علاقة الفرد بالمجتمع
نرى الإنسان يصيب عضوا من أعضائه مرض فيتألم له سائر الجسد، ولا يقتصر الألم على العضو المريض، وقد ينتهي ذلك بالموت، فتسلب الأعضاء كلها ما فيها من حياة، فأعضاء الجسم كلها متضامنة، يتأثر سائرها بما يصيب أحدها، وقد حكوا أن معدة الإنسان قالت مرة: إني أهضم الغذاء كله، وأتعب في ذلك، ولا يصيبني منه إلا القليل، وقال القلب: إني أوزع الدم على سائر الجسد، ولا ينالني منه إلا قطرات، وقالت الرجل: إني أسعى في الأرض شرقا وغربا لكسب القوت، مع أن حظي من ذلك العناء قليل، وهكذا، فأضربت الأعضاء عن العمل، فبعد مدة أحست المعدة بألم الجوع، وأحس القلب بالضعف، وأدرك كل عضو أن خيره في أن يعمل له ولغيره، فعادت جميعها إلى العمل.
على العكس من ذلك نرى المجموعة من الحجارة لا رابطة بين أفرادها، ولا يحس سائر الحجارة ما يقع على حجر منها، فلو أنا أخذنا أحدها وحطمناه لم يتعد ذلك الأثر غيره.
فما كان من الصنف الأول فهو (جسم عضوي) كالإنسان والحيوان والنبات، وما كان من الصنف الثاني — ككل مجموعة من أحجار وأخشاب ونحوها — سمي (جسما غير عضوي).
فمن أى الصنفين الجمعية من الناس، كالأسرة والحزب والأمة؟
إنا بقليل من النظر نرى أنها (جسم عضوي)، ولنأخذ مجتمعا صغيرا نحلله تحليلا دقيقا لنبين منه كيف يعتمد المجموع على أجزائه والأجزاء على المجموع، ونتدرج في النظر من المجتمع الصغير إلى المجتمع الكبير.
فأصغر المجتمعات الأسرة، وهي تتكون عادة من أب وأم وأولاد وأقرب الناس إليهم، وفيها يعتمد كل فرد على الباقين، الكل يخدم الفرد، والفرد يخدم الكل، فاعتماد الأولاد على الآباء في مأكلهم وملبسهم ومسكنهم ونظافتهم وغير ذلك واضح جلي، أما الآباء فقد يعتمدون على أولادهم إذا كبروا ومست الحاجة، ولكن أهم من هذا وأكبر قيمة في نظرهم ما يشعر به الآباء من السعادة بما يرون من حب أبنائهم لهم، وحنانهم إليهم، وأن كلمة شكر صادرة من قلب أو عملا يدل على الاعتراف بالجميل من الابن لأبيه أو أمه ليدخل على قلبهما من السرور ما لا يقدر.
وانظر إلى علاقة الأولاد أنفسهم بعضهم مع بعض تر أن كل طفل في الأسرة يؤثر في الباقين ويتأثر بهم، ولو عاش الإنسان من مبدئه عيشة عزلة وانفراد لنشأ كالحيوان الأعجم، فكل طفل يتعلم من إخوانه وأخواته المشاركة في العواطف، فيشاركهم في فرحهم، ويشعر بالحزن لحزنهم، ويتعلم درس الأخذ والعطاء، فيعرف أنه يجب أن يعطي كما يأخذ، وأن يتنازل عن بعض ما يحب، ويتعلم تبادل المعونة مع الآخرين.
وفي الأسرة يتجلى ما قدمناه عن مميزات الجسم العضوي من أن الضرر الذي يصيب عضوا يتأثر به سائر الأعضاء، فالولد سيئ الخلق يحرم الأسرة كلها سعادتها، والأب السكير أو المقامر يؤثر سلوكه في معيشة أسرته فيضايقها بما يصرف من مال، وما يتبع سكره أو لعبه من إهمال لشؤون بيته، والأم الجاهلة يؤثر جهلها في حال الأسرة، فكم من ولد أصابته آفة، أو شوهت خلقته عاهة أو أدركه الموت من جراء جهل أمه، وهكذا.
