إلى الاعتدال بعد خروجها من الاعتدال، وأن الآلام هي إحساس النفس بتغيير مزاج الجسد وخروجه عن الاعتدال الطبيعي أو عضو من أعضائه عند ملاقاة الأشياء المفسدة لها، كما بيَّنا في رسالة الحاس والمحسوس، وقد بيَّنا أيضًا علة كراهية الحيوان للموت، وما العلة في وصول الآلام والأوجاع إلى النفس الحيوانية دون سائر النفوس الجزئية التي في العالم بأسرها؛ نريد أن نذكر في هذا الفصل ما اللذات الروحانية التي تجدها النفس بمجردها، وما آلامها التي تنفرد بها دون الجسد التي عبرت عنها الشريعة النبوية بالثواب والعقاب فنقول:
اعلم — أرشدك الله تعالى — أن اللذات أربع أنواع: شهوانية طبيعية، وحيوانية، حسية، وإنسانية فكرية وملكية روحانية. فاللذات الشهوانية الطبيعية هي التي تجدها النفس عند تناول الغذاء من الطعام الشراب.
وأما اللذات الحيوانية أيضًا فهي نوعان؛ إحداهما ما تجدها النفس عند الالتئام وهي لذة الجماع، والأخرى ما تجدها عند الانتقام وهي شهوة تَهِيج عند الغضب، والفكرية ما تجدها النفس من اللذة عند تصورها معاني المعلومات ومعرفتها بحقائق الموجودات، والروحانية والملكية هي ما تجدها النفس من الراحة واللذة بعد مفارقتها الجسد التي هي الروح والريحان.
فاللذة الشهوانية مشتركة بين الإنسان والحيوان والنبات.
والحيوانية الحسية مشتركة بين الإنسان والحيوان دون النبات.
والفكرية مشتركة بين الإنسان والملائكة دون الحيوان.
والملكية الروحانية مختصة بالنفوس المفارقة للأجسام الناجية من بحر الهيولى.
فالنفوس النباتية لها لذَّات وليس لها ألم، كما قلنا قبل في رسالة كراهية الحيوان للموت.
والنفوس الملكية لها أيضًا لذة وليس لها ألم، كما قد تَقدَّم بيان ذلك، لكن لها الخوف والإشفاق، كما قال تعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، وقال تعالى: هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ.
فالنفوس الحيوانية لها لذة وألم جميعًا، ولكن لذاتها كلها جسمانية.
فأما الأنفس الإنسانية فلها كل اللذات والآلام الجسمانية والروحانية جميعًا؛ لذلك نحتاج أن نبين ونشرحها واحدة بعد واحدة؛ لتتضح وتتصور بحقائقها، فنقول:
- أحدها: المدركات بطريق النظر من محاسن الألوان والأشكال والنقوش والتصاوير والأصباغ الطبيعية منها والصناعية جميعًا.
- والثاني: المدركات بطريق السمع من الأصوات والألحان والنغم والمدح والثناء وما شاكلها.
- والثالث: المدركات بطريق الذوق من الطعوم الموافِقة لشهواتها.
- والرابع: الملموسات المقوِّية لأخلاط جسدها.
- والخامس: المشمومات الملايمة لمزاج أخلاطه.
- والسادس: لذة الجماع.
- والسابع: لذة الانتقام.
فهذه كلها لذات تجدها النفس بتوسط الجسد مرتين؛ إحداهما عند مباشرة الحواس لها، والأخرى عند ذكرها بعدها.
مثال ذلك إذا رأى المرء وجهًا حسنًا أو زينة من محاسن الدنيا، فإن النفس تجد عند رؤيتها لها سرورًا ولذة، ثم إذا غابت عن رؤية العين بقيت رسوم تلك المحاسن مصورة في فكر النفس، وكلما لمحت هي ذاتها ونظرت إلى جوهرها رأت تلك الرسوم المصورة في فكرها؛ فسُرَّت بها والْتذَّت وتذكرت تلك المحسوسات التي انطبعت فيها منها هذه الرسوم.
