الفضيلة
(١) معنى الفضيلة
الفضيلة هي الخلق الطيب، والخلق هو «عادة الإرادة» فإذا اعتادت الإرادة شيئا طيبا سميت هذه الصفة فضيلة، والإنسان الفاضل هو ذو الخلق الطيب الذي اعتاد أن يختار أن يعمل وفق ما تأمر به الأخلاق، وبذلك يكون الفرق بين الفضيلة والواجب واضحا، فالفضيلة صفة نفسية، والواجب عمل خارجي، وعلى هذا يقال: فلان أدى الواجب ولا يقال: أدى الفضيلة بل حاز الفضيلة.
وقد تطلق الفضيلة على العمل نفسه فيقال: «فضائل الأعمال» وليس يعنى بها كل عمل أخلاقي بل الأعمال العظيمة التي يستحق فاعلها الثناء الجزيل، فلا نسمي دفع ثمن ما اشترى فضيلة، إنما يسمى الإتيان بالعمل الكبير مع تحمل المشاق في سبيله فضيلة، ويشهد لهذا المعنى اشتقاق الكلمة نفسها، فإنها مأخوذة من الفضل وهو الزيادة، وعلى هذا المعنى تكون «الفضيلة» أخص من «الواجب».
(٢) اختلاف الفضائل
تختلف قيمة الفضائل في الأمم اختلافا كبيرا، فلو أنا وضعنا لأمة قائمة تتضمن الفضائل مرتبة حسب أهميتها لها لوجدناها تخالف ما يجب أن يوضع لأمة أخرى، ذلك لأن ترتيب الفضائل في كل أمة يجب أن يتبع مركزها الإجتماعي وظروفها المحيطة بها، وما يفشو فيها من أمراض أخلاقية، وما اعتورها من أشكال حكومات ونحو ذلك، فترتيب الفضائل في الأمة المحكومة غيره في الأمة الحاكمة، وفي الأمة الآخذة بحظ وافر من المدنية غيره في الأمة البدوية، وفي الأمة البحرية غيره في الأمة ساكنة الصحراء وهكذا، فالأمة المهددة بالحروب ترى الشجاعة أهم فضيلة، والأمة الآمنة المطمئنة ترى العدل خير فضيلة، والأمة التي تحيا على الصناعة ترى الأمانة والإستقامة عماد الفضائل، وهكذا.
ويختلف أيضا مفهوم الفضيلة الواحدة باختلاف العصور، فما كان يفهم من الشجاعة عند اليونان غير ما يفهم منه في العصور الحديثة، قد كادوا لا يفهمون منها إلا الصبر على تحمل الآلام الجسمية، واليوم نفهم منها ما هو أعم من ذلك، حتى إنها تشمل تعبير الإنسان عن رأيه من غير خشية لمن حوله، والعدل تطور مفهومة تطورات عدة حسب تطور الأمم في حالتها العقلية والإجتماعية، والإحسان إلى الفرد بالتصدق عليه قد كان يعد من أهم الفضائل في القرون الوسطى حتى وضع موضع النقد في العصور الحديثة، واعترض عليه بأنه لا يميز فيه بين المستحق للإحسان وغير المستحق تمييزا يوثق به، وبأنه يشل المحسن إليهم، ويقعد بهم عن العمل ويميت ما في نفوسهم من شرف وإباء، واستحسن المحدثون إنشاء جمعيات للإحسان تحسن إليها الأفراد وهي التي تتولى الإنفاق على المعوزين بعد أن تدرس حالتهم وتعرف فقرهم، ولا تكتفي هذه الجمعيات بإعطاء المال إلى المحتاجين، بل توجد عملا لمن لا عمل له، وتنقذ أولاد البائسين من آبائهم حتى لا ينشئوا نشأتهم. ولا يصابوا بمرضهم، فتنشئ المدراس الصناعية، وتعلمهم علما عمليا يكتسبون منه أقواتهم، وقد اهتم كثير من الأمم الممدنة بإنشاء هذه الجمعيات، وحرمت إحسان الفرد للفرد، وحضت على إحسان الفرد للجمعيات.
وهكذا الشأن في كثير من الفضائل، قد هذبها رقي العقل وتقدم المدنية.
كذلك تختلف قيمة الفضائل باختلاف حالة الأفراد وأعمالهم، ففضيلة الكرم بالنسبة للفقير ليست من الأهمية بالدرجة التي لها بالنسبة للغني، ولا الفضائل التي في الدرجة الأولى للمسن هي بعينها الفضائل التي في الدرجة الأولى للشاب، ولا فضائل المرأة مرتبة ترتيب فضائل الرجل، ولا فضائل التاجر هي نفسها فضائل العالم وهكذا. ومن الصعب على الأخلاقي التعمق في التفصيلات، وبيان الإختلافات الدقيقة بين الأشخاص التي يترتب عليها اختلاف في قيمة الفضائل.
وكل الذي نستطيع أن نقوله إن الناس جميعا — مهما اختلفوا — مطالبون بفضائل عامة من صدق وعدل ونحوهما يجب أن يتصفوا بها، وأنهم على اختلاف طبقاتهم ودرجاتهم يستوون في شيء واحد، وهو أن كلا منهم مطالب أن يضع في الدرجة الأولى من الأخلاق ما يناسب حالته ويتفق مع مركزه الإجتماعي وعمله الذى يؤديه، وإن اختلف تطبيق ذلك.
(٣) أقسام الفضيلة
بعض الفضائل يمكن أن تدخل في فضائل أشمل منها، كالأمانة، فإنها تدخل في مفهوم العدل. وكالقناعة فإنها تدخل تحت العفة، وبعض الفضائل يكون مولدا من فضيلتين أو أكثر، كالصبر فإنه ينتج من العفة والشجاعة، وكالحذر، من العفة والحكمة، فما أصول الفضائل التي هي أساس لغيرها؟
وهذا خطأ واضح فكثيرا ما نعلم الخير ونتجنبه، ونعلم الشر ونأتيه، فمعرفة الخير ليست كافية في الحمل على فعله، بل لا بد أن ينضم إليها إرادة قوية حتى يعمل على وفق ما علم.
وعلى رأي «سقراط» ليست هناك في الحقيقة إلا فضيلة واحدة وهي «المعرفة» وإن شئت فسمها «الحكمة»، وليس غيرها من الفضائل كالشجاعة والعفة والعدل إلا مظهرا من مظاهرها وصادرا عنها.
وقد جر هذا القول «أرسطو» إلى وضع «نظرية الأوساط» أى أن كل فضيلة وسط بين رذيلتين، الإفراط والتفريط، فالشجاعة وسط بين التهور والجبن، والكرم وسط بين الشرف والبخل، والعفة بين الفجور والخمود إلخ. وهناك فضائل لم تضع اللغة أسماء لطرفيها الرذيلين، ولكن هذا لا ينفي أن الفضيلة في هذه الحالة أيضا وسط بين رذيلتين.
وقد اعترض على هذه النظرية بأن هناك كثيرا من الفضائل لا يظهر فيها أنها وسط بين رذيلتين كالصدق والعدل، فليس هناك إلا صدق وكذب، وظلم وعدل.
وبأن بعض الفضائل ليس وسط الرذيلتين، فإن الشجاعة ليست على بعدين متساويين من التهور والجبن، بل هي أقرب إلى التهور، وكذلك الكرم أقرب إلى الإسراف منه إلى البخل.
واتبع بعض المحدثين طريقة أخرى في تقسيم الفضائل، فقالوا: إن الفضائل إما فضائل شخصية، كضبط النفس وتهذيبها، وإما فضائل اجتماعية كالعدل، فالفضائل الشخصية هي الفضائل التي تنظم حياة الفرد، وتجعل ملكاته وقواه في حالة تعادل ورقي، وأما الفضائل الإجتماعية فهي الفضائل التي تجعل الإنسان في وفاق مع من حوله من الناس وترقي شؤونهم، نعم إن النوعين من الفضائل يتوقف كل منهما على الآخر، فإنه إذا انعدمت الفضائل الشخصية لا يمكن تحصيل الخير للمجتمع، ولا سيره في طريق رقيه، ولا إيصال الحقوق للناس، وإذا انعدمت الفضائل الإجتماعية ساءت أخلاق الفرد، ولم يستطع أن يرقي نفسه ترقية تامة، ولكن يمكن التمييز بين النوعين بسهولة.
(٤) طرق غرس الفضائل
- (١)
فأول ذلك تكوين العادات الصالحة في الطفل منذ صغره، وذلك عمل الآباء في بيوتهم، والمدرسين في المدارس، وخصوصا المدارس الأولى، فهم بإلزامهم الطفل أن يكرر عملا صالحا يصبح عادة له، كتعويده النظافة وقول الصدق والطاعة ونحو ذلك، وإذا تأصلت هذه العادات أصبح لها من السلطان عليه ما يقرب من الطبيعة التي خلق عليها الإنسان، ولذلك قالوا: «العادة طبيعة ثانية» وبعد أن ينشأ الناشئ وينمو عقله يصبح تكوين العادات الصالحة موكولا إليه هو، وهو المكلف بها والمسئول عنها، فإذا عني بنا آباؤنا ومربونا في صغرنا، وعنينا بأنفسنا في شبابنا بتكوين العادات الصالحة عنيت هذه العادات بنا في بقية حياتنا، وجنينا من ورائها ربحا عظيما، فنحن كالمصور يعمل صورة من جبس لين لا يلبث بعد أن يتصلب، فإن اعتنى بالصورة وجملها كانت — مدة بقائها — زينة تسر الناظرين، وإن لم يعن بها وخرجت مشوهة جمدت على شكلها وكانت غصة للرائين.
والإنسان يكاد يكون مجموع عادات تمشي على الأرض، فطريقته في معيشته تعتمد على عاداته، بل هو سعيد أو شقي بالعادة، أمين أو خائن بالعادة، شجاع أو جبان بالعادة، فإذا عني بنا في صغرنا ربحنا كثيرا في حياتنا.
- (٢) ومما يعين على غرس الفضائل «القدوة الصالحة»، لأنها تثير الشعور، وتحي الضمير، وتكون القدوة بأمور:
- (أ)
الصداقة، فالإنسان يقترب جد القرب من أخلاق من يصادق، وكما قال بعضهم: «خبرني من تصادق أخبرك من أنت» وتقليد الصديق لصديقه ظاهر في نواح مختلفة — في القول — فنحن نبدأ نتكلم بالألفاظ التي يتكلم بها الصديق، فإذا كانت سيئة بذيئة شعرنا في أول الأمر بكراهيتها والإشمئزاز منها، ثم نتعود سماعها بتكررها على آذاننا، ولا نشعر بما كنا نشعر به من اشمئزاز، ثم لا نلبث أن ننطق بها كما ينطق صديقنا، كذلك — في الفعل — فنحن نعمل أعمال أصدقائنا بحكم ما فينا من ميل إلى التقليد، ننسخها كما ننسخ صفحة أمامنا، بل نحن نقلد أصدقاءنا في كثير من أعمالهم من غير شعورنا، فالكلمات التي نسمعها منهم والأعمال التي تصدر عنهم تحفظ في أذهاننا، ثم تبعثنا على العمل على وفقها ولو لم نتعمد ذلك.
والصديق يؤثر في صديقه خيرا كان أو شرا، فالصديق السيئ ينضح أفكارا سيئة وأقوالا سيئة وذوقا سيئا يتشربها صديقه، والصديق الصالح ينضح أفكارا صالحة وأقوالا نقية وذوقا طاهرا يتأثر بها صديقه.
كل هذا يوجب علينا أن نعني كل العناية بتخير الأصدقاء، وأن نفر من الصديق السيئ كما نفر من المحموم خشية العدوى، ونعده خطرا يتهدد أخلاقنا، نهرب من مجلسه، ونهرب من سماع قوله، ونهرب من رؤية عمله، لأن الشر الذى يصدر منه يعلق بنا.
- (ب)
كذلك، من القدوة الصالحة التي تعين على الفضيلة سير الأبطال ورجال الأخلاق، فالقراءة في كتب تراجم العظماء وقصصهم وأعمالهم في حياتهم يودع في أذهاننا ذخيرة نقلدها في أعمالنا، وكما أن كثيرين ممن أجرموا كان سبب إجرامهم قراءة رواية لص أو مشهد سينما أو نحو ذلك، كذلك كثير من العظماء إنما كانوا عظماء برؤيتهم القدوة الصالحة وتتبعهم لسيرة بطل رأوه أقرب إلى نفوسهم، فعرفوا تفاصيل حياته، فكانت منبعا لعظمتهم.
الحياة الأخلاقية حياة تأثر وتأثير، فكل إنسان يتأثر بمن حوله ويؤثر فيمن حوله، كالشئ الحار والبارد، فإنهما إذا تلامسا اكتسب الحار برودة والبادر حرارة، فيجب أن نعني بهاتين الناحيتين، فمن ناحية التأثر يجب ألا نختلط إلا بمن يفيدنا التأثر بهم، ومن ناحية التأثير يجب أن نكون قدوة صالحة لأصدقائنا والذين يعاملوننا، ونعلم أن عملنا الشر ليس مقصورا علينا، بل سيسهل لآخرين أن يعملوا الشر مثلنا، وأن يكون مثلنا الأعلى أن لو عرضت حياتنا بجميع دخائلها لم يجد الناس فيها إلا خيرا يحتذى.