كذلك الشأن في الجمعيات التي هي أكبر من الأسرة كالمدرسة، فطلبة المدرسة ومدرسوها وخريجوها جسم عضوى، يستطيع كل فرد منهم بعمله الشخصي أن يرفع من شأن المدرسة، أو يحط من قدرها، والصورة التي في أذهان الناس وقيمتها عندهم نتيجة سيرة طلبتها.
والحزب من الأحزاب يأتي فرد من أفراده عملا مجيدا فيمجد الحزب ويعلي مقامه، وكذا العكس، وقيمة الحزب أو المدرسة حاصل جمع ما يأتي به الأفراد من الأعمال.
والأمة أسرة كبيرة، فهي جسم عضوى تتحد في اللغة والدين غالبا، يحكمها قانون واحد، ويشترك أفرادها في المنافع والمضار، كالأمة المصرية، يفيض نيلها باعتدال فينتفع بذلك كل المصريين، وتحسن زراعة القطن فيها سنة وترتفع أثمانه فيكون القطر كله في رخاء، تاجر يبيع للفلاح ما يحتاجه ومؤجرون يسهل عليهم تحصيل إجارتهم، وحكومة تحصل الخراج من غير عناء، وتتيسر المعاملات بين الناس، فالملاك بقبضهم أجور أملاكهم يعمرون ويبنون، فينتفع البناءون والنجارون ومنهم ينتفع غيرهم وهكذا.
وأوضح المثل لاشتراك الأمة في المنافع والمضار المثل الجغرافية، فخزان أسوان — مثلا — بقعة من بقاع القطر المصري؛ يؤثر في سعادة مصر جميعها، فيصرف المياه بقدر حسب الحاجة إليها، ولو تهدم ولم يؤد عمله لتضرر القطر المصري جميعه لا أسوان وحدها.
والمدارس العليا في القاهرة لم تنشأ لمنفعة القاهرة فحسب، بل أنشئت لمصلحة مصر كلها، يتعلم فيها أبناؤها من مختلف الأنحاء.
بل تأمل في كل طائفة من طوائف العمال كعمال السكك الحديدية وعجلات النقل ترى أن أعمالهم مرتبطة ارتباطا وثيقا بأعمال غيرهم، واعتبر ذلك في أوقات اعتصابهم، كيف يعطل كثير من الأعمال، ويتأذى كثير من الناس.
وعلى مثال ما قدمنا يمكن القول بأن الأمة كلها يلحقها ضرر بليغ من وجود عدد كبير من أفرادها يشتغلون في معامل غير صحية، ويسكنون في أزقة قذرة، لا يصل إليها هواء نقي، ولا تطهر مساكنها أشعة الشمس، فتضعف صحتهم، وتقصر آجالهم، ويكثر العجز فيهم، فلا يستطيعون أداء أعمالهم حق أداء، ويصبح كثير منهم عالة على الأمة، يأكلون من عمل غيرهم، فهم عضو مريض عاجز في جسم حي، وكذلك الشأن في الأمة إذا كثر فيها عدد الجاهلين أو السكيرين، ومحال أن يكون جسم الأمة صحيحا وفيها يكثر المقامرون أو المدمنون.
وكما أن كل عضو في الجسم ينفع سائر الأعضاء وينتفع منها، ويضر سائر الأعضاء ويتضرر منها، كذلك الحال في جسم الأمة، فالمتعلمون مثلا ينتفعون من الأمة بمالها وسعيها لتنتفع الأمة منهم بعد بعلمهم وعملهم، وهكذا كل طائفة من طوائف العمال، فالمعلمون والنجارون والمزارعون والتجار وغيرهم أعضاء يكونون جسم الأمة، وكل فرد عضو في أمته، يؤثر فيها أثرا صالحا أو سيئا، فالمدرس الصالح يبث في روح تلاميذه أخلاقا صالحة، ويجعلهم أقرب إلى الخير، وغيرهم يقتدى بهم، والقاضي العادل يعدل بين الناس فيأمنون على حقوقهم، ويثق ذو الحق بأنه سيصل إلى حقه ويخاف المجرم من عقوبة الإجرام فيبتعد عنه، ويجد العامل في عمله لأنه يعلم أن نتيجة سعيه له، وأنه إن اغتصب حقه فالقضاء كفيل برده إليه، وعلى العكس من ذلك القاضي المرتشي.