وهكذا سائر المحسوسات حكمها إذا تذكرتها النفس الْتذَّت وسرَّت بها من غير شركة الجسد.
وهكذا حكم أضدادها التي هي الآلام؛ وذلك أن الإنسان إذا رأى منظرًا وحشيًّا أو صورة قبيحة، أو سمع صوتًا هائلًا مفزعًا، فإنه يؤلمه رؤيته لها في وقته واستماعها، وبعد مغيبها إذا تذكرها وتفكر فيها. وليس التذكر والتفكر شيء سوى لمحات النفس ذاتها ونظرها إلى جوهرها ورؤيتها رسوم تلك المحسوسات مطبوعة في ذاتها، كما ينطبع نقش الفص في الشمع المختوم. فهذه الملاذ والآلام، وإن كانت لا تصل إلى النفس إلا بتوسط الجسد، فقد تجدها بعد غيبة المحسوسات عن مباشرة الحواس لها، فيدل هذا على أن النفس لها لذة تجدها بعد مفارقة الجسد أيضًا كما تجد لذة المحسوسات بعد مفارقتها وغيبتها.
(٥) فصل في اللذات الروحانية
فنقول: أما اللذات الروحانية التي تجدها النفس بمجردها، فهي نوعان؛ إحداهما ما تجدها وهي مفارقة للجسد، والثانية ما تجدها وهي مقارنة له. فالتي تجدها وهي مفارقة له نوعان؛ إحداهما ما يرد عليها من خارج، كما بيَّنا قبل هذا، والآخر من ذاتها، والتي تجدها وهي مقارنة له فهي أربعة أنواع:
- فمنها: ما تجدها من اللذة والسرور والفرح عند تصورها حقائق الموجودات من المحسوسات والمأكولات جميعًا.
- والثانية: ما تجدها عند اعتقادها الآراء الصحيحة ومذاهبها الحميدة.
- والثالثة: ما تجدها عند عذوبة أخلاقها الكريمة وعاداتها الجميلة.
- والرابعة: ما تجده من الفرح والسرور واللذة عند ذكر أعمالها الزكية وأفعالها الخيِّرة.
وهذه اللذات مشتركة بين الإنسان وبين الملائكة وأضدادها من الآلام، ومشتركة بين الإنسان والشياطين، كما سنبين بعد هذا الفصل.
وأما بيان ما يلحق النفوس من اللذة والألم في اعتقاداتها ومعارفها وجهالاتها وأخلاقها وأعمالها، فاعلم إن الإنسان إذا كانت أعماله سيئة وأفعاله قبيحة، فإن نفسه أبدًا تكون مرتابة مرعوبة مضطربة متألمة، كما ذكر الله تعالى في صفة المنافقين فقال: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ … فإذا كانت أعمالهم صالحة وأفعالهم جميلة، فإن نفوسهم أبدًا تكون ساكنة هادئة مستريحة.
وهكذا إذا كانت أخلاق الإنسان جميلة وسجاياه سهلة ومعاملته طيبة ومخالطته عذبة، فإن نفسه تكون أبدًا في القلوب محبوبة ومن الغوائل آمنة. وإن كانت أخلاقه شرية وطباعه وحشية وهمته سبعية، يكون مَن يصحبه أبدًا في عناء وهو من نفسه في جهل وبلاء.
فهكذا حكْم الاعتقادات والآراء، وذلك أن بعضها مؤلم لنفوس معتقديها ومحير ومشكك كما قيل (شعرًا):
ومثل من يعتقد أن ربه قتلته اليهود، ومثل من يعتقد أن إمامه مختفٍ من خوف مخالفيه، ومثل من يعتقد أن رب العالمين خلق خلقًا وناصبهم العداوة وهو إبليس وجنوده، ومثل من يعتقد أن رب العالمين حقود حنق يغتاظ على الكفار والعصاة مِن خلْقه، ومثل من يرى ويعتقد أن أمر العالم غير منتظم وأن مدبره وصانعه قد أهمل أمر عالمه حتى يجري فيه أشياء على غير مراده ومشيئته، ومثل من يعتقد ويرى أن رب العالمين الغفور الرحيم الودود البار المحسن الحنَّان المنَّان الجواد الكريم الجميل يأمر الملائكة بأن يأخذوا الكفار والعصاة ويرمون بهم في خندق من النار، وكلما احترقت جلودهم وصاروا فحمًا ورمادًا أعاد فيها الرطوبة والحياة ليذوقوا العذاب.
