الأنثروبوسين
شروط بيئية مسبقة
كانت توجد عدة شروط بيئية مسبقة لازمة لتطوُّر البشر. ولعل أبرزها وجود غِلافٍ جوي غني بالأكسجين؛ فأدمغتنا بالذات متعطشة جدًّا للطاقة، وإذا انخفض الضغط الجزئي للأكسجين في الهواء بمقدار الثُّلث تقريبًا، فستبدأ وظائف الدماغ في التعرُّض لمعاناةٍ حقيقية. لكننا نعرف من السجل المستمر للفحم الأحفوري أنَّ نسبة الأكسجين في الغِلاف الجوي ظلت أعلى من ١٥ في المائة طوال اﻟ ٣٧٠ مليونَ عام الأخيرة؛ لذا لم يكن نقص الأكسجين يعوق تطوُّرنا. بل أسهمَت الحرائق التي غذَّاها الأكسجين الوفير في إنشاء نوعية بيئة الأراضي العشبية المختلطة التي تطوَّر فيها أسلافنا، وأصبحَت الحرائق والنيران لاحقًا أداةً رئيسية استعان بها البشر الأوائل.
على الرغم من أنَّ الأراضي العشبية تُغطي الآن حوالي ثلث المساحة المُنتِجة من سطح اليابسة على كوكب الأرض، فإنها حديثة جيولوجيًّا. وقد تطوَّرَت الأعشاب وسط توجُّهٍ عام نحو انخفاضِ تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغِلاف الجوي، وانخفاضِ حرارة المُناخ وازدياد جفافه، على مرِّ الأربعين مليون سنة الماضية، ولم تنتشر على نطاقٍ واسع إلا في مرحلتَين خلال العهد الميوسيني الذي امتد بين حوالي ١٧ مليون سنة مضت و٦ ملايين سنة مضت. وكانت هاتان المرحلتان من توسُّع الأراضي العشبية مدفوعتَين بتغذياتٍ مرتدة موجبة قوية؛ فالأراضي العشبية تُحفز حدوث الحرائق التي بدَورها تجعل الظروف مواتية للأراضي العشبية؛ لأنَّ الحرائق المتكرِّرة تمنع تجدُّد الغابات. وفي مرحلتها الثانية من التوسُّع، استعمرَت الأراضي العشبية أجزاءً كبيرة من أفريقيا، بما فيها «الوادي المتصدع الكبير»، وهو المكان الذي تباعدَت فيه سُلالتنا التطورية عن حيوانات الشمبانزي، منذ حوالي ستة ملايين سنة. ومنذ حوالي أربعة ملايين سنة، بدأ أسلافُنا من أشباه البشر يمشون منتصبين؛ ويُتصوَّر أنَّ ذلك كان بدافع التكيُّف مع التحرُّك عَبْر السافانا التي ظهرَت حديثًا بين كُتل الغابات الشجرية آنذاك.
وحالما بدأ أسلافنا يطوِّرون استخدام الأدوات الحجرية — التي يعود تاريخ أول دليل مُسجَّل عليها إلى ٢٫٦ مليون سنة مضت — سقط كوكب الأرض في سلسلة من دورات العصور الجليدية التي تزايدَت شدَّتها وتناقَص معدَّل تكرارها. ويُعَد هذا التغيير في ديناميكات المُناخ علامةً على بداية العصر الرباعي. إذ حفَّز نشأة أنواع جديدة من الثدييات على نطاقٍ واسع، بما فيها سُلالة أشباه البشر. وربما يكون عدم الاستقرار البيئي العالمي الذي نتَج من ذلك قد أدى دورًا في تطوُّرنا بصفتنا رئيسياتٍ ذات ذكاءٍ غير عادي ونزعةٍ اجتماعية عالية. الفكرة العامة هي أنَّ البيئة عندما تتغير — على ألا تكون التغيُّرات متكررة بدرجةٍ مُبالَغ فيها أو خارج حدود المتوقع — فمن المفيد أن تتحلى بالذكاء وتتعاون في مجموعاتٍ اجتماعية للمساعدة في التكيُّف مع الظروف المتغيرة. وعلى العكس من ذلك، إذا كانت البيئة مستقرة، فلا داعي إلى أن تكون ذكيًّا، وإذا كانت شديدة التقلب، فأفضل استراتيجية هي أن تَزيد من النسل تجنُّبًا للمشكلات.