ولا يخلو إنسان من أثر في الأمة وإن لم تره عيوننا، كالشعرة لها ظل وإن لم تدركه أبصارنا، فإذا ضم إليها شعرات كان الظل جليا واضحا، وهذا الأثر يختلف تبعا لاختلاف درجات الناس في الصلاح والفساد، ومقياس رقي الأمة وانحطاطها مجموع عمل أفرادها.
بل قد تجلى للباحثين في الأيام الأخيرة أن الناس كلهم على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم ودينهم جسم عضوى واحد، فكل أمة تؤثر في الأمم الأخرى وتتأثر بها في صنائعها وعلومها وأخلاقها، فليست أمة من الأمم غنية بمعادنها وصنائعها وعلومها عما حولها، بل ترى أن الله قد قسم الخيرات على العالم، فأمة غنية بالحبوب ولكنها في حاجة إلى المعادن، وأخرى على العكس منها وهكذا، وكل ينفع وينتفع.
اعتبر ذلك في أيام الحرب العظمى تر أن كل أمة — محايدة كانت أو محاربة — قد أصابها الضنك بسبب حاجتها إلى أشياء كانت تجلبها من الأمم الأخرى، فأصبح نيلها عسيرا.
وقد جرت هذه الحقيقة — أعني اعتبار الجنس البشري جميعه جسما واحدا وكل أمة عضوا من أعضائه — بعض الباحثين إلى النظر في الحروب التي تقع بين الأمم، وذهبوا إلى أنها ليست بسائغة، كما لا يسوغ أن يعمل عضو في جسم على إضعاف عضو آخر، وتمنوا أن لو زال مثار الخلاف بين الأمم حتى لا يكون مساغ للحرب، واقترحوا لذلك إنشاء محكمة تحكم بين الأمم، كما تحكم المحاكم بين الأفراد المتنازعين، وهذه هي المسماة «بعصبة الأمم» وقال هؤلاء: إن الخلاف الطبيعي بين الأمم في الأخلاق والعادات لا يحيل إمكان التآلف بينها، كما أن الاختلاف بين أفراد الأسرة بالذكورة والأنوثة والشدة واللين، لم يمنع من توحدها واعتبارها جسما واحدا، ولكنهم مع هذا دعوا إلى «الوطنية» والمحافظة على «القومية» ما دامت الأمم الأخرى تدعو إليها، لأن انعدام «الوطنية» في أمة مع بقائها في الأمم الأخرى مؤذنة بزوال تلك الأمة.
وقد تقدم الناس في فهم هذه «الأخوية العامة» فاشتدت الرابطة بين الأمم، وكثر انتفاع بعضها ببعض، فامتدت السكك الحديدية بين أمة وأخرى، وكثر انتفاع بعضها ببعض، فامتدت السكك الحديدية بين أمة وأخرى، وعبرت البواخر البحار، فارتبطت الأمم برا وبحرا، وعقدت محالفات كثيرة بين الأمم المختلفة لمصلحة الناس، كالإتفاق العام على البريد والتلغراف والسكك الحديدية، ومن الأدلة على ذلك ما نراه من ميل كثير من الناس إلى توحيد المقاييس والموازين في العالم جميعه، وعقد مؤتمرات عامة تمثل فيها الأمم المختلفة للبحث في شؤون شتى علمية وصحية، إلى كثير من أمثال ذلك.
هذا هو شأن المجتمعات والأفراد، وكل فرد فيها عضو من أعضائها، ولا يخلو إنسان من ارتباطه بمجتمعات كثيرة، فكل إنسان عضو في أسرة، وفي مدينة، أو قرية، وفي أمة، وفي العالم بأسره.
ومن المجتمع يستمد الفرد كل شيء من مأكل وملبس ومسكن وعلم وخلق، ولو جرد الإنسان من كل شئ ناله من المجتمع ما بقي له شئ، فجسمه وعقله وخلقه منحة من منح المجتمع.
وكما أن العضو إذا انفصل من الجسم مات ولم تعد له حياة كاليد تفارق الجسم، والورقة تفارق الشجرة، فكذلك الإنسان إذا انفصل من مجتمعه أدركه الفناء، ولم تكن له قيمة، لأن أعمال الإنسان وأغراضه وعاداته لا تقوم إلا بالنظر إلى المجتمع، فليس الصدق خيرا ولا الكذب شرا إلا لإنسان يعيش في مجتمع، ولولا ذلك لم يكن أحدهما خيرا والآخر شرا.