- (أ)
- (٣)
كذلك مما يعين على غرس الفضائل دراسة علم الأخلاق، فكل علم يمنح دراسة عينا ناقدة في دائرة الأشياء التي يبحث عنها، وكذلك الشأن في علم الأخلاق، فدارسه أقدر على نقد الأعمال التي تعرض عليه وتقويمها تقويما مستقلا غير خاضع إلى إلف الناس وتقاليدهم، بل هو يستمد آراءه من نظريات العلم وقواعده ومقاييسه، وهذا يعينه على أن يكون فاضلا.
وكثير من العلوم كالرياضة والطبيعة وتقويم البلدان الغرض منها مقصور على معرفة نظرياتها وقواعدها، أما علم الأخلاق فله غرض أسمى وهو التأثير في إرادتنا وهدايتها، وحملنا على أن نشكل حياتنا ونصبغ أعمالنا حتى نحقق المثل الأعلى للحياة، ونحصل خيرنا وكمالنا، ومنفعة الناس وخيرهم، فهو ينير السبيل أمام الإرادة، ويشجعها على عمل الخير ويثبطها عن فعل الشر.
فعلم الأخلاق لا يفيدنا ما لم تكن لنا إرادة تنفذ أوامره وتجنبنا نواهيه.
•••
عادات صالحة نعتادها من صغرنا. وقدوة حسنة تحيي ضمائرنا، من أصدقاء منتقين، وكتب مختارة تشرح سير الأبطال وعمل الصالحين، ودراسة لعلم الأخلاق تشحذ ذهننا لمعرفة الخير والشر، وتستحث إرادتنا للعمل على وفقه، كل هذه أكبر ما يعين على غرس الفضائل في النفوس.
ولسنا نستطيع عد الفضائل جميعها، والكلام على كل منها تفصيلا، لذلك نختار بعض الفضائل الهامة ونشرحها.
(٥) الصدق
(٥-١) معناه
هو أن يخبر الإنسان بما يعتقد أنه الحق، وليس الإخبار مقصورا على القول، بل قد يكون بالفعل، كالإشارة باليد وهز الرأس ونحوهما، وقد يكون بالسكوت من غير قول ولا فعل، فمن ارتكب جريمة ورأى غيره يؤنَّب على ارتكابها ثم سكت فقد كذب، ومن الكذب المبالغة في القول مبالغة تجعل السامع يفهم منه أكثر من الحقيقة، كما إذا بالغ إنسان في وصف شئ بالعظم أو الكبر أو الصغر حتى أفهم السامع أكثر من حقيقته.
ومن الكذب أن يحذف المتكلم بعض الحقيقة ويذكر بعضها إذا كان ذكر ما حذف يجعل لما ذكر لونا خاصا.
وهناك طريقة واحدة للصدق وهو «أن يقول الإنسان الحق كل الحق، لا شيء غير الحق».
وإنما كان الصدق فضيلة لأنه أهم الأسس التي تبنى عليها المجتمعات، ولولاه ما بقى مجتمع، ذلك لأنه لا بد للمجتمع من أن يتفاهم أفراده بعضهم مع بعض، ومن غير التفاهم لا يمكن أن يتعاونوا، وقد وضعت اللغات لهذا التفاهم الذي لا يمكن أن يعيشوا بدونه، ومعنى الإفهام أن يوصل الإنسان ما في نفسه من الحقائق إلى الآخرين، وهذا هو الصدق.
يتجلى لك ذلك في المجتمعات الصغيرة كالأسرة والمدرسة، فكلاهما لا يبقى إلا بالصدق، فلو كذب الطلبة في كل ما يتكلمون، وكذب عليهم مدرسوهم في كل ما يعلمونهم ويحدثونهم ما بقيت المدرسة، وكذلك البيت. وإذا كان المجتمع لا يمكن أن يبقى إذا كان كل ما يتكلم فيه كذبا كان من الواضح أن يتضرر بقدر ما فيه من الكذب، فقد يبقى إذا غلب فيه الصدق على الكذب ولكنه يكون فاسدا منحطا.
ويدلك على ضرورة الصدق أن أغلب المعلومات التي وصلت إلينا بالسماع أو القراءة مبناها الصدق، وعليها يعتمد الإنسان في معاملاته وتصرفاته، فلو كانت كذبا لكانت الأعمال المبنية عليها خطأ وضلالا، ولما وصل إلينا من العلم إلا شيء قليل، وهو ما يمكننا أن نجر به بأنفسنا، وهو لا يغني في الحياة.
ومن أجل هذا عد الصدق أساسا من أسس الفضائل، وجعل عنوانا لرقي الأمم وانحطاطها.
ومما يشاهد في شأن الكذب أن الكذبة الواحدة قد تستوجب عدة كذبات لتغطيها، ذلك لأن الكاذب يخلق في الدنيا بكذبه ما لم يكن، يخلق خيالا لا يتفق مع الواقع، وقد يضطره هذا الخيال الذي خلقه أن يكذب كثيرا ليوفق بين الواقع والخيال ومحال ذلك.
ولا يزال الإنسان يكذب حتى يفقد ثقة الناس به وتصديقهم له حتى فيما هو صادق فيه، كما روى عن «أرسطو» أنه سئل ما ضرر الكذب قال: (ألا يثق الناس بقولك حين تصدق) وكل إنسان في هذه الدنيا في حاجة شديدة إلى ثقة الناس به سواء كان تاجرا أو طبيبا أو مدرسا أو محترفا حرفة، فمن فقد ثقة الناس به فقد حُرِم خيرا عظيما.
وكما يكذب الإنسان على غيره كصاحبه وأخيه يكذب على نفسه، وكثيرا ما يكون ذلك، كمن يحاول أن يقنع نفسه بأنه بذل ما في وسعه لأداء ما يجب عليه، وهو في الحقيقة لم يفعل ذلك، وكما يحصل كثيرا من محاولة المرء أن يخلق لنفسه الأعذار عن كسله أو بخله أو قسوته أو جبنه غشا لنفسه وخداعا، وصرفا لها عن الحق، وقد يغلو المرء في هذا الأمر حتى يصير عادة له، وحتى لا يستطيع أن يفرق بين الحق والباطل والصدق والكذب.
(٥-٢) أنواعه
وهناك أنواع من الكذب قد وضعت لها أسماء خاصة كالنفاق، وهو أن يظهر الإنسان غير ما يبطن، اشتقته العرب من النَّافِقَاء وهو إحدى حجرة اليربوع، يخفيها ويظهر غيرها ليلجأ إليها عند الحاجة، ومن هذا سمي الرجل الذي يظهر الإيمان ويبطن الكفر منافقا، فهو كذب عملي، ومن هذا النوع أيضا من يظهر الصداقة ويبطن العداء، وكل من يظهر بمظهر ينافي حقيقته منافق مذموم.
وكالملق أو التملق وهو أن تمدح آخر بما لا تعتقده فيه لتدخل على قلبه السرور رجاء أن تنال منه منفعة أو نحو ذلك.
وضد النفاق والملق الصراحة، وهي أن نفتح قلوبنا لمن نخاطبهم، وأن نصدق في التعبير عما تكنه ضمائرنا، والكلمة مأخوذة من قولهم: «لبن صريح» إذا ذهبت رغوته وكان خالصا، فالصريح من الناس من يخلص من الغش ويظهر لمن يحدثه حقيقة ما في نفسه.
وقد يخطئ قوم في فهم الصراحة فيظنون أنها تقتضي أن يقول الإنسان كل حق لكل إنسان. وهذا ليس بصحيح، فهناك مجال للقول ومجال للسكوت. وليس من الصراحة أن تجرح إحساس الناس وتؤلم مشاعرهم من غير حاجة تدعو إلى ذلك، أو أن يحدث الطبيب الناس بأمراض من يعالجهم من الأسر إذا كان ذكر ذلك يسيئهم، كما أنه ليس من الصراحة أن تفخر بأعمالك، أو تفشي ما تعرفه من أسرار نفسك أو بيتك، أو جيرانك أو أصدقائك، ولو كان ما تحدث به حقا، وإنما الصراحة ألا تقول — إذا قلت — إلا الحق، ولكن لا تقوله إلا لمن له الحق أن يعرفه.
ومن ضروب الكذب الممقوت «خلف الوعد» فمن وعد آخر وعدا وفي نيته عند وعده ألا يفي فقد كذب، وكذلك من كان في نيته الوفاء ثم أخلف لا لعذر أو لعذر يستطيع التغلب عليه، في خلف الوعد إضرار بالموعود كاضاعة وقته أو إيجاد أمل كاذب عنده أو نحو ذلك.. والوعد دين، فكما يجب وفاء الديون يجب وفاء الوعود، ويجب الإقتصاد فيها حتى لا يعد الإنسان وعدا إلا وفى.
(٥-٣) هل يباح في أية حالة من الأحوال؟
والجواب أن هناك مندوحة عن الكذب، فإن المسئول إذا كان لا يجيد الشعر ولا يستطيع الحكم عليه يمكنه أن يقول بحق «لست من الشعر بالمنزلة التي تخول لي الحكم» فإن كان يجيد أو يستطيع أن يميز بين جيده ورديئه فليستحسن من الأبيات ما هو حسن في نظره، ولينتقد بلطف وأدب مواضع النقد عنده، ويرشده إلى طريقة التخلص من عيوبه، فهذا صدق لا يؤلم، وفيه من الفائدة ما ليس للمدح الصرف الكاذب، إنما يؤلم النفس احتقار الشيء جملة، وأن يقال الصدق بخشونة وفظاظة، أما النقد المؤدب فأشهى إلى نفس طالب الحقيقة من القول الكاذب المزوق.
والجواب أن الكذب في الحروب ليس كذبا في الحقيقة، لأن الأمة باعلانها الحرب على أمة أخرى قد أعلنتها بألا تفاهم بينهما، وحيث لا تفاهم لا كذب، لأن معنى إعلانها الحرب أنها ستفعل معها ما تستطيع من الإيقاع بها ولو بالخديعة، فمثلها مثل من قال لآخر: «سأقص عليك خبرا كاذبا» ثم قصه عليه، فليس هذا بكذب لأنه لم يخبره بغير ما يعتقد، فإن اعتقد السامع صدق الخبر فاللوم عليه.
والجواب أن الناظر إذا قصر نظره على هذه الحادثة في وقتها رأى أن الكذب قد يكون واجبا، ولكنه إذا وسع نظره رأى أن الأم ستعلم أن مرض الولد كان السل لا النزلة الشعبية، وأن الطبيب قد كذب عليها رحمة بها، وسيعلم الناس ذلك فلا يثقون بقوله مهما أكد لهم عن المرض، ولو علم الناس أن الأطباء جميعا يتبعون هذه الطريقة لفقدوا الثقة بهم، فهذا الكذب قد أضاع معانى اللغة، وأزال الثقة بين الناس، وينبغي للإنسان عند الحكم على شيء أن يوسع نظره ليرى ما يترتب عليه من الإضرار في المستقبل القريب والبعيد.
ومع هذا فإنا نوجب على الطبيب أن يتخير الألفاظ التي يستعملها لأداء الخير. وأن يفتح على المريض وأهله باب الأمل بالقدر الذي يعتقد، ولكن لا يحيد عن الصدق.
على أنه إذا كان الصدق قد يودي بحياة بعض الأفراد، والكذب ينجيهم — وإن كنا لم نعثر في حياتنا اليومية على شىء من هذا — فلم لا نضحي بهذه الأنفس القليلة في سبيل الحق، وفي سبيل المحافظة على معاني اللغة، وثقة الناس بعضهم ببعض، وهي كلها ركن عظيم من أركان العمران؟ إذا كان من الصواب أن نضحي بآلاف النفوس للمحافظة على مملكة أفلا يكون من الحق أن نضحي بنفوس معدودة، ونحتمل أضرارا محدودة، للمحافظة على الحق؟
فلندع هذا النوع من الجدل، ولنلزم أنفسنا بقول الحق، كل الحق، في كل حال.
(٦) الشجاعة
(٦-١) معناها
الشجاعة هي مواجهة الآلام أو الخطر عند الحاجة في ثبات، وليست مرادفة لعدم الخوف كما يظن بعض الناس، فالذي يرى النتائج ويخاف من وقوعها ثم يواجهها في ثبات رجل شجاع، وما دام الإنسان يعمل في موقفه خير ما يعمل فهو شجاع، فالقائد الذي يقف في خط النار فيرتعش، ويخاف أن ينزل به الموت، ثم يضبط نفسه، ويؤدي عمله كما ينبغي قائد شجاع، بل هو شجاع أيضا إذا رأى أن خير عمل يعمله أن يتجنب الخطر، وأن الواجب يقضي عليه أن ينسحب بجنوده حيث لا خطر، فإن هو أضاع في موقفه رشده، أو ترك موقفا يجب أن يقفه، أو فر بجنوده من خطر كان عليه أن يواجهه، فهو جبان.