ومثل من يعتقد أنه يباشر في الجنة مع الأبكار ويلتذ منها ويزيل البكارة ثم تعود البكارة.
ومثل من يعتقد ويرى أنه يشرب الشراب في الجنة ويكون باريه ساقيه.
ومثل من يعتقد أنه يتمنى في الجنة الطيور المشوية الحاصلة عنده، فيتحصل بعد تمنيه في الحال، ثم يأكل منها حتى الشبع، ثم بعد ذلك تطير الطيور كما تطير في حال الحياة.
ومثل من يعتقد أن الإنسان إذا مات بطلت نفسه ووجودها.
ومثل من لا يرجو الجنة إلا بعد خراب السموات وطيها كطي السجل للكتب.
ومثل من يعتقد أن الكواكب تتناثر وتتساقط في القيامة.
ومثل من يعتقد أن أعمال الإنسان تجعل في كفتين من كفتي الميزان.
ومثل من يعتقد سؤال منكر ونكير في القبر من جسد الميت.
ومثل من يعتقد ويرى أن في الجحيم تنانين وثعابين وأفاعي يأكلون الفساق ويصيرون أحياء بعد ذلك؛ وما شاكل هذه من الاعتقادات المؤلمة لنفوس معتقديها مع أن جميع ما نطق به الأنبياء عليهم السلام من صفة الجنة ونعيم أهلها وعذاب النار والعقاب وأحوال القيامة كلها حقٌّ وصدق لا مرية فيها، ولكن ليس الأمر كما يعتقد هؤلاء الظلمة الكفرة، بل أمر وراء ذلك لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم.
وأما من يرى ويعتقد ويعلم أن للعالم بارئًا حكيمًا قادرًا حليمًا جوادًا كريمًا غفورًا رحيمًا، وأنه قد أحكم أمر عالمه على أحسن نظام، ورتب تدبير الخليقة على أتقن حكمة، ولم يترك فيه خللًا، ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، ولا يرى في خلق الرحمن من تفاوت؛ فإن نفسه أبدًا ساكنة هادئة مستريحة من الألم والآراء الفاسدة وأوجاع الاعتقادات الزائفة، ومن وحشة ظلمات الجهالات المتراكمة، وهو في راحة من نفسه، والخلق في راحة منه، ومن جهة في أمان لا يريد بأحد سوءًا، ولا يرى له عليهم فضلًا، ولا يطالبهم بحق، ولا يشكوهم من جفاء، ولا يصيبهم منه أذًى فهذه صفة إخوانك الكرام.
فهل لك يا أخي أن ترغب في صحبتهم وتتبع منهاجهم وتسير سيرتهم وتتخلق بأخلاقهم وتنظر في علومهم وسياستهم؛ لتعرف أسرارهم واعتقاداتهم، أو تحضر مجلسهم لتسمع كلامهم وأقاويلهم أو تقرأ رسائلنا هذه لعلك توفق لفهم معاني ما تضمَّنَتْه وتنتبه لنفسك من نوم الغفلة وتستيقظ من رقدة الجهالة وتنفتح لها عين البصيرة، فتحيا حياة العلماء وتعيش عيش السعداء وتصعد إلى ملكوت السماء.
فصل
ثم اعلم أن من الآراء والاعتقادات ما هو مؤلم لنفوس معتقديها ومؤذٍ لها، ومنها ما هو مفرح ومُسِرٌّ ومُلِذٌّ لها، كما بيَّنا قبل هذا، ولكن نضرب مثلًا لذلك كيما يتضح.
-
حكاية: ذكروا أنه كان رجل من أرباب النعم متدينًا، وكان له ابن
متجاهر بالسكْر، وكان الرجل كارهًا لذلك منه.
