معنى الواجب وأهم الواجبات
(١) معنى الواجب وأقسامه
تستعمل كلمة «الواجب» فيما يقابل «الحق» فما لغيرنا علينا فحق لهم وواجب علينا، وفي هذا المعنى استعملنا الكلمة في الفصل السابق، وكثيرا ما نستعملها ولا نلاحظ فيها مقابلتها للحق. فنقول: «قد أدى الواجب» و«الواجب يقضي بكذا» ولسنا نلاحظ فيها أنها في مقابلة «حق» وإن كان التحليل الدقيق قد يؤدي إلى ذلك.
وقد عرفه بعض الأخلاقيين بأنه العمل الأخلاقي الذي يبعث على الإتيان به الضمير.
- (١)
واجبات شخصية، أعني واجبات على الشخص لنفسه كالنظافة والعفة.
- (٢)
واجبات اجتماعية، أعني واجبات على الشخص لمجتمعه، كالعدل والإحسان.
- (٣)
واجبات إلهية، كالطاعة وأداء العبادات.
وهذا التقسيم غير محدود، فكل واجب يمكن رجوعه إلى أي قسم من هذه الأقسام الثلاثة تبعا لاختلاف النظر، فالنظافة مثلا واجب شخصي من حيث ما يترتب عليها من صحة بدن الإنسان وراحته، واجتماعي إذا لاحظنا أن صحته تؤثر في حالة المجتمع، وإلهي إذا نظرنا إليها من جهة أنها تنفيذ لأمر إلهي.
- (١)
واجبات محدودة يمكن أن يكلف بها الأشخاص على السواء من غير تنويع، ويمكن أن توضع في قانون الأمة، مثل لا تقتل ولا تسرق، ويمكن أن توضع بجانبها عقوبات لمنتهكها، وهذه يشترك في طلبها القانون والأخلاق.
- (٢)
واجبات غير محدودة، وهذه لا يمكن أن توضع في قانون الأمة، وإذا وضعت سببت ضررا أكبر، ولا يمكن أن يعين المقدار المطلوب منها، كالإحسان فإنه يختلف المقدار الواجب منه باختلاف الزمان والمكان والظروف المحيطة بالشخص.
- (١)
بحسب الثروة فمنهم غني وفقير وبين ذلك.
- (٢)
وبحسب الرتب فخاصة وعامة.
- (٣)
وبحسب العمل، فمنهم من عمله عقلي كالقاضي والمدرس، ومنهم من عمله يدوى كالنجار والحداد إلى كثير من أمثال ذلك — وهذا ينتج خلافا في الواجبات، فما يجب على حاكم غير ما يجب على أحد الرعية، وما يجب على غني غير ما يجب على فقير. وعلى كل إنسان كائنا ما كان أن يؤدي واجبه. ولا يستصغرن أحد ما يجب عليه. فكثيرا ما تتوقف كبار الواجبات على صغارها، فمثلا لا يصح أن نعد عمل الكناسين في الشوارع والأزقة واجبا تافها حقيرا، فإن عليه تتوقف حياة كثير من الناس وحسن صحتهم، وليس هذا بالأمر الهين، وأن كسر قطعة صغيرة في سفينة قد تؤدي إلى غرقها كما قد يؤدي إلى ذلك فقد سكانها (دفتها) وضياع مسمار صغير في ساعة قد يؤدي إلى وقوفها كضياع «الزمبلك».
(٢) التضحية لأداء الواجب
على كل إنسان أن يؤدي واجبه، ذلك لأن الإنسان في هذه الحياة لا يعيش لنفسه فحسب، بل يعيش له وللناس، وأداء الواجب يؤدي إلى هذه السعادة، فالتلميذ الذي يؤدي واجبه لأسرته ومدرسته يسعد والديه، والأغنياء بتأديتهم ما عليهم من بناء للمستشفيات وتبرع للجامعات ونحوها يزيدون في سعادة الأمة، وعلى العكس من ذلك السارقون والسكيرون، فإنهم بإهمالهم الواجب عليهم وعدم إطاعتهم قوانين بلادهم يزيدون في شقاء الناس وتعاستهم — ولا يبقى العالم ويرقى إلا بأداء الواجب، ولو أن مجتمعا قصر في أداء كل واجباته أياما لفنى، فلو أن المدينين لم يؤدوا ديونهم، ورفض طلبة المدارس أن يتعلموا، ولم يؤد أفراد الأسرة واجبهم، ورفض كل ذي عمل أن يؤدي عمله لحاق بالمجتمع الفناء العاجل — وبقدر قيام الأفراد بواجبهم يقاس رقي الأمة.