فليست الشجاعة تعتمد على الإقدام والإحجام، ولا على الخوف وعدمه، إنما تعتمد على ضبط النفس وعمل ما ينبغي، فإن ضبط الشخص نفسه، وعمل ما يجب أن يعمل في مثل موقفه رغم خطر أمامه، ورغم ما يشعر به من خوف، فهو شجاع، وإلا فلا.
وليس بالمحمود أن يتجرد الإنسان من كل خوف، فقد يكون الخوف فضيلة وعدمه رذيلة، فالخوف عند إمضاء عقد سياسي مثلا أو إنهاء أمر خطير فضيلة، إذ هو يحمله على الروية حتى يختمر رأيه، وفضيلة أن يخاف الإنسان من ثلم عرضه وشرفه، فليس بشجاع من يدخل الحانة ويشرب جهارا، أو يقامر على ملأ من الناس غير هياب ولا وجل، فذلك ضعف في الشعور لا شجاعة.
إنما الجبن المذموم والخوف المرذول أن يبالغ الإنسان في الخوف، أو يهول في الشئ المخوف، فمثلا كل إنسان عرضه لكلب كلب يعضه، أو سلك ترام يصعقه، أو سيارة أو قطار يدهمه، أو نار تشب في بيته، أو مكروه ينال منه، كل هذه الأشياء تخيف، ولكن الجبان يبالغ في الخوف منها، ويخشى جد الخشية من وقوعها، ثم يحمله خوفه على اجتناب العمل، فلا يركب مركبا — مثلا — خوف أن يغرق به، ولا يرحل عن وطنه إذا لم يجد عملا خوف أن يدركه الموت، ولكن الشجاع لا يفكر كثيرا في احتمال الشر، ثم إذا وقع لم يطر قلبه شعاعا، بل يصبر له، ويتحمله في ثبات، إن مرض لا يضاعف مرضه بوهمه، وإذا نزل به مكروه قابله بجأش رابط فخفف من شدته.
وعلى الجملة فالشجاع ليس بالمتهور الطائش الذي لا يخاف مما ينبغي أن يخاف منه، ولا بالجبان الذي يخاف مما لا يخاف منه.
وليست الشجاعة مقصورة على حمل السلاح ومشاهدة الحروب، بل إن كثيرا من الأعمال اليومية يحتاج إلى شجاعة لا تقل عن شجاعة الجنود، فرجال المطافئ، والأطباء، وعمال المناجم، وصيادو الأسماك في البحار عند اشتداد الرياح وتلاطم الأمواج، والممرضات اللائي يتعرضن للأخطار بتمريض المصابين بالأمراض المعدية، وربانو السفن التجارية، كل هؤلاء وأمثالهم شجعان يتحملون الأخطار كما يتحمل الجنود، ويقابلون الشدائد في صبر وثبات.
ومن أكبر مظاهر الشجاعة حضور الذهن عند الشدائد، فشجاع من إذا عراه خطب لم يذهب برشده، بل يقابله برزانة وثبات، ويتصرف فيه بذهن حاضر، وعقل غير مشتت، قد يرى إنسان نارا تلتهم بيته، أو لصا يغشى منزله، أو قطارا يكاد يهشم رجلا، أو سفينة أشرفت على الغرق، فإن فقد رشده، وأضاع صوابه، وحار طرفه، ودله عقله، ولم يدر ماذا يفعل، كان جبانا. وإن هو ملك نفسه، وثبت قلبه، وتصرف في الأمر على أحسن وجه، كان شجاعا حقا. كالذي حكى عن عبد الملك بن مروان أنه أتاه في يوم واحد خبر مقتل ابن زياد، وهزيمة جيشه، ودخول ابن الزبير فلسطين، وثوران ثورة في دمشق، ومسير ملك الروم إلى الشام، فما تزعزع ولا طاش، وقد رؤي في هذا اليوم ثابت الجنان، غير مقطب الوجه، ثم شغل ملك الروم بمال يؤديه إليه، ووجه جيشا إلى فلسطين فاستردها، وسار إلى دمشق فأسكن فتنتها.
(٦-٢) الشجاعة الأدبية
لما تقدم الناس في المدنية لم يكونوا في حاجة كبرى إلى الشجاعة البدنية كما كانوا يحتاجون إليها أيام بداوتهم، فظهر للشجاعة معنى جديد يسمونه الشجاعة الأدبية، يعنون بها أن يبدي الإنسان رأيه وما يعتقد أنه الحق مهما ظن الناس به، أو تقوّلوا عليه، ومهما جر ذلك عليه من غضب عظيم، لا يخاف من تحمل ألم يصيبه في سبيل قول حق يقوله، أو مبدأ هام ينشره، فلو رأى في مسألة غير ما يراه علماء وقته أو من حوله من الناس، أو خالف حاكما أو عظيما، جاهر برأيه غاضا عما يناله من الأذى، يقول الحق بأدب وإن تألم منه الناس، ويعترف بالخطأ وإن نالته عقوبة، ويرفض العمل بما لا يراه صوابا ولو لم يقع رفضه موقعا حسنا.
والتاريخ مملوء بكثير من الناس ضحوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل قول الحق ونصرته، وصبروا على الآلام عشقا للحق وهياما به، واستعذبوا طعم الرزايا تنزل بهم لأنهم يحبون الحق أكثر مما يحبون أنفسهم، ومنهم الأنبياء والمرسلون والشهداء ونوابغ العلماء، فقد أوذوا في الحق فتحملوا الأذى، وباعوا أنفسهم وأموالهم مرضاة له، كالذي حكى عن رسول الله ﷺ وقد جاء إليه عمه أبو طالب ينصحه بالعدول عن دعوة الناس فقال له: «يا عم! والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته».
ومن هؤلاء «سقراط» الفيلسوف اليوناني، فقد علم شبان أثينا ما وصل إليه علمه، وبذل جهده في تثقيف عقولهم وتقويم أخلاقهم، فلما بلغ سن السبعين أتهم بأنه يجحد آلهة اليونان، ويضلل الشبان، فحكم عليه بالإعدام، وكان في استطاعته أن ينجو بنفسه إذا هو تعهد أن ينقطع عن التعليم، ولكنه أصر على قول الحق وأضاع نفسه.
وفي تاريخ العرب كثير من أمثال ذلك «فابن رشد» الفيلسوف الشهير المتوفى في سنة ٥٩٥هـ اضطهد من أجل اشتغاله بالفلسفة، وسجن ونفى فلم يعبأ بذلك كله.
«وابن تيمية» أحد الفقهاء المشهورين المتوفي سنة ٧٢٨هـ أداه اجتهاده إلى مخالفة فقهاء عصره في بعض المسائل فوشوا به إلى السلطان فسجنه، فظل يكتب الرسائل في سجنه يؤيد بها مذهبه، ويدحض بها حجج معارضيه.
وفي العصور الحديثة لولا أن قوما من العلماء ضحوا كثيرا في قول الحق ما تقدم العلم والمدنية إلى الحد الذى نراه «فجاليليو» الفلكي الإيطالي (١٥٦٤–١٦٤٣م) اخترع التلسكوب فرأى به أن المجرة ليست إلآ نجوما كثيرة، وأن في القمر جبالا وأودية كالتي في الأرض، ورأى به كلف الشمس، وكان يعلم أن الأرض تدور حول الشمس مخالفا لتعاليم «بطليموس» القائلة بأن الأرض هي مركز الكون، فاضطهده من أجل ذلك بعض القسيسين، وأمروه بالكف عن تعاليمه، فلم يستطع الصبر عن الحق، فأخذ وسجن وعذب كثيرا من أجل تعاليم يعرفها كل تلاميذ المدارس اليوم.
«ودارون» الفليسوف الإنجليزي (١٨٠٩–١٨٨٢م) لم يعذب كما عذب من قبله بسجن أو نفي أو قتل، ولكنه عذب بالإنتقاد المر من رجال عصره فتحمله، وأبان الطريقة التي اتبعها النبات والحيوان في نشوئه وارتقائه، ولم يقعد به ضعف صحته عن البحث وراء الحقيقة، فكان على الرغم من مرضه وألمه يجري التجارب ويجتهد أن يتعلم دائما أشياء جديدة عن الدنيا التي يعيش فيها، «وكَامبَانِلا» الفيلسوف الإيطالي (١٥٦٨–١٦٣٩م) قد أغضب بعض القسيسين والأمراء بتعاليمه الجديدة، فقد كان يقول: إننا نستطيع أن نتعلم من امتحان الأشياء التي حولنا كالأشجار والأزهار والجبال والأنهار أكثر مما نتعمله من كتب الفلاسفة القدماء أمثال «أرسطو» وكان يقول: إن هناك نظاما للحكم خيرا من النظام الحاضر لا يستبد فيه الحكام بالشعب، وقد سجن من أجل أقواله هذه، وعذب عذابا شديدا، واستمر في الحبس خمسا وعشرين سنة، ثم أفرج عنه.
فواجب أن نقف بازاء الحق نصرح به وندافع عنه ونعشقه، ونتحمل الآلام في سبيله، ونتخذ من ذكرنا مثلا صالحا في حياتنا.
ومن هذا النوع من الشجعان من يهجر لذته وراحته، ويتحمل الآلام، لخير الناس وإسعادهم، كمن يرى مرضا اجتماعيا في أمته فيخصص حياته لدراسته ومعرفة أسبابه، ثم يتحمل المتاعب في سبيل إصلاحه، وكأن يرى الأطفال الذين لم يتجاوزوا العاشرة يعملون في المعامل ساعات طويلة في أماكن غير صحية بأجر قليل، لا يرحمهم ولا يشفق عليهم أصحاب المعامل ورءوس الأموال، فيشبون ضعفاء جهلاء يقسون على من دونهم كما قسى عليهم، أو يرى أولاد الشوارع ينشئون ولا علم ولا عمل فيكونون بعد مجرمين يعبثون بالأمن ويعثون في الأرض فسادا، أو يرى فقراء يألمون في الحياة آلاما جسيمة يقضون أطول زمن في العمل وينالون أقل أجر، تشتد مزاحمتهم على العمل، ويخضعون لنظم شاقة، يسكنون مساكن غير صحية وهم مع ذلك يستأجرونها بأجرة باهظة إذا قيست بمساكن الأوساط والأغنياء، أثمان طعامهم ووقودهم وحاجاتهم أغلى مما يدفعه الأغنياء لأنهم مضطرون إلى شراء كميات قليلة في أوقات يقل فيها الصنف، تكثر بينهم الأمراض والوفيات، ويشتد بهم الضيق بمجرد قعودهم عن العمل لأنهم لم يستطيعوا أن يوفروا شيئا من أجورهم وقت عملهم، بيوتهم وحاراتهم تشمئز منها النفس قذارة، اضطرهم الفقر إلى الإزدحام في الحجرة الواحدة مع ما يفشو فيهم من الأمراض، تنشأ بينهم أبناؤهم وبناتهم فيجدون حولهم جوا خانقا من سكر وعربدة وتسوّل ومسكنة وكذب جر إليها الفقر وسوء الحال، فيخضعون لذلك مضطرين، ويسيرون سير آبائهم وهم في ذلك مجبرون لا مخيرون، فمن رأى شيئا من ذلك أو نحوه من الأمراض فخصص حياته لمعالجته، وضحى بكثير من مصلحته لمصلحة أمته، وصبر على ما يناله من الشدائد، وتغلب على ما يصادفه من العقبات، كان أشجع من جندي في خط النار.
(٦-٣) علاج الجبن
الشجاعة والجبن ونحوهما من الفضائل والرذائل تعتمد على الوراثة والتربية معا، فنحن نرث من آبائنا بذور شجاعتهم أو جبنهم، ولكن يجب ألا ننسى أن للتربية أثرا كبيرا، فهي إذا كانت صالحة زادت الشجاع شجاعة، وقللت من جبن الجبان، وإذا عولج الجبان علاجا ناجعا فقد يبرأ من مرضه، وليس للجبن علاج واحد، بل ينبغي أن ينظر إلى سببه، ثم يتخذ له العلاج اللائق به، شأن جميع الأدواء، فقد يكون سببه الجهل بالشئ، فالعلاج إذا العلم به، كالذي يرى شبحا في الظلام فينزعج منه وترتعد فرائصه، فإذا علم أنه حجر أو متاع أنس به وزال خوفه، ومن هذا النوع أكثر ما يخيف في الظلام من عفاريت ونحوها.
ويتصل بهذا عدم الإلف، فكثيرا ما يكون سبب الجبن، فالإنسان إذا لم يأنس بالشئ ويألفه يجبن أمامه، كالطالب الذى لم يتعود الخطابة فإذا هو حاولها تهدج صوته، وجف ريقه، وارتعشت أطرافه، ومن لم يتعود غشيان المجالس ومخالطة الناس يخاف منهم ويلجئه الجبن إلى حب العزلة، فإن هو اضطر يوما إلى الإجتماع بهم علاه الخجل، واضطربت حركاته، وزاد ارتباكه، وثقل على الناس وثقلوا عليه، وعلاج هذا الإلف والتعود، فلا يزال الرجل يتكلف الخطابة حتى يصير خطيبا، والجرأة حتى يصير جريئا.