فقال له يومًا: يا بني انتهِ عن السكر حتى أعطيك شطرًا من مالي وعقاري وأُفْرد لك دارًا وأزوِّجك بحسناء إحدى بنات أرباب النعم.
فقال ابنه: يا أبتِ ماذا يكون؟ فقال: تعيش فرحًا مسرورًا ملتذًّا ما بقيت.
فقال ابنه: إن كان الغرض هو هذا فهو حاصل لي. فقال له أبوه: كيف ذلك؟
قال: لأني إذا سكرت وجدت في نفسي من الفرح واللذة والسرور حتى أظن معه أنَّ مُلك كسرى كله لي، وأتخيل في نفسي من العظمة والجلال حتى أرى العصفور مثلًا قدر البعير.
فقال له أبوه: ولكن إذا صحوت لا ترى لذلك حقيقة. قال: أعود فأشرب ثانيًا حتى أسكر فأرى مثل ذلك.
فهكذا القياس في حكم المعتقدين ببقاء النفس بعد مفارقتها الجسد في وجدان لذاتهم؛ لأنه إن كان الغرض من الحياة في الدنيا ليس إلا لأجل اللذة والفرح والسرور والراحة بعد الموت، كما قال تعالى: وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لَا يَرْجُونَ بعد الموت الذي ليس هو شيئًا سوى مفارقتها الجسد، كما بيَّنا قبل هذا، وقد بيَّنا أيضًا في رسالة حكمة الموت، ولا يُنقص هذا الاعتقاد من لذاتهم في الدنيا شيئًا.أما معتقدو فنائها فإنهم لا يخلون؛ إما أن يكونوا من سعداء أبناء الدنيا، أو من أبناء أشقيائها، فلو كانوا من أبناء سعدائها فإن هذا الرأي والاعتقاد يؤلم نفوسهم ويؤذيها؛ وذلك أنهم كلما فكروا في الموت والفناء تَنَغَّص عليهم عيشهم، وأُدخل الحزن على نفوسهم، ونقص من لذاتهم في دنياهم؛ لأنهم قد أيقنوا بذهابها وفنائها، ولا يرجون غيرها ولا يؤملون سواها. وإن كان هؤلاء المعتقدين بفناء النفس من أبناء أشقياء الدنيا، فهم يعيشون في غم وحزن طول أعمارهم في الدنيا ويموتون آخره بحسرة ومصيبة.
ثم اعلم أن الاعتقادات الرديئة والآراء الفاسدة المؤلمة لنفوس معتقديها المؤذية لها كثيرة لا يمكن إحصاؤها وبيان صفاتها، ولكن نذكر المحمودة منها ونَصِفُها لتُعْرَفَ ويُتمسك بها وتُجتنب سواها، وقد بيَّنا في رسالة النواميس طرفًا من ذلك، وفي رسالة اعتقاد إخوان الصفا، ورسالة ماهية الإيمان وخصال المؤمنين المحققين الذين وعدهم الله الجنة، وشرَحْنا طريقتهم وأخلاقهم وآراءهم وعلومهم وأعمالهم في إحدى وخمسين رسالة، وبينا فيها صفاتهم وكيفية أحوالهم، لكن نذكر جملة ها هنا منها بقول وجيز مختصر.
وهو أن الإنسان العاقل يرى ويعتقد أن للعالم صانعًا بارئًا حكيمًا قديمًا حيًّا عالمًا، وأنه قد نظم أمرَ عالَمِه نظامًا محكمًا، ورتب الموجودات ترتيبًا متقنًا، ولا يخفى عليه من أمر عالمه صغيرة ولا كبيرة إلا وهو يعلمها ويدبرها تدبيرًا واحدًا بحسب ما يليق بواحد واحد من الموجودات والكائنات، وبحسب الاستعدادات الحاصلة من الكائنات، وأن يجري حكم عالمه بجميع خلائقه من الأفلاك والبروج والكواكب والأركان والمولودات كمجرى حكم إنسان واحد وحيوان واحد، وأن سريان قُوى ملائكته في أطباق سمواته وفضاء أفلاكه كسريان قُوى نفس إنسان واحد في جميع بدنه ومفاصل جسده، وهذا قول مجمل قد شرحنا تفسيره وبيَّنَّاه في جميع رسائلنا أجمع، ولكن لا بُدَّ من أن يصادره المتعلمون في أول الأمر والمبتدئون بالنظر في هذا الشأن العظيم كما يصادرون سائر العلوم والصنائع، ثم في آخر الأمر يعرفون حقيقته وتتبيَّن لهم صحته.