استخدام النار
ميَّز تعمُّد استخدام النار لأغراضٍ معيَّنة أسلافنا عن كل الأنواع الأخرى؛ لأنه كان أول ابتكار تضمَّن استخدام طاقةٍ أخرى غير طاقة الجسم البشري. وتجدُر الإشارة هنا إلى أنَّ استخدام النار بطريقةٍ رشيدة محكومة ربما بدأ منذ ١٫٥ مليون سنة، ومن المؤكد أنه كان جاريًا بالفعل منذ ٨٠٠ ألف سنة مضت في أفريقيا، ومنذ ٤٠٠ ألف سنة مضت في أوروبا. وقد أمدَّ استخدامُ النار لأغراض الطهي الإنسانَ المنتصِب بمزيد من الطاقة في نظامه الغذائي من طهي اللحوم، ومنَحه نظامًا غذائيًّا أكثر تنوعًا (بإزالة السموم من الأطعمة). وبدَوره أسفَر التحول إلى صيد اللحوم الغنية بالطاقة عن تكوين مجموعاتٍ اجتماعية استقرت حول المخيَّمات وعن تقسيم المهام، وهو ما أحدث طفرةً في التطور الاجتماعي البشري.
وفي الفترة الواقعة بين ٤٠٠ ألف و٢٥٠ ألف سنة مضت، أصبحَت تقنيات الأدوات الحجرية أكثر تعقيدًا، وازداد حجم الدماغ بسرعة. ثم ظهَر الإنسان ذو التركيب التشريحي العصري (الإنسان العاقل) لأول مرة في شرق أفريقيا منذ حوالي ٢٠٠ ألف سنة. وبعد ذلك بفترة، مرَّ أسلافنا بعُنق زجاجة في ظل وصول عدد أزواج التكاثر إلى ١٠ آلاف زوج أو أقل. ثم خرج أحفاد هذه المجموعة المؤسِّسة من أفريقيا وبدءوا ينتشرون في أرجاء العالم منذ حوالي ٦٥ ألف سنة. وقد سُهِّلت هِجرتهم بفضل واحدة من بين سلسلة من المراحل الرطبة الدورية التي مرَّت بها الصحراء الكبرى بعد موجةِ جفافٍ كبيرة في أفريقيا في الفترة الممتدة من ١٣٥ ألف سنة مضت إلى ٩٠ ألف سنة مضت. ومع وصول البشر العصريين إلى قارَّاتٍ جديدة، تسبَّبوا في انقراض ثديياتٍ كبيرة أخرى أو «حيوانات ضخمة». بدأ هذا في أستراليا منذ ٤٤ ألف سنة، وفي أوروبا منذ أكثر من ٣٠ ألف سنة، وفي أمريكا الشمالية منذ ١١٥٠٠ سنة، وفي أمريكا الجنوبية منذ ١٠ آلاف سنة. وكان الانقراض أقل حدَّة في أفريقيا؛ ربما لأنَّ الأنواع الموجودة كانت معتادةً على الصيادين البشريين وحَذِرة منهم بالفعل.
كانت النار هي «الأداة» الأولى التي مكَّنَت البشر الأوائل من أن يبدءوا تغيير بيئتهم على نطاقٍ واسع. فاستخدام البشر للنار في الصيد أدى إلى إزاحة النُّظم الإيكولوجية نحو الأراضي العشبية. ويساعد هذا في تفسير السبب الذي جعل الحيوانات الآكلة العشب التي تتغذَّى على الأشجار (بدلًا من أن تأكل الأعشاب) صاحبةَ النصيب الأكبر من المعاناة في موجات انقراض الحيوانات الضخمة. وكذلك ربما يكون أسلافُنا قد عكَفوا على صيد بعض الحيوانات الكبيرة الآكلة العشب حتى أوصلوها إلى الانقراض؛ ومن ثَم أصبحَت الحيوانات الآكلة للحوم والجِيَف تُعاني نقصًا في الغذاء. ساعد الاستخدام البشري للنار في أستراليا في حفظ أراضي الشجيرات الصحراوية بامتداد مناطق شاسعة من القارَّة. وهذا بدَوره ربما قد منع عودة الرياح الموسمية إلى المناطق القارِّية الداخلية عندما دخل نظام الأرض عهد الهولوسين بين الجليدي الحالي. وإذا صحَّ ذلك، فربما يمثِّل أول تأثير واسع النطاق أحدَثه البشر على نظام المُناخ.