يجب أن نؤدي الواجب لأنه واجب، نؤديه إطاعة لضميرنا، لا طمعا في ربح نناله، ولا رغبة في شهرة نحصلها، إن الذين يفعلون لك الخير لما يرجون منك من الخير تجار يبيعون اليوم ما يقبضون ثمنه غدا — إنما مثلنا الأعلى أن نصل من الرقي إلى حد أن نتلذذ من أداء الواجب ووصول الخير إلى الناس كما نتلذذ من وصول الخير إلينا، ونردد مع أبي العلاء قوله:
بل مع البارودي قوله:
وكثيرا ما يكلفنا القيام بالواجب مشقات ينبغي أن نتحملها، ويتطلب منا تضحية يلزمنا تقديمها، فالقاضي العادل قد يضطر إلى الحكم على صديقه أو قريبه فيؤلمه ذلك، وقد يحمله حب العدل على إغضاب أفراد أو هيئات مختلفة فيعرض بذلك نفسه لأنواع شتى من الآلام، والجندى يقدم حياته عند الخطر فداء لأمته، ورئيس السفينة إذا عطبت يجب أن يبقى في السفينة حتى ينتقل جميع من فيها إلى قوارب النجاة، وإعلان الإنسان رأيه وتمسكه بمبدئه قد يبعده عن منصب ويحرمه من فائدة، وفي جميع ذلك يجب أن نتحمل التضحية — مهما آلمت — عن رضا وارتياح، ويجب أن نعد مكافأة الضمير فوق كل مكافأة.
- الأول: أن التضحية ليست مقصودة لذاتها، ولا يصح أن تكون غرضا يريد الإنسان تحصيله، فهي ليست إلا ألما محضا ينبغي الفرار منه إلا إذا استتبع خيرا، فما يفعله بعض الزهاد — من الإمتناع عن الأكل إلا النزر اليسير، وحرمان النفس من التمتع بما أحله الله، ولبس الخشن من الثياب لا لغرض إلا طلب المثوبة بهذا الشقاء — خطأ لا يرضى عنه عقل ولا دين، وقد عاب رسول الله ﷺ من نذر أن يصوم قائما في الشمس فأمره بإتمام صيامه ونهاه عن القيام في الشمس، لأن الله لم يضع تعذيب النفوس سببا للتقرب إليه، وليست المشقة نفسها سببا في رضا الله، وإنما رضاه في عمل صالح قد يستلزم المشقة، وليس بصحيح قول الناس: «الثواب على قدر المشقة» إذا أخذ على عمومه، إنما يكون صحيحا إذا كان العمل المقصود عملا خيرا لا يمكن أن ينال إلا بمشقة، فالتضحية ليست خيرا في نفسها، ولكن إذا كان الواجب لا يمكن أداؤه إلا بالتضحية وجبت التضحية.
- الثاني: ليس لأداء أي واجب تقدم أية تضحية، بل لا بد أن يوازن بين الواجب والتضحية، فليس صوابا أن يضحي الإنسان بحياته ليرتاح من ألم أسنانه، ولكن خيرا أن يقلم أشجاره ليزيد ذلك في ثمارها، فمتى كان الخير الذى نناله من العمل يرجح التضحية وجبت التضحية، كالطبيب يهجر نومه ويتعرض للتعب والبرد، لإسعاف مريض وإدخال السرور عليه وعلى أسرته، وكالعالم يهجر راحته ولذته لتأليف كتاب يفيد الناس، أو لاستكشاف يزيد في خيرهم، والجندي يضحي بنفسه لتحيا أمته، والأمثلة على ذلك كثيرة.
ومتى اقتنع الإنسان بخيرية التضحية وجبت عليه، ذلك لأنه عضو من جسم كما بينا، فليس من الحق أن يستأثر باللذائذ ويتمتع بالراحة التامة والناس من حوله ألمون متعبون، كما لا يستأثر عضو بكل الغذاء ويترك سائر الأعضاء تتضور جوعا.
وسِير عظماء الرجال مملوءة بالشواهد على التضحية، ولا تكاد تجد عظيما لم يُضَحِّ كثيرا، إما لنشر مبدأ يخالف فيه الرأي العام أو لانقاذ أمته من ضرر يلحقها، أو لتخليص عقائد دينية مما دخل عليها من التغيير، أو لتحقيق مسألة علمية كثر فيها البحث والجدال، أو لاستكشاف نافع يزيد في سعادة الناس. وهذه التضحية هي التي تكونهم، وهي سر عظمتهم، فإن ما يبذلون في حياتهم من الجهد لتذليل الصعاب التي تعترضهم، وما يتحملونه من العناء للتغلب عليها ينمي ملكاتهم ويعودهم الصبر على المشاق لنيل أغراضهم، أما من يستسلم للنعيم ويخلد إلى الراحة فمحال أن يكون عظيما.
ولنذكر الآن أهم الواجبات:
(٢-١) الواجبات على الإنسان لله
في العالم قوة خفية تحركه، وتدير شؤونه، هي علة وجوده وبقائه، وهي سر ما نشاهد من نظام دقيق وقوانين لا تتخلف، وظواهر تتتابع بانتظام، نجوم قد دق نظام سيرها لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ وفصول تتعاقب بدقة تستخرج العجب، ونباتات وحيوانات