فصل
ثم اعلم أن غرض إقرار المبتدئين واعتقاد المتعلمين في مبدأ كل صناعة على تحقيق أصولها قبل معرفتهم بها تقليدًا هو من أجْل أنه لا يبين ذلك إلا بعد التبحر فيها والبحث والكشف عنها.
واعلم أنه كما أن المتوسطين في كل علم وصناعة لا يرضون بالتقليد، إذ قد يمكنهم البحث والكشف عنه بالبراهين، فهكذا أيضًا ينبغي للمقرِّين بكتب الأنبياء عليهم السلام وما فيها من الأسرار والإشارات المكنونة والعلوم الشريفة، والمتوسطون في العلوم لا يرضون بالتقليد مثل الصبيان والنساء وضعفاء العقول، بل يجب عليهم البحث عنه والكشف عن الأسرار والإشارات.
ذلك بأن ليس غرض الأنبياء عليهم السلام فيما وصفوا من مجلس الجنان ولذات أهلها هو الإقرار باللسان حسب، بلا اعتقاد ولا الاعتقاد حسب، بلا تحقيق يظهر لهم، بل الغرض هو التصور لها بحقائقها كيما تقع الرغبة فيها والطلب لها؛ لأن الإنسان لا يطلب ما لا يرغب فيه ولا يرغب فيما لا يتحققه ولا يتحقق ما لا يتصوره ولا يتصور الشيء الخفي الغائب إلا بالوصف البليغ بالمحاسن، فمن أجل هذا أكثر في القرآن من وصف محاسن الجنان وسرور أهلها ولذات نعيمها؛ فتارة وصفها أوصافًا جسمانية على قدر طاقة القوم مثل قوله تعالى: عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ … الآية، ذَكَرَ هذا وبيَّن على قدر قبول أفهامهم لا بمعنى أن هذه الأشياء ستوجد في الجنة على حالات جسمانية، بل ستوجد أشياء روحانية ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وقال تعالى أيضًا: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ وما شاكلها من أوصاف الأمور الجسمانية.
وتارة وصفها بأوصاف روحانية على قدر فهم المتوسطين مثل قوله تعالى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ، وقال: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وقال: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ، وقال: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وما شاكلها من الأوصاف الروحانية التي لا تليق بالأجسام الطبيعية. وتارة وصفها بأوصاف هي بين الروحانية والجسمانية مثل قوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ.
أمَا ترى يا أخي أنه قال مَثل الجنة على سبيل التشبيه والتمثيل ليقرب من الفهم تصورها؛ لأنه يقصر الوصف عنها بحقائقها، وإنما خاطب كل طائفة من الناس بحسب عقولهم ومراتبهم في المعارف والفهوم؛ لأن دعوة الأنبياء عليهم السلام عموم للخاص والعام جميعًا، ومن بينهما من طبقات الناس، وقد صرح المسيح عليه السلام في وصف الجنان ونعيم أهلها بأوصاف غير جسمانية، فقال للحواريين في وصية لهم: إذا فعلتم ما فعلت وما قلت لكم تكونون معي غدًا في ملكوت السماء عند أبي وأبيكم، وترون ملائكته حول عرشه يسبحون بحمده ويقدسونه، وأنتم هناك ملتذُّون بجميع اللذات بلا أكل ولا شرب. وإنما صرح المسيح عليه السلام ولم يرمز؛ لأن خطابه كان مع قوم قد هذبتهم التوراة وكُتُب الأنبياء — عليهم السلام — وكُتب الحكماء أيضًا وكانوا غير محتاجين إلى الإشارات والتنبيهات، بل كانوا متهيئين لصورها مستعدين لقبولها.