الزارعة وتربية الحيوانات
مع خروج نظام الأرض من العصر الجليدي الأخير، كان مُناخ نصف الكرة الشمالي يشهد تقلباتٍ كبرى. إذ حدث احترارٌ مفاجئ منذ حوالي ١٤٧٠٠ عام، ثم تَبِعه انخفاضٌ ملحوظ في درجة الحرارة منذ ١٢٧٠٠ عام، ثم احترارٌ مفاجئ آخر منذ ١١٥٠٠ عام. وخلال الفترة الباردة المعروفة باسم «درياس الأصغر»، بدأ سكان منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، الذين كانوا يجمعون كمياتٍ وفيرة من الحبوب البرية (التي لم يتدخل البشر في زراعتها) للغذاء، يزرعون أوَّل محاصيل الحبوب، ربما بدافع التجاوب مع الجفاف الذي خيَّم على المنطقة بسبب تغيُّر المناخ. ومع استقرار نظام الأرض في الحالة بين الجليدية المستقرة في العهد الهولوسيني الحالي، منذ حوالي ١٠٥٠٠ عام، دخلَت الصحراء الكبرى إحدى مراحلها الرطبة والخضراء مجددًا، فتحوَّلَت المنطقة التي تضُم أنهار النيل والفرات ودجلة إلى ما يُعرَف بمنطقة «الهلال الخصيب» الشهيرة. وبدأَت الزراعة هناك بإنبات حبوب القمح والشعير والبازلاء، كما بدأَت تربية الأغنام والماعز والأبقار والخنازير. وكذلك ظهرَت الزراعة وتربية الحيوانات ظهورًا مستقلًّا في أماكن أخرى من العالم؛ إذ ظهرَت منذ حوالي ٨٥٠٠ عام في جنوب الصين، ومنذ ٧٨٠٠ عام في شمال الصين، ومنذ ٤٨٠٠ عام في المكسيك، ومنذ ٤٥٠٠ عام في بيرو وشرق أمريكا الشمالية.
ويُشير ظهور الزراعة وتربية الحيوانات على نحوٍ مستقل ومفاجئ نسبيًّا في كل أنحاء العالم إلى أنَّ هذه الأنشطة ربما كانت مكبوحةً بفعل الظروف البيئية قبل عهد الهولوسين. فمن المؤكَّد أنَّ المستويات المنخفضة من ثاني أكسيد الكربون في العصر الجليدي والمناخ الجليدي المتقلب لم يكونا مُواتيَين لبدء الزراعة وتربية الحيوانات. وحالما بدأَت هذه الأنشطة، عزَّزَت من مُدخلات الطاقة التي كانت المجتمعات البشرية تحصُل عليها. وأسفرَت «ثورة العصر الحجري الحديث» هذه عن زيادة خصوبة البشر (وسرعان ما تَبِعها زيادةٌ في معدل الوفَيات)، وهو ما أدى إلى زيادة عدد السكان من ستة ملايين إلى أكثر من ثلاثين مليونًا في الفترة الواقعة بين ٦ آلاف و٤ آلاف سنة مضت، وربما وصل إلى ١٠٠ مليون عند ألفَي سنة مضت. لكنَّ إحدى سلبيات الزراعة أنَّ الحضارات الزراعية المستقرة العالية الكثافة كانت أشدَّ تأثرًا بتغير المُناخ من المجتمعات المُتنقِّلة بحثًا عن الطعام؛ إذ يُعزى انهيار عدة مجتمعاتٍ قديمة في عهد الهولوسين إلى حدوث تحولاتٍ مفاجئة في المُناخ المداري خلال تلك الفترة.