ومما يفيد في هذا الباب أن يفرض وقوع النتائج التي تكون إن وقع المكروه ثم يهونها على نفسه، فلو تصور أنه خطب فلم يجد وانتقده السامعون ثم صغر هذه النتيجة وهونها تشجع ولم يجبن، ولو قرر الأطباء أن تعمل له عملية جراحية فقدر الموت واستصغره قابل العملية بثبات وهكذا.
ومن العلاج أن ينظر إلى نتائج كل من الجبن والشجاعة فإذا ظهر له أن ما يصل إليه من الخير إذا هو تشجع أكبر مما يصل إليه من الجبن استحثه ذلك على الشجاعة، فمن جبن عن أن يرحل عن بلده لطلب رزق أو علم فلينظر ير أن من المحتمل أن يصيبه مرض في رحلته أو يموت في غربته، ولكن من المؤكد أنه إن لم يرحل ضاق رزقه، أو قل علمه وكان جبانا حتما، فإن ذلك النظر قد يحمله على أن يكون شجاعا، لا سيما إن علم أن ليست الحياة أن ينبض قلبه، ويأكل في اليوم ثلاثا، إنما الحياة أن يعمل وينفع، ويستفيد ويفيد.
تذكر وقت جبنك سير الأبطال، وأكثر من مطالعة تاريخ حياتهم تستشعر الشجاعة، وتمتلىء حماسة، وتحس بقوة تدفعك إلى العمل على مثالهم، والسير في طريقهم.
(٧) العفة أو الإعتدال أو ضبط النفس
(٧-١) معناها
ضبط النفس — أو العفة بأوسع معانيها — هو اعتدال الميل إلى اللذائذ، وخضوعه لحكم العقل، وليس ذلك مقصورا على اللذائذ الجسمية بل يشمل أيضا اللذات النفسية، كالإنفعالات والعواطف، فلا يسمى الشخص «ضابطا لنفسه» إلا إذا اعتدل في لذاته الجسمية من مأكل ونحوه، واعتدل أيضا في انفعالاته فلم يغضب لأي داع، ولم يندفع في السير وراء عواطفه، كأن يحن حنينا شديدا إلى وطنه إذا نزح عنه، أو يفرط في حزن لفقد عزيز عليه، وكثير من الرذائل يرجع سببه إلى عدم القدرة على ضبط النفس كالشراهة والدعارة والطمع والإسراف والغضب والسخط والثرثرة والإدمان.
تتضمن هذه الفضيلة أن يكون الإنسان سيد نفسه لا عبدا لشهوات تسيره كما تشاء.
(٧-٢) الزهد وآراء الناس فيه
والزاهدون أنواع: فمنهم من يرفض أن ينعم في الحياة بالمأكل الشهي ونحوه لأنه يرى أن الإستمرار في طلب اللذائذ يسبب ألما، فتصبح النفس شرهة، أطماعها كثيرة، وآمالها واسعة، وكلما نالت منها الكثير طمعت فيما هو أكثر منه، ثم هي تتألم الآلام الشديدة لما حرمت، وتتجرع مع ما تنال غصصا من الآلام، أضف إلى ذلك أن كثرة التمتع باللذة يفقدها قيمتها، فمن يأكل كل يوم طعاما شهيا يصبح بعد مدة وهذا النوع من الأكل عنده عادي، حتى تكون مقدار لذته منه تعادل لذة من قنع بالقليل، يرى هؤلاء أن شعور الإنسان بأنه قادر على حرمان نفسه يرفعه فوق حوادث الزمان، ويجعله يرى أن لا قدرة للحوادث ولا للدهر على إخضاعه، وهذا الشعور يحرر الإنسان من ربقة الخوف — وهو شعور فيه من اللذة ما ليس في الملذات الجسمية — فهم في الحقيقة يفرون من لذة للذة أخرى أكبر منها، هي لذة الراحة والطمأنينة وعلو النفس.
هؤلاء نظرهم شخصي أكثر منه اجتماعيا، فهم يبغون لذة أنفسهم، غاية الأمر أنهم وجدوها في الراحة وعدم الإنغماس في الشهوات.
ومن الزاهدين نوع آخر أرقى من هؤلاء، زهدوا في اللذائذ لأن ذلك وسيلة إلى إسعاد الناس وراحتهم، كما فعل عمر بن الخطاب، لم يشأ أن يمتع نفسه بالملذات لأنه رأى أنه إن فعل ذلك توسع الولاة ومن بيدهم أمر الأمة في البذخ والنعيم حتى يرهقوا الرعية، فزهد ليسعد الناس، ومن هذا الصنف كثير من المصلحين والعلماء الباحثين، يهجرون راحتهم ليستكشفوا ما يوفر الراحة على الناس، وهؤلاء — أيضا — في الحقيقة لم يضحوا بلذتهم، بل هم من صنف راق، يجدون — في شعورهم بأنهم مصدر لإسعاد الناس — لذة قلما تعادلها لذة.
ومن الزهاد صنف يتزهد تدينا، يتقربون إلى الله بالإمتناع عن التمتع بملذات الحياة، ولهؤلاء نقول: أن الله تعالى شرع الشرائع لإسعاد الناس، وقد رضى عمن اتبعها لأنه عمل لإسعادهم، فمن هجر لذته هو في عمل صالح يرضي الله — وبعبارة أخرى يسعد الناس — كان عمله مقبولا، وكان من الصنف الثاني، ولكن من ظن أن الله يرضى عن الزهد لأنه زهد فقد أخطأ، لأنه تعالى لم يجعل تعذيب النفوس سبيلا لرضاه، وماذا ينال الله والناس ممن انقطع للعبادة وزهد في الحياة! مدح رجل عند رسول الله ﷺ بأنه يقوم الليل ويصوم النهار وينقطع للعبادة فقال رسول الله ﷺ: «فمن يقوم بشأنه»؟ قالوا: كلنا قال: «كلكم خير منه»، وحقا ليس يصح لأحد أن يستحل أن يأكل من عمل الناس ولا يعمل هو في الحياة للناس شيئا، إنما يرضى الله عمن هجر لذته ليسعد قومه، وليس من العقل تحمل الألم لأنه ألم.
(٧-٣) الإفراط في الشهوات
ومن الناس من يرى — على عكس هؤلاء الزهاد — أن يطلق لنفسه العنان، ويمكنها من كل ملذات الحياة، يرون أن الإنسان في هذه الحياة إنما خلق ليتنعم، ولم يمنح العقل إلا ليبحث له عن وسائل النعيم، فهو لذلك يعب اللذائذ عبا، وينهمك فيها ما استطاع، وهذا ضار بالفرد وبالمجموع معا، فلو أبحنا لكل فرد أن يتلذذ كما يشاء ما انتظم شأن مجتمع، ولتعارضت شهوات الأفراد، وكانت الفوضى المطلقة، وإن جمعية أفرادها ليسوا أعفاء — أعنى أنه لا تحكمهم إلا شهواتهم الجسمية — لتحمل معها بذور الإنحلال والإنحطاط.
(٧-٤) الاعتدال
وفضيلة العفة تتطلب من الإنسان القصد في اللذائذ، فإن هو أفرط فانهمك في شهواته، أو فرط فأماتها، وبالغ في الزهد، فقد حاد عن سواء السبيل، خير طريق في الحياة أن ينيل الإنسان نفسه ملذاتها الطيبة، ويعطيها مشتهياتها ما لم تخرج عن حدود الأخلاق، فذلك أدعى إلى نشاطها وأقرب إلى طبيعتها، إنما يجب ألا تتجاوز الحدود الشرعية، ففي داخلها من الملذات ما هو أضمن لسعادة الفرد والمجموع قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وكثيرا ما يكون من المصلحة أن يمنع الإنسان نفسه مما لا بأس به حذرا مما به بأس، كالذي حكى عن بعضهم أنه أشعل لفافة فأحس منها بلذة شديدة فكان ذلك حاملا له على ألا يدخن، وسبب ذلك — على ما يظهر — أنه تخوف من نمو الرغبة عنده في التدخين، وخشي شدة تسيطر العادة عليه فيما بعد، وكان إحساسه اللذة علامة هذا الخطر فتركه.
وأشير هنا إلى مبدأ الأستاذ «جيمس» القائل: بأنه يجب أن نحافظ على قوة المقاومة، ونتبرع بعمل صغير كل يوم، لا لسبب إلا مخالفة النفس والهوى، فإن ذلك يعيننا على مقاومة المصائب إذا حان حينها.
فليس يقتضي ضبط النفس القضاء على الرغبات والشهوات، وإنما يقتضي تهذيبها واعتدالها، وجعلها خاضعة لحكم العقل، ففي القضاء على الشهوات قضاء على الشخص وعلى النوع، وفي اعتدالها سعادتهما جميعا.
أهم أنواع ضبط النفس
-
(١)
ضبط النفس عن الغضب: فمذموم أن يكون الإنسان سريع الغضب يخرج عن عقله للكلمة الصغيرة والسبب الحقير، وليس الغضب بالخطأ دائما، فهناك حالات يمدح فيها، فلو رأيت شابا يعذب صغيرا لم يجن جناية، أو ضعيفا لا يستحق عذابا، أو حيوانا لا حول له ولا حيلة، فحق أن تغضب، كذلك طبيعي أن يغضب الإنسان إذا عومل معاملة لا تتفق وشرفه أو نحو ذلك، فلا بد له من الغضب ليدرأ عن نفسه أو غيره الظلم.
ولكن هذه الحالات قليلة إذا قيست بغيرها من حالات الغضب، فأكثر حالاته رذيلة مذمومة، ولذلك عد رذيلة، وعد ضبط النفس عنه فضيلة.
وأكثر ما يدفع الإنسان إلى الغضب أثرته وحبه الشديد لنفسه، وكثرة التفكير في حقوقه، فيتخيل فيما لا يغضب احتقارا له ونيلا منه، وكثيرا ما يستسلم لغضبه فلا يعي ما يقول، ولا يعقل ما يفعل، ويظن أنه بذلك يظهر بمظهر المحترم لنفسه، المحافظ على كرامتها، وهو إنما يظهر بمظهر الطائش الأحمق.
والإنسان في غضبه حاكم غير منصف، يبالغ في الشيء ويسوئه، فهو كواضع على عينيه منظارا يكبر ويشوّه، وهو لا يرى وقت غضبه إلا الأغلاط، ولذلك تراه يحكم حتى على أعز الناس عليه أحكاما قاسية، والواجب أن نتريث ونسائل أنفسنا هل نحن محقون في غضبنا؟ أو ليس لما عُمل أو قيل محمل حسن؟ هل الشىء يغضب حقيقة بالقدر الذي أرى؟ أو ليس لمن أغضبني حسنات كثيرة بجانب هذه الإساءة؟
واجب ألا نستسلم للغضب، وأن نسلم زمام انفعالاتنا لعقلنا.
-
(٢)
ضبط النفس عن الإسترسال في الإنقباض والسخط: لأن ذلك يكدر صفو الحياة، وفي الناس كثير من هؤلاء المتشائمين الساخطين الذين يرون أن لا أسوأ من هذا العالم، وأن لذائذه لا تكاد تذكر بجانب آلامه، وحامل لواء هذا المذهب في العصور الحديثة «شُو بِنْهَوَر» الفيلسوف الألماني (١٧٨٨–١٨٦٠م) كان يرى أن حياة الإنسان سلسلة آلام ونزاع وكفاح، وأن هذا العالم أسوأ ما يكون، فيه من الآلام والشرور أكثر مما فيه من اللذائذ.
وأغلب ما يكون هذا النظر عند من ضعفت صحتهم، أو ساءت أعصابهم، أو توالت عليهم المصائب من موت أو فقر أو نحوهما، فتظلم الدنيا في أعينهم، ولا يرون فيها إلا ما يؤلم، أحب الشعر إليهم أمثال شعر أبي العلاء، وخير نغمات الموسيقى عندهم ما يبعث على البكاء.
ويظهر أن هؤلاء قد قصرت مشاعرهم عن إدراك ما في العالم من ملذات، فمثلهم كمثل عمي الألوان، الذين يدركون بعضها دون بعض، والحق أن الدنيا مملوءة بالمسرات والمؤلمات جميعا «ولولا سوء النظم الإجتماعية الحالية وفساد التربية الموجودة لكانت السعادة حظ أكثر الناس إن لم أقل كلهم».
إن الناس يخطئون في اعتقادهم أن ما يحيط بالإنسان من الأمور الخارجية هي التي تجعله ساخطا أو راضيا، بائسا أو منعما، نعم إن الإنسان قد يكون أقدر على السعادة في بعض الظروف دون بعض، ولكن الظروف نفسها لا تجعله سعيدا، فكثيرا ما تتوافر وسائل السعادة عند قوم وهم مع ذلك أشقياء بأنفسهم، لأنهم يخلقون من كل شىء ما يستوجب السخط، ويلونون كل ما يرون باللون الأسود.
إن السعادة أو المسرة تعتمد على أنفسنا أكثر مما تعتمد على الظروف الخارجية، ويجب أن يتعلم الإنسان «فن المعيشة» وكيف يكون راضيا ولو لم يكن كل شيء حوله وفق ما يتمنى.
