ثورات
كيف أصبح نظام الأرض الحالي مختلفًا جذريًّا عن أنظمة الكوكبَين المجاورَين له؛ المريخ والزهرة؟ هذا سؤالٌ كبير، لكنَّ وجود الحياة يُمثل جزءًا كبيرًا من الإجابة بلا شك. فقد شهدَت العقود القليلة الماضية تقدمًا علميًّا لافتًا في فهمنا لتطور الأرض بصفتها نظامًا، وفهمنا لكيفية اقترانها بتطور الحياة. إذ صار علماء نظام الأرض الآن يُفكِّرون من منظور تطوُّر الحياة وتطوُّر الكوكب المُقترنَين معًا، مُدركين أنَّ تطور الحياة قد شكَّل الكوكب، وأنَّ التغيرات الحادثة في بيئة الكواكب شكَّلَت الحياة، ويُمكن اعتبارهما معًا عمليةً واحدة. وعندما ننظر إلى هذا «التطور المشترك» على مرِّ تاريخ الأرض، يَبرُز عددٌ قليل نسبيًّا من التغيرات الثورية التي تحوَّل فيها نظام الأرض جذريًّا. وقد كان كلٌّ من هذه التغييرات الثورية يعتمد على التغيير السابق، ولولا هي لما أصبحنا هنا. يتعمق هذا الفصل في تاريخ الأرض لاستعراض تلك الثورات.
الأدلة
لنفهم العلم الكامن وراء هذه القصة اللافتة، نحتاج إلى إدراك القيمة الكاملة لِما وراءها من أدلةٍ حُصل عليها بمجهوداتٍ مضنية. يتمثل مصدر الأدلة الرئيسي في الصخور القديمة التي ما زالت تنكشف عند سطح الأرض. وتُعَد الصخور الرسوبية التي ترسَّبَت من المحيطات القديمة بالأخص قيِّمة جدًّا. وكذلك أحيانًا ما تكون بعض أجزاء التربة الباقية من سطح اليابسة القديم محفوظةً بحالتها الأصلية. ويُمكن أن تُقدِّم هذه مع تلك خيوطًا إرشادية إلى تركيب المحيطات والغِلاف الجوي في الماضي. والعديد من هذه الخيوط الإرشادية مُسجَّل في نِسَب العناصر التي تحويها الرواسب وتركيبها النظائري. وقد تحتوي الرواسب القديمة أيضًا على أحافير تُعَد نادرة في جزءٍ كبير من تاريخ الأرض ولا يمكن رؤيتها إلا من خلال الميكروسكوب. وفي أحيانٍ نادرة، تحوي الرواسب زيوتًا غنية بموادَّ عضوية يمكن أن تُنتج «أحافير جزيئية» تُسمَّى مؤشراتٍ حيوية. وهذه المركَّبات العضوية الخاصة لا تصنعها سوى مجموعةٍ فرعية من الكائنات الحية، وبذلك فهي تكشف عن وجود تلك الكائنات.
وفوق ذلك، فتاريخ الحياة مُسجَّل أيضًا في الشفرة الوراثية للكائنات الحية في الوقت الحاضر. فعند المقارنة بين تلك الكائنات، يُمكن استخدام درجة الاختلاف الوراثي القائم بينها لإنشاء نموذج يحاكي «شجرة التطور»، التي توضِّح الترتيب الذي تتفرَّع به سُلالاتٌ مختلفة من سَلفٍ مشترك. وإذا كنا واثقين من شجرة التطور وكنا على درايةٍ ما بمعدل الطفرات الوراثية على فروع مختلفة من الشجرة، فيمكن أيضًا تحويلها إلى «ساعة جُزيئية». ويقوم ذلك على استخدام درجة الاختلاف الوراثي بين الكائنات الحية — في الأجزاء غير المشفِّرة من الجينوم غير المُعرَّض للانتخاب — لتحديد الوقت الذي تفرَّعَت عنده من سَلفٍ مشترك في الماضي؛ أي الطول (الزمني) للفروع المختلفة في شجرة التطور. تُعايَر الساعات الجُزيئية وَفْق السِّجل الأحفوري في زمنٍ قريب نسبيًّا، ويمكن استخدامها بعدئذٍ لاستنباط معلوماتٍ خاصة بزمنٍ أقدم؛ لأنَّ بيانات السجل الأحفوري في تلك الأزمنة الأقدم تكون شحيحةً متناثرة. وصحيحٌ أنَّ تقديرات الساعة الجُزيئية المبكرة كان لها أعمدة خطأ كبيرة لدرجة أنها لم تخبرنا إلا بأقل القليل عن توقيت نشأة سُلالات الحياة القديمة. غير أنَّ إضفاء تحسينات على الطريقة يُنتِج تقديراتٍ أصح بخصوص التوقيت، وهذه التقديرات تبدو أدق أيضًا عند مقارنتها ببيانات السجل الأحفوري الشحيحة المتناثرة.