فأما سيد الأنبياء وخاتم المرسلين — صلى الله عليه وآله — اتفق مبعثه في قوم أميين من أهل البوادي، غير مرتاضين بالعلوم ولا مقرِّين بالبعث والنشور، ولا عارفين بنعيم ملكوت الدنيا، فضلًا عن معرفة نعيم أهل السموات الذين هم ملكوت الأفلاك والآخرة وأهل الجنان، فجعل أكثر صفة الجنان في كتابه جسمانية ليقرِّبها من فهم القوم ويسهِّل تصورها عليهم وترغب نفوسهم بها. ونحن قد جعلنا بحثنا عن أسرار الكتب الإلهية، وبيَّنا في أكثر رسائلنا معنى أسرار التنزيلات النبوية، وكشفنا عن أكثر الرموزات والإشارات وعن الموضوعات الناموسية.
وذلك لأن خطابنا لا يكون إلا مع أقوامٍ علماء فضلاء مارسوا إخوان الصفاء ورسخوا في العلم وارتاضوا بالرياضيات الحكمية المقرونة بأسرار الكتب الإلهية وإشارات الأنبياء عليهم السلام.
فإن كنت أيها الأخ واحدًا منهم فهلم إلى صحبة إخوان لك فضلاء وأصدقاء كرماء علومهم حكمية وآدابهم نبوية وسيرتهم ملكية ولذاتهم روحانية وهممهم إلهية، واترك صحبة إخوان الشياطين الذين لا يريدونك إلا لجرِّ منفعة الأجساد أو لدفع المضرة عنها. وكن يا أخي من المؤمنين الذين بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، حتى تكون من الذين أشار إليهم بقوله: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ، وتكون من الذين مدحهم الله تعالى بقوله: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ.
وإذ قد فرغنا من ذكر اللذات والآلام الجسمانية التي تجدها النفس بمفارقتها الجسد وما تجدها بمجردها وهي مع الجسد، فنريد أن نذكر ما تجده بعد المفارقة من اللذة والآلام التي هي جزاؤها وثوابها على ما عملت من شر وعرفان وإنكار، المعبَّر عنه في الشريعة النبوية بالثواب والجزاء والعذاب الأليم.
(٦) فصل في كيفية وصول الآلام إلى النفوس الشريرة بعد مفارقة أجسادها، وكيف تكون من جنود إبليس وحزب الشياطين
فنقول: اعلم أن الإنسان العاقل إذا سمع أوامر الناموس ونواهيه ووعيده وزواجره، ثم لم يأتمر بحدوده ولم ينقَدْ لأحكامه، أو سمع العلوم الحكمية فلم يقم بواجبها، ثم أهمل أمر نفسه وأعرض عن النظر في مصالحها بعد مفارقتها الجسد، بل جعل أكثر عنايته في إصلاح شأن هذا الجسد واهتمامه في تربيته، واشتغل الليل والنهار بما يُصلح الجسد من المأكولات والمشروبات واللبس والمركب والمسكن، وجمع المال والأثاث وزينة الدنيا، واستغرق في الشهوات الجسمانية وغاص في اللذات الجرمانية، لا يفكر في غيرها ولا يهمه سواها، وتمنى الخلود في الدنيا مع إنه يتيقن بأنه لا يُترك ها هنا، وأفنى عمره كله ساهيًا ولاهيًا إلى الممات.