ربَط البعض بين الزيادة السكانية وزيادة تدفقات الطاقة بسبب الزراعة، وزيادة كمية المواد الداخلة إلى المجتمعات والنفايات الناتجة منها. وصحيح أنَّ الآثار البيئية الناتجة بدأَت في وقتٍ مبكر من عهد الهولوسين، لكن حجم هذه الآثار ما زال محل جدلٍ شديد. إذ بدأ الري منذ حوالي ٨ آلاف عام في مصر وبلاد الرافدَين، بتحويل مياه الفيضانات من نهر النيل ونهرَي دجلة والفرات. وقد أدى هذا إلى ترسُّب بعض الملح والطمي على اليابسة؛ مما أدَّى إلى انخفاض غلة المحاصيل، وحفَّز تحوُّل المحاصيل الزراعية من القمح إلى الشعير الأكثر تحملًا للملوحة. كان المصريون والبابليون والرومان يُخصبون الأراضي الزراعية باستخدام المعادن أو السماد، ويُفترض أنَّ هذا أسفَر عن تأثيراتٍ غير مباشرة في المياه العذبة المجاورة. وقد علَّق أفلاطون على تآكل التربة، مُشبِّهًا الأرض ﺑ «هيكل عظمي لرجلٍ مريض، تلاشى من عليه كل اللحم السمين واللَّيِّن، ولم يَتبقَّ سوى هيكل اليابسة العاري». ولكن هل أثَّر بدء الزراعة تأثيرًا عالميَّ النطاق في نظام الأرض؟
فرضية بدايات عهد الأنثروبوسين
يدَّعي بيل روديمان أنَّ عهد الأنثروبوسين بدأ منذ آلاف السنين نتيجةً لثورة العصر الحجري الحديث. ومن المؤكَّد أنَّ التوسُّع السكاني الذي صاحَب ذلك أدى إلى إزالة الغابات من أجل إنشاء أراضٍ زراعية وتوفير احتياجات السكان من الطاقة القائمة على الكتلة الحيوية والأخشاب. وأسفرَت إزالة الغابات بدَورها عن تقليل سعة تخزين الكربون في اليابسة، مما أدى إلى نقل ثاني أكسيد الكربون إلى الغِلاف الجوي. ويؤكِّد روديمان أنَّ هذا التأثير كان كبيرًا جدًّا لدرجة أنَّ حجم مصدر ثاني أكسيد الكربون هذا ظلَّ كافيًا، منذ ٨ آلاف عام فصاعدًا، ليفوق ما يُفترض أنه كان انخفاضًا طبيعيًّا في ثاني أكسيد الكربون الموجود في الغِلاف الجوي. وفوق ذلك، فمنذ ٥ آلاف عام فصاعدًا، أنتَج ريُّ حقول الأرز مصدرًا من الميثان يفوق حجمُه حجمَ انخفاضٍ متوقَّع في غاز الميثان الموجود في الغِلاف الجوي، حسبما يقول روديمان.
واستخدَم باحثون آخرون بعض نماذج نظام الأرض لإظهار أنَّ بعض التغيرات الطبيعية في المُناخ ودورة الكربون يمكن أن تفسِّر معظم التغيُّرات في مستويات ثاني أكسيد الكربون والميثان في الغِلاف الجوي خلال عهد الهولوسين. فعلى سبيل المثال، تعني بعض التباينات في مدار كوكب الأرض أنَّ نصف الكرة الشمالي قبل ٦ آلاف عام كان أدفأ مما هو عليه في الوقت الحاضر، وبذلك ساعد على زيادة مساحة الغطاء النباتي، سواء في المناطق الشمالية أو عَبْر معظم شمال أفريقيا، مؤديًا إلى ما يُعرَف باسم «اخضرار الصحراء الكبرى». يساعد هذا في تفسير انخفاض مستويات ثاني أكسيد الكربون في الغِلاف الجوي بعض الشيء في أوائل عهد الهولوسين. ومع انخفاض تأثير التغيرات المدارية على المُناخ بوتيرةٍ ثابتة، تعرَّضَت منطقة الصحراء الكبرى لجفاف وتوسُّع مفاجئَين نسبيًّا، منذ حوالي ٥٠٠٠ عام. وتتنبأ النماذج بأنَّ ذلك نتج من التنقل بين حالاتٍ مستقرة متبادَلة من نظام المُناخ-الغطاء النباتي في شمال أفريقيا. أدَّى «تدهوُر الغطاء النباتي في الصحراء الكبرى»، مع انحسار رقعة الغابات الشمالية عن دوائر العرض الشمالية العليا، إلى إضافة كميات من ثاني أكسيد الكربون إلى الغِلاف الجوي.
