التوقع
إلى أين يتجه نظام الأرض في عهد الأنثروبوسين؟ إنَّ مجرد الشروع في إجابة هذا السؤال يتطلَّب نموذجًا لكيفية سير نظام الأرض، وتعتمد الإجابة على أنشطتنا الجماعية التي نُمارِسها بصفتنا نوعًا بشريًّا، وكيفية تأثُّر نظام الأرض بها. ودَور النموذج هو التنبؤ بنتائج الافتراضات المختلفة بخصوص الأنشطة البشرية المستقبلية. وفي هذا الصدد، يقدِّم هذا الفصل بعضًا من «نماذج نظام الأرض» وبعض الافتراضات الحاسمة التي تبدأ استخدام هذه النماذج للتنبؤ بالمستقبل. ويعرض موجزًا بتنبؤاتها، منتقلًا من نطاقاتٍ زمنية أقصر إلى أخرى أطول، ومن التحدِّي المتمثل في التنبؤ بتغيُّر المناخ بصفةٍ خاصة إلى التحدي الأوسع المتمثل في استكشاف التغيرات العالمية الأخرى بصفةٍ عامة.
نماذج نظام الأرض
يُعَد نموذج نظام الأرض تمثيلًا لنظام سطح الأرض في برنامج كمبيوتر. ومثل كل الأنظمة، يجب تعيين حدود النموذج بدقة. في الجيل الحالي من النماذج، يجري التعامل مع الأنشطة البشرية على أنها مُدخلات إلى النموذج، كما لو كانت تأتي له من الخارج، مع أننا نعيش داخل نظام الأرض بالتأكيد. ويُمثِّل النموذج العناصرَ غير البشرية في نظام الأرض، بما فيها الغِلاف الجوي والمحيطات وسطح اليابسة والغِلاف الحيوي البحري والغِلاف الحيوي الأرضي، والتفاعلات الجارية بينها، بما فيها دورة الكربون (القصيرة الأمد).
وتجدر الإشارة إلى أنَّ أشد نماذج نظام الأرض تعقيدًا كانت مجرَّد نماذج للتنبؤ بالطقس في بداياتها. لكنها تحوَّلَت، على مرِّ العقود القليلة الماضية، من نماذجَ خاصة بالغِلاف الجوي إلى نماذج تُمثِّل نظام الأرض، وذلك بإضافة مكوِّنات أخرى باستمرار؛ مما أدى إلى توسيع النظام محل الدراسة توسيعًا فعَّالًا. وكلما أُضيف مكوِّنٌ جديد، تُقدَّم مجموعةٌ جديدة من التغذيات المرتدة، ولا تظل النتائج ثابتةً دائمًا. والجدير بالذكر أنَّ تنبؤات أول النماذج التي ربطَت بين الديناميكيات البطيئة (والسعة الحرارية الكبيرة) لدى المحيطات والديناميكات السريعة لدى الغِلاف الجوي عادةً ما كانت تنحرف بعيدًا تمامًا عن الحالة المُناخية الحالية، وكان يتعيَّن تقريبُها مجددًا من البيانات المرصودة بتدخلٍ بشري عن طريق ما يُسمَّى «تصحيح التدفق»، وهذه المشكلة لم تُحَل إلا في التسعينيات.
ما يُميِّز نماذج «نظام الأرض» حاليًّا هو القدرة على ترجمة الأنشطة البشرية، كانبعاثات غازات الدفيئة وجُسيمات الهَباء الجوي، إلى التأثيرات المُناخية الناتجة منها. وقد نُشرَت أوائل النماذج التي استطاعت تحقيق ذلك في عام ٢٠٠٠ تقريبًا، وكانت تتضمَّن دورة كربون عالمية تفاعلية استطاعت حسابَ تأثير انبعاثات ثاني أكسيد الكربون على تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغِلاف الجوي، بما في ذلك تبادُل ثاني أكسيد الكربون مع المحيطات وبعض النظم الإيكولوجية الموجودة على اليابسة. وبعد ذلك، تضمَّنَت بعضُ النماذج تأثيرات انبعاثات ثاني أكسيد الكبريت على تكوين جُسيمات هَباء الكبريتات، وعلى خصائص السُّحب والمُناخ بالتبعية. وكذلك تتضمن أحدثُ النماذج التأثيراتِ الواقعة على المُناخ بسبب التغيرات الحادثة في استخدام البشر للأراضي.
اختبار النماذج
وصحيحٌ أنَّ العوامل البشرية المنشأ هي المسئولة عن توجُّه درجات الحرارة نحو الارتفاع في المُجمَل، لكنها لا تستطيع تفسير بعض التقلبات التي تُوجد في سِجل درجات الحرارة، والتي ترجع إلى عواملَ طبيعية. فأحد هذه التقلبات هو تباطؤ احترار الغِلاف الجوي على مَرِّ الأعوام الخمسة عشر الماضية، الذي يرجع إلى زيادة قدرة المحيطات على امتصاص الحرارة. وفي الواقع، تذهب معظم الحرارة المحبوسة بفعل ازدياد تأثير الدفيئة إلى المحيطات، التي تتسم بسَعةٍ أكبر لتخزين الحرارة مقارنةً بالغِلاف الجوي. لذا لا عجب في أنَّ التقلبات الحادثة في سَعة تخزين الحرارة لدى المحيطات تؤثِّر في درجة حرارة الغِلاف الجوي.