ثم جاءته سكرة الموت بالحق التي هي مفارَقة النفس الجسد على كرْهٍ منها وإجبار منها، وتلك شربة لا بُدَّ من شربها لكل من دخل في عالم الأجساد والأجسام الطبيعية الهيولانية، وبقيت عند ذلك نفسه بلا جسد وقد سلبت آلات الحواس التي كانت تنال بها اللذات الجسمانية، وقد اعتادتها بطول الدربة فيها، فانطبع في همتها النزول إليها، ولا وصول لها إلا بهذا الجسد وأعضائه، وقد منعت ذلك لكون مثلها عند ذلك كمثل من سلت عيناه وصمَّت أذناه، وشلت يداه وقطعت رجلاه وخرس لسانه وشدت منخراه، وعمي قلبه وفارقته أحبابه وجفاه أصدقاؤه وتركه إخوانه، وهجره جيرانه وظفر به أعداؤه وشمت به حساده، وما بقي معه إلا الروح في الجسد معذبًا، فلا هو حي يلذ بالعيش ولا ميت يستريح من العذاب كما قال تعالى: لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا، فتبقى تلك النفوس عند ذلك تائهة هائمة بهمومها في طلب ما قد فاتها بما اعتادته من لذَّات هذه المحسوسات، وقد منعت الوصول إليها والعود، فعند ذلك تتمنى وتقول بهمتها: يا ليتنا نُرَدُّ فنعمل غير الذي كنا نعمل، يا ليتني كنت ترابا، فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا؛ ثم يقول الله سبحانه: ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه؛ فعند ذلك تبقى بحسرتها وندامتها متألمة، بذاتها معذبة من سوء عاداتها، عمياء في جهالاتها دون فلك القمر، سائحة في قعر الأجسام المدلهمة، غريقة في بحر الهيولى، هائمة هاوية في عالم الكون والفساد مع أبناء جنسها من الأمم الخالية إخوان الشياطين وجنود إبليس أجمعين، كما ذكر الله تعالى: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا … إلى آخر الآية، وهم متعلقون بأبناء جنسها من النفوس المتجسدة بالوسوسة لها إلى ما في طباعها من شهوات هذه اللذات المحسوسات ضالين مضلين في جهنم خالدين، كما ذكر الله تعالى: فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ، وذلك هو العقاب والعذاب الأليم والجزاء للنفوس الشريرة الجاهلة والغافلة عن الحقائق والعلوم الشرعية.
(٧) فصل ماهية الشياطين وجنود إبليس أجمعين
اعلم أن النفوس المتجسدة الخيرة ملائكة بالقوة، فإذا فارقت أجسادها كانت ملائكة بالفعل، كما بيَّنا في رسالة صفات المؤمنين المحققين ورسالة البعث، كذلك النفس المتجسدة الشريرة هي شياطين بالقوة، فإذا فارقت أجسادها كانت شياطين بالفعل.
فهذه النفوس الشيطانية بالفعل توسوس للنفوس الشيطانية بالقوة لتخرجها إلى الفعل، كما قال تعالى: شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا، فشياطين الإنس هي النفوس المتجسدة الشريرة آنست بالأجساد، وشياطين الجن هي النفوس الشريرة المفارقة للأجسام المحتجبة عن الإبصار، ومَثل وسوسة هذه النفوس المفارقة لهذه النفوس كمثل من قويت شهوته للطعام والشراب وضعفت حرارته الهاضمة عن نضجها، فهو يشتهي ولا يستمرئ، فعند ذلك تكون همته أن يرى الطعام والآكلين لينظر إليهم، فيستريح عنها لضعف الآلة وبطلان فعل القوة، وكمثل من ضعفت آلة جماعه لا يقوم عليه، فهمَّته أن يرى الفاعلين لعله يقوي طبيعته وينهض آلته.
وهذه حكم النفوس المفارقة ليست لها آلة تنال بها اللذات المحسوسة، فهي تحب وتوسوس إلى أبناء جنسها ممن لها تلك الآلة على الفعل.
فهكذا وسوسة النفوس الشريرة المبغضة إذا فارقت أجسادها تعلقت بأبناء جنسها من النفوس المتجسدة المبغضة الشريرة بالوسوسة لها إلى القتال والخصومات والعداوات، وإلى هذه النفوس أشار بقوله تعالى: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ.
فهكذا حكم أبناء الدنيا، يا أخي، الجاهلين بأمر المعاد، المشتغلين بالأجساد، الغافلين عما بعد الموت، المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم، كما ذكر الله تعالى: وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ كما بيَّنا في رسالة البعث والقيامة، فاطلب من هناك.
