الرسالة التاسعة
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم أيها الأخ — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — أنَّا قد فرغنا من ذكر رسالة الحيوانات وبيان عجائب هياكلها، وغرائب أحوالها، والغرض منها هو البيان عن أجناس الحيوانات وكمية أنواعها واختلاف صورها وطبائعها وكان لنا أيضًا غرض آخَر من ذلك؛ أنَّا أردنا أن نبيِّن حقائقها بتلك الإشارات والعبارات، فلا يخفى على الحكماء غرضنا في ذلك حسب ما بيَّنَّا في الفصل المعين عند ذكرنا الملك والملائكة، وحان لنا أن نذكر في هذه الرسالة تركيب جسد الإنسان؛ إذ آخِر مرتبة الحيوانية متصل بأول مرتبة الإنسانية، وغرضنا من هذه الرسالة أن نبيِّن كَوْن الإنسان هو عالم صغير، فنقول: اعلم — وفَّقك الله — أن الإنسان إذا ادَّعَى معرفة الأشياء وهو لا يعرف نفسه، فمَثَله كمَثَل مَن يُطعِم الناس وهو جائع، وكمَثَل مَن يُداوي غيرَه وهو مريض سقيم عليل، أو كمَن يَكسُو الناس وهو عريان وعورته للناس بادية، ما إنْ يواريها، أو كمَثَل مَن يَهدِي الناس إلى الطريق وهو ضالٌّ لا يعرف طريقَ بَيْتِه، وقد علمتم أن في هذه الأشياء ينبغي للإنسان أن يبتدئ أولًا بنفسه ثم بغيره.
- أحدها: النظر في حالات الجسد ما هو، وكيف هو من تركيب أجزائه وتأليف أعضائه، وما الصفات المخصوصة به خِلْوًا من النفس؟
- والجهة الثانية: النظر في أمر النفس مجردة من الجسد وقواها، وما هي، وكيف هي، وما الصفات المخصوصة بها؟
- والجهة الثالثة: النظر في مجموعهما وما يَظهَر من جملتهما من الأخلاق والأفعال والحركات والصنائع والأعمال والأصوات وما شاكل ذلك، وتبتدئ أولًا بذكر حالات الجسد وصفاته بكلام مختصر كيما يكون دليلًا على أمر النفس وحالاتها؛ لأن حالات الجسد ظاهرة مكشوفة متخيَّلة مُدْرَكة بالحواس، وأما أمر النفس وحالاتها فغائب عن إدراك الحواس وباطن في عمق الجسد مستور خفي، وإنما يدرَك بالعقل.
فاعلموا أيها الإخوان أن الشاهد من حالات الجسد يدل على الغائب من حالات النفس، والظاهر يدل على الباطن والمكشوف على المستور، والجلي على الخفي، والمحسوس على المعقول، وقد قلنا في الرسالة الأولى: إن الجسد مؤلَّف من اللحم والدم والعظام والعروق والعصب والجلد وما شاكلها، وهذه كلها أجسام أرضية ميتة مظلمة ثقيلة متجزئة متغيِّرة فاسدة، وأما النفس فإن جواهرها سماوية روحانية ناطقة نورانية غير ثقيلة ولا متجزئة وغير فاسدة، بل متحركة باقية علَّامة درَّاكة لصور الأشياء وحقائقها.
(١) فصل في كيفية تركيب الجسد وكيفية أخلاط البدن ومزاج الطبائع
فنقول: اعلم — وفَّقك الله — أن الباري — تعالى — لما خلق الجسد وسوَّاه ونَفَخَ فيه من روحه وأحياه ثم أسكن فيه النفس وأولاه، وكان مثل أساس بنية الجسد وتركيب أجزائه وتأليف أعضائه كمثل أساس بناء مدينة بُنيتْ من أشياء مختلفة كالحجارة والطين والآجُرِّ والنورة والرمال والخشب والأجذاع والحديد وما شاكلها، فأُحكم بنيتها وشُيِّد بنيانها وحُصِّن سورها وخُطِّطت شوارعها وقُسمت محالُّها وزُيِّنت مجالسُها ورُتبت منازلها ومُلِئت خزائنها وأُسكنت دُورُها وسُلِكت طرقاتها وأُجريت أنهارها وفُتحت أسواقها واستُعمل صُنَّاعُها وأُقعِد فيها تُجَّارها ودَبَّرَها مَلِكُها وخَدَمة أهلها.