على مرِّ الألفَي سنة الماضية، تحسَّنَت سِجلاتنا الخاصة بتغيُّر المناخ في الماضي بوجود العديد من البيانات البديلة المتعلقة بتغيُّر المناخ، ومنها سِجلات حلقات الأشجار والعيِّنات الجليدية الجوفية الأسطوانية ودرجات الحرارة المَقِيسة من آبار عميقة. تَكشِف هذه السجلات عن تقلباتٍ بطيئة بين فتراتٍ أدفأ وفتراتٍ أبرد بعض الشيء على سطح اليابسة في نصف الكرة الشمالي، بما فيها الفترة القروسطية الدافئة (٩٥٠–١٢٥٠م تقريبًا) والعصر الجليدي الصغير (١٥٥٠–١٨٥٠م تقريبًا). ترتبط فترات المُناخ الأبرد بقِلَّة الإنتاج الزراعي، والحروب، وانخفاض عدد السكان، ولكن لا يُوجد إجماع على أيٍّ من العلاقات السببية، وكلها محل جدل. إذ تَكشِف بعض سِجلات العيِّنات الجليدية الجوفية الأسطوانية عن تباينات في تركيب الغِلاف الجوي، من بينها انخفاض بمقدار ١٠ أجزاء في المليون في تركيز ثاني أكسيد الكربون قبل ٥٠٠ عام، بالإضافة إلى أنَّ ذلك الوقت شَهِد انخفاض معدَّلات حرق البشر للكتلة الحيوية كذلك. ويدَّعي بيل روديمان أنَّ هذا كان بسبب انخفاض عدد السكان الذي نجَم عن الطاعون وسمَح لمناطقَ كبيرة بأن تكتسي بالغابات مجددًا وتمتص الكربون. غير أنَّ فرضيته بخصوص «بدايات الأنثروبوسين» ما زالت محل جدل، وأحد أسباب ذلك أنَّ المجتمعات قبل الثورة الصناعية كان لديها قَدْر محدود من إمدادات الطاقة التي كان يمكن أن تُغيِّر بها بيئتها.
مواد الوقود الأحفوري
يربط معظم الباحثين بين بداية عهد الأنثروبوسين والثورة الصناعية؛ لأنَّ إمكانية الحصول على طاقة الوقود الأحفوري عزَّزت تأثير البشرية على نظام الأرض تعزيزًا كبيرًا. وتُميز الثورة الصناعية الانتقال من مجتمعات تستمد قَدرًا كبيرًا من طاقتها من الطاقة الشمسية الحديثة (عَبْر الكتلة الحيوية والمياه والرياح) إلى مجتمعات تستمد طاقتها من «ضوء الشمس القديم» المُركَّز. ومع أنَّ الفحم كان يُستخدم بكمياتٍ صغيرة طوال آلاف السنين، لصناعة الحديد في الصين القديمة مثلًا، لم تبدأ الانطلاقة الحقيقية في استخدام الوقود الأحفوري إلا مع اختراع المُحرِّك البخاري وتحسينه. إذ ابتكر توماس نيوكومن مُحرِّكًا بخاريًّا عاملًا في عام ١٧١٢، ثم أضفى عليه جيمس واط بعض التحسينات في عام ١٧٦٩، وهذا أسفَر عن زيادةٍ كبيرة في عمليات استخراج الفحم، بتجفيف المناجم من المياه. وقد استُخدم المُحرِّك البخاري أيضًا لتحويل طاقة الوقود الأحفوري إلى طاقةٍ ميكانيكية في أغراض التصنيع والنقل. وهذا أنشأ حلقةً من تغذيةٍ مرتدة موجبة قوية حفَّزَت الثورة الصناعية.
تغيرات في استخدام الأراضي ودورات المواد المغذية
من العوامل التي حفَّزَت زيادة إنتاج الغذاء، الذي يعيش عليه الآن أكثر من سبعة مليارات شخص، زيادةُ كمية مُدخلات الأراضي اليابسة والمواد المغذية ومبيدات الأعشاب وطاقة الوقود الأحفوري. فمن العناصر التي أسهَمت إسهامًا كبيرًا في إضافة المليارَين الثاني والثالث من سكان الأرض زيادة مساحة الأراضي الصالحة لزراعة المحاصيل، وذلك بفضل إحلال الجرَّارات محل الخيول، وزيادة مُعدَّلات الري، وإضافة مُبيدات الأعشاب. ثم أُضيف الملياران الرابع والخامس بفعل الزيادة الهائلة في مُدخلات المواد المُغذية المُخصِّبة إلى الأراضي الموجودة، واكتملا بفضلِ إضافة أنواعٍ قزمة من القمح والأرز نَمَت بالتغذي على المُدخلات التي تحوي كميةً كبيرة من المواد المغذية. وبعد ذلك أُضيف الملياران السادس والسابع، وكان العامل الأبرز وراء ذلك حدوث زيادات في غلة المحاصيل في الدول النامية اعتمادًا على انتشار ابتكاراتٍ سابقة.