وإذ قد فرغنا من ذكر الآلام الروحانية التي تصل إلى النفوس الشريرة بعد مفارقتها أجسادها التي كانت جنة لها، فنريد أن نذكر اللذات الروحانية التي تجدها النفوس الخيرة الفاضلة بعد مفارقتها أجسادها التي كانت كالسجن لها، كما بيَّنا في رسالة كراهية الحياة والموت.
ثم اعلم يا أخي أن اللذة والراحة والسرور والفرح والنعيم التي تجدها النفوس الخيرة الفاضلة الملكية بعد مفارقتها والجسد المعبر عنها في الشريعة بالثواب والجزاء؛ يقصر الوصف بحقائقها، ولا يبلغ البشر كنه معرفتها؛ لأنها روحانية أبدية سرمدية، قال تعالى: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وقال عليه السلام: فيها من اللذات ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من الروح والريحان.
ولكن نذكر منها طرفًا ونشير إليها إشارة وهمية، حسب ما جرت عادة الإخوان الأصدقاء في ذلك، ونضرب لذلك مثلا شبه الرموز والإشارة والتنبيه؛ كيما يقرب من فهم المتفكرين، ويتصور في أفكار المريدين، فنقول:
اعلم أنه كان في الأزمان الماضية فتًى من أولاد الملوك شابًّا ظريفًا حسن الوجه، كامل البنية، تام الصورة، جميل الأخلاق، كريم الأفعال، عادل السيرة؛ عشق جارية حسناء من أقاربه من بنات الملوك، فتزوجها وزفها كما يليق بأولاد الملوك من الكرامات، وعاش معها زمانًا طويلًا في عز سلطانه ونعيم مملكته ولذة شبابه وسرور نعمته، آمنين هادئين بلا تنغيص من عوارض الحدثان.
ثم فرق الدهر بينهما بموتها وزال الفتى عن ملكة بغلبة عدوٍ ظَهَرَ عليه واغترب عن بلاده وساح في الأرض على حالة الغرباء، وافتقر وأصابه الذل والهرم، وضعف بدنه، وذهبت قوته وكل بصره، وثقل سمعه وأصابه العري والجوع والعطش، وتمنى الموت مما هو فيه من المحنة والبلوى والجهد والشدة، فدخل خربة ونام فيها على مزبلة ورماد يستريح بلينِ وطائِها، فوجد راحة فنام فرأى في منامه كأنه شاب طري كهيئة ما كان عليه في صباه، وقد رجعت إليه قوة بدنه ونشاط نفسه وأيام شبابه، وكأنه على سرير في ملكه وعز سلطانه ونعيم أثاثه وسرور أيامه، إذ هو بتلك الجارية كهيئتها يوم عشقها وزمان تزوجها بحسنها وجمالها، فعانقها والْتزمها شهوة ونال منها شهوته كما كان يدرك بدءًا وهما على سرير الملك، يحملهما الريح حيث أرادا، فمن شدة ما وجد من اللذة والفرح اضطرب من نومه وتحرك وانتبه، فإذا هو في تلك الخربة وفي تلك المزبلة وكلاب حوله تنبح عليه.
فماذا ترى أيها الأخ؟ كم بين حال نفسه في ذلك المنام وما وجد من اللذة والسرور والفرح، وبين حالتها لما استيقظتْ من الغموم والأحزان والشدائد والبلوى والجهد؟
فهكذا القياس بين حال النفوس الخيرة وكونها مع الأجساد وبين كونها مفارقة للأجساد من اللذة والفرح والسرور، وبالإضافة إلى حالها مع الأجساد وما يلحقها من الهموم والغموم والأحزان والمصائب والشدائد، نجانا الله وإياك وجميع إخواننا من ألم نيران جهنم، عالم الكون والفساد، وأوصلك وإيانا إلى نعيم الجنان عالم الأرواح والأفلاك من ملكوت السماء وجوار الملائكة المقربين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.