وذلك أن الله — تعالى — لما أراد تركيب الجسد ابتداءً أولًا، فاخترع أربع طبائع منفردات متعاديات القوى بسلطانها بعضها على بعض، ثم ألَّف بين كل اثنين منها، وأربعة أركان مزدوجات مؤتلفات الطبائع متناسبات القوى من أركانها، ثم أسَّس بنية هذا الجسد من هذه الأربعة الأركان التي هي أساس لبنيانها ثم ابتدأ بنيانها من أربعة أخلاط متعاديات طباعها متناسبات قواها التي هي مجموعات من أصل أركانها.
ثم جمع هذه الأربعة الأخلاط، فخَلَق منها تسعة جواهر مختلفة أشكالها هي ملاك بنيانها، ثم ألَّفها وركَّب بعضَها فوق بعض عشر طبقات متصلات بهندامها، ثم أسندها وأقامها بمائتين وثمانية وأربعين عمودًا مستويات القد أقرانًا، ثم سمَّرها ومدَّ حِبَالَها وشدَّ أوْصَالَها بسبعمائة وخمسين رباطًا ممدودات محتويات ملتفَّات عليها كالحبال، وفصلها حذرًا من نقضها ونقصانها، ثم قدَّر بيوتها وقسم خزائنها وأودع إحدى عشرة خزانة معمورة مملوءة من الجواهر مختلفة أنواعها وألوانها وخط شوارعها وأنفذ طرقاتها وفتح أبوابها وجعل لها ثلاثمائة وستين مسلكًا لسكانها واستخرج منها عيونًا، وشقَّ فيها أنهارًا هي ثلاثمائة وتسعون جدولًا مختلفات في الجهات لجريانها وفتح على سورها اثني عشر روزنًا مزدوجات المسالك لجريانها.
وأحكم بناء هذه المدينة على أيدي سبعة صُنَّاع متعاونين هم خُدَّامها، ووكل بحفظها خمسة حُرَّاس حُرَّاسًا على حفظ أركانها.
ثم رفع هذه المدينة في الهواء على رأس عمودين وحركها على ست جهات بجناحين، ثم أسكن فيها ثلاث قبائل من الإنس والجن والملائكة وجعلهم سكانها، ثم رأَّس عليهم مَلِكًا واحدًا، وعلَّمه أسماء مَن فيها وأمره بحفظها، وأوصاه بسياستهم، فقال: أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ وأمرهم بطاعته له فقال تعالى: «اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ.»
فأمَّا تفصيل تلك الطبائع المفردات الأربع: الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، والأركان الأربعة المزدوجات الطباع المتناسبات القوى هي النار والهواء والماء والأرض، والأخلاط الأربعة المتعاديات الطباع هي الصفراء والدم والبلغم والسوداء، والجواهر التسعة هي العظام والمخ والعصب والعروق والدم واللحم والجلد والظفر والشعر.
والطبقات العشرة هي الرأس والرقبة والصدر والبطن والجوف والحقو والوَرِكان والفَخِذان والساقان والقدمان.
وأما الأعمدة فهي العظام والرباطات هي الأعصاب.
وأما الخزائن الإحدى عشرة فهي الدماغ والنخاع والرئة والقلب والكبد والطحال والمرارة والمعدة والأمعاء والكليتان والأنثيان والشوارع والطرقات هي العروق الضوارب والأنهار هي الأوردة.
وأما الأبواب الاثنا عشر فهي العينان والأذنان والمنخران والسبيلان والثديان والفم والسرة.
وأما الصُّنَّاع السبعة فهي القوة الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والنامية والغاذية والمصوِّرة.
وأما الحواس الخمس فهي السمع والبصر والشمُّ والذَّوْق واللمس.
وأما العَمُودان فهما الرِّجْلان، وأما الجناحان فهما اليدان.
وأما الجهات الست فهي قُدَّام وخلف ويَمْنة ويَسْرة وفَوْق وتَحْت.
وأما القبائل الثلاث فهي النفوس الثلاثة وقواهن وأفعالهن؛ فالنفس الشهوانية وأخلاقها وأفعالها، فهي كالجن، والنفس الحيوانية وأخلاقها وحواسُّها كالإنس، والنفس الناطِقَة وتمييزُها ومعارفها هي كالملائكة، والرئيس الواحد هو العقل.
(٢) فصل في أن الجسد كالدار، وأن النفس كالساكن في الدار
اعلم أن النظر في ماهية النفس مجردة من الجسد والتصور بذاتها خِلْو منه عَسِرٌ جدًّا على المرتاضين بالرياضات الحكمية، فكيف على غيرهم؟ ولكنه إذا نظر إلى ما يَظهَر من أفعالها من الجسد واعتبر تصرُّف أحوالها مع الجسد يسهل عليه ذلك ويقرب من فهْم المتعلِّمين والتصوُّر في أفكار المتفكِّرين وجودها وتبيَّن شرَفُ جوهرها، ونريد أن نبيِّن من ذلك طرفًا، ونضرب أمثالًا كيما يكون أوضح للبيان وأقرب من فهم المبتدئين وأبلغ للتصوُّر في أفكار المفكِّرين.