أدى توسُّع الزراعة وتكثيفها إلى تغيير وجه الأرض المرئي. إذ توسَّعَت الأراضي الصالحة لزراعة المحاصيل من حوالي ٠٫٥ مليار هكتار في عام ١٨٦٠ إلى ما يقرُب من ١٫٤ مليار هكتار في عام ١٩٦٠. ومنذ ذلك الحين، لم تشهد مساحة الأراضي الصالحة للزراعة سوى تغيير طفيف، لكنَّ زيادة استهلاك اللحوم في النظام الغذائي البشري في المتوسط أدت إلى توسُّع المراعي لتصل مساحتُها حاليًّا إلى أكثر من ثلاثة مليارات هكتار؛ وكان هذا أحد المُسبِّبات العديدة لإزالة الغابات المدارية بوتيرةٍ سريعة.
وكذلك أحدَث تكثيف الزراعة تحولًا في دورة المواد المغذية العالمية. إذ تُستخدم طاقة الوقود الأحفوري لتفكيك الرابطة الثلاثية بين ذرتَي جُزيء النيتروجين وصُنع الأسمدة النيتروجينية، وتعدين السماد الفوسفوري وتكريره. وهذا أدى إلى زيادة مُدخلات النيتروجين المُتاح إلى الغِلاف الحيوي إلى الضعف تقريبًا وزيادة مُدخلات الفوسفور ثلاث مرات تقريبًا. وعلى الرغم من أنَّ هذه «الثورة الخضراء» ساعدَت في حماية النُّظم الإيكولوجية الأرضية من استخدام المِحراث، أسفرَت عن عواقبَ سلبية أخرى. إذ تستقر كميةٌ كبيرة من النيتروجين والفوسفور اللذين نُضيفهما في نهاية المطاف داخل المياه العذبة، حيث يُغذيان الإنتاجية الحيوية (أو عملية التخثث) بالطاقة، فيصلان بها أحيانًا إلى حدِّ أنَّ البكتيريا الزرقاء القديمة تخنق أشكال الحياة الأحدث، فيما تُصبح المياه خالية من الأكسجين وتقتل الأسماك وحيوانات أخرى. فبعض النيتروجين والفوسفور المضاف يصل إلى البحار الساحلية ثم المحيطات المفتوحة في نهاية المطاف، وهو ما يدفع تلك المياه إلى أن تُصبح خالية من الأكسجين.
وكذلك فإنَّ جزءًا ضئيلًا من النيتروجين الذي يُخلِّقه البشر ويضيفونه إلى التُّرَب الزراعية يتحول إلى غاز أكسيد النيتروز الذي يُعَد أحد غازات الدفيئة الطويلة العمر، بفعل عمليتَي النترتة ونزع النيتروجين الميكروبيتَين القديمتَين. وقد أدى ذلك إلى زيادة تركيز أكسيد النيتروز في الغلاف الجوي من ٢٧٢ إلى ٣١٠ أجزاء في المليار. وفوق ذلك، أسفَر التوسُّع في الزراعة عن زيادة انبعاثات غاز الميثان إلى الغِلاف الجوي، وخصوصًا من حيوانات الماشية المجترَّة وحقول الأرز. وأدَّت الأنشطة البشرية، مع تسرُّبات الغاز الطبيعي أثناء استخراجه ونقله واستخدامه والانبعاثات الصادرة من مَكبَّات النُّفايات والحرائق وعمليات معالجة النُّفايات، إلى زيادة تركيز الميثان في الغِلاف الجوي إلى أكثر من الضعف، ليرتفع من حوالَي ٨٠٠ جزء في المليار إلى حوالَي ١٨٠٠ جزء في المليار حاليًّا.
تغيُّر دورة الكربون
هذا وتُوجد مصارف الكربون المحيطية لأنَّ غاز ثاني أكسيد الكربون يذوب في مياه البحر ثم يتفاعل معها. فإضافة كمية زائدة من ثاني أكسيد الكربون إلى الغِلاف الجوي تُجبِر جزءًا منها على الذوبان في أسطح المحيطات. ويكون تبادُل الغاز عَبْر سطح البحر سريعًا نسبيًّا، ولكن بعد ذلك يتفاعل ثاني أكسيد الكربون المذاب بوتيرة أبطأ مع مياه البحر. ومن المعروف أنَّ إضافة مادةٍ متفاعلة إلى أحد جانبَي تفاعلٍ كيميائي دائمًا ما تدفع التفاعل إلى الجانب الآخر، إلى أن يتحقق توازنٌ جديد؛ ولذا يتحول ثاني أكسيد الكربون إلى كربون غير عضوي مُذاب. وفي الواقع، تحدُث سلسلة من التفاعلات، وعند الاتزان يكون المُستقَر المُفضَّل لمعظم الكربون أن يكون مذابًا في الماء، لا أن يكون غاز ثاني أكسيد كربون في الغِلاف الجوي. غير أنَّ طبقة المحيط السطحية المختلطة جيدًا تتسم بحجم صغير نسبيًّا؛ لذا فإنَّ معدل امتصاص المحيط للكربون محدود بسبب التبادل البطيء نسبيًّا بين المياه السطحية وأعماق المحيط التي تُمثِّل الجزء الأكبر منه.