وإذا أُدرجَت انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في نماذج نظام الأرض باعتبارها أحد المُدخلات، تتنبأ النماذج بالارتفاع التاريخي في تركيزات ثاني أكسيد الكربون تنبؤًا معقولًا. ومن الاختبارات المهمة الأخرى التي تمرُّ بها النماذج اختبارُ مدى قدرتها على تمثيل التغيرات المناخية السابقة التي حدثَت قبل السجِل الرصدي. غير أنَّ تشغيل النماذج المتقدمة مُكلف جدًّا لدرجة أنَّ مثل هذه الاختبارات محدودةٌ بعض الشيء. وإحدى المسائل التي تُواجِه فيها النماذج صعوبةً كبيرة هي تمثيل التغيرات المُناخية المفاجئة التي حدثَت في الماضي.
طيف من النماذج
أدَّت الرغبة في فهم التغيرات العالمية الماضية والمستقبلية إلى توليد طيف من نماذج نظام الأرض المتفاوتة التعقيد. وتُركِّز النماذج الأكثر تعقيدًا — التي نُوقشَت للتو — على التحدي المتمثل في التنبؤ بتغير المُناخ على نطاقٍ زمني قصير نسبيًّا (أي قرن مثلًا). فهي تعرض الأرض في ثلاثة أبعاد بأعلى دقةِ وضوحٍ مكانية تُتيحها أسرع أجهزة الكمبيوتر الفائقة، لكنها تستبعد العمليات الأطول أمدًا، مثل التفاعل مع قشرة الأرض. وقد صُمِّمَت نماذجُ «متوسطة التعقيد» لمحاكاة نطاقاتٍ زمنية أطول، من ألف إلى مليون سنة، وهذه يمكن أن تتضمن تجوية الصخور على القارَّات واستقرار الرواسب في المحيطات. تعرض هذه النماذج المحيطات والغِلاف الجوي بدقةِ وضوحٍ مكانية أقل، وذلك عن طريق تبسيطها فيزيائيًّا وعرضها بأبعادٍ أقل؛ على سبيل المثال، تقوم بتمثيل المحيط كسلسلة من الشرائح الثنائية الأبعاد بالعُمق وخط العَرض. ثم تأتي النماذج البسيطة، وهذه تتسم بدرجة وضوح مكانية محدودة جدًّا تلتقط المتغيرات التراكمية، كمتوسط درجة حرارة السطح العالمية، ولكنها يُمكن أن تتضمَّن مزيدًا من أجزاء نظام الأرض. ويُمكن أن تخدم تلك النوعية من النماذج عدة أغراض؛ كأن تُحاكي نطاقاتٍ زمنية جيولوجية، أو تُشغَّل ملايين المرات لاستكشاف حساسية النتائج لافتراضاتٍ غير مؤكَّدة، أو تُشكِّل جزءًا من «نموذج تقييم متكامل».
يتمثل الهدف الأساسي لنماذج التقييم المتكاملة في استكشاف خيارات السياسة الهادفة إلى معالجة تغيُّر المُناخ. إذ تُركِّز على أن تربط تمثيلًا بسيطًا للاقتصاد، بما في ذلك الكيفية التي يولِّد بها انبعاثات الوقود الأحفوري حاليًّا، بنموذجٍ بسيط للنظام المُناخي، الذي يُسفِر بدوره عن تأثيراتٍ مرتدة على الاقتصاد. وعادةً ما يُتخيَّل وجود صانع قرار له صلاحيةُ تغيير السياسات، وليكُن بفرض ضريبة على انبعاثات ثاني أكسيد الكربون مثلًا. وبذلك يقدِّم النموذج تصورًا مناسبًا عن السياسة المُثلى في الوقت الحاضر وفي المستقبل، بعدما تُدرَج فيه افتراضاتُ واضع النموذج بخصوص تكاليف عدة مساراتِ عملٍ مختلفة وفوائدها. ولحل مثل هذه المشكلة الحسابية، يُفترض عادةً أنَّ صانع السياسة عاملٌ عقلاني لديه درايةٌ تامة بالعواقب المستقبلية لأفعاله (وإن كانت بعض النماذج تتضمن تأثير عدم اليقين بشأن المستقبل). هذا ويدور جدلٌ محتدم حول هذا النهج والافتراضات المُستخدَمة فيه. ولكن بالرغم من بساطة نماذج التقييم المتكاملة، فإنها تُمثِّل المحاولة الأولى لنمذجة البشر بصفتهم جزءًا تفاعليًّا من نظام الأرض.
توقُّع وليس تنبؤًا
يختلف توقُّع التغيرات المُناخية (أو أي تغيير عالمي آخر طويل الأمد) اختلافًا جذريًّا عن التنبؤ بحالة الطقس. فالتنبؤ بحالة الطقس يُعَد «مسألة ظروف ابتدائية»؛ بمعنى أنَّ حالة الطقس المستقبلية تعتمد أساسًا على حالته الحالية (والماضية)؛ ولذا يجب أن تُدرَج في النماذج بأعلى دقةٍ ممكنة. وحتى في تلك الحالة، يُمكن أن يكون الطقس شديد التأثر بالظروف الابتدائية لدرجة أنَّ اختلافاتٍ بسيطة قد تؤدي بسرعة إلى نتائجَ مختلفة تمامًا. يُعَد هذا مثالًا تقليديًّا لظاهرة «الفوضى الحتمية» التي وضَّحها إد لورنز لأول مرة بنموذجٍ بسيط عن الغِلاف الجوي مكوَّن من ثلاث معادلات في عام ١٩٦٣.