فنقول: اعلم أن هذا الجسد لهذه النفس هو بمنزلة دار لساكنها بُنيت، وأُحكِم بناؤها، وقُسمت بيوتها ومُلئت خزائنها، وسُقفت سطوحها وفُتحت أبوابها، وعُلقت ستورها وأُعِدَّ فيها كلُّ ما يحتاج إليه صاحب المنزل في منزله من الفُرُش والأواني والأثاث والمتاع على أتمِّ ما يكون وأكمله وأتْقَنَه؛ فرِجلاه وقيام الجسد عليهما كأساس الدار ورأسه في أعلى بدنه كالغرفة في أعلى الدار، وظهره من خلفه كظهر الدار، ووجهه أمامه كصدر الدار، ورقبته وطولها كرواق الدار، وفتح حلقومه وجريان الصوت فيه كدهليز الدار، وصدره في وسط بدنه كصحن الدار، والأوعية التي في صدره كالبيوت والخزائن في الدار، ورئته وبردها كالبيت الصيفي، والخيشوم وجريان النفس في الحلقوم كالباداهج، وقلبه مع الحرارة الغريزية كالبيت الشتوي، ومعدته ونضج الغذاء فيها كالمطبخ، وكبده وحصول الدم فيه كبيت الشراب، ومجاري عروقه وجريان الدم والنبض إلى سائر أطراف البدن كمسالك الدار، وطحاله وحصول عكر على الدم فيه كخزانة الأثاث، ومرارته وحِدَّة الصفراء فيها كبيت السلاح، وجوفه والحُجُب التي فيه كبيت الحرم، وأمعاؤه وثقل الطعام فيها كبيت الخلاء، ومثانته وحصول البول فيها كبيت البول، وسبيلاه في أسفل البدن كمجاري الدار، وعظامه وقوام الجسد عليها كالحيطان في الدار، والعصب الممدودة على المفاصل كالأجذاع والعوارض على الحيطان، ولحمه في خلل العظام والعصب كالملاط، وأضلاعه كالأساطين في الدار، والتجويفات التي في جوف العظام كالصناديق والأدراج، والمخ فيها كالجواهر والمتاع في الأدراج والثقب التي في رءوسها كرواشن في غرف الدار، وتنفُّسه كالدخان، ووسط دماغه كالإيوان وحدقتاه كبيت العرض، والغشاوات التي بينهما كالستور، وفمه كباب الدار وأنفه كطابق باب الدار، وشفتاه كمصراعي الباب، وأسنانه كالدرابزين، ولسانه كالحاجب، وعقله في وسط دماغه كالمَلِك القاعد في وسط العرصة، وصدر الدار والمجلس، وحواسه الباطنة كالنُّدَماء، وحواسه الظاهرة كالجُنْد والجواسيس، وعيناه كالديدبان، وأذناه كأصحاب الأخبار، ويداه كالخُدَّام، وأصابعه كالصُّنَّاع، وبالجملة ما من عضو في الجسد إلا وله مثال من فعل رب المنزل.
ثم إن هذا الجسد لهذه النفس من جهة أخرى بمنزلة دكان الصانع، وإن جميع أعضاء الجسد للنفس بمنزلة أداة الصانع في دكانه، وإن النفس بكل عضو من أعضاء الجسد تُظهِر ضروبًا من الأفعال، وفنونًا من الأعمال، كما أن الصانع بكل أداة يعمل ضروبًا من الأعمال وفنونًا من الحركات، كالنجار؛ فإنه ينحت بالفأس وينشر بالمنشار ويثقب بالمثقب، ويبرد بالمبرد، وينقر بالمنقار.
وهكذا الحداد فإنه ينفخ بالمنفاخ، ويأخذ بالكليتبر ويطرق بالمطرقة.
وعلى هذا القياس سائر الصُّنَّاع كل واحد منهم يعمل بأدوات مختلفة أعمالًا مختلفة وحركات متبايِنة.
فهكذا حال النفس تبصر بالعينين وتسمع بالأذنين وتشم بالمنخرين وتذوق باللسان، وتتكلم بالشفتين واللسان وتمس باليدين وتعمل الصنائع بالأصابع، وتمشي بالرجلين وتبرك على الركبتين وتقعد على الأليتين وتنام على الجنبين، وتستند بالظهر وتحمل الأثقال على الكتفين، وتتفكر بوسط الدماغ الأشياء وتتخيل بمقدم الدماغ المحسوسات وتحفظ بمؤخر الدماغ المعلومات، وتصوت بالحلقوم وتستنشق الهواء بالخياشيم وتقطع الطعام بالأسنان وتزدرد بالمريء وما شاكل ذلك.
