الخير والشر
ما معنى الخير والشر؟ متى أسمي العمل خيرا ومتى أسميه شرا؟ ما هو الخير الأخير الذي نقصد إليه من أعمالنا؟ وبعبارة أخرى ما غاية الغايات التي ينبغي أن أسعى للوصول إليها؟ إننا نقصد في حياتنا إلى أشياء كثيرة من مال أو جاه أو صحة أو منصب أو نحو ذلك فلم نقصد إليها؟ وهل هي مقصودة لنفسها أو لشئ وراءها يعد هو الأساس؟ وإذا كان كذلك فما هو هذا الأساس الذي نسميه الخير الأخير أو غاية الغايات؟ هذا هو موضوع بحثنا في هذا الفصل.
وإنه لمن السهل استنتاج الأجوبة على هذه الأسئلة مما قرأناه في الفصل السابق، فإن كل مذهب من المذاهب الثلاثة الماضية يجيب بأجوبة تخالف ما يجيب به الآخر، تبعا لمسلكهم الذى سلكوه في مقياس الخير والشر.
فالمذهبان الأولان «مذهب السعادة الشخصية ومذهب السعادة العامة» قالا: ليس هناك عمل خير في ذاته، ولا شر في ذاته، وإنما العمل يحكم عليه بأنه خير أو شر تبعا لنتائجه، فالعمل الذي ترجح لذائذه آلامه خير، والذى ترجح آلامه لذائذه شر، والذى تتساوى لذائذه وآلامه لا خير ولا شر، فإذا سئلت عن عمل أخير هو أم شر حسبت نتائجه لأصدر حكمي عليه، والعمل في ذاته ليس خيرا ولا شرا، بل العمل الواحد قد يحكم عليه في بعض الأحيان بأنه خير، ويحكم عليه في أحيان أخرى بأنه شر، وذلك لما يحيط به من ظروف تجعله ينتج لذائذ أكثر من الآلام أحيانا، وآلاما أكثر من اللذائذ أحيانا، ويجب على الإنسان إذا خير بين أعمال أن يختار خيرها، وخير الأعمال ما أنتج أكبر لذة وأقل ألم.
يتفق المذهبان الأولان في هذا القول وإن اختلفا في التفصيل، فالأول يرى أنه عند الحكم بالخير والشر لا ننظر إلا إلى العامل، والثاني ينظر إلى العالم أجمع كما سبق تفصيله.
والغاية الأخيرة التي يقصد إليها المذهبان هي «السعادة» فكل عمل قرب منها كان خيرا، وكل عمل أبعد عنها كان شرا، والمذهب الأول يقصد إلى سعادة العامل، ويعد ذلك هو الغاية الأخيرة للحياة، وهو مذهب ظاهر البطلان كما قدمنا.
أما مذهب السعادة العامة فيرى أن الغاية الأخيرة التي ينبغي أن يسعى إليها الإنسان هي تحقيق السعادة للناس، وأن العمل خير كلما قرب من إسعاد الناس، وشر كلما أبعد من ذلك، وأن الإنسان الخير هو من راض نفسه على العمل لخير الناس، وربط منفعته الشخصية بمنفعتهم، وتألم من الأذى يصيبهم كما يتألم من الأذى يصيب نفسه، ويحب لهم من الخير ما يحب لنفسه.
أما مذهب «اللقانة» فيرى أن هناك أشياء هي خير في ذاتها، وهي التي اصطلحنا على تسميتها فضائل، من صدق وعدل وشجاعة وعفة ونحوها، وهناك أشياء شر في ذاتها وهي التي تسمى الرذائل من ظلم وكذب وجبن ونحوها، ولسنا نحكم على هذه الأعمال بأنها خير أو شر تبعا لنتائجها، ولا في بعض الأحوال دون بعض، وإنما نحكم عليها حكما عاما مطلقا مهما كانت نتائجها، فالصدق والعدل والعفة خير دائما سواء أنتجت لذة أو ألما، والكذب والظلم والشره شر دائما سواء أنتجت لذة أو ألما، والإنسان الخير من وجه إرادته للعمل حسب ما تهديه نفسه للخير، والغاية الأخيرة التي ينبغي أن يسعى إليها هي أن يكون فاضلا، يتبع الفضيلة حيث كانت، ويلزم نفسه بالعمل على وفقها ولو تحمل في سبيل ذلك الآلام الجسام، وليست الغاية هي السعادة كما يقول المذهبان السابقان، ولكن الغاية أداء الواجب، والتمسك بالفضيلة، وإن ضحى لذلك باللذة والسعادة بل وبالحياة إذا دعت الحال، وليس للسعادة قيمة إذا قيست بالواجب، واللائق بشرف الإنسان أن يسمع لوحي الضمير من غير أن ينتظر حساب اللذائذ والآلام، وأن يفعل الواجب للواجب لا لشئ وراءه.