أمَّا المُناخ، فيُعرَّف بأنه متوسط حالة الطقس على مدًى طويل (عادةً ما يكون أطول من ثلاثين عامًا)، وهو ليس سريع التأثر بالظروف الابتدائية؛ لأن الأجزاء «البطيئة» بطبيعتها من نظام الأرض، كالمحيطات، هي فقط التي يُمكِن أن تظل محتفظةً بذكرى الظروف الابتدائية على مرِّ تلك الفترة الطويلة. وعلى عكس التنبؤ بالطقس، فالتنبؤ بالمُناخ ليس مجرد «مسألة ظروفٍ حدية»؛ بمعنى أنه يعتمد على عوامل كمدار كوكب الأرض ومستويات غازات الدفيئة المختلفة وجُسيمات الهَباء الجوي في الغِلاف الجوي. وفي النطاقات الزمنية المتوسطة، التي تتراوح من موسمية إلى عَقدية، تُعَد «ذكرى» الظروف الابتدائية التي تحملها المحيطات بالأخص مهمةً لإجراء تنبؤات دقيقة. ومن ثَم، خُصصَت جهودٌ كبرى مؤخرًا لبدء تنبؤات بحالة المُناخ على مرِّ عقدٍ كامل استنادًا إلى أرصاد حالة المحيطات الحالية.
وكلما حاولنا التنبؤ بتغير المُناخ لفترةٍ أطول في المستقبل، ازداد اعتماد التنبؤ على مسار عوامل التأثير الرئيسية كانبعاثات ثاني أكسيد الكربون. والمشكلة الأساسية في هذه العوامل المتأثرة بأنشطة البشر أنها لم تُحدَّد بعد. فلا أحد يدَّعي أنه يستطيع «التنبؤ» بالكيفية التي ستتطور بها المجتمعات المستقبلية على مرِّ نطاقٍ زمني مقداره قرن. بل كل ما نستطيع فعله هو أن نقترح مجموعةً من التصورات عن الكيفية التي ربما قد تتطور بها المجتمعات وانبعاثاتها، ونستخدمها مُدخلاتٍ — أي «سيناريوهات تأثير» — إلى نماذج نظام الأرض. لهذا فمن الأحرى أن نصِف مُخرجات النماذج بأنها «توقعات» لتغيُّر المناخ — تعتمد على افتراضاتها المُدَّعاة — وليست «تنبؤات».
السيناريوهات
ويفترض سيناريو مختلف تمامًا أننا سنبذل جهدًا جماعيًّا وحاسمًا لإيقاف تصاعُد انبعاثات ثاني أكسيد الكربون ثم تقليلها، وهذا يُعد واحدًا من سيناريوهات «التخفيف القوي». تُبتكر مثل هذه السيناريوهات لتوضِّح المنافع التي يُمكِن اكتسابُها باتخاذ إجراءاتٍ فعلية حاسمة لمعالجة تغيُّر المناخ، وغالبًا ما يكمن وراءها هدفٌ معيَّن، مثل الحد من الاحترار العالمي وإيقافه عند أقل من درجتَين مئويتَين. لكنها مع الأسف سرعان ما تُصبح غير متماشية مع العصر الحاضر؛ لأنَّ الانبعاثات الفعلية تشهد زيادةً أُسية. وعادةً ما تُظهِر سيناريوهات التخفيف القوي أنَّ الانبعاثات العالمية ستنخفض إلى أقل من نصف مستواها الحالي بحلول منتصف القرن، ثم تُواصل الانخفاض نحو الصفر.
من الدروس المستفادة المهمة من نماذج نظام الأرض أنَّ انبعاثات ثاني أكسيد الكربون يجب أن تنخفض في النهاية إلى الصفر لوقف ارتفاع تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغِلاف الجوي. وعلى المدى القصير، يمكن تثبيت تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغِلاف الجوي بتقليل الانبعاثات لتُعادِل حجم تدفُّق ثاني أكسيد الكربون إلى أعماق المحيطات، الذي يبلغ حوالي ١٠ في المائة من الانبعاثات الحالية. ويُمكن أن يؤدي هذا إلى استقرار تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغِلاف الجوي عند حوالي ٥٦٠ جزءًا في المليون (ضِعف مستوى تركيزه قبل الثورة الصناعية) أو أعلى. لكنَّ السيناريوهات الأكثر تفاؤلًا تسعى إلى تثبيت تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغِلاف الجوي عند حوالي ٤٥٠ جزءًا في المليون على نطاق القرن الزمني. وبالنظر إلى الزيادات الأخيرة في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، فإن هذه السيناريوهات الساعية إلى الحد من الاحترار العالمي وإيقافه عند أقل من درجتَين مئويتَين صارت الآن تتطلب أن تكون المجتمعاتُ بحلول نهاية القرن الحالي عاكفةً بإصرار على إزالة ثاني أكسيد الكربون من الغِلاف الجوي.
وبين هذين النقيضَين المتطرفَين، تُوجد مجموعةٌ من السيناريوهات الاجتماعية الاقتصادية تتضمن افتراضاتٍ مختلفة بشأن ازدياد الطلب على الطاقة أو جهود التخفيف من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. وتعكس هذه السيناريوهات تصوراتٍ معيَّنة، مثل استمرار العولمة أو انحدار العالم إلى وضعٍ أكثر تشرذمًا سياسيًّا. وعادةً ما تُستخدم نماذج التقييم المتكاملة لتوليد هذه السيناريوهات.