وبالجملة ما من عضو في الجسد إلا وللنفس فيه ضرب من الأفعال وفنون من الأعمال.
ثم اعلم أن هذا الجسد لهذه النفس الساكنة فيه يشبه مدينة عامرة بأهلها مأنوسة بسكانها وحالات الجسد تشبه حالات المدينة، وتصرُّف النفس يشبه تصرُّفات أهل المدينة فيها.
وذلك أن لهذا الجسد أعضاء ومفاصل تشبه المحالَّ في المدينة، وفي تلك الأعضاء والمفاصل أوعية ومجارٍ تشبه المنازل في المحال، وفي تلك الأوعية والمجاري حُجُب وأغشية تُشبِه البيوت في منازل الأسواق في المحال والدكاكين في الأسواق.
بيان ذلك أن الأعضاء والمفاصل تشبه المحال في المدينة، فالرأس وما حوى والصدر وما وَعَى والبطن وما ملى والرجلان والبدن.
وأما الأوعية والمجاري التي تشبه المنازل في المحال فالدماغ والقلب والرئة والطحال والمرارة والمعدة والمصارين والأمعاء والكليتان والعروق، وأما الحجب والأغشية التي تشبه البيوت في المنازل والدكاكين في الأسواق، فالتجويفات التي في الدماغ والرئة والتي في القلب والتي في العظام وغير ذلك.
فصل في أن في النفس الساكنة في الجسد قوى طبيعية وأخلاقًا غريزية
ثم اعلم أن في هذه النفس الساكنة في هذا الجسد قوًى طبيعية وأخلاقًا غريزية منبثَّة في أعضاء هذا الجسد تشبه قبائل أهل تلك المدينة وشعوبها النازلين في المحالِّ بتلك المدينة، وأن لتلك القوى وتلك الأخلاق أفعالًا وحركات منبثَّة في أوعية هذا الجسد ومجاري مفاصله تشبه أفعال أهل تلك المدينة في منازلهم وحركاتهم في طرقاتها وأعمالهم في أسواقهم.
فأما القوى الطبيعية والأخلاق الغريزية التي تشبه القبائل والشعوب فهي ثلاثة أجناس.
فمنها قوى النفس النباتية ونزعاتها وشهواتها وفضائلها ورذائلها ومسكنها القلب، وأفعالها تجري مجرى الأوراد إلى سائر أطراف الجسد.
ومنها قوى النفس الحيوانية وحركاتها وأخلاقها وحواسها وفضائلها ورذائلها ومسكنها القلب وأفعالها تجري مجرى العروق الضوارب إلى سائر أطراف الجسد.
ومنها قوى النفس الناطقة وتمييزاتها ومعارفها وفضائلها ورذائلها ومسكنها الدماغ وأفعالها تجري مجرى الأعصاب إلى سائر أطراف الجسد.
ثم اعلم أن هذه النفوس الثلاث ليست متفرقات متباينات بعضها من بعض، ولكنها كلها كالفروع من أصل واحد متصلات بذات واحدة كاتصال ثلاثة أغصان من شجرة واحدة تتفرع من كل غصن عدة قضبان، ومن كل قضيب عدة أوراق وثمار أو كعين واحدة ينشق منها ثلاثة أنهار كل نهر ينقسم عدة أعمدة، كل عمود عدة جداول أو كقبيلة واحدة يتشعب منها ثلاثة شعوب من كل شعب يتفرع عدة بطون، من كل بطن عدة أفخاذ وعشائر أو كرجل يعمل ثلاث صنائع تُسمَّى بثلاثة أسماء، فيُقال: حدَّاد نجَّار بنَّاء إذا كان يُحسِن الثلاثة أو كرجل يَقرأ ويَكتب ويعلم فيقال: قارئ كاتب معلم؛ لأن هذه الأسماء تقع على الفاعل بحسب ما يظهر منه من الأفعال والحركات والصنائع والأعمال.
فهكذا أمر النفس فإنها واحدة بالذات، وإنما تقع عليها هذه الأسماء بحسب ما يَظهَر منها من الأفعال، وذلك إذا فعلت في الجسم الغذاء والنمو فتسمَّى النفس النامية، وإذا فعلت في الجسم الحس والحركة والنقلة فتسمَّى النفس الحيوانية، وإذا فعلت الفِكْر والتمييز فتسمَّى النفس الناطقة.