-
(٣)
ضبط النفس عن الإسترسال في الشهوات الجسمية: ولا سيما الخمر والنساء، فهما شر ما يقع فيه الإنسان، ويفسد عليه حياته، ويضعف من روحانيته، ويقلل من حريته، ويسوقه إلى أسوأ حياة، وطريق الإحتياط لذلك عدم التعرض للمغريات، فلا يجالس المستهترين الذين لا يتحرجون من قول الهجر والحض عليه، ولا يقرأ الروايات المثيرة، ولا يغشى أماكن اللهو غير المؤدب، يصحب من قويت شخصيتهم ونظف لسانهم، وطهر روحهم، وأوجب ما يكون ذلك في السن بين الخامسة عشر والخامسة والعشرين، ففيها تنمو الشهوات وتبعث على الشرور، فلو لم يحصن الشاب بوسط صالح ورفقة مؤدبة، ويعن بما يوضع في يده من كتب، وما يشاهد من تمثيل، وما يغشى من مجتمعات كان عرضة لأحط أنواع الشرور، في هذه السن يكون المرء عرضة للتحول، وأكثر ما ساءت حالهم وفسدت أخلاقهم كان فسادهم في هذا الدور، وقل أن يسقط أحد بعد أن ينجو منه.
-
(٤)
ضبط الفكر فلا يتركه يهيم في كل واد، ويتجول في كل مجال، فالفكر إذا حام حول الشرور يوشك أن يقع فيها.
وعلى الجملة فضابط نفسه كراكب الفرس الذلول، يقصد حيث أراد، فيوجهها كما يشاء، ومن لم يضبط نفسه كراكب الصعبة، لا يسيرها كما يهوى، ولا يصل إلى غرضه بالسير كما تهوى.
في ضبط النفس حفظ الصحة، وطمأنينة العقل، والسعادة، والحرية، وسلطان كسلطان القائد على جنده، أو الربان الماهر على سفينته.
(٨) العدل
(٨-١) معناه
العدل نوعان: نوع يوصف به الفرد فيقال إنسان عادل، ونوع يوصف به المجتمع أو الحكومة، ولنتكلم على كل قسم.
(٨-٢) العدل بين الأفراد
فالعدل في الأفراد إعطاء كل ذي حق حقه، ذلك أن كل إنسان لما كان عضوا من أعضاء الجمعية كان له الحق في التمتع بنصيب من الخير الذى ينال المجتمع، فأخذ الإنسان نصيبه لا أكثر، واعطاؤه الناس حقوقهم لا أقل، هو العدل، فالغضب والسرقة ظلم لأن في كليهما أخذ ما للغير ومنعه عن حقه، والبائع الذى يكيل للمشتري أو يزن أقل مما اتفقا عليه ظالم لأنه لم يعطه حقه وهكذا.
ومن أعدى أعداء العدل «التحيز» وهو ميل الإنسان لأحد المتساويين ميلا يجعله يعطيه أكثر من حقه، وينقص الآخر حقه، فالقاضي مثلا يجب ألا يفرق في سيره مع الخصوم بين غنى وفقير، وأسود وأبيض، وذى جاه وعديم الجاه، لأن عمله إنما هو أن يطبق القانون على الأفراد، والناس أمام القانون سواء، فيجب ألا يجعل مجالا لحبه أو كرهه، ولا لغنى الخصم أو فقره، ونحو ذلك.
وكثيرا ما يتحيز الإنسان لآخر ويخطئ في أحكامه لتحيزه، وهو مع ذلك غير شاعر بأنه متحيز، ومعتقد الإنصاف فيما يرى، ومن أجل هذا يجب على الإنسان شدة مراقبته نفسه، وحذره من الوقوع في الخطأ.
- (١)
الحب، فمن يحب إنسانا يتحيز له، كالوالدين قلما يريان الخطأ في عمل أولادهما.
- (٢)
المنفعة الشخصية، فاحساس المرء بأن أحد الجانبين يكسبه منفعة لا تكون في الجانب الآخر يجعله يتحيز لأحد الجانبين.
- (٣)
المظهر الخارجي، فحسن منظر شخص، وجمال هندامه، وفصاحة قوله، وآدابه في الحديث كثيرا ما تبعث على التحيز وتبعد عن العدل.
وواجب يقظة الإنسان في حكمه واجتهاده ألا يتغلب عليه هوى أو ميل يصده عن العدل.
وقد كان قدماء الرومانيين يمثلون إلهة العدل بامرأة معصوبة العينين، ممسكة ميزانا ذا كفتين بإحدى يديها، وسيفا باليد الأخرى، ويرمزون بعصب عينيها إلى أن العادل ينبغي أن يعمى عن الإعتبارات التي تجعله يتحيز من غير حق كغنى وجاه، وبالميزان إلى أنه يجب أن يزن لكل إنسان حقه بالقسط، وبالسيف إلى أنه يجب أن يلجأ إلى القوة في تحقيق العدل عند الحاجة إليها، وفي ذلك يقول الله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ.
- (١)
عدم التحيز، فالذي ينظر إلى الشيء مجردا عن الهوى أقرب إلى تحقيق العدل.
- (٢)
توسيع النظر ورؤية المسألة من وجوهها المتعددة، فعند الخلاف في أمر يجب على كل من المتنازعين أن ينظر إلى محل النزاع من الجهة التي ينظر إليها خصمه أيضا، والقاضي عند فصله في الخصومة يجب أن ينظر إلى وجهة كل خصم.
- (٣)
أن يجعل مدار الحكم على الباعث للعامل على عمله لا على مظهره الخارجي، فقد يكون ظاهر العمل سيئا، ومستفزا للغضب، ولكنه صادر عن باعث شريف ونية حسنة، كالذي يقسو على ولده ليربيه.
(٨-٣) العدل في المجتمع
والمجتمع العادل هو المجتمع الذي له من النظم والقوانين ما يسهل لكل فرد من أفراده أن يرقي نفسه على قدر استعداده، فلا يكون المجتمع عادلا حتى تتوافر لكل طائفة من الناس وسائل رقيهم، ففي الأمة مثلا طائفة من التجار يحتاجون في تجارتهم إلى تلغراف وبريد وسكك حديدية وهكذا، وطائفة من الناشئين يحتاجون إلى مدارس يتعلم فيها كل من أراد أن يتعلم، وفيها من النظم والعلوم ما يسد حاجة كل طالب، وطائفة من المتخاصمين يحتاجون إلى قضاة وقوانين تردع الجناة وتحفظ حقوق الناس وهكذا، فإذا قامت الأمة بكل هذا حق لها أن تسمى مجتمعا عادلا، وإلا فهي مجتمع ظالم.
والمطالب بتحقيق العدل في المجتمع كل فرد من أفراده، فكل إنسان مطالب أن يعمل لتحقيق العدل في مجتمعه على قدر استطاعته، فإذا احتاجت مدينة إلى مستشفيات مثلا فعلى الخطيب أن يخطب حاثا على إنشائها، وعلى كتاب الجرائد أن يكتبوا، وعلى الشعراء أن يشعروا، وعلى الأغنياء أن يتبرعوا، وعلى كل ذي قدرة وجاه أن يستعمل قدرته وجاهه في مساعدة المشروع، ثم على من في يدهم تنفيذه أن ينفذوا، فإذا لم يعمل كل فرد ما عليه فالأمة كلها آثمة ظالمة، يقع عليها ضرر تقصيرها، حتى الأفراد الذين أدوا ما عليهم، لأن المجتمع كما قدمنا جسم عضوي، وذلك هو شأن الجسم العضوي، فلو أن القلب أدى ما عليه ولكن المعدة لم تؤده عوقب كل عضو في الجسم حتى القلب.
وإذ كانت حكومة كل مجتمع هي القائمة بالأمر فيه فهي لا تعد عادلة إلا إذا قامت بواجبها خير قيام، وليس واجبها أن تحصل الخير لنفسها، ولكن أن تحصل للمجتمع الذى تحكمه أقصى ما تستطيع أن تحصله، وقد عبر أفلاطون عن هذا بقوله: «إن خير حكومة هي التي تضع كل فرد من الأمة في خير مكان يليق به، ويستطيع أن تظهر فيه مواهبه، ثم تمده بما يحتاجه لأداء ما عهد إليه» وعلى هذا لا تكون الحكومة عادلة إلا إذا قامت بهذه الوظيفة، وهو تكليف للحكومة شاق، من المشكوك فيه أن يتحقق يوما ما، مهما صغر المجتمع ورقيت حكومته.
وأقل من هذا تكليفا ما قاله بعضهم من أن الحكومة تعد عادلة ما دامت لا تضع العراقيل في سبيل أفرادها، وتتركهم أحرارا يعملون ما يشاءون لترقية قواهم وملكاتهم وأعمالهم، حسب استعدادهم، إلا عند الضرورة القصوى، أما إذا كان بعض أفراد الشعب يريد مثلا أن يتعلم فيجد السبيل قد سدت أمامه، أو التاجر لا يستطيع أن يرقي تجارته للعقبات التي تضعها الحكومة في سبيله، فإذ ذاك لا يمكن أن توصف حكومة هذا الشعب بالعدل.
(٨-٤) العدل والمساواة
كثيرا ما يقرن العدل بالمساواة، ويعتقد كثير من الناس أن العدل في المساواة، والظلم في عدمها، وقد أخذت هذه الكلمة محلا كبيرا في العقول من عهد الثورة الفرنسية، فقد كان شعارها «الحرية، المساواة، الإخاء»، «كل الناس أحرار، كل الناس متساوون، كل الناس إخوان».
في الدنيا وسائل كثيرة من وسائل الحياة الطيبة كالثروة التي لا بد منها للأكل الطيب والملبس الطيب والمسكن الصالح واقتناء الكتب النافعة، والقدرة على الرياضة البدنية والعقلية، ونحو ذلك، وهذه الثروة لا تكفي لسد مطالب كل الناس، فهل من الحق والعدل أن يتساوى الناس في هذه الوسائل الموجودة أو الحق والعدل في عدم المساواة؟ هل من العدل أن توزع الثروة من أراض ومناجم ومتاع على الناس بالسواء فلا يكون غنى وفقير ولا أرباب أموال وعمال؟
تغالى قوم في ذلك، فطلبوا المساواة في وسائل الحياة كالمال ونحوه، وذكروا لذلك حججا لا يتسع هذا الكتاب لذكرها.
- (١)
أن الناس مختلفون بطبيعتهم في قواهم وملكاتهم، فمنهم الذكي والغبي، والحاذق والأبله، والكفء وغير الكفء، هكذا خلقهم الله، وهكذا ولدوا، فمن الخرق أن نمكن الأغبياء والبله وغير الأكفاء من إدارة الأعمال الواسعة، وأن نمنحهم منحا كبيرة لا يستطيعون أن يتمتعوا بها، فإنا إذا منحناهم ذلك أساءوا استعمالها، ولم ينتفعوا بثمرتها، مع أنا لو أعطيناهم ضروريات العيش فحسب، وأعطينا ما زاد للكفء القادر سعد الجميع.
- (٢)
أن الإختلاف بين الناس يبعثهم على الجد، فالفقير إذا رأى الغني يتمتع بأكثر مما يتمتع به هو جد في العمل ليكون مثله، وحامل الشهادة الثانوية إذا رأى حامل الشهادة العالية يمتاز بميزات أكثر منه رغب وعمل ليكون مثله، وتمتع بعض الناس بالملبس الجميل والمسكن العظيم والسيارات الفخمة يثير في النفس حب العمل لتصل إلى النتيجة المنشودة، ويبعث على الإختراع ويرغب المتزاحمين في استكشاف خير الطرق لنجاح عملهم، وفي ذلك خير للإنسانية على العموم، أما إن نحن سوينا بين الناس لم نجد ما يحملهم على الجد، وقد فطر الناس — متوحشهم ومتمدينهم — على أن الأمل يسيرهم، والرغبة في عيش خير من عيشتهم هي التي تشجعهم.
ومع أن دعاة المساواة لم يصلوا إلى غرضهم فقد كان لهم أثر كبير في تحسين حالة العمال، وترقية طبقة الفقراء، بزيادة أجورهم، وتقليل ساعات عملهم، وإنشاء المساكن الصحية لهم، ونحو ذلك.
- (١)
المساواة أمام القانون، بمعنى أنه لا فرق أمامه بين غني وفقير، وشريف وغير شريف، كل يعاقب على جريمته إذا أجرم، وعند وضع القانون ينبغي ألا تفضل طبقة على طبقة.
- (٢)
المساواة في الحقوق، فكل إنسان له من حق الحرية وحق الحياة ونحو ذلك ما للآخر، ليس لأحد الحق في أن يخطب أو ينشر رأيه دون الآخر، بل الكل في ذلك سواء، للأمير من الحق ما لأحد الرعية، وللغني ما للفقير.
- (٣)
المساواة في المناصب، أعني أنه ليست المناصب مقصورة على فئة خاصة، بل كل من تتوافر فيه الصلاحية للمنصب له الحق فيه، وليس للاعتبارات الأخرى كالغنى والجاه دخل في التفضيل.
- (٤)
المساواة في التصويت في الإنتخاب، فليس ذلك حق الأغنياء دون الفقراء، وهذا النوع موضع خلاف بين العلماء، ولم تتبع الأمم نمطا واحدا في السير عليه.