سيتمثل الحد النهائي المفروض على انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في أنَّ باطن الأرض لا يحوي سوى كميةٍ محدودة، وإن كانت كبيرة، من الوقود الأحفوري. لكن الكمية هائلة — إذ تبلغ ٥٠٠٠ مليار طن من الكربون على الأقل — وقد أصبحَت التقديرات أكبر في الآونة الأخيرة، مع تحسُّن طرق الاستخراج. وإذا ارتفع سعر الوقود الأحفوري، يزداد حجم الاحتياطيات التي يصبح استخراجُها مُجديًا اقتصاديًّا. لكنَّ ارتفاع سعره يُسفِر أيضًا عن زيادة الحافز إلى اللجوء إلى مصادر طاقةٍ أخرى أرخص. وتجدُر الإشارة هنا إلى أنَّ بعض سيناريوهات النطاقات الزمنية التي تتجاوز القرن محصورةٌ بتقدير لإجمالي احتياطيات الوقود الأحفوري؛ مما يُتيح مؤشرًا مفيدًا يمنحُنا معلومات عن مدى قدرتنا على تغيير المُناخ على المدى الطويل. وأفضل منظور لرؤية هذه السيناريوهات هو اعتبارها «تجارب فكرية».
الاحترار العالمي
على النطاق الزمني القصير الممتد عَبْر العقود القليلة القادمة، لا تعتمد توقعات درجات الحرارة اعتمادًا كبيرًا على مسار الانبعاثات؛ لأن النظام المُناخي ما زال يتأثر باختلال توازُن الطاقة الناجم عن تراكُم انبعاثات غازات الدفيئة في الماضي. وكذلك فإنَّ التباين الطبيعي في كفاءة المحيطات في امتصاص الحرارة وتخزينها يمكن أن يؤثِّر تأثيرًا كبيرًا على درجات حرارة السطح على نطاقاتٍ زمنية عَقدية.
وأمَّا على النطاق الزمني الطويل الممتد عَبْر ألف عام، يظل تغيُّر درجة الحرارة معتمدًا على إجمالي انبعاثات الكربون التراكمية. ولكن بحلول ذلك الوقت، سيكون نظام الأرض قد وزَّع ثاني أكسيد الكربون الذي أضفناه بين الغِلاف الجوي والمحيطات وسطح الأرض. وسيعتمد الجزء المتبقي في الغلاف الجوي — والمعروف باسم «الجزء المحمول في الهواء» — على إجمالي كمية الكربون التي نبعثُها. وسيبلغ حوالي ٢٠ في المائة على أقل تقدير. لكنَّ بعض النماذج البسيطة والمتوسطة التعقيد تُخبرنا بأنَّ حجم ذلك الجزء يزداد زيادةً أُسِّية مع ازدياد كمية الكربون المُضافة. ولأن درجة الحرارة تعتمد على اللوغاريتم الطبيعي لكمية الكربون الموجود في الغِلاف الجوي، يتحد هذان التأثيران ليُنتِجا علاقةً خطية بين الكربون المنبعث والاحترار العالمي.
تتجسَّد العلاقة بين الكربون الموجود في الغِلاف الجوي والتغير العالمي في درجة الحرارة تجسدًا دقيقًا في مفهوم يُسمى «حساسية المُناخ». ويُعرف هذا المفهوم بأنه الاحترار العالمي الناجم عن مضاعفة محتوى ثاني أكسيد الكربون في الغِلاف الجوي، فور تَكيُّف محتوى الحرارة في المحيطات واستقراره، وسريان تأثير تغذياتٍ مرتدة «سريعة» متنوعة. ووَفْق أدق تقدير لدينا، تقترب قيمة هذا الاحترار من ٣ درجاتٍ مئوية، لكنه يمكن أن يتراوح بين ١٫٥ درجة مئوية و٥ درجاتٍ مئوية. وتُعَد القيمة غير مؤكَّدة؛ لأن نماذجنا تختلف فيما يتعلق بقوة التغذيات المرتدة، وبمُعدل امتصاص الحرارة داخل أعماق المحيطات على المدى الطويل، ولا يُمكن أن تُتيح الأرصادُ حدودًا حاصرةً تحصُر هذه الخصائص بدرجةٍ تامة. ويُمكننا أن نُضيف إلى مفهوم «حساسية المُناخ» حساسية تركيز ثاني أكسيد الكربون في الغِلاف الجوي لانبعاثاتٍ معيَّنة من ثاني أكسيد الكربون، وهذه تعتمد على تغذياتٍ مرتدة بين المُناخ ودورة الكربون. وعلى النطاقات الزمنية الأطول، تُوجد تغذياتٌ مرتدة «بطيئة» أخرى تزيد معدل الاحترار، كذوبان الصفائح الجليدية مثلًا. وهكذا فإنَّ ذلك يجعل نظام الأرض حسَّاسًا لثاني أكسيد الكربون، ويُمكن أن يكون مقدار هذه الحساسية ضِعف حساسية المُناخ.