الزمن السحيق
ومن العوامل الضرورية لتحسين فهم تاريخ الأرض القدرةُ على تحديد تاريخ الصخور بدقة، وبالتبعية تحديد توقيت الأحداث الرئيسية. فهذا يُمكِّن العلماء من ترتيب الأدلة المتاحة لدينا في تسلسلٍ زمني، والبدء في إجراء استنتاجات عن أسبابها. وفي هذا الصدد، تستخدم طريقة التأريخ الإشعاعي التحلل الإشعاعي لنظائرَ مختلفةٍ طويلة العمر. وتُعَد الطريقة الأكثر استخدامًا هي تأريخ حبيباتٍ صغيرة من الزركون المعدني الشائع الموجود في الصخور القديمة اعتمادًا على نسبة نظائر اليورانيوم والرصاص فيها. فهذه الطريقة يُمكن أن تستفيد من حقيقة وجود نظيرَين مختلفَين طويلَي العمر من نظائر اليورانيوم يتحلَّلان إلى نظيرَين مختلفَين من نظائر الرصاص. ويُتيح ذلك مراجعةً مزدوجة للتحقق من صحة التأريخ، ويُقدِّم تقديراتٍ زمنية دقيقة إلى حدٍّ لافت.
نشأة كوكب الأرض
يبدأ خطُّنا الزمني بتكوين المجموعة الشمسية. ويعود تاريخ ذلك، بناءً على أقدم مادةٍ نيزكية، إلى ٤٫٥٦٧ مليارات سنة مضت. أمَّا الأرض والكواكب الأخرى، فهي أصغر عمرًا من ذلك؛ لأنها تكوَّنَت بالضرورة من التصادمات القائمة على الجاذبية وتراكُم المواد التي كانت تدور حول الشمس في مرحلةٍ مبكرة من عمرها، في عملية تُسمى التنامي بالتراكم. وفي أثناء تنامي الأرض بالتراكم، وقعَت بعض التصادمات الهائلة جدًّا، ويُظن أنَّ آخرها قد كوَّن القمر منذ ٤٫٤٧٠ مليارات سنة. إذ اصطدم جسم يُسمى ثيا (تيمنًا باسم ثيا والدة سيلين، إلهة القمر) بالأرض، مؤديًا إلى إطلاق كتلة من المواد التي تراكمَت لتُكوِّن القمر. ويُمكِننا أن نكون متيقِّنين من ذلك إلى حدٍّ كبير؛ لأنَّ القمر أقل كثافةً من الأرض، مما يُشير إلى أنه يفتقر إلى لُبٍّ غني بالحديد.
كانت الأرض آنذاك ما تزال في طور التكوُّن، لكنَّ كوكبَي المشتري وزُحَل الغازيَّين العملاقَين كانا قد تكوَّنا بالفعل. وقد مزَّقت قوى الجاذبية الخاصة بهما حزامَ الكُويكبات الموجود بين المريخ والمشتري، مُطيحةً ببعض الكُويكبات حتى استقرَّت في مداراتٍ إهليلجية تمُرُّ عَبْر النظام الشمسي الداخلي. وقد أسفر ذلك، في خطوةٍ بالغة الأهمية، عن جلبِ الماء وموادَّ متطايرة أخرى، منها النيتروجين وثاني أكسيد الكربون، إلى كوكب الأرض في مراحل عمره المُبكرة (وكذلك إلى المريخ والزهرة). تجدُر الإشارة هنا إلى أنَّ بعض الأجزاء البالغة الصِّغر من قشرة الأرض، التي تعُود إلى ذلك الوقت، ما زالت موجودةً عند السطح في الوقت الحاضر، على شكل حبيبات من الزركون. ويبلغ عُمر أقدمها ٤٫٣٧٤ مليارات سنة، وكانت في الأصل جزءًا من صخرة جرانيت؛ مما يُشير إلى أن القشرة القارية قد بدأَت تتكوَّن في أول ١٠٠ مليون سنة من تاريخ الكوكب. ويُشير تركيب نظائر الأكسجين الموجودة في الزركون أيضًا إلى أنَّ ذلك الوقت شهد وجود محيطات من الماء السائل على كوكب الأرض.
لكنَّ الهجوم الذي كان الكوكب يتعرَّض له من الفضاء الخارجي لم يكن قد انتهى بعدُ. فالأرض وكل النظام الشمسي الداخلي تعرَّضا ﻟ «قصف شديد متأخر» بالكُويكبات. وقد كُشف عن ذلك بتأريخِ الصخور المنصهِرة بفعل الاصطدام التي أحضرَتها بعثات «أبولُّو» من القمر، والتي أظهرَت تجمُّعًا من العصور في نطاقٍ زمني يتراوح بين ٤٫١ و٣٫٨ ملايين سنة مضت. تُشير عمليات المحاكاة الحاسوبية إلى أنَّ «القصف الشديد المتأخر» من الممكن أن يكون قد نتج من حدوث رنينٍ مداري بين مدار المشتري ومدار زُحَل أسفَر عن انحراف الكُويكبات الموجودة في مداراتٍ إهليلجية إلى داخل النظام الشمسي الداخلي. وقد كانت بعض الاصطدامات التي وقعَت في القصف كبيرةً بما يكفي لتبخير المحيطات المُبكرة؛ وبذلك جعلَت الكوكب غيرَ صالح للحياة (أو كادت تجعله هكذا).
نشأة الحياة
كان التغيير الأساسي الأبرز في تاريخ نظام الأرض هو نشأة الحياة. وتجدُر الإشارة إلى أنَّ أول دليل غير مؤكَّد على وجود الحياة على الأرض يأتي بعد وقتٍ قصير جدًّا من انتهاء «القصف الشديد المتأخر»، منذ حوالي ٣٫٨ مليارات سنة. ويتمثل هذا الدليل في جسيماتٍ صغيرة من الجرافيت — مصنوعة من الكربون العضوي — في بعض أقدم الصخور الرسوبية. أما أُولى الحَفريات المِجهرية التي يُفترض أنها لكائناتٍ حية فيعود تاريخها إلى حوالي ٣٫٥ مليارات سنة مضت. وصحيح أنها تُشبه البكتيريا، لكن البعض ليس مقتنعًا بأنَّ تلك البِنى الأحفورية تكوَّنَت بواسطة أحياء. ومن ثَم فأول دليل يحظى باتفاقٍ واسع من أدلة وجود الحياة هو أحافير مِجهرية عمرها ٣٫٢٦ مليارات سنة يبدو أنها التقطَت البكتيريا في أثناء مرورها بعملية الانقسام الخلوي.