أمَّا مصارف الكربون على اليابسة، فتُوجد لأنَّ تلك النُّظم الإيكولوجية التي لم تتعرَّض للإزالة أو الإخلاء من أجل الزراعة — خصوصًا الغابات — تُراكِم الكربون في الغطاء النباتي الحي والتُّرَب. وأحد الأسباب الرئيسية وراء ذلك أنَّ زيادة ثاني أكسيد الكربون في الغِلاف الجوي تُخصِّب عملية التمثيل الضوئي؛ أي تُعزِّز كفاءة امتصاص النباتات للكربون. وهذا بسبب وجود تنافُس بين جُزيئات ثاني أكسيد الكربون والأكسجين الجزيئي على المواقع النشطة لدى إنزيم «روبيسكو» الذي يعمل على تثبيت الكربون؛ لذا تؤدي زيادة نسبة ثاني أكسيد الكربون/الأكسجين الجزيئي إلى زيادة كمية ثاني أكسيد الكربون التي تُثبَّت. وبالإضافة إلى هذا «التخصيب القائم على ثاني أكسيد الكربون»، تُخصَّب بعض النُّظم الإيكولوجية بفعل موادَّ مغذية يضيفها البشر إليها، وغالبًا ما تكون تلك المواد محمولة في الغِلاف الجوي على شكل غازات. وفضلًا عن ذلك، فحيثما تُهجر الأراضي الزراعية، تميل بعض النُّظم الإيكولوجية الطبيعية إلى أن تنمو مجددًا وتُراكِم الكربون من الغِلاف الجوي.
تُخفي التقلبات في مُنحنى كيلينج ثروةً قيِّمة من المعلومات الإضافية. فهي تكشف معلومات عن مصارف الكربون التي تُوجد على اليابسة بالأخص، والتي تُعَد أكثر تباينًا بكثير من مصارفه المحيطية من سنة إلى أخرى. يُظهِر المُنحنى الزيادة العامة الإجمالية في ثاني أكسيد الكربون في الغِلاف الجوي مرسومًا فوقها دورةٌ سنوية تُمثِّل «التنفس» الموسمي للغِلاف الحيوي الأرضي؛ إذ ينخفض ثاني أكسيد الكربون في فصلَي الربيع والصيف في المناطق الشمالية بينما تمتص النباتات الموجودة في نصف الكرة الشمالي الكربون، ويُعاوِد الارتفاع في فصلَي الخريف والشتاء بينما تَزفِر النُّظم الإيكولوجية نفسها ثاني أكسيد الكربون. غير أنَّ حجم هذا التذبذب وشكله يتباينان من سنة إلى أخرى. فبعد ثوَران بركان جبل بيناتوبو في عام ١٩٩١، ارتفع ثاني أكسيد الكربون بوتيرة أبطأ؛ لأن التبريد الناتج عزَّز كفاءة مصارف الكربون على اليابسة. أمَّا بعد ظاهرة النينيو القوية في عام ١٩٩٨، ارتفع ثاني أكسيد الكربون بوتيرة أسرع؛ لأنَّ ارتفاع درجات الحرارة في ذلك العام والحرائق المصاحبة له أدَّت إلى إزالة مصرف الكربون الموجود على اليابسة.
هذا وتُوجد تغذياتٌ مرتدة موجبة بين تغيُّر المناخ ودورة الكربون (كما ورَد في الفصل الثالث)؛ فمع ارتفاع درجة الحرارة، تقل كفاءة مصرف الكربون الموجود على اليابسة. وهذا ينطبق على مصرفه المحيطي أيضًا؛ لأنَّ الاحترار يجعل ثاني أكسيد الكربون أقل قابليةً للذوبان. وفوق ذلك، يُسفِر امتصاص المحيطات لثاني أكسيد الكربون عن تحمُّضها، وهو ما يُقلل من كفاءتها في تخزين الكربون (بإزاحة اتزان التفاعلات مع مياه البحر نحو الصورة الغازية من ثاني أكسيد الكربون). ولكن في المُجمَل، تتفوق التغذية المرتدة السالبة في دورة الكربون، وتؤدي إلى إبطاء وتيرة ارتفاع ثاني أكسيد الكربون في الغِلاف الجوي. ولولا مصارف الكربون الموجودة في اليابسة والمحيطات، لأصبح تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغِلاف الجوي أعلى من ٥٠٠ جزء في المليون بالفعل، وكان المناخ سيشهد تغيرًا أكبر.