أنماطٌ مكانية
تختلف وتيرة تغيُّر المناخ باختلاف الأماكن. فالاحترار عند القطب الشمالي أسرع مرتَين بالفعل من متوسط الاحترار العالمي، وتتنبأ النماذج بحدوث مزيد من الاحترار هناك بسبب ما يُسمى «التضخيم القطبي». وكذلك يُعَد الاحترار على اليابسة أسرع من الاحترار في المحيطات؛ لأنَّ سعة امتصاص الحرارة لدى اليابسة أقل بكثير؛ في حين أنَّ المحيطات تستطيع تخزينها. وبالمصطلحات العملية الفعلية، يعني هذا أنَّ الاحترار في الأجزاء الداخلية من القارَّات يُمكن أن يساويَ ضِعفَ متوسط الاحترار العالمي، وأنَّ الاحترار عند كتل اليابسة في القطب الشمالي قد يُساوي المتوسط العالمي ثلاث مرات.
يُعَد التنبؤ بالنمط المكاني للتغيرات في دورة الماء أصعبَ من التنبؤ بالنمط المكاني للتغيرات الحادثة في درجة الحرارة. فالاحترار سيزيد مُعدل التبخر من المحيطات، والغِلاف الجوي الأدفأ يستطيع الاحتفاظ بكميةٍ أكبر من الرطوبة؛ وَفْق ما تنصُّ عليه معادلة كلاوزيوس-كلابيرون التي تُعَد إحدى نظريات القرن التاسع عشر الفيزيائية. وصحيحٌ أنَّ النماذج تتنبأ بأنَّ الجو الأدفأ سيكون أكثرَ رطوبةً بالطبع، لكنَّ مقدار زيادة الرطوبة غيرُ مؤكَّد. ويُمكن تصوير دورة الماء على أنها تدور بوتيرةٍ أسرع في الظروف الأدفأ، فيما تتنبأ النماذج في العموم بأنَّ المناطق الرطبة تُصبح أكثر رطوبة، في حين أنَّ مناطق اليابسة الجافة من المتوقَّع أن تُصبح أشد جفافًا. فمن المتوقَّع أنَّ خلايا دوَران الغِلاف الجوي الكبيرة — التي تُسمَّى خلايا «هادلي» — والتي ترتفع عند خط الاستواء وتنخفض في المناطق المدارية، ستتوسَّع، مؤديةً بذلك إلى تمدُّد مناطق الهواء الجاف الهابط نحو القطبَين، وإلى تكثيف بعض المناطق الجافة كالبحر الأبيض المتوسط. وهكذا ستكون مثل هذه الأنماط المكانية لتغيُّر المناخ بالغة الأهمية لتحديد كيفية تأثُّر الأجزاء الرئيسية من نظام الأرض، وكذلك التأثيرات الواقعة علينا نحن البشر.
نقاط التحول
بينما يمكن وصفُ جزء كبير من سلوك نظام الأرض بأنه «خطي» وقابل للتنبؤ به باستخدام نماذجنا الحالية، تُوجد فئة من التغيير «غير الخطي»، ويُعَد التنبؤ بتلك الفئة أصعبَ بكثير، وربما تكون أخطرَ بكثير. فهي تتضمَّن «نقاط تحوُّل»؛ حيث يؤدي اضطرابٌ صغير إلى تأثيرٍ كبير في أحد أجزاء نظام الأرض؛ مما يُسفِر عن تغييراتٍ فجائية، وغالبًا ما يستحيل إلغاؤها. ويمكن أن تنشأ نقاط التحول عندما تُوجد تغذيةٌ مرتدة موجبة قوية داخل نظام معيَّن؛ مما يخلق حالاتٍ مستقرة بديلة لمجموعة من الظروف الحدية. فعندما تؤدي تغييرات في الظروف الحدية إلى فقدان استقرار حالة النظام الحالية، تنشأ نقطةُ تحوُّل، فتُسبِّب انتقال النظام إلى الحالة المستقرة البديلة. ولحسن الحظ، من الصعب جدًّا أن يمُر الكوكب ككلٍّ بإحدى نقاط التحول، والأمثلة على ذلك في تاريخ الأرض نادرة؛ إذ تتجسَّد في دخول الأرض حالة «الكرة الثلجية» وخروجها منها (كما ورَد في الفصلَين الأول والرابع).
المحيطات والغِلاف الجوي
تقترن دورات الغِلاف الجوي والمحيطات معًا، وقد تعرَّضَت لتغيراتٍ فجائية في الماضي. وتتكون دورة الانقلاب في المحيط الأطلسي من تدفق المياه السطحية نحو الشمال من جنوب المحيط الأطلسي، عَبْر خط الاستواء، وصولًا إلى أقصى شمال المحيط الأطلسي حيث تصبح المياه كثيفة بدرجةٍ كافية لتغوص إلى الأعماق، وهو ما يدعم تدفقًا عميقًا عائدًا نحو الجنوب. وتتسم هذه الدورة باستدامةٍ ذاتية بفضل تغذيةٍ مرتدة موجبة تحصُل بها على الملح من المحيط الجنوبي، وبذلك تجعل مياه المحيط الأطلسي أكبر كثافةً وأكثر عُرضةً للغوص. ولكن إذا غُيِّرت «الظروف الحدية»، بإضافة مزيد من المياه العذبة إلى شمال المحيط الأطلسي، يمكن الوصول إلى نقطة تحوُّل يتوقف عندها تكوُّن المياه العميقة. ثم تتوقف دورة الانقلاب، وتستقر في حالة من «انعدام النشاط». ولاستعادة الحالة «النشطة» لدورة الانقلاب، يتطلب ذلك انخفاضًا أكبر بكثير في كمية المياه العذبة الداخلة.