إذَن، ما الذي حفز الغِلاف الحيوي المُبكر؟ ربما تكون أشكال الحياة الأولى قد استهلكَت مركَّبات في بيئتها، وهي تلك المركَّبات التي كان من الممكن أن تتفاعل لإطلاق طاقةٍ كيميائية. غير أنَّ إمدادات الطاقة الكيميائية عادةً ما تكون ضئيلة، إلا في بعض البيئات الاستثنائية مثل المَنافِس المائية الحرارية في الأعماق بالقرب من حيد وسط المحيط. ومن ثَم، كان من الممكن أن يؤدي نقص الطاقة الكيميائية على نطاقٍ عالمي إلى تقييد إنتاجية الحياة. أحد الاحتمالات أن تكون العتائق المبكِّرة قد استهلكَت الهيدروجين من الغلاف الجوي وثاني أكسيد الكربون لإنتاج الميثان، لكنَّ أقصى مستوًى كانت ستصل إليه إنتاجية مثل هذا الغِلاف الحيوي القائم على مولِّدات الميثان يبلغ حوالَي جزء من ألف من إنتاجية الغِلاف الحيوي البحري الحديث.
لم تكن أولى عمليات التمثيل الضوئي بالشكل الذي نعرفه الآن، والذي يُفكك الماء ويُطلِق الأكسجين بصفته أحد المنتجات الثانوية للتفاعل. بل كانت عمليات التمثيل الضوئي المبكر «غير أكسجينية»؛ أي إنها لم تكن تُنتج أكسجينًا. ومن الممكن أنها كانت تستخدم مجموعة من المركَّبات، بدلًا من الماء، كمصدر للإلكترونات لتُثبِّت بها الكربون من ثاني أكسيد الكربون وتختزله إلى سكريات. ومن المواد التي يُحتمل أنها منحتها الإلكترونات آنذاك الهيدروجين الجزيئي وكبريتيد الهيدروجين الموجود في الغِلاف الجوي، أو الحديدوز الذي كان مذابًا في المحيطات القديمة. ويُعَد استخلاص الإلكترونات من كلٍّ من هذه المواد أسهل من استخلاصها من الماء. ولذا فهي تتطلب عددًا أقل من فوتونات ضوء الشمس وآلياتٍ أبسط لأداء التمثيل الضوئي. هذا وتؤكد شجرة التطوُّر أن عدة أشكال من التمثيل الضوئي غير الأكسجيني قد تطوَّرَت في وقتٍ مبكر جدًّا، قبل وقتٍ طويل من عملية التمثيل الضوئي الأكسجينية.
نشأة إعادة التدوير
كان التحدي الذي واجه الحياة المبكرة هو تطوير وسائل لإعادة تدوير المواد التي تحتاج إليها لأداء عملية الأيض؛ أي لإنشاء دوراتٍ بيوجيوكيميائية عالمية. وصحيح أنَّ المعلومات المتاحة لدينا عن كيفية حدوث ذلك ووقت حدوثه ضئيلة جدًّا، لكن بضعة خيوط إرشادية تشير إلى أنه وقع في وقتٍ مبكر جدًّا من تاريخ الحياة. وبالأخص، يُخبرنا سجل نظائر الكربون في رواسب الكربونات البحرية بأنَّ الغِلاف الحيوي المبكر كان يتسم بقَدْر كبير من الإنتاجية؛ لأنَّ النسبة بين جزء الكربون المترسب كموادَّ عضوية في الرواسب والكربونات غير العضوية على كوكب الأرض في الدهر السحيق كانت مشابهة جدًّا للنسبة بينهما في الوقت الحاضر. وفوق ذلك، تشير شجرة التطور الخاصة بحياة بدائيات النوى إلى أن العديد من عمليات الأيض التي تُعيد تدوير المواد، مثل إنتاج الميثان، قد تطوَّرَت في وقتٍ مبكر. وكذلك استكشف بعض الباحثين مدى سهولة تطوير عملية إعادة التدوير، أو صعوبتها، بغرسِ أشكالٍ من «حياة مُصطنعة» في نماذجَ حاسوبية، وتركها تتطور. وفي هذه «العوالم الافتراضية»، يَظهرُ إغلاق حلقات إعادة تدوير المواد كنتيجةٍ مؤكَّدة راسخة جدًّا.
وإذا كان الغِلاف الحيوي المبكر يستمد طاقته من التمثيل الضوئي غير الأكسجيني، الذي يُفترض منطقيًّا أنه كان يعتمد على غاز الهيدروجين، فإن التجديد الحيوي للهيدروجين كان سيتم من خلال عملية إعادة تدوير رئيسية. وتشير الحسابات إلى أنه فور تطوُّر عملية إعادة تدوير كهذه، فربما يكون الغِلاف الحيوي المبكر قد حقَّق إنتاجيةً عالمية تصل إلى ١ في المائة من إنتاجية الغِلاف الحيوي البحري العصري. أما إذا كانت عملياتُ التمثيل الضوئي المبكرة غير الأكسجينية تستخدم إمدادات الحديد المُختزَل المتدفق إلى الأعلى في المحيطات، فالأرجح عندئذٍ أنَّ إنتاجيتها كانت محكومةً بدورة مياه المحيطات، وربما تكون قد وصلَت إلى ١٠ في المائة من إنتاجية الغِلاف الحيوي البحري العصري.