(٨-٥) العدل والرحمة
- (١)
موظف ليس كفئا، لا يحسن عمله، ولا يفيد الناس، أريد الإستغناء عنه من أجل ذلك لكنه كبير في السن، ورب أسرة وفقير، فيقال: «الرحمة فوق العدل» أى أن العدل يقضي بالإستغناء عنه، والرحمة تقضي ببقائه في عمله، ولكن يجب أن نطبق في هذه المسألة العدل لا الرحمة، فالعدل هنا فوق الرحمة، وليست الرحمة فوق العدل، ذلك لأن الضرر الذي ينال الناس من إهماله في عمله، وعجزه عن القيام به يفوق الضرر الذى ينال الموظف وأسرته، ولأن «المصلحة» التي يشتغل فيها ليست ملجأ للإحسان يرتزق منها مع عدم كفايته، بل هو يأخذ أجره في مقابل عمله، فمن لم يحسن عمله لم يستحق أجره، وكونه رب أسرة وفقيرا يجعله يستحق الإحسان لا من «المصلحة» ولكن من معاهد الإحسان.
- (٢)
عامل ترام «كمساري» تريد أن تشفق عليه فتعطيه ثمن التذكرة ولا تأخذها منه «لأن الرحمة فوق العدل» وهذا أيضا خطأ، لأن ثمن التذكرة ليس ملكك، ولكن ملك الشركة ولا يصح أن تحسن من مال غيرك إلا برضاه، فإذا أردت الإحسان فأعطه من مالك الخاص بعد أن تدفع ثمن التذكرة.
- (٣)
لص قبض عليه وهو ينتشل «محفظة» فأخذ يستعطف الناس ويبكي ليفرج عنه فيقولون: «الرحمة فوق العدل» وليس ذلك بصحيح، لأن معاقبة السارق من حق الأمة، فلا يملك العفو عنه بعض الأفراد.
- (٤)
مسجون سجن ظلما وعدوانا يراد العفو عنه، فيقال: «الرحمة فوق العدل» وهو خطأ أيضا لأن العدل يقتضي كذلك ألا يسجن، فالرحمة والعدل يتفقان في المطلب، وليست الرحمة فوق العدل.
نعم في بعض المواضع يكون استعمال الجملة صحيحا، كما إذا كان لك دين على آخر فرحمته وتركت دينك، أو أجلته حتى يوسر، فالعدل أن تأخذه والرحمة أن تتركه أو تؤجله، والرحمة فوق العدل.
وجملة القول أن الجملة صحيحة إذا كان الذى يرحم هو الذى يملك حق العدل، ثم هو يتنازل عن حقه في العدل ويرحم، أما الرحمة حيث يكون العدل من حق غيره فخطأ بيّن كما مثلنا.
(٨-٦) العدل والإحسان
كذلك كثيرا ما يقرن العدل بالإحسان، ونعني بالعدل أداء الواجب من غير تحيز، وبالإحسان الفضل في أداء الواجب والزيادة عليه، ولنضرب لذلك مثالا يتجلى فيه معنى الإحسان.
- الأول: أن يستغل القوي مركزه، ويقول: إنني أقوى منه، فلأنتهز فرصة ضعفه وأكلفه عمله وجزءا من عملي، فإذا لم يعمل أجبرته واتخذت ما أستطيع من الوسائل لإرغامه، وهذا موقف يمثل المبدأ المشهور «الحق للقوة» وهو مبدأ سار عليه الناس في حالة بداوتهم وهمجيتهم. ولا يزال يطبق بين المتمدينين وإن كان أقل من قبل، وهذا هو «الظلم» بعينه.
- الثاني: أن يقول القوي: إن عليّ نصيبا من العمل، وعلى زميلي نصيبا، ولست
أستغل قوتي فأحمل زميلي فوق نصيبه، ولا أطبق مبدأ «الحق للقوة»
ولكن أعمل واجبي لا أكثر ولا أقل، وليعمل هو نصيبه لا أكثر ولا
أقل.
وهذا الموقف هو العدل، يتساوى فيه العاملان بأن يعمل كل واجبه.
- الثالث: أن يقول القوي: إني أستطيع بحكم قوتي أن أرغم زميلي على أن يعمل أكثر من نصيبه، وأستطيع أن أعدل معه فأكلفه نصيبه فقط، ولكن سأعمل فوق ذلك، سأعمل نصيبي وأعينه على نصيبه، سأساعده في نصيبه لأنه أخي، ولأني لو كنت مكانه لتمنيت أن يعينني زميلي، فلأعاملة بما أحب أن أعامل به لو كنت مكانه، ولو كنت أنا الضعيف لتمنيت أن القوي يحمل عني بعض العبء، فلأحمل الآن بعض عبئه جريا مع القاعدة الذهبية «أحب لأخيك ما تحب لنفسك».
هذا هو «الإحسان» وهو موقف أشرف من العدل، وأعلى منه شأنا.
(٩) الإعتماد على النفس
(٩-١) معناه
من أهم الفضائل الإعتماد على النفس، ويمكن الإنسان أن يعودها من صغره، فلو أن الوالدين أفهما أطفالهما وجوب عنايتهم بأنفسهم في نظافة ملابسهم وانتظامها وأنهم هم المسئولون عن ذلك كان هذا بذرة للاعتماد على النفس.
ويستطيع الوالدان أن ينميا هذه الفضيلة بالإصغاء إلى ما يبديه الطفل من الأسئلة والإجابة عليها، وإظهارهما احترام آرائه ومناقشتها، وإبداء ما فيها من ضعف، في لطف، مهما كانت الأسئلة والآراء سخفية.
إذا سلك الوالدان هذا المسلك شعر الطفل بأن له شخصية محترمة، فنما عنده حب السؤال، وحب تكوين الآراء، ولم يصبح ببغاء يردد فقط ما يسمع ويرى، وزاد عنده الشعور كذلك باحترام ما لغيره من شخصية، فهو يعامل اصدقاءه وزملاءه بالطريقة التي يعامله بها أبواه، فيصغي للآراء المخالفة لرأيه، وينقدها في أدب، فيزيد ذلك في نمو شخصيته واستقلاله.
كذلك مما يعين على نمو هذه الفضيلة أن يجعل الوالدان لأولادهم «مالية خاصة» يستولون عليها، ويتصرفون فيها بحريتهم، ثم يصحح الوالدان ما ارتكب الأطفال من أخطاء فيها، وهذا هو الطريق الوحيد لتدريبهم على تحمل المسؤولية، وشعورهم بالشخصية، فبيع الأطفال وشراؤهم، ونجاحهم أحيانا وغبنهم أحيانا، يجنبهم الخطأ في المستقبل، وأكبر برهان على ما نقول ما نرى من شبان حرموا المال في صغرهم ثم أعطوه دفعة واحدة في شبابهم فأساءوا التصرف، ووقعوا في أضرار جسيمة، لأنهم لم يدربوا التدريب الكافي منذ نشأتهم.
فإذا ذهب الطفل إلى المدرسة، وعوده المعلمون الإستقلال بنفسه في بعض أعماله، كحل بعض المسائل الحسابية، والكشف في المعاجم عن الكلمات التي لم يفهمها، وتركوه ونفسه يفكر في المعضلات، ويتفهم بعض الجمل الصعبة التي تعترضه نمت عنده هذه الفضيلة.
إن من اعتاد ألا يتحمل شيئا من العبء بل ترك غيره يحمل عنه عبأه لا يستطيع بعدُ السير في الحياة، فالتلميذ الذي ينتظر جاره حتى يحل المسائل ثم ينقلها منه، أو ينتظر المدرس دائما حتى يشرح له ما غمض عليه لا يمكن أن يأتي يوم يكون فيه متعلما حقا، فالشجرة التي تسندها دائما على حائط لا تحمل نفسها، إنما الشجرة التي نمت بنفسها، واعتمدت على ذاتها هي التي تقاوم العواصف، وتكون أصلح للبقاء.
والإعتماد على النفس وسيلة من وسائل الإقتصاد، فالأم التي تعتمد في كثير من شؤون بيتها على نفسها تقتصد كثيرا، والرجل الذي عود نفسه أن يصلح الأشياء الصغيرة في بيته يوفر كثيرا، وهكذا.
كذلك هو الوسيلة الوحيدة للتعلم، فالطفل لا يستطيع أن يتعلم المشي إلا إذا اعتمد على نفسه وسقط ثم قام، ولا يستطيع أحد أن يتعلم السباحة بقراءة كتاب فيها، إنما يتعلم ذلك باعتماده على نفسه وفشله مرة ونجاحه أخرى، وإنما نتعلم القراءة والكتابة بمحاولاتنا، فإذا اقتصرنا على أن نسمع غيرنا يقرأ، ونظرنا غيرنا يكتب، فمحال أن نقرأ أو نكتب، وهكذا الشأن في كل علم.
وليس يمكن أن يدوم الزمن الذى يحمل عنا عبأنا فيه آباؤنا، بل لا بد من يوم نحمل فيه عبأنا وعبء غيرنا، فكان حتما أن نتسلح من صغرنا بالإعتماد على النفس حتى إذا جاء ذلك اليوم كنا على استعداد لمواجهته، سيأتي اليوم الذي نكلف فيه أن نحصل المال ننفق منه على أنفسنا ومن نعولهم، فلا بد أن نمرن من صغرنا على العمل الذي نعد أنفسنا له من تجاره أو منصب أو حرفة، وهب أننا أغنياء ولسنا في حاجة إلى منصب أو عمل فليس من الحق أن نعيش عالة على العاملين، بل الحياة نفسها عبء ثقيل إذا لم تلطف بالعمل.
وطريقة إعدادنا لذلك أن نتسلح بالعلم وبالخلق، فكل تجارة وكل منصب وكل حرفة لا يفلح صاحبها إلا إذا علم ما يتصل بها وتخلق بما يلزمها.
(٩-٢) كيف نربي فضيلة الإعتماد على النفس؟
من خير الوسائل لذلك أن يعود المعلمون الطلبة أن يواجهوا العقبات بأنفسهم، وأن يطلبوا منهم بذل الجهد في حلها، ولا يلقوا إليهم بالمعلومات إلا بعد أن يعمل الطلبة أذهانهم فيها، وكلما أجهد الطالب نفسه في الإستفادة كان أقرب إلى النجاح، فليس أعلم الناس من كان لديه أحسن مكتبة، لأن هذه المكتبة لا تفيده إلا بقدر ما يهضم منها. وهذا هو السبب في أن أبناء الفقراء وأوساط الناس — عادة — أقرب إلى النجاح من أبناء الأغنياء، لأن الأولين تدعوهم قلة المال إلى بذل الجهد، ومحاسبتهم أنفسهم على ما ينفقه عليهم آباؤهم، ويعملون لأنفسهم حيث يرتكن أولاد الأغنياء في كثير من شؤونهم على غيرهم.
إن الصعوبات التي يلقاها الإنسان في حياته هي التي تصقل ملكاته، والإنهماك في الترف والنعيم يورث الخمول، وليس يجلى الذهب إلا في البوتقة، اعتبر في ذلك بالنبات، فإن النبات الذى تربى في حديقة المنزل وبين جدرانه، ولم يعتد العطش، ولم يقابل العواصف، يكون نباتا رقيق الحال لا يعيش إذا تعرض للجو الخارجي، وعلى العكس من ذلك ما نبت في الصحراء بين الشمس القاسية، والريح العاتية، كذلك الناشئ إذا نشأ في مهد النعيم وعود أن يرى كل شيء حسب ما يطلب لا يستطيع أن يكون رجلا يواجه الحياة.
يجب أن نتعود الإستقلال في الرأي فلا نقتصر على أن نكرر ما نسمع، ونعني بالإستقلال في الرأي أن نكوّن فكرنا من أنفسنا، ندرس الشيء ثم نعتقد ما يؤدينا إليه بحثنا ولو خالفنا في ذلك غيرنا، وقد كان ذلك دائما عمل المصلحين وكبار الرجال، يفكرون بعقولهم لا بعقول غيرهم، ولا يتبعون رأي غيرهم إلا إذا قام البرهان على صحته، ثم إذا رأوا حقا قالوا به مهما كانت نتائج قول الحق.
للاعتماد على النفس لذة يشعر بها الإنسان وإن قلت نتائج ما يصدر عنه، فكلنا يسر من ربح قليل أتى ببذل الجهد، ولا يرضى عن كثير قدم إليه احسانا، والرجل يسر ببيته وإن قل متاعه، لأنه نتيجة مجهوده العزيز عليه.
النضال في الحياة هو الذي يكون المرء، والعقبات التي يصادفها في طريقه فيبذل الجهد في تخطيها هي التي تربي نفسه، وتعده لأن يكون عظيما، والإنسان قد يتعلم من فشله أكثر مما يتعلم من نجاحه، فلا خوف من بذل الجهد أن يعقبه فشل ما دام يفتح عينيه ويدرس التجارب التي عاناها، ويتجنب الأخطاء في مستقبل حياته، فقائد الجيش يتعلم كثيرا من الوقائع التي هزم فيها، والسياسي يتعلم كثيرا من مواقف فشله، والعالِمُ في دراسته يستفيد كثيرا مما ارتكب من أغلاط، والخطيب الماهر ما كان كذلك إلا بعد أن خطب مرارا وسخر الناس منه، وكذلك الكاتب والشاعر والفنان.