وتُعَد تلك التحولات فيما بين الحالات المستقرة البديلة التي تشهدها دورة انقلاب المحيط الأطلسي مساهمة في كلٍّ من أحداثِ احترارٍ سريع سابقة في شمال المحيط الأطلسي (بسبب ازديادٍ مفاجئ في قوة الدورة) وأحداث انخفاض سريع في درجات الحرارة (بسبب انهيار مفاجئ للدورة). هذا وتشهد منطقة شمال الأطلسي دخول مزيد من المياه العذبة إليها بالفعل، بسبب ازدياد هطول الأمطار، وتتوقع بعض النماذج إضعاف دورة الانقلاب بسبب ذلك. وفي بعض سيناريوهات النماذج التي تفترض استمرار الوضع الحالي كما هو، تنهار دورة الانقلاب في النهاية، مُحدِثةً تأثيراتٍ غير مباشرة في مختلف أنحاء الكوكب.
ففي الماضي، أدَّت تقوية دورة الانقلاب في المحيط الأطلسي أو إضعافها إلى تحرُّك المنطقة بين المدارية التي تلتقي عندها تدفقاتٌ مُسببة لهطول الأمطار شمالًا أو جنوبًا، وهو ما أسفَر في بعض الأحيان عن تغيراتٍ مفاجئة في الرياح الموسمية في غرب أفريقيا والهند. ويُمكن اعتبار الرياح الموسمية دورة انقلاب للغِلاف الجوي؛ إذ يُسحَب هواءٌ رطب من المحيطات فوق القارَّات، حيث يرتفع ويبرد، وهو ما يؤدي إلى تكثُّف الماء وهطوله، وبذلك يُطلق حرارة كامنة تحفز انتقال الهواء إلى الأعلى بتيارات الحمل الحراري؛ وهكذا تُعَد هذه تغذيةً مرتدة موجبة تدعم دورة الرياح الموسمية. يُدفع هبوب الرياح الموسمية بمعدلٍ موسمي بفعل احترار اليابسة بوتيرة أسرع من احترار المحيطات، وفي ظل تنشيطها وإيقاف نشاطها بمعدلٍ موسمي، فإنَّ ذلك يدعم فكرةَ أنَّ الرياح الموسمية تتسم بوجود نقاط تحوُّل. وبالفعل تُظهِر بعض التوقعات المستقبلية تحولاتٍ فجائية في الرياح الموسمية، في غرب أفريقيا مثلًا؛ حيث يمكن أن يؤدي ارتفاع درجة حرارة المياه القريبة من الشاطئ إلى جعل هطول الأمطار مقتصرًا على المناطق الشاطئية، مما يؤدي إلى حرمان منطقة «الساحل» الأفريقية من إمدادها الموسمي من المياه.
الغلاف الحيوي على اليابسة
ترتبط بعض أجزاء سطح الأرض ارتباطًا قويًّا بالغِلاف الجوي عَبْر تغذياتٍ مرتدة موجبة. فعلى سبيل المثال، دعمَت حالة «اخضرار الصحراء الكبرى»، التي كانت موجودةً منذ ٦ آلاف عام، إحدى دورات الغِلاف الجوي التي جلبَت الرطوبة إلى المنطقة التي صارت الآن صحراء. وفي الوقت الحاضر، تُعيد غابات الأمازون المطيرة تدوير المياه إلى الغِلاف الجوي، وهو ما يُساعد في الحفاظ على هطول الأمطار الذي يدعم بقاء الغابات. فضلًا عن أنه يكبح اندلاع الحرائق. ولكن إذا شهد المُناخ جفافًا إقليميًّا — كما حدث في سنتَي الجفاف الأخيرتَين في منطقة الأمازون (٢٠٠٥، ٢٠١٠) — فقد يؤدي ذلك إلى سقام الأشجار (حالة مرضية في النبات عبارة عن موت الشجرة ابتداءً من الأطراف العلوية نزولًا إلى الأسفل) والتحول إلى نظام يتسم باندلاع حرائقَ أشد تدميرًا. وإذا بدأَت الأعشاب تتعدى على رُقعة الغابات، فإن هذا يحفز اندلاع الحرائق التي تُدمِّر شتلات الأشجار وتدعم نشوء حالة بديلة مكوَّنة من الأراضي العشبية أو السافانا (مُمثِّلةً بذلك تغذيةً مرتدة موجبة). ويُعتقد بالفعل أنَّ الأراضي العشبية تُعَد حالةَ غطاءٍ نباتي مستقرةً بديلة لأجزاءٍ كبيرة من حوض الأمازون في ظل هطول الأمطار الحالي. وإذا جفَّت المنطقة في المستقبل، فمن المتوقَّع تعرُّض غابات الأمازون المطيرة للسقام على نطاقٍ واسع.