تغيُّر المناخ
تُعَد نظرية تأثير الاحتباس الحراري من النظريات الفيزيائية التي يعود تاريخها إلى العصر الفيكتوري. ففي وقتٍ مبكر يرجع إلى عام ١٨٩٦، قدَّر سوانتي أرينيوس ببعض الحسابات أنَّ ازدياد تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغِلاف الجوي عن مستوياته قبل الثورة الصناعية إلى الضِّعف قد يرفع درجة حرارة العالم بحوالَي ٥ درجاتٍ مئوية. وما زال هذا الحساب اليدوي الشاق، الذي استغرَق منه عامَين كاملَين، واقعًا ضمن نطاق تقديرات «حساسية المُناخ» المبنية على أحدث نماذج نظام الأرض. ويبلغ أدق تقدير حالي ٣ درجاتٍ مئوية تقريبًا.
ومن العوامل التي يمكن أن تُخفِّض حرارة المُناخ حقنُ جُزيئات هَباء الكبريتات العاكسة الدقيقة في الغِلاف الجوي؛ فهي تُشتِّت ضوء الشمس (مُعيدةً جزءًا منه إلى الفضاء). ويمكن أن تأتي جزيئات هباء الكبريتات من الثورانات البركانية (مثل ثوران بركان جبل بيناتوبو في عام ١٩٩١)، أو من حرق الوقود الأحفوري، وخاصةً احتراق الفحم الكبريتي (البني). ولكن عندما تدخُل الكبريتات محلولًا، تكوِّن حمض الكبريتيك، والمطر الحمضي بالتبعية. ومن أجل الحد من الأمطار الحمضية، بُذلَت جهودٌ ناجحة لإزالة ثاني أكسيد الكبريت من غازات مداخن محطات توليد الكهرباء. وهذا بدَوره قلَّل من تأثيرها التبريدي على المُناخ، مُزيحًا النقاب عن تأثير الاحتباس الحراري المتزايد، ومُسهِمًا في زيادة الاحترار العالمي.
كوكب بشري
تطوَّر نوعنا وسط مُناخٍ غير مستقر على الإطلاق، فانتشر في كل أنحاء العالم، وزرَع أول المحاصيل، وربَّى أول حيوانات الماشية. ففي ظل الاستقرار النسبي الذي يتسم به عهد الهولوسين بين الجليدي الحالي، بدأَت الزراعة تسحب البساط من تحت أقدام الصيد وجمع الثمار لتُصبح أسلوبَ حياة بدلًا منهما، وظهرَت أولى المدن المستقلة ذات السيادة. وهكذا بدأ البشر يغيِّرون سطح الأرض، وبالتبعية دورة الكربون، والمناخ، وغيرهما من الدورات البيوجيوكيميائية. وعلى الصعيد المحلي، بدأَت الحضارات تستنفد الموارد الطبيعية حتى أقصى حدٍّ ممكن، وكان مصيرها في بعض الأحيان محكومًا بالتغيرات الطبيعية في المُناخ. وعند وقتٍ ما — غير مؤكَّد بالضبط — بدأ البشر يغيِّرون نظام الأرض كله. ومع اندلاع الثورة الصناعية، تسارعَت عملية إعادة تشكيل نظام الأرض بفعل البشر. وفي خِضَم «التفاؤل التكنولوجي» الذي شهدَته خمسينيات القرن الماضي، حدَث «تسارعٌ كبير» آخر. لكنَّ هذا التفاؤل انبثق منه سباق الفضاء وبداية إدراك الجمال المحدود لكوكبنا الذي نسكنه. والآن، صار البشر هُم المؤثِّرين المُهيمِنين في دورات الفوسفور والنيتروجين والكربون البيوجيوكيميائية. فنحن نغيِّر المناخ، ونتسبَّب في تسريع معدَّلات التعرية على اليابسة والترسب في المحيطات بدرجةٍ هائلة، وتحميض المحيطات وإزالة الأكسجين منها، وإهلاك أنواع أخرى من الكائنات بمُعدلٍ غير مسبوق. ومن ثَم، يتناول الفصل السادس الوجهة التي يقودنا إليها هذا المسار.