فإن أردت النجاح فاعتمد على نفسك في تعلمك وفي تجارتك وفي منصبك، وتعلم مما أخطأت، فإن هذا هو السبيل الوحيد للنجاح.
(١٠) الطاعة
رأينا فيما سبق أن الإنسان عضو في جمعيات كثيرة: عضو في جمعية الأسرة، وعضو في جمعية المدرسة، وعضو في جميعة الأمة، وهكذا.
لكل جمعية من هذه الجمعيات قوانين لا بد أن تتبع وإلا لا يمكن بقاؤها، ففي الأسرة — مثلا — يجب على الوالدين أن يطعموا أولادهم ويربوهم، وعلى الأولاد أن يتبعوا أوامر والديهم، وإلا لما بقيت الأسرة، فلو أن كل طفل في الأسرة فعل كما يهوى، ولم يخضع لأي أمر، ولم يعن الوالدان أية عناية بأطفالهما، لصارت معيشة الأسرة مستحيلة. ولو أن كل تلميذ في مدرسة سار كما يشتهي، حضر أو لم يحضر، وإذا حضر فعل ما يشاء، ولم يفعل ما يشاء، وفعل كذلك المعلمون في المدرسة، لم تعش المدرسة أياما، ولو أن كل جندي في الجيش اعتبر نفسه مساويا للقائد، وعمل برأيه فسار يمينا إذا أمره القائد أن يسير شمالا، لم يكن هذا جيشا صالحا، وكان نصيبه الفشل لا محالة.
من هذا يتضح أن لكل جمعية من بيت ومدرسة وجيش قوانين لا يمكن أن تبقى هذه الجمعيات بدونها، وأن صلاحها بطاعة قوانينها.
والعصيان في كل مجتمع يجر إلى الفوضى، لأن معنى العصيان إنعدام القانون، وإقامة الفرد شهوته وهواه مقام القانون، ومعنى هذا أنه يريد أن يتخذ الناس إرادته وهواه قانونا بدل القانون الأخلاقي، وإرادة الفرد لا يمكن أن تقهر القانون الأخلاقي كما لا يمكن أن تقهر القانون الطبيعي، فلو اجتمع الناس أن يغيروا طبيعة الماء وقوانين الجذب ما أمكنهم، كذلك لا يمكنهم أن يغيروا طبائع المجتمعات وتغيير ما يصلحها وما يفسدها، فخير وسيلة لاصلاحها الجرى حسب القوانين التي تبقيها وترقيها.
بعض هذه القوانين الأخلاقية التي لا بد منها للمجتمع وضعت في القوانين الوضعية كتحريم السرقة والقتل، وبعض القوانين كترك الحسد والكذب ترك للأفراد وضمائرهم، وكلها قوانين أخلاقية يجب إطاعتها، فإن إطاعتها مجلبة للخير والسعادة، ومعصيتها مجلبة الشر والشقاء.
قد يشعر الإنسان أن في إطاعة الأمر ذلة، وأن في العصيان حرية، وهذا خطأ في التفكير، فإن في الطاعة الحرية، وفي العصيان ضياعها، قد يتخيل الطالب أن المعلم إنما يأمره حبا في الأمر، ورغبة في إظهار السلطة، وليس كذلك، فإن الآمر العاقل إنما يأمر مراعيا المصلحة العامة، وهو مثلك خاضع لها، وكل الفرق أنه بحكم مركزه وتجاربه تعود أن ينظر إلى الخير بأحسن مما تنظر، فالحق أن الآمر والمأمور كلاهما يطيع، يجب ألا يأمر الآمر إلا بما فيه خير المأمورين، أفرادا ومجتمعين، فالمأمور لا يطيع لأجل الطاعة نفسها، ولا الآمر يأمر لذة في الأمر، وإنما نأمر ونطيع ليصل كل منا إلى سعادته وفلاحه.
وهناك مواقف يجب ألا نطيع فيها، كما إذا أمرنا من صديق بسرقة شئ، أو غش في امتحان، أو تزوير في ورق، أو انتخاب من لا يصلح، هنالك يكون العصيان فضيلة لأن في إطاعة هذه الأوامر وأمثالها خروجا على الأخلاق ومخالفة للضمير، ونحن ملزمون باتباع قوانين الأخلاق وسماع صوت الضمير، وإنما أمرنا بالطاعة للوالدين والمعلمين وأمثالهم لأن ثقتنا بهم جعلتنا نعتقد أنهم أوسع منا نظرا، وأصح رأيا، فهم إذا أمرونا فإنما يأمرون بما يتفق والأخلاق، وإذا نهوا فإنما ينهون عن المنكر والإثم، وهم — بحكم صلتهم ومركزهم — لا يودُّون لنا إلا الخير.
والحق أن الطاعة هي الفضيلة البارزة التي تميز بين المتمدينين والمتوحشين، في الأمة الممدنة يطيع الطفل أوامر أبويه علما منه بأن لا سعادة للأسرة إلا بالطاعة، والأطفال يتعلمون الطاعة في البيت فيطيعون في المدرسة، لأنهم يشعرون أن الحياة المدرسية لا تكون سعيدة إلا بالطاعة، ولا قيمة للمدرسة إلا بالطاعة، وإذا خرج من المدرسة إلى الحياة العامة فهو مطيع لقوانين البلاد، مطيع لقوانين الجمعيات التي ينتسب إليها. وعلى العكس من ذلك الأمة التي لم تأخذ بحظ وافر من المدنية، ففي كل مجتمع عصيان، في البيت، وفي المدرسة، وفي محال اللهو، وفي سماع المحاضرات، وفي الشارع، ومظهر هذا العصيان عدم النظام، فإن النظام إنما يكون بمراعاة القوانين الموضوعة والقوانين المتعارفة، والسير على وفقها من غير انتظار رقيب، ولا محاسبة إلا محاسبة الضمير.
وخير الطاعة ما صدرت عن قلب لا خوفا من عقوبة أو رغبة في مثوبة.
(١١) الإنتفاع بالزمن
الزمن كالمال، كلاهما يجب الإقتصاد فيه وتدبيره، وإن كان المال يمكن جمعه وادخاره لوقت الحاجة بخلاف الزمن.
قيمة كل من الزمن والمال في جودة إنفاقه وحسن استعماله، فالبخيل الذي لا ينفق من ماله إلا فيما يسد رمقه فقير، كمن كانت أمواله مزيفة، كذلك من لم ينفق زمنه فيما يزيد في سعادته وسعادة الناس فعمره مزيف.
إنا نعيش في زمن محدود، ليل ونهار يتعاقبان بانتظام، ليس يطغى أحدهما على الآخر، وحياة مقسمة تقسيما محدودا، صبا فشباب فكهولة فشيخوخة، ولكل قسم عمل خاص لا يليق أن يعمل في غيره، كالزرع إذا فات أوانه لم يصح أن يزرع في غيره، وحياة محدودة، فإذا جاء الأجل فلا مفر من الموت.
وما فات من الزمن لا يعود، فالصبا إذا فات فات أبدا، والشباب إذا مر مر أبدا، والزمن المفقود لا يعود أبدا.
وإذا كان محدودا وكان لا يمكن أن يمد فيه أو يقصر، وكانت قيمته في حسن إنفاقه، وجب أن نحافظ عليه ونستعمله أحسن استعمال.
وليس للانتفاع بالزمن والمحافظة عليه إلا طريق واحد، هو أن يكون لك غرض في الحياة ترضى عنه الأخلاق فتنظم زمنك للوصول إليه.
- الأول: ألا يكون للإنسان غرض يسعى إليه، قال عمر بن الخطاب: «إني لأكره أن
أرى أحدكم سبهللا، لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة» — فما أضيع زمن
قارئ يقرأ ما يقع في يده من الكتب من غير أن يكون له غرض معين، كبحث
موضوع خاص أو دراسة مسألة خاصة — وما أتعب من يمشى في الطريق لا لغرض،
يسير من شارع لشارع ويتنقل من حانوت لآخر لا لغرض معين — وتحديد الغرض
يوفر من الزمن الشيء الكثير، ويسير الإنسان في الحياة على هدى، كلما
صادفته أمور عرف كيف ينتخب منها ما يغذي غرضه، ويتجنب ما لا يتفق معه،
إن الذين لا يحددون أغراضهم ويتركون الزمن يمر عليهم كما يمر على
الجماد قلما يصدر عنهم خير كبير أو يأتون بعمل عظيم، والإنسان بلا غرض
كالسفينة في البحر بلا مقصد.
ويلاحظ أن أكثر الناس عملا أوسعهم زمنا، ذلك لأنهم محدودو الغرض، فهم يوجهون أعمالهم لنيله، ولا يصرفون زمنهم في التردد والإختيار، ولا يكونون كرة في يد الظروف تلعب بهم كما تشاء، بل هم الذين يخلقون الظروف ويتصرفون فيها حسب أغراضهم في الحياة.
- الثاني: مما يضيع الزمن أن يكون للإنسان غرض محدود ولكنه لا يخلص لغرضه، فلا
يجد للوصول إليه، ولا يعمل ما يتفق معه.
عدم الغرض وعدم الإخلاص له هما اللصان اللذان يسرقان الزمن ويضيعان فائدته.
ومن نتائج هذين العدوين التأجيل، وعدم الدقة في مراعاة الوقت المحدود للعمل، وعدم المواظبة — فتأخر دقائق عن البدء المحدد معناه ضياع دقائق من وقت العمل، وذلك يؤدي إلى إحدى نتيجتين: إما الإسراع في العمل وعدم الدقة فيه ليعوض الزمن الفائت، وإما التعدي على أوقات خصصت لواجبات أخرى — ومن هذا النحو تأجيل العمل إلى وقت غير وقته، فالعمل المؤجل قلما يعمل، وإذا عمل فقلما يعمل بإتقان كما إذا كان في وقته.
وليس يتطلب الإنتفاع بالزمن أن نعمل باستمرار، وألا نترك وقتا للراحة، وإنما يتطلب أن نستعمل أوقات الراحة والفراغ استعمالا يجعلنا أقدر على العمل، فإذا صرفنا وقت الفراغ في كسل وخمول لم ننتفع به ولم يفدنا في العمل، وإذا نحن صرفناه في لعب مفيد أو في رياضة بدنية أفادنا ذلك في عملنا، وأنالنا من القوة ما نستطيع أن نخدم بها غرضنا، وكان هذا تدبيرا واقتصادا.
الزمن هو المادة الخام للإنسان، كالخشب الخام في يد النجار والحديد في يد الحداد، فكل يستطيع أن يصوغ منه حياة طيبة بجده، وحياة سيئة بإهماله، ولأجل أن نجعل لحياتنا قيمة يجب أن نقضي أوقاتنا فيما يتفق وأغراضنا.
- (١)
كيف نبتدئ العمل.
- (٢)
وكيف نستمر فيه حتى ننتهي منه.
لعل من أشق الأشياء معرفة الإنسان كيف يبتدئ عمله، وكثير من الزمن يذهب سدى في التفكير في ذلك — ترى الطالب يريد مذاكرة دروسه فيفكر بم يبدأ، فيرى أن يبدأ بالعلوم الرياضية مثلا، ويشرع في ذلك ثم يستصعبها فيشرع في غيرها وهكذا، فهو يصرف زمنا طويلا قبل أن يبدأ بجد — أضف إلى ذلك أن بدء الشيء صعب عادة لعدم المران، أو لأنه انتقال من راحة لذيذة إلى عمل يشق عمله.
وعلاج الأمر الأول — وهو بم يبدأ — أن يفكر — قبل العمل — في أولى الأشياء بالبدء، ويدرس وجوه الترجيح ثم يرتب ما يليه وهكذا، ثم يعزم عزما قويا لا يشوبه تردد، ولا يسمح لنفسه بتغيير ما عزم عليه مهما صادفه من الصعوبات، أما من يرى أن البدء صعب عليه ويرى نفسه منصرفة عن العمل فما يفيده في ذلك أن يقرأ فصلا من كتاب يشجعه على العمل، أو قطعة من الشعر تثير ميله إلى الجد وتعيد إليه نشاطه، أو يستحضر في ذهنه نتائج الكسل والجد، أو يتذكر أشخاصا جدوا فنبغوا في الحياة.
فإذا بدأ فقد قطع شوطا بعيدا للنجاح، بعد ذلك يجب أن يستمر، وإنما يستمر بالعزم القوي الثابت، ويشجعه على ذلك أن يكون العمل الذى يختاره في الحياة عملا يتفق ونفسه، أعني أن يكون عنده استعداد له وميل إليه، يشعر منه بفائدة ولذة، فأكثر أسباب الملل، يرجع إلى سوء اختيار العمل.
(١١-١) أوقات الفراغ
إن استعمال أوقات الفراغ استعمالا حسنا من أهم مسائل الحياة التي يجب العناية بها والتفكير فيها، فإن أكثر أعمارنا تذهب سدى لأنا لا نعرف كيف نستعمل أوقات الفراغ، يقضيها الأطفال في الحارات والشوارع بلا فائدة، ويقضيها الشبان والشيوخ على «القهوات» حيث لا هواء نقيا ولا منظرا حسنا ولا رياضة بدنية ولا فكرية — أوقات طويلة تذهب في كلام لا قيمة له، أو لعب لا يفيد، ولا يقصد منه إلا «قتل الوقت» — وأثر ذلك في أوقات العمل كبير، فمن لم يعرف كيف يلهو لم يعرف كيف يجد.