وتجدُر الإشارة إلى أنَّ مناطقَ عديدة من الغابات الشمالية والمعتدلة، في أماكنَ أخرى، تتعرَّض بالفعل لسقامٍ واسع النطاق بسبب خنافس اللحاء التي تنمو وتزدهر في الظروف المناخية الأدفأ. وتُشير بعض التوقعات المستقبلية إلى أنَّ مساحاتٍ كبيرة من الغابات الشمالية ستُفقَد بسبب هجمات خنفساء اللحاء، وزيادة الحرائق، واشتداد حرارة فصول الصيف إلى حدٍّ لا تتحمَّله الأشجار. ومن المُرجَّح أن يؤدي سقام غابات الأمازون أو الغابات الشمالية بدَوره إلى ارتداد ثاني أكسيد الكربون إلى الغِلاف الجوي، لكنَّ حجم الإسهام المُحتمَل من تلك الغابات في زيادة ثاني أكسيد الكربون متواضعٌ مقارنةً بانبعاثات ثاني أكسيد الكربون المتوقَّع صدورها من الأنشطة البشرية.
الغلاف الجليدي
يعود أحد أسباب تكثيف احترار القطب الشمالي إلى دورة التغذية المرتدة الموجبة بين الجليد والبياض، التي تعرَّفنا عليها في الفصل الأول؛ فمع فقدان الجليد البحري، ينكشف سطح المحيط المظلم فيمتص كميةً أكبر من ضوء الشمس. وتجدُر الإشارة هنا إلى أنَّ وتيرة فقدان الجليد في القطب الشمالي تتسارع، ومن المتوقَّع أن تشهد العقود القليلة القادمة فقدان الجليد كله في فصول الصيف. وإذا استمر الوضع الحالي كما هو، تتوقع النماذج فقدان الجليد البحري في القطب الشمالي طوال العام في القرن القادم. وفي بعض النماذج، يحدُث هذا الفقدان المستمر طوال العام بغتةً عندما تَعجِز درجات الحرارة الشتوية عن بلوغ نقطة التجمد عَبْر جزء كبير من المحيط القطبي الشمالي.
هذا ويؤدي احترار أسطح اليابسة في القطب الشمالي بالفعل إلى إذابة الأراضي الدائمة التجمد — التُّرَب الجليدية — وإطلاق محتوى خزانات الميثان وثاني أكسيد الكربون التي تحويها تلك الأراضي. وإذا استمر الوضع الحالي كما هو، فمن المتوقَّع أن يُفقَد معظم الأراضي الدائمة التجمد بحلول نهاية القرن الحالي، مما يؤدي إلى ازدياد الاحترار العالمي بحوالي ١٠ في المائة. وعلى نطاقٍ زمني أطول، سيؤدي احترار المحيطات إلى زعزعة استقرار الخزانات المجمَّدة من الميثان (المعروفة باسم الهيدرات أو الكلاثرات) تحت رواسب المحيطات. وهذا سيُطلِق الكربون في صورةٍ غازية، ومن المتوقَّع أن يؤدي ذلك إلى إضافة ٠٫٥ درجة مئوية إلى الاحترار على المدى الطويل، لكنَّ هذه التغذية المرتدة الموجبة بطيئة بطبيعتها بسبب بُطء انتشار الحرارة عَبْر رواسب المحيطات.
وكذلك يُعَد فقدان أجزاء كبرى من الصفائح الجليدية عمليةً بطيئة، لكنها ربما تكون جارية بالفعل. ويُعتقد أنَّ صفيحة «جرينلاند» الجليدية من بقايا العصر الجليدي الأخير، وإذا زالت فلن يُمكن أن تنمو مجددًا في ظل الظروف المُناخية الحالية. تجدُر الإشارة إلى أنها تفقد بعضًا من كتلتها بالفعل، وربما لن يُمكن إعادة تلك الكتلة المفقودة، وهذا يرجع (جزئيًّا) إلى تغذيةٍ مرتدة موجبة قوية تجعل الذوبان يُسبِّب انخفاض مستوى ارتفاع سطح الصفيحة الجليدية، وهو ما يُكثِّف احترارها أكثر وأكثر، ويُسبِّب مزيدًا من الذوبان. وفي القارة القطبية الجنوبية، ترتكز الصفيحة الجليدية القطبية الجنوبية الغربية وأجزاء من الصفيحة الجليدية القطبية الجنوبية الشرقية على قاع البحر تحت مستوى سطح البحر بعُمقٍ كبير. وعلى حسب مخطط تَدرُّج عمق قاع البحر، يمكن أن ينحسر «حد ارتكاز» الصفائح الجليدية، الذي تنفصل عنده الصفائح عن قاع البحر، فجأة، مؤديًا بذلك إلى إزاحة أسطول من الكتل الجليدية الكبيرة الطافية إلى المحيط وزيادة مستوى سطح البحر. ويُعَد انكماش الصفائح الجليدية الرئيسية بالفعل عاملًا مساهمًا رئيسيًّا في ارتفاع مستوى سطح البحر، مع ذوبان الأنهار الجليدية وتوسُّع المحيطات في ظل ارتفاع درجة حرارتها. وإذا استمر الوضع الحالي كما هو، يمكن أن تصل الزيادة الحادثة في ارتفاع مستوى سطح البحر إلى مترٍ كامل في القرن الحالي، وقد تبلغ عشرات الأمتار على المدى الطويل.
النُّظم الإيكولوجية والعمليات البيوجيوكيميائية البحرية
تتحمَّض المحيطات بالفعل لأنَّ ثاني أكسيد الكربون يتفاعل مع مياه البحر لتكوين حمض الكربونيك. وهذا يُشكل تهديدًا للكائنات الحية التي تُرسِّب الكربونات، بما فيها الشعاب المرجانية والعديد من أنواع العوالق والقاعيات. وكذلك تُعَد الشعاب المرجانية سريعة التأثر باحترار المحيطات الذي يمكن أن يُسبِّب ابيضاض الشعاب المرجانية. ولذا فإذا استمر الوضع الحالي كما هو، فمن المتوقَّع أن تتعرَّض الشعاب المرجانية لفقدانٍ واسع النطاق.