ثم اعلم أن لكل عضو من أعضاء الجسد قوة من قوى النفس مختصة بها، وهي تدبر ذلك العضو وتفعل به أفعالًا خلاف ما تفعل قوة أخرى من عضو آخَر، وأن تلك القوة تُسمَّى نفسًا لذلك العضو المختصة به.
مثال ذلك: القوة الباصرة؛ فإنها تُسمَّى نفس العين، والقوة السامعة تُسمى نفس الأذن، والقوة الذائقة تسمى نفس اللسان، والقوة الشامَّة تسمى نفس الأنف، وعلى هذا القياس سائر الأعضاء للقوى التي تدبرها وتفعل بها.
ثم اعلم أن هذه النفوس الثلاث الأجناس وقواها كالأنواع وأفعال تلك القوى الأشخاص.
فأما القوى التي هي كالأنواع فهي خمسة وعشرون نوعًا؛ أربعة منها مفردات كالرؤساء وسبعة منها متعاونات كالصناع والأعوان، وخمسة كالجلايين وثلاثة مناولات كالخَدَم، وثلاثة هن كالأرباب، وثلاثة هن كالأمراء.
وأما أفعالها — أعني أفعال هذه القوى — التي هي كالأشخاص، فكثيرة لا يُحصي عددَها إلا الله، ولكن نذكر من ذلك طرفًا ليكون دليلًا على الباقي، وذلك أن هذه القوى بعضها يشبه أفعال الأشراف والرؤساء في المدينة، وبعضها يشبه أفعال التجار والباعة وجلَّابي الأمتعة إلى المدينة، وبعضها يشبه أفعال العيارين والمفسدين في المدينة، وبعضها يشبه أفعال السلطان والجند المقاتلين في المدينة، وبعضها يشبه أفعال القضاة والعدول والمصلحين في المدينة، وبعضها يشبه أفعال الصبيان والعبيد والنساء والحمقاء، وبعضها يشبه أفعال الشياطين والفتيان والجهال، وبعضها يشبه أفعال العلماء والفقهاء وأهل الدين.
وأما تفصيل ذلك فنقول: إن القوى الأربعة المفردات التي هي كالرؤساء فهي قوى النفس النباتية، وهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، وعليها تدور حالات الجسد من الصلاح والفساد، وذلك أن أفعال هذه القوى في أعضاء الجسد إذا هي اعتدلت وتساوت استقام أمر البدن على الصحة والسلامة تشبه أفعال الأمراء والأشراف والرؤساء الذين هم ملاك المدينة وأربابها، وبهم قوام أمر المدينة وصلاحها واستدامة أحوالها وأفعال هذه القوى عند ورود الطعام والشراب إلى الجسد وتناول كل واحدة من هذه القوى وما شاكلها من الغذاء على ما ينبغي تشبه أفعال أهل تلك المدينة في أخذهم وعطائهم وبيعهم وشرائهم وإنصافهم في معاملاتهم فيما بينهم، وأفعالها إذا كانت على غير ما ينبغي تشبه أفعال أهل تلك المدينة إذا تنازعوا فيما بينهم وتخاصموا في مطالباتهم، وتظالموا في معاملاتهم، وأفعال هذه القوى المميزة التي تقسم بين كل عضو ما يشاكله من الغذاء لتسوي القوى وتعتدل الأخلاط في بنية الجسد تشبه أفعال القضاة والعدول والمصلحين في المدينة بين الناس.
وأما أفعال هذه القوى إذا هِجْنَ وتعَادَيْنَ وأدخلن السقم والمرض على الجسد، فتشبه أفعال العيارين وأصحاب العصبية إذا هاجوا وأثاروا الفِتَن وتقاتلوا وأحرقوا الأسواق وخربوا المنازل ونهبوا الأموال وأفسدوا في المدينة.
وأما أفعال هذه القوى عند ورود الدواء والأشربة وإخراج فضول الأخلاط من الجسد فتشبه أفعال السلطان والجند إذا قاتلوا العيارين وسكَّنوا الفتنة وأخذوا الذعار وقطعوا أيديهم وأخرجوهم من المدينة.
وأما أفعال هذه القوى عند خروج فضول الأخلاط من الجسد وذهاب الأمراض وإصلاح حال الجسد بعد السقم، فيشبه أفعال رؤساء أهل تلك المدينة إذا تصالحوا فيما بينهم وتهادنوا وأصلحوا ما أفسد العيارون من حالات المدينة وعمروا ما خربوا منها.