لعل من أهم الأسباب لذلك قلة الأندية للرياضة البدنية في الأحياء المختلفة، ففي أكثر الأحياء لا تجد مكانا يرتاض فيه إلا الشارع «والقهوة». يجب أن تكون أندية اللعب والحدائق والمكاتب في كل حي من الأحياء.
أضف إلى ذلك أن جهل الأمة وعدم تربيتها تربية صحيحة يفسد ذوقها، وهذا هو السبب في أنك تجد «القهوة» والروضة والمكتبة والملعب في حي واحد ثم تجد «القهوة» وحدها هي العامرة بالزائرين.
وسبب ثالث وهو أن فقدان السعادة المنزلية في بيوتنا جعلنا نفر من البيوت — التي كان يجب أن تكون أعز شيء عندنا — إلى الأندية العامة نمضي فيها أنفس أوقاتنا. وسبب فقدان السعادة المنزلية يرجع في الأغلب إلى انتشار الفقر وجهل الزوجين، وعدم معرفتهما «فن الحياة».
(١٢) التعاون
التعاون نوعان: تعاون بين أفراد الأمة الواحدة، وتعاون بين الأمم
(١٢-١) التعاون بين أفراد الأمة الواحدة
الإنسان مدين بحياته ووجوده للمجتمع، فلولا اجتماع أبويه وتعاونهما ما وجد ولا تربى، وليس يستطيع بعد أن ينقطع عن العالم ويتجرد من كل ما كسبه منه، فهو حتى لو عاش في جزيرة وحده، إنما يستعمل — في تحصيل رزقه وصيد الحيوانات التي حوله — الآلات التي علمه إياها المجتمع، بل هو لو لم يتخذ معه آلات ولا كساء فإنما يجمع ما يقتاته وينسج ما يلبسه بمعلومات هو مدين بها لمجتمعه، فالتعاون بين الأفراد لا بد منه للحياة، وكلما تقدم الناس في الحضارة كانت حاجتهم إلى التعاون أشد، ويظهر ذلك جليا إذا قارنت بين سكان القرى وسكان المدن، فالفلاح يزرع، وهو يطحن ويخبز، ولا يستعين على ذلك إلا بأهل بيته، وقد ينسج ملابسه بنفسه من صوف غنمه، ويربى أولاده في حقله، وعلى الجملة فمطالب الحياة لديه بسيطة قليلة، يقوم في أكثرها بنفسه وأهله، أما ساكن المدن فمحتاج إلى مخبز يعد له الخبز، ولبان يحضر له اللبن، وفي ملابسه يحتاج إلى مراكب تستورد له ملابسه من الخارج، وخياط يخيطها له، ومدارس تُربي أولاده، وترام أو سيارات ينتقل عليها، وجرائد يقرؤها، ونحو ذلك من المطالب التي يستغني القروي عن كثير منها.
وكثرة الحاجات والمطالب، وشدة الحاجة إلى التعاون، ألجأت الناس إلى توزيع الأعمال، وتخصيص كل طائفة لعمل، وتعاون كل طائفة من العمال مع الأخرى.
أنظر — مثلا — إلى الكتاب الذى تقرؤه، فقد اشترك فيه ألوف من العمال قبل أن يصل إلى يدك، وتعاون عليه طوائف من الصناع كل طائفة تخصصت لعمل، فطوائف لصنع الورق قد تخصصت كل جماعة لنوع من صناعته، هؤلاء لعجينته، وهؤلاء لصقله وهكذا، والمؤلف الذى ألف الكتاب قد اشترك في إعداده للتأليف جماعة كثيرون، ربوه وأعانوه وعلموه حتى استطاع أن يؤلف، وإذا نظرت إلى المطابع التي طبعت الكتاب اتسع مجال النظر، فكم من الصناع اشتركوا في صنع آلات الطباعة! وصنع الحبر، وصنع الحروف! وكم من العمال صفوا الحروف ثم طبعوها! وهكذا، ولولا هذا التعاون بين طوائف العمال ما وصل الكتاب إلى يدك.
وتوزيع العمل على الناس، وتخصيص كل طائفة بعمل ساعد على الإتقان، كالذي ترى في لاعبي الكرة، فلو أنك رتبت اللاعبين، وكلفت كل لاعب عملا خاصا، انتظم اللعب، وكان أوفى بالغرض، وعلى العكس من ذلك إذا أنت سمحت لكل لاعب أن يأتي بكل أعمال اللعب من غير تحديد.
كذلك كان هذا التوزيع من وسائل توفير الزمن وتوفير المال، فالقمح لو اشتغل أفراد في حصاده، وآخرون في طحنه، وطائفة ثالثة في خبزه، أخذ زمنا أقل في إعداده، وكان أرخص مما إذا اشتغلت طائفة واحدة بالحصاد والطحن والخبز معا.
لعلك نظرت إلى آلة من الآلات الكبيرة كآلة الطباعة، أو آلة رفع المياه، أو توليد الكهرباء، وكيف رأيت أن كل آلة مركبة من أجزاء مختلفة، كل جزء له عمل خاص، فعجلات ومكابس ونحوها تتحرك حركات مختلفة، وكل جزء يتحرك حركة مناسبة للآخر، ومؤدية لتحصيل الغرض من الآلة، كذلك الناس والحياة، هم آلة كبيرة، كل يؤدي عملا جزئيا، وكل يتعاون مع الجزء الآخر في عمله، ولو قعد جزء هام من العمال عن العمل لوقف سير العمل جميعه، كما إذا وقف جزء هام من آلة الطباعة، وكل جماعة من الناس صالحون لنوع من العمل قد لا يصلحون لغيره، فالواجب أن يعملوا ما صلحوا له وأن يؤدوا عملهم على أحسن وجه، علما بأن بقية أجزاء الأمة يتوقف عملها على عملهم، وإن لم تر ذلك عيونهم.
كثيرا ما تقرأ أو تسمع أن بعض المؤلفين وعظماء الرجال ماتوا غرقا من إهمال ربان سفينة، أو سقط عليهم البيت من إهمال مهندس، أو نحو ذلك، كل هذا يدلنا على أن كل إنسان في أمة يتعدى عمله غيره من الناس، وقد يصل أثر ذلك إلى حياتهم، وهذا يجعلنا نشعر بالمسئولية الملقاة على عاتقنا، ويوجب علينا أن نخرج العمل الذى عهد إلينا كأحسن ما نستطيع، كما يوجب علينا ألا نحتقر من يعمل غير عملنا، كل يؤدي واجبا، وكل لا بد من عمله لسير الأمة، فالمؤلف إنما يستطيع أن يتفرغ للتأليف لأن غيره من الناس يشتغل له في إعداد مأكله ومشربه وملبسه، وأنت إنما تتعلم وتتفرغ لتحصيل علمك لأن غيرك قد كفاك مؤونة السعي لتحصيل العيش، وهكذا الناس، كل خادم وكل مخدوم، وخير الناس أنفعهم للناس.
ولا يصح أن يسمح بالتعاون بين الأفراد أو الشركات إذا كان في ذلك ضرر بالأمة، كما يحدث في الإحتكار، فلو اتحدت شركات المياه والنور على رفع السعر حتى أرهقوا الشعب كان هذا ضربا من التعاون بين هذه الشركات، ولكنه تعاون ضار لا ترضى عنه الأخلاق، إنما ترضى الأخلاق عن أنواع من التعاون تزيد في رقي الأمة، كالتعاون على حماية العمال من أرباب رءوس الأموال، وكجمعيات التأليف، ونوادي الفنون والألعاب الرياضية، وجميعات البر والإحسان، وجمعيات التعليم، فإن التعاون بين هذه الجمعيات والنقابات يزيد في سعادة الأمة ويعين على نهوضها.
(١٢-٢) التعاون بين الأمم
هناك نوع آخر من التعاون هو التعاون بين الأمم، وذلك على ضروب شتى.
من ذلك التعاون التجاري، فخيرات هذه الأرض قد وزعت على العالم، فالبن والقطن والأرز والفاكهة والفضة والذهب والحديد ونحوها ليست مجموعة في بقعة واحدة، وإنما يكثر في أمة بعض الأشياء ويقل البعض الآخر وهكذا، فتحتاج الأمم إلى التعاون وتبادل ما بينهم من الخيرات، ولو أن كل أمة قصرت حياتها على ما عندها من خيرات لا تخمت في بعض الأنواع، وأحست بالجدب والفقر في البعض الآخر، ولم تستطع — على العموم — أن تعيش عيشة سعيدة، فبهذا التبادل تتعاون الأمم على السعادة، ولذلك كان من السخافة أن تعمد أمة إلى إفناء أمة أخرى إذ يكون مثلها مثل تاجر يعمد إلى إحراق منزل عميله.
كذلك تتعاون الأمم في نشر الحضارة، ولعل أوضح مثل لذلك اليابان، فقد رأت حاجتها إلى اقتباس المدنية الغربية فأرسلت البعثات إلى الممالك المختلفة لتدرس نظمها، وكانت النتيجة أن نظمت بحريتها على نمط البحرية الإنجليزية، وجيشها على النمط الألماني واقتسبت آلاتها من النمط الأمريكي أحيانا والإنجليزي أحيانا وهكذا.
وكذلك تتعاون الأمم في الإختراع والإستكشاف فالإنجليز أمدوا العالم بالآلات البخارية، وأمريكا وصلت إلى درجة عظيمة في استعمال الكهرباء، وعنها أخذ العالم، والكيمائيون الألمان اخترعوا كثيرا من عجائب الكيمياء، والفرنسيون استكشفوا كثيرا من ميكروبات الأمراض، ونجحوا في وصف علاجها، ولما اتجهت الأذهان لترقية الطيران تسابقت الأمم المختلفة، كل يدخل عليه نوعا من التحسين، وكل يريد الفوز والغلبة، وكل يستفيد مما يدخله الآخر من الإصلاح.
كذلك الشأن في العلوم والآداب والفنون، يظهر فيلسوف كبير في أمة فتنتفع الأمم الأخرى بعلمه، وتظهر رواية جميلة أو قطعة موسيقية ممتعة فتمثل أو توقع في الممالك الأخرى، حتى يكاد يكون العالم أو الأديب أو الفنان عالميا، نتاجه للأمم كلها لا لأمته.
وتبادل الآراء نوع من التعاون، فالأمة ترسل بعثاتها إلى الأمة الأخرى تدرس آراءها وتستفيد منها، كالذي ترى في المؤتمرات، تعقد لمختلف الموضوعات، كمؤتمر التربية، ومؤتمر التاريخ، ومؤتمر الجغرافيا، ونحو ذلك، يجتمعون من عدة أمم فيتبادلون الأفكار، ويستفيد كل مما وصل إليه بحث الآخرين.
وتتعاون الأمم على ما يصيب إحداها من الكوارث، فزلزال مسينا، وثوران البراكين، ونحو ذلك يحل بالأمم أعظم المصائب، فتتعاون الأمم على درء الشر، وإغاثة المنكوبين، بما يتبرعون به من مال ورجال.
ومن مظاهر هذا التعاون ما كان بين الحكومات، فالمعاهدات بين الأمم في تبادل البريد والتلغرافات ونحو ذلك أثر من آثاره، وكذلك تعاقد حكومات الأمم المختلفة على منع تجارة الرقيق، ومحاولتهم الآن التعاون على نقص التسليح، والعمل على منع الحرب، وإحلال عصبة الأمم محل تحكيم السلاح، وإن كان ذلك مما لا يزال أملا يرتجى.
(١٣) خلاصة
- الأول: محاسبة النفس وسؤالها من حين إلى حين في أية فضيلة ارتقيت وفي أيتها
ضعفت، هل أنا اليوم أصدق منى أمس، وإلى أية درجة نجحت في إلتزامي
الصدق، بهذا الإمتحان ونحوه يستطيع الإنسان أن يتتبع نفسه ويراقبها في
سيرها.
إذا رأيت نفسك تغضب كل يوم فاجتهد أن يمر يوم لا تغضب فيه، ثم اجتهد أن يمر يومان فثلاثة، فإذا نجحت في مرور أيام لم تغضب فيها فتصدق بصدقة شكرا لله على تقدمك في النجاح في كسب هذه الفضيلة، وانتقل إلى غيرها وهكذا.
- الثاني: الإرادة القوية المسيطرة على النفس، فالإرادة قابلة للتمرن، ومثلها
مثل من يبتدئ في ركوب دراجة (بسكليت) فهو في أول أمره يختل توازنه، ولا
يستطيع أن يسيطر عليها، يعلم ما يريد ولكن لا يستطيع أن يصرفها كما
يريد، وبالتدريج والمرانة تطيعه الدراجة، وتنتظم حركته، وتصبح تحت
سلطته، ويسير في سهولته سيرا آليا.
وهذا هو ما ينبغي في سيطرة الإنسان على نفسه، يكون لإرادته من القوة ما تستطيع به أن توجه النفس إلى ما تعتقد من خير وصواب.