وعلى النطاقات الزمنية الألفيَّة، ستنتشر المياه المحمَّضة وصولًا إلى أعماق المحيطات، ومن المُرجَّح أن تُذيب رواسب كربونات الكالسيوم هناك. وهذا سيُطلِق مواد قلوية، فيُمكِّن المحيطات بالتبعية من امتصاص كميةٍ أكبر من ثاني أكسيد الكربون. وفي الوقت نفسه، سيؤدي الاحترار العالمي وتحمُّض المياه المعلَّقة في التربة بفعل ثاني أكسيد الكربون إلى تسريع تجوية الكربونات والسيليكات على اليابسة، وهذا من المُرجَّح أن يُعيد إمداد المحيطات بالمواد القلوية. وعلى نطاقٍ زمني ممتد عَبْر مئات الآلاف من السنين، ستؤدي المستويات الزائدة من تجوية السيليكات إلى إزالة كربون الوقود الأحفوري الذي نُضيفه إلى الغِلاف الجوي، وترسيبه في صخور كربوناتٍ جديدة. ولكن بحلول ذلك الوقت، سنكون قد تجنَّبنا العصر الجليدي التالي بالفعل، ويمكن أن تتوقَّف دورات التناوب بين الفترات الجليدية وبين الجليدية في العصر الرباعي تمامًا.
وتجدُر الإشارة إلى أنَّ ثاني أكسيد الكربون ليس المادة الوحيدة التي تُحدِث عواقبَ طويلة المدى على نظام الأرض من بين المُخلفات الناتجة من الأنشطة البشرية. فزيادة مدخلات النيتروجين والفوسفور إلى اليابسة تؤدي بالفعل إلى تغذية ظروف انعدام الأكسجين في المياه العذبة وبعض مياه البحار الساحلية. وإذا استمر هذا الوضع آلاف السنين («وهذا مُستبعَد»)، فإنه سيُسفِر عن زيادةٍ كبيرة في محتوى النيتروجين والفوسفور في المحيطات، وهذا يُهدِّد بحدوث انعدام للأكسجين في المحيطات على نطاقٍ عالمي؛ لأنَّ انعدام الأكسجين في المحيطات يُحسِّن كفاءة إعادة تدوير الفوسفور من الرواسب البحرية عند الجروف الساحلية، مُغذِّيًا بذلك تعزيز الإنتاجية وانعدام الأكسجين في المحيطات؛ وهذا يُمثِّل تغذيةً مرتدة موجبة قوية (كما ورَد في الفصل الرابع). وكذلك تُحفَّز ظاهرة خلو المحيطات من الأكسجين أكثر وأكثر بفعل احترار المحيطات، الذي يُقلِّل قابلية الأكسجين للذوبان في الماء ويميل إلى تقسيم المحيطات إلى طبقات، عازلًا طبقات المياه الأعمق المستهلكة للأكسجين عن الغِلاف الجوي.
البساطة الطارئة
كما قال نيلز بور، «التنبؤ صعب جدًّا، وخصوصًا التنبؤ بالمستقبل». وينطبق هذا بالأخص على الأنظمة المعقدة مثل نظام الأرض؛ ولذا بُذلت جهود استغرقَت حيواتٍ مهنيةً عديدة بالفعل في إنشاء نماذج نظام الأرض. ولكن بالرغم من تعقيد نظام الأرض، يمكن أن تظهر فيه بعض «البساطة الطارئة». فعلى سبيل المثال، تبدو العلاقة الخطية بين انبعاثات ثاني أكسيد الكربون التراكمية والتغير العالمي في درجة الحرارة قويةً عَبْر مجموعة من النماذج. ومن ثَم، نستطيع أن نتوقع بعضَ عواقبِ أنشطتنا الجماعية بشيء من الثقة، حتى لو لم نستطِع التنبؤ بالكيفية التي قد تتطور بها المجتمعات البشرية. وصحيح أنَّ التنبؤ ببعض الخصائص الأخرى لنظام الأرض، مثل نقاط التحول، يظل أصعب. ولكن يجري إحراز تقدُّم في هذا الشأن، بفضل مزيج من دراسة السلوك السابق لنظام الأرض، وفهم العمليات الجارية المؤثِّرة، ودمج هذا الفهم في النماذج. ويُمكننا تخيُّل أنَّ المستقبل سيشهد جيلًا جديدًا من نماذج نظام الأرض التي ستسمح لنا بدراسة «الحدود الكوكبية» وليس مجرد تغيُّر المُناخ فقط؛ مثل الحدود التي تُقيِّد تراكُم إضافات الفوسفور والنيتروجين لتجنُّب استهلاك الأكسجين من المحيطات على نطاقٍ واسع. بل ربما سنُحاول حتى محاكاة المجتمعات البشرية بصفتها جزءًا تفاعليًّا من نظام الأرض، ولو لمجرَّد أن نتفحَّص التوجُّهات المُحتمَلة التي تنتظرنا. في الفصل السابع، نتناول أحد تلك التوجهات؛ ألا وهو مستلزمات تحقيق استدامة طويلة المدى.