نشأة التمثيل الضوئي الأكسجيني
كان الابتكار الذي أمدَّ الغلاف الحيوي المبكر بقَدرٍ هائل من الطاقة هو نشأة عملية التمثيل الضوئي الأكسجينية التي تستخدم مياهًا وفيرة لتحصُل منها على الإلكترونات. غير أنَّ تطور هذه العملية لم يكن سهلًا. فتفكيك الماء يتطلب طاقةً أكبر — أي كميةً أكبر من فوتونات ضوء الشمس ذات الطاقة العالية — ممَّا يتطلب أيٌّ من أشكال عملية التمثيل الضوئي غير الأكسجينية السابقة. وهنا كان الحل الذي قدَّمه التطور هو ربط «نظامَين ضوئيَّين» موجودَين بالفعل معًا في خليةٍ واحدة وتثبيت أداةٍ بيوكيميائية مُذهلة أمامهما يُمكنها تفكيك جُزيئات الماء. فكانت النتيجة نشوء أول خليةٍ بكتيرية زرقاء، وهي سلف جميع الكائنات الحية التي تُمارِس عملية التمثيل الضوئي الأكسجينية على كوكب الأرض في الوقت الحاضر.
تشير أدلةٌ حالية إلى أنَّ تطوُّر عملية التمثيل الضوئي الأكسجيني استغرق ما يصل إلى مليار سنة، ويعود تاريخ أول دليلٍ مقنع ظهَر على ذلك إلى فترة تتراوح بين حوالي ٣ مليارت و٢٫٧ مليار سنة مضت. ويتمثل البرهان الدامغ في دليلٍ كيميائي على تسرُّب الأكسجين إلى البيئة وتفاعُله مع معادن شديدة التأثر بوجود الأكسجين. فعلى سبيل المثال، يُفصَل الموليبدينوم عن الصخور القارية ويُصبح قابلًا للانتقال إلى مواضعَ أخرى بتفاعله مع الأكسجين، وهو يظهر لأول مرة في رواسب المحيطات عند زمن يُقدَّر بحوالي ٢٫٧ مليار سنة مضت. وبمجرد أن تطوَّرَت عملية التمثيل الضوئي الأكسجيني، يُفترض أنَّ إنتاجية الغِلاف الحيوي لم تعُد مقيَّدة بكمية الركائز اللازمة لعملية التمثيل الضوئي؛ لأنَّ كميات الماء وثاني أكسيد الكربون كانت وفيرة. وبالعكس من ذلك، من المفترَض أنَّ درجة توافُر المواد المغذية، لا سيما النيتروجين والفوسفور، كانت هي العامل الرئيسي الذي يحدُّ من إنتاجية الغِلاف الحيوي، كما تفعل في الوقت الحاضر.
وحالما وُجد مصدرٌ للأكسجين على الكوكب، قد يتبادر إلى الذهن أنَّ تركيز الأكسجين في الغِلاف الجوي سيرتفع باطِّراد؛ على غرار ملء الحوض بالمياه بإغلاق البالوعة. ولكن تركيز الأكسجين في الغِلاف الجوي لم يرتفع فورًا أو باطِّراد. بل ظل غازًا نزرًا طوال مئات الملايين من السنين. ونعلم ذلك لوجودِ بصمةٍ مميزة جدًّا من بصمات «تجزئة نظائر الكبريت غير المُعتمدة على الكتلة» ما زالت محفوظةً بحالتها الأصلية في رواسب يزيد عمرها عن ٢٫٤٥ مليار سنة. وصحيح أنَّ إنتاج بصمة كهذه ما زال ممكنًا بفعل الكيمياء الضوئية لغازات الكبريت في الغِلاف الجوي في الوقت الحاضر، ولكن لا يمكن أن تُحفَظ في الرواسب الحالية؛ لأنَّ كل الكبريت يمُرُّ أولًا عَبْر خزان من الكبريتات في المحيطات، وهذا الخزان يجعله متجانسًا. ومن المؤكَّد أنَّ خزان الكبريتات لم يكن موجودًا في الفترة التي سبقت اﻟ ٢٫٤٥ مليار سنة الماضية بسبب نقص الأكسجين اللازم لإنتاجه. وتُشير بصمة «التجزئة غير المعتمدة على الكتلة» إلى وجود أشعة فوق بنفسجية عالية الطاقة كانت تسري عَبْر الغِلاف الجوي السفلي؛ ولذا لم تكن طبقة الأوزون موجودة، وهو ما يُحتِّم أنَّ تركيز الأكسجين (الذي يتكوَّن منه الأوزون) كان أقل من جزأين في المليون في الغِلاف الجوي.
ومن الممكن أن يكون الأكسجين قد ظل عند هذا التركيز المنخفض طوال مئات ملايين السنين بسبب وجود تدفق زائد من مدخلات المواد المختزلة المتعطشة للتفاعل معه، من بينها الحديد المختزل الذي حُقِن داخل المحيطات من خلال مناطق حيد وسط المحيط، والغازات المختزلة مثل الهيدروجين وكبريتيد الهيدروجين التي تدخل الغلاف الجوي من خلال البراكين. فمعدل تفاعلها مع الأكسجين يزداد مع ازدياد تركيز الأكسجين، الأمر الذي أنشأ نظام تغذية مرتدة سالبة عَمِل على تثبيت تركيز الأكسجين عند مستواه (المنخفض)، وكان حجم مصرف الأكسجين يكافئ حجم مصدره في هذا النظام. وإذا أردنا استخدام استعارة الحوض التشبيهية للتعبير عن تركيز الأكسجين في الغلاف الجوي، فيُمكن القول إنَّ البالوعة كانت مفتوحة وواسعة، وهو ما جعل تركيز الأكسجين ثابتًا عند مستوًى منخفض.