وأما القوى التي هي كالأرباب فهي القوة الشهوانية والقوة الغضبية والقوة الناطقة، فأفعال القوة الشهوانية في أعضاء الجسد إذا لم ترأسها وتلزمها القوة الغضبية تشبه أفعال النساء والصبيان والحمقى إذا لم يرأسهن أزواجهن ولم يؤدِّبهم آباؤهم ومواليهم.
وأما القوة الغضبية إذا لم ترأسها وتلزمها القوة الناطقة، فتشبه أفعال الشياطين والشبان والجهال والسفهاء إذا لم يرأسهم عقلاؤهم ويلزمهم مشايخهم ولم يأمر ويَنْهَ عليهم مشايخهم.
وأما أفعال القوة الناطقة إذا لم يرأسها ويلزمها العقل فتشبه أفعال العلماء والقراء إذا تنازعوا في أحكام الدين واختلفوا فيها وصاروا ذوي مذاهب كثيرة ومقالات إذا لم يرأسهم ويلزمهم إمام عادل من خلفاء الأنبياء عليهم السلام.
وأما القوى الخمس التي هي كالحشار والجلَّابين فهي الحواس الخمس، فمنها القوة السامعة الداركة للأصوات ومجراها الأذنان، ومنها القوة الباصرة المدركة للأنوار والألوان والأشكال ومجراها الحدقتان، ومنها القوة الذائقة ومجراها اللسان، ومنها القوة الشامَّة المدركة للروائح ومجراها في المنخرين، ومنها القوة اللامسة المدركة للخشونة واللين والصلابة والرخاوة والبرودة والرطوبة واليبوسة ومجراها في الأعصاب وفي جميع الجسد وأفعال هذه القوى في إدراكها صور المحسوسات من خارج الجسد وحملها إلى القوة المتخيلة التي في مقدم الدماغ تشبه أفعال الحشار والجلابين الذين يحملون الأمتعة من النواحي والحوائج ويجلبونها إلى المدينة ويعرضونها على التجار.
وأما القوى الثلاث المتناولات التي هي كالتجار والباعة فهي القوة المتخيلة ومسكنها مقدم الدماغ، والقوة المفكِّرة ومسكنها وسط الدماغ، والقوة الحافظة ومسكنها مؤخر الدماغ.
فأما أفعال القوة المتخيلة وتناولها رسوم المحسوسات من الحواس ودفعها إلى القوة المفكرة فتشبه أفعال السماسرة والباعة الذين يكونون في عرصات المدينة والأسواق.
وأما أفعال القوة المفكرة وتناولها رسوم المحسوسات وتمييزها وتفصيل بعضها من بعض ودفعها إلى القوة الحافظة التي مسكنها مؤخر الدماغ، فتشبه أفعال التجار والذين يشترون الأمتعة ويحملونها إلى البيوت والدكاكين والخانات.
وأما أفعال القوة الحافظة وتناولها رسوم الأشياء من القوة المفكرة وحفظها وإمساكها إلى وقت التذكار فتشبه أفعال الخُزَّان والوكلاء والمحتكرين ومَن شاكلهم.
وأما القوى الثلاث اللواتي كالأمراء فالقوة الغضبية والقوة والشهوانية والقوة الناطقة، وقد بيَّنَّاها.
وأما القوى السبع المتعاونة وهي التي أفعالها في أعضاء الجسد فتشبه أفعال الصناع في أسواق المدينة، وهي القوة الجاذبة والقوة الماسكة والقوة الهاضمة والقوة الدافعة والقوة الغاذية والقوة المصورة والقوة النامية، وذلك أن هذه القوى بعضها يخدم بعضًا كما يخدم التلامذة الأستاذين والأُجَراء المستأجرين، وبعضها يعاون بعضًا كما يعاون الصناع بعضهم بعضًا في الأسواق كتعاون الحدادين للنجارين، والنجارين للبنائين، وكتعاون الحلاج للنداف، والنداف للغزالين، والغزالين للنُّسَّاج، والنُّسَّاج للخياطة، وما شاكل ذلك.
فإن كل واحد من هؤلاء يُهيِّئ صناعة صاحبه ويعطيها له فكذا أفعال هذه في أعضاء هذا الجسد، وتعاون بعضها بعضًا فيما يفعلون.
وذلك أن القوة الجاذبة من شأنها جذب الطعام والشراب إلى المعدة وجذب الكيموس من المعدة إلى الكبد، وجذب الدم من الكبد إلى العروق، ومن العروق إلى سائر أطراف الجسد.
ومن شأن القوة الماسكة إمساك ما يرد على العضو من الأخلاط.
ومن شأن القوة الهاضمة أن تنضج ذلك الخلط وتُهيِّئة للقوة الغاذية.
ومن شأن القوة الدافعة أن تدفع من العضو ما لا يصلح له من الأخلاط إلى عضو آخَر.
ومن شأن القوة النامية الغاذية أن تلصق بكل عضو ما يشاكله من مادة الغذاء.
ومن شأن القوة النامية أن تناول المادة وتزيد في أقطار ذلك العضو.
ومن شأن القوة المصورة أن تأخذ من كل عضو ما يفضل من تلك المادة وتصور مثل ذلك، وهذه القوة مختصة بالرحم.
وهذه القوى السبعة أفعالها كثيرة في أعضاء الجسد في كل عضو ضروب من الصنائع، بخلاف ما في أي عضو آخَر، وتشبه أفعال الصناع في أسواق المدينة، ونذكر منها طرفًا ليكون دليلًا على الباقي.
من ذلك أن أفعالها في المعدة من جذب الطعام والشراب إليها وإمساكها وهضمها ونضجها بالحرارة الغريزية تشبه أفعال الخبازين والطباخين وما شاكلهم في أسواق المدينة، وأفعالها بعد نضج الكيموس في المعدة وتصفيتها واستخراج لطيفها من الطعم واللون والرائحة الحلاوة والدسومة وتمييزها ودفعها إلى الكبد ودفع عكرها إلى الأمعاء تشبه أفعال العطَّارين الذين يستخرجون الشيرج من ثمر الأشجار والأدهان من حبوب النبات والزبدة والسمن من لبن الحيوان في أسواق المدينة، وأفعالها في الكبد وطبخها صفو الكيموس مرة ثانية ونضجها حتى يكون دمًا قرمزيًّا، ثم تصفيته بعد ذلك وتمييزه ودفعها عكر الدم إلى الطحال والمحترق اللطيف إلى المرارة والرقيق المائي إلى المثانة والمعتدل الصافي إلى القلب تشبه أفعال الحلَّاقين والدباسين، والذين يعملون الجلاب والسكنجبين وما شاكل ذلك في أسواق المدينة.
وأفعالها في القلب في تلطيف الدم مرة ثالثة وتصفيتها وإجرائها في العروق تشبه أفعال الذين يعملون الماورد ويصعدون الخل، ويقطرون الرطوبات اللطيفة وما شاكلها في أسواق المدينة.
وأفعالها في الدماغ وتلطيفها الدم الذي يصعد إليها حتى يصير رطوبة لطيفة روحانية، كالذي يجري في عصارة الأذنين والعينين والمنخرين واللسان والبخارات الذي يكون منها التحليل.
وانفعالات الحواس تشبه أفعال الذين يعملون الأدهان اللطيفة كدهن البنفسج ودهن النيلوفر والزيتون وما شاكلها في أسواق المدينة.
وأفعالها في دفع ثقل الكيموس من المعدة إلى الأمعاء والمصارين وإخراجها من الجسد تشبه أفعال الكناسين والزبالين والسمادين، وأفعالها في إجرائها الدم في الأوراد إلى سائر أطراف الجسد تشبه أفعال الذين يحفرون الأنهار والآبار والأقنية لتجري فيها المياه خلل المنازل في المدينة.
وأفعالها في تعقيد الدم وتجفيف المادة حتى تصير لحمًا وشحمًا وعظمًا وما شاكله تشبه أفعال الذين يعقدون المائعات من الناطفين والحلوانيين والعجَّانين وما شاكلهم.
وأفعالها في تجفيف المادة وتصلبها حتى تصير عظامًا تشبه أفعال الذين يطبخون الآجُرَّ والخزف والزجاج وما شاكلها.
وأفعالها في تسوية عظام الساقين والفخذين والذراعين وما شابه ذلك تشبه أفعال النجَّارين الذين ينجرون الأساطين وقوائم الأَسِرَّة وما شاكل ذلك.
وأفعالها في تركيب مفاصل الركبتين والفخذين والذراعين والأصابع يشبه تركيب نومادجات المفاتيح والصناديق وما شاكله.
وأفعالها في تركيب خرزات الظهر والرقبة والأضلاع تشبه أفعال الذين يبنون السماريات والسفن وما شاكل ذلك، وأفعال ذلك في تركيب عظام القحف وهندامها تشبه أفعال الصفارين والذين يعملون القماقم والأباريق في تركيبها، وأفعالها في خِلْقة الأسنان وتركيبها وترصيعها تشبه أفعال النحاتين الذين يعملون خرزة الدواليب والأرحية وندانجاتها.
وأفعالها في خلقة الأعصاب وتمديدها وفتلها ولفها على الأعضاء تشبه أفعال الغزالين والحبالين والمفتلين ومَن شاكلهم.
وأفعالها في خلقة الجلود والغشاوات تشبه أفعال الحاكة والنساجين ومَن شاكلهم.
وأفعالها في إلحام الجراحات والقروح تشبه الرفائين والجرازين والخياطين.
وأفعالها في نبت الشعر على الجلد تشبه أفعال الزراعين والغراسين ومَن شاكلهم.
وأفعالها في خلقة الأظفار تشبه أفعال الذين يعملون المساحي والمجاوف والرفائش، وما شاكل ذلك.
وأفعالها في خلقة الكروش والأمعاء والمصارين تشبه أفعال الذين يعملون الطنافس والمسوح والغليظ من الثياب، وأفعالها في خلقة الحجب والأمعاء تشبه أفعال الذين ينسجون ثياب القطن والكتان وما شاكل ذلك.
وأفعالها في خلقة الغشاوات التي في العينين تشبه أفعال الذين ينسجون الحرير والرقيق من الثياب.
وأفعالها في تبييض العظام وتحمير اللحم وتضمير الشحم وتسويد الشعر تشبه أفعال الصباغين والمزوقين والدهانين.
وأفعالها في الرحم وتصوير الجنين وخلقة الفراخ في البيض تشبه أفعال المصورين والنقاشين وأصحاب اللعب وما شاكل ذلك.
فإن قال قائل من الأطباء والطبيعيين: إن هذه كلها أفعال الطبيعة، فليعلم أن القدماء قد قالت: إن الطبيعة فعل النفس، وإن قال قائل من الشرعيين: إن هذه كلها للخالق البارئ يفعل ما يشاء، ويصوِّر كما يريد، فليعلم أيضًا أن النفس مِن فعل الباري — تبارك وتعالى — وإنما ذكرنا هذه الأفعال ونسبناها إلى النفس؛ لأن البارئ — تعالى — لا يباشر الأفعال بذاته، بل يصدر منه على سبيل الأمر، ولكيما ينتبه الإنسان من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، ويفكر في نفسه، ويشاهد هذه العجائب في الأسرار، ويعلم بأن الصانع عليم حكيم، وأن المصنوع مُبدَع لهذا الحكيم؛ لأن بالمصنوع المحكم المتقن تتبين للصانع الحكيم حكمته، ويستدل عليها كما قال الله تعالى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ.
وإن من الموجودات كلها موضوع الله؛ لأن حكمته — تعالى — وصنعه تبيَّن بالمصنوعات المحكَمة والموجودات المرتبة وَفِي أَنْفُسِكُمْ آيات الله وأسراره ومصنوعاته وعجائبه أَفَلَا تُبْصِرُونَ أيها الغافلون، وأفلا تنظرون أيها الجاهلون؟
وبالجملة إن هذا الجسد مع النفس وانبثاث قواها في جميع أعضائه الباطنة والظاهرة وإظهار أفعالها وفنون حركاتها في مجاري مفاصله وحواسها في مجاري ثقب رأسه في حال اليقظة تشبه مدينة عامرة مأنوسة لساكنها قد فُتحت أبوابها وسُلكت طرقاتها، وقَعَد تُجَّارها واشتغل صناعها وسعى متعيشوها وتحركت حيوانها وسُمع منها دويُّ حيواناتها.
وإنَّ حال هذا الجسد في وقت النوم وهدوء الحواس وسكون الحركات تشبه حال تلك المدينة بالليل إذا أُغلقت أسواقها وتعطل صناعها وخَلَتْ طرقاتها ونام أهلها وسكنتْ حركاتهم وهدأتْ أصواتهم.
وأيضًا حال الجسد عند مفارقة النفس له تشبه حال تلك المدينة إذا رحل عنها أهلها وخَلَتْ من ساكنيها وبَادَ جيرانها وبقيتْ خرابًا وصارتْ مأوًى للسباع والبُوم ثم تساقطَتْ حيطانها وخرَّتْ سقوفها وصارت تلالًا وروابي، لا تبين فيها إلا الحجارة والآجُرُّ والطين والتراب، كذلك حال الجسد عند الموت الذي هو فراق النفس إياه، وهو فراق لا يكون الوصل بعده، ولنِعْمَ ما قيل: ما من صباح يصبح العباد فيه إلا ومَلَك يُنادي كل يوم لِدُوا للموت وابْنُوا للخَرَاب، ثم إن الجسد يتغير وينتفخ ويصير مأوى الديدان والذباب والنمل، ثم يَبلَى ويَصير ترابًا لا يتبين إلا العظام والعصب تلوح كما تلوح الحجارة في تلك المدينة وآجرِّها: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
وفَّقك الله وإيانا وجميع إخواننا للسداد، وهداك وإيانا سبيل الرشاد، إنه رءوف رحيم بالعباد.