الأكسدة الكبرى
وصحيح أنَّ نشأة عملية التمثيل الضوئي الأكسجيني هي المسئولة في النهاية عن الأكسدة الكبرى، ولكن حتمًا قد حدثَت تغيراتٌ أخرى طويلة الأمد في نظام الأرض أدت إلى أكسدة نظام سطح الأرض ببطء. وكانت أبرز التغيُّرات الأساسية من بين تلك التغيُّرات فقدان ذرات الهيدروجين وانتقالها إلى الفضاء. ويُعَد هذا تدفقًا بالغ الضآلة على كوكب الأرض في الوقت الحاضر؛ لأنَّ الماء يتجمد خارج الغِلاف الجوي في «المصيدة الباردة» بين طبقتَي التروبوسفير والستراتوسفير. ومن ثَم، لا تصل أي غازات حاملة للهيدروجين تقريبًا إلى قمة الغِلاف الجوي. ولكن من المُفترَض أنَّ قَدرًا كبيرًا من الكربون العضوي الناتج من التمثيل الضوئي الأكسجيني المُبكر قد أُعيد تدويره إلى الغِلاف الجوي في صورة ميثان. ومن الممكن، في الغِلاف الجوي المبكر الغني بالميثان نتيجةً لذلك، أن تكون كميةٌ أكبر بكثير من الهيدروجين قد هربَت إلى الفضاء، وهذا عَمِل على أكسدة سطح الأرض. أسفَر ذلك عن دفع نظام الأرض إلى نقطة تحوُّل؛ حيث تحوَّل ميزان المُدخلات الداخلة إلى الغِلاف الجوي من فائض في المواد المُختزَلة إلى فائض في الأكسجين.
يشير حدوث الأكسدة الكبرى المفاجئ إلى أنَّ هذه المرحلة شهدَت بدء تغذية مرتدة موجبة قوية دفعَت تركيز الأكسجين إلى الارتفاع. وقد كان تكوُّن طبقة الأوزون عنصرًا حاسمًا لهذا التحول؛ لأنه أدى إلى كبح استهلاك الأكسجين مؤقتًا. فالإشعاع فوق البنفسجي يحفز سلسلة من التفاعلات التي يتحد فيها الأكسجين مع الميثان لإنتاج ثاني أكسيد الكربون والماء (مُحدثًا بذلك تأثيرًا معاكسًا لإنتاج الأكسجين والميثان بفعل الغِلاف الحيوي). وبدون طبقة الأوزون، كانت هذه العملية التي يُزال فيها الأكسجين سريعة وفعالة. ولكن حالما تراكمَت كميةٌ كافية من الأكسجين لبدء تكوُّن طبقة الأوزون، فمن المفترَض أنَّ هذه الطبقة قد حَمَت الغِلاف الجوي الواقع أدناها من الأشعة فوق البنفسجية، وأبطأَت وتيرة إزالة الأكسجين مؤقتًا. ومن المفترَض أنَّ وجود كميةٍ أكبر من الأكسجين أدى إلى إنتاج كميةٍ أكبر من الأوزون؛ وبذلك سمح بمرور كميةٍ أقل من الإشعاع فوق البنفسجي، وعزَّز كبح استهلاك الأكسجين أكثر وأكثر في عملية تغذيةٍ مرتدة موجبة. وتشير بعض النماذج إلى أنَّ هذه التغذية المرتدة الموجبة كانت قوية بما يكفي لتصل إلى حالة من «الجموح الخارج عن السيطرة» مؤقتًا، مؤديةً بذلك إلى ارتفاعٍ سريع في تركيز الأكسجين. ولكن من المُفترَض أنَّ نظام الأرض سرعان ما استقر مجددًا عند مستوًى أعلى من الأكسجين مع وصول مصارف الأكسجين إلى حجم يكافئ حجم مصادره مجددًا.
عندما قفز تركيز الأكسجين في حَدَث الأكسدة الكبرى، أسفَر هذا عن انخفاض تركيز الميثان في الغِلاف الجوي، فأبطأ عملية الأكسدة الإضافية التي كانت الأرض تتعرض لها. ومن الممكن أن يساعد هذا الانخفاض في تركيز الميثان في تفسير سبب وقوع سلسلة من أحداث تكوُّن الأنهار والصفائح الجليدية (الغَمر الجليدي) عندما ارتفعَت مستويات الأكسجين. وقد وصل أحد هذه الأحداث، منذ ٢٫٢ مليار سنة، إلى دوائر عرضٍ منخفضة بالقرب من خط الاستواء، ومن المُرجَّح أنه كان أول حدث تتحول فيه الأرض إلى كرة ثلجية. وكذلك كانت الأكسدة الكبرى متبوعةً بقفزة مؤقتة كبيرة في مُعدل طَمْر الكربون العضوي، وهذه القفزة مُسجَّلة في بعض نظائر الكربون. وربما قد نتج ذلك من ازدياد الأكسجين الذي تفاعَل مع الكبريتيد في بعض الصخور على القارات لإنتاج حمض الكبريتيك الذي أذاب الفوسفور من الصخور وغذَّى الإنتاجية في المحيطات بالطاقة. وإذا صح ذلك، فإنه قد دعم انتقال الكوكب إلى مستوًى أعلى من الأكسجين. وبحلول زمن يُقدَّر بحوالي ١٫٨٥ مليار سنة مضت، استقر هذا التقلب في دورة الكربون والمُناخ، ودخلَت الأرض فترةً طويلة من الاستقرار وُصفَت، في تسميةٍ فظة وانتقاديةٍ بعض الشيء، باسم «المليار المُمل».
نشأة حقيقيات النوى
أسفَر اضطراب الأكسدة الكبرى عن نشأة ظروفٍ أنسب لأشكال الحياة التنفسية (أي التي تستخدم الأكسجين). ففي مرحلةِ ما بعد الأكسدة، كان الكوكب يحوي قَدرًا أكبر بكثير من الطاقة المتاحة؛ لأنَّ العملية التي تتنفس بها الكائنات الحية بالأكسجين تُنتِج طاقةً أكثر بقيمةٍ أُسِّية كاملة ممَّا يُنتجه تكسير جُزيئات الغذاء دون استخدام الأكسجين. ومن بين الكائنات الحية التي استفادت من مصدر الطاقة هذا حقيقياتُ النوى الأولى؛ وهي خلايا معقَّدة ذات نواة ومكوِّنات أخرى مميزة عديدة.
تختلف حقيقيات النوى اختلافًا عميقًا عن بدائيات النوى التي سبقَتها، لكنها أيضًا مكوَّنة جزئيًّا من بعض الخلايا التي كانت عبارةً عن بدائيات نوًى غير طفيلية في الماضي. أمَّا الميتوكوندريا — مصنع الطاقة — الموجودة في الخلايا الحقيقيات النوى، فكانت عبارةً عن بكتيريا هوائيةٍ غير طُفيلية في الماضي، فيما كانت البلاستيدات الموجودة في خلايا النباتات والطحالب — التي يحدُث فيها التمثيل الضوئي — عبارةً عن بكتيريا زرقاءَ غير طُفيلية ذات يوم. وقد حُصِل على هذه المكوِّنات الخلوية في عمليات اندماجٍ تكافلية قديمة مع البكتيريا. وأتاح الاندماج التكافلي، الذي أدى إلى ظهور الميتوكوندريا، مصدرَ طاقة وفيرًا للخلية الحقيقية النوى السَّلَفية. وكذلك أعادت حقيقياتُ النوى ترتيب الكيفية التي تنسخ بها المعلومات الوراثية — إذ تنسخ كروموسوماتٍ عديدة بالتوازي — بينما تنسخ بدائيات النوى الحمض النووي الخاص بها في حلقةٍ واحدة طويلة. وهذه الابتكارات مكَّنَت حقيقيات النوى من التعبير عن جينات أكثر بكثير ممَّا تُعبِّر عنها بدائيات النوى، وهذا منحَها في النهاية القدرة على إنشاء أشكالٍ أكثر تعقيدًا من الحياة تحمل أنواعًا متعددة من الخلايا.
غير أنَّ أصل نشأة حقيقيات النوى مُحاط بالغموض والجدل؛ لأنَّ علماء الأحياء ليسوا متفقين على ما يُمثِّل بداية السلالة أو ما يُشكِّل دليلًا أحفوريًّا على حقيقيات النوى. فأبكر الأدلة التي ادُّعيَ أنها مؤشِّراتٌ حيوية لوجود حقيقيات النوى قبل ٢٫٧ مليار سنة مضت يُعتقد الآن أنها مشوبة بموادَّ أصغر عمرًا. وثَمَّة حفريتان مبهَمتان من حفريات «أكريتارك» عمرهما ٢٫٥ مليار عام ربما تُمثِّلان الأطوار البَيْنية لحقيقيات النوى المبكرة، لكنَّ الاسم نفسه يعني أنهما من «أصل غير واضح». وربما يُمكن أن تكون بعض الحفريات الحلزونية التي يبلُغ عمرها ١٫٩ مليار عام، ويُمكن رؤيتها بالعين المجرَّدة طحالب حقيقية النواة (تُسمى جريبانيا)، لكنها كذلك يمكن أن تكون بكتيريا زرقاءَ استعمارية. هذا وتشير ساعاتٌ جُزيئية إلى أنَّ آخر سلفٍ مشترك لجميع حقيقيات النوى كان يعيش منذ فترة تتراوح بين ١٫٨ و١٫٧ مليار سنة تقريبًا.
ولم تُدرك حقيقيات النوى قدرتها على إنشاء أشكالٍ أكثر تعقيدًا من الحياة تحمل أنواعًا متمايزة من الخلايا إلا إدراكًا بطيئًا. فمعظم الحفريات التي يعود تاريخها إلى منتصف عمر الأرض — حقبة البروتيروزوي — هي حفريات الأكريتارك الغامضة. وتُوجد حفرياتٌ أندر بكثير متبقية من أجساد حقيقيات النوى، وهذه تتضمَّن حفريات «تابانيا» التي يبلغ عمرها ١٫٥ مليار عام، وربما تكون أحد الفطريات، وحفريات «بانجيومورفا المتكاثرة جنسيًّا» التي يبلغ عمرها ١٫٢ مليار عام، وتُعَد طحلبًا أحمر (عشبًا بحريًّا) متعدد الخلايا منسوبًا إلى رُتبةٍ حديثة.
ما زال الباحثون متحيرين بشأن ماهية العوامل التي منعَت تطوُّر الحياة المُعقدة خلال «المليار المُمل»، لكنَّ كثيرين يرَون أنَّ بعض القيود البيئية أدت دورًا رئيسيًّا. فطوال معظم حقبة البروتيروزوي، ظلت بدائيات النوى تُهيمِن على أسطح المحيطات، فيما بَقيَت أعماق المحيطات لا أكسجينية؛ أي خالية من الأكسجين. وعند الأعماق المتوسطة، أصبحَت بعض هذه المياه اللاأكسجينية «يوكسينية»؛ بمعنى أنَّ الكبريتات الموجودة في الماء قد اختُزلَت إلى كبريتيد الهيدروجين، الذي يُعَد مادةً سامَّة للعديد من حقيقيات النوى. وقد أسفرَت الكيمياء الغريبة للمحيطات في حقبة البروتيروزوي أيضًا عن إزالة العديد من المعادن النزرة كالموليبدينوم من المحيطات. تجدُر الإشارة إلى أنَّ الموليبدينوم يُستخدم على نطاقٍ واسع في تثبيت النيتروجين في الوقت الحاضر؛ لذا فبدونه قد يحدُث نقصٌ في كمية النيتروجين المُتاح في المحيطات.
اضطراب حقبة البروتيروزوي الحديثة
كُسِر الجمود أخيرًا في حقبة البروتيروزوي الحديثة (من ١٠٠٠ مليون سنة إلى ٥٤٢ مليونَ سنة مضت)، وقد شهدَت هذه الحقبة نوبةً من الاضطرابات المُناخية، وأكسجة أعماق المحيطات، وظهور الحيوانات الأولى. بدأَت أولى علامات التغيير منذ حوالي ٧٤٠ مليونَ سنة، عندما أصبحَت المؤشرات الحيوية الخاصة بالطحالب أكثر انتشارًا في رواسب المحيطات، وبدأ تنوُّع حفريات حقيقيات النوى يزداد. ومن المُرجَّح أنَّ هذا عزَّز كفاءة المضخَّة البيولوجية التي تنقل الكربون من أسطح المحيطات إلى أعماقها. وكذلك شَهِد ذلك الوقت وجود نُظم إيكولوجية ميكروبية مُنتِجة على اليابسة، ومن المتصوَّر أنَّ بعض الفطريات والطحالب والأشنات الحقيقية النواة (الناتجة من اندماجٍ تكافلي بين الفطريات والطحالب) ربما كانت من تلك النُّظم الإيكولوجية المُبكرة على اليابسة، وإن كنا لا نملك أدلةً أحفورية لا على هذه ولا تلك.
وفي تلك الأثناء، كانت حركة الصفائح التكتونية تُفكك القارة العُظمى «رودينيا»، وتُبعثر كتل اليابسة الناتجة وفق نسقٍ غير عادي؛ حيث وقع جزءٌ كبير من اليابسة في المناطق المدارية. ومن المُرجَّح أنَّ هذا أسفَر عن تعرُّض سيليكات القارات لتجويةٍ فعالة جدًّا يُحتمل أن تكون الأحياء قد زوَّدَتها. ومن المفترَض أن هذا بدوره قد قلَّل تركيز ثاني أكسيد الكربون الموجود في الغِلاف الجوي وخفَّض حرارة الكوكب. وبطريقةٍ ما، صار المُناخ شديد البرودة إلى حدٍّ سبَّب غَمرًا جليديًّا بالغ الشدة — يُعرَف باسم الغَمر الجليدي الستورتي — منذ حوالي ٧١٥ مليونَ سنة. وقد وصل الغَمر الجليدي إلى دوائر العرض الاستوائية؛ مما يشير إلى أنَّ هذا كان واحدًا من أحداث تحوُّل الأرض إلى كرة ثلجية. ثم استمر الغَمر الجليدي عشرات الملايين من السنين، وهو ما يتوافق مع الزمن الذي يستغرقه تراكُم كميةٍ كافية من ثاني أكسيد الكربون لإذابة الجليد.
ولم يتوقف الاضطراب المُناخي عند ذلك الحد. إذ نتج غَمرٌ جليدي شديد ثانٍ — يُعرَف بالغَمر الجليدي المارينوي — وانتهى قبل ٦٣٥ مليون سنة. وتَبِعه ترسُّب كمياتٍ هائلة من صخور الكربونات عُرِف باسم «غطاء الكربونات»، وهذا أيضًا يتوافق مع نظرية «الأرض كرة ثلجية» (الواردة في الفصل الأول). ففي الظروف ذات الحرارة والرطوبة الفائقة التي أعقبَت تحوُّل الأرض إلى كرة ثلجية، يُرجح أنَّ التجوية حدثَت بوتيرة سريعة للغاية، فأمدت المحيطات بأيونات الكالسيوم والماغنسيوم التي تتحد مع ثاني أكسيد الكربون الزائد في الغِلاف الجوي والمحيطات لتُسفر عن ترسُّب كمياتٍ هائلة من رواسب الكربونات.
ربما يكون اللغز الأكبر فيما يتعلق بأحداث الغَمر الجليدي الشديدة هذه هو كيفية نجاة أسلاف الحياة المُعقَّدة منها. يشير الدليل القائم على المؤشرات الحيوية والساعات الجُزيئية إلى أنَّ بعض الحيوانات البسيطة في صورة إسفنجيات كانت قد تطوَّرَت بالفعل، بالإضافة إلى بعض الطحالب والفطريات المتعددة الخلايا. غير أنَّ الحياة المعقدة لم تزدهر إلا بعد أحداث الغَمر الجليدي. فأولًا، تُوجد حَفريات يُظن أنها تُمثِّل أجنَّةً حيوانية، إلى جانب الطحالب والفطريات. ثم ظهرَت أول كائناتٍ حَفرية كبيرة، وهي «الكائنات الحية الإدياكارية»، منذ حوالي ٥٧٥ مليون سنة. وفي حين أنَّ نَسَبها البيولوجي محل جدال، فالمُرجَّح أنَّ بعضها على الأقل كان حيوانات. وقد تبعَتْها بعد ذلك بعشرات الملايين من السنين حيواناتُ الرعي المتنقلة، سواء على الرواسب أو كعوالقَ حيوانية في عمود الماء.
فما الذي سبَّب هذه الطفرة في تطوُّر الحيوانات؟ تحتاج الحيوانات المتنقلة الكبيرة نسبيًّا إلى أكسجين أكثر ممَّا تحتاج إليه المخلوقات غير المُتنقلة، بما فيها الإسفنجيات التي سبقَتْها. والمثير للاهتمام أنَّ أول دليلٍ ظهَر على أكسجة بعض الأجزاء من أعماق المحيطات يعود تاريخه إلى ٥٨٠ مليون عام مضت، قبل فترةٍ وجيزة من ظهور الحفريات الإدياكارية عند أعماق المحيطات. ومع ذلك، كان يُوجد أكسجين بالفعل في المياه الضحلة في المحيطات طوال أكثر من مليار سنة قبل ذلك. ربما يكون التطور هو الذي سبَّب الأكسجة وليس العكس. فبتعزيز كفاءة عملية إزالة الكربون من عمود الماء وإزالة الفوسفور بنقله إلى الرواسب، ربما يكون ظهور الإسفنجيات والطحالب قد أدى إلى أكسجة المحيطات، فحسَّن الظروف وجعلَها أنسب لتطوُّر الحيوانات باستمرار. وقد بلغَت الثورة الحادثة في التعقيد الحيوي ذروتها ﺑ «الانفجار الكامبري» الذي شهد طفرةً في تنوُّع الحيوانات في الفترة الممتدة من ٥٤٠ إلى ٥١٥ مليون عام مضت، وشهد إنشاء شبكات الغذاء الحديثة في المحيطات.
كان ذلك بمثابة علامة على ميلاد عالمنا الحديث. وكان أبرز تغيير أساسي منذ ذلك الحين هو ظهور النباتات على اليابسة (وقد ناقشناه في الفصل الثالث)، الذي بدأ منذ حوالي ٤٧٠ مليون عام، وبلغ ذروته بنشوء أولى الغابات العالمية بحلول زمن يُقدَّر بحوالي ٣٧٠ مليونَ عام مضت. وقد أدى هذا إلى مضاعفة مُعدل عمليات التمثيل الضوئي العالمية، فزاد حجم تدفقات المواد. وأسفَر تسارُع التجوية الكيميائية لسطح اليابسة عن تقليل مستويات ثاني أكسيد الكربون في الغِلاف الجوي وزيادة مستويات الأكسجين في الغِلاف الجوي، وهو ما أدى إلى أكسجة أعماق المحيطات بالكامل. ومنذ ظهور الحياة المُعقدة، وقع العديد من أحداث الانقراض الجماعي. وكان أكبرها هو انقراض نهاية العصر البرمي، الذي حدث قبل ٢٥٢ مليون عام، والذي أعاد نظام الأرض إلى حالاتٍ سابقة، في ظل استنفاد طبقة الأوزون وانتشار خُلو المحيطات من الأكسجين. ولكن على الرغم من أنَّ أحداث الانقراض هذه قد أحدثَت تغيُّراتٍ عميقة في عملية التطور سواء بالسلب أو الإيجاب، فإنها لم تُحدِث تغييرًا جذريًّا في آلية سَيْر نظام الأرض.
سماتٌ مشتركة
مَرَّ تاريخ نظام الأرض بثلاثة تحولاتٍ ثورية؛ بداية الحياة والتدوير البيوجيوكيميائي، ونشأة التمثيل الضوئي الأكسجيني والأكسدة الكبرى، ونشأة الحياة المعقدة من الاضطرابات البيئية في حقبة البروتيروزوي الحديثة. وتتشاركُ هذه الثورات بعضَ السمات المشتركة فيما بينها. فكلها نتجَت من ابتكاراتٍ تطورية نادرة. وتنطوي على زياداتٍ تدريجية في استخلاص الطاقة وتدفق المواد خلال الغِلاف الحيوي، مصحوبةً بزيادة في تعقيد التنظيم الحيوي ومعالجة المعلومات. فضلًا عن أنها كانت تعتمد على اتسام نظام الأرض بقَدرٍ من عدم الاستقرار، لدرجة أنَّ بعض النُّفايات الجديدة الناتجة من عملية الأيض سبَّبَت تغيُّراتٍ شديدةً كارثية في المُناخ والتدوير البيوجيوكيميائي. ولم تنتهِ تلك الثورات إلا عندما استطاعت عملية التطور العمياء إغلاق الدورات البيوجيوكيميائية مرةً أخرى، وهو ما أعاد تدويرَ موادِّ النفايات ورسَّخ حالة مستقرة جديدة لنظام الأرض. يستعرض الفصل الخامس ما إذا كان ممكنًا أن نكون، نحن البشر، مسئولين عن بدءِ تغيير ثوري جديد في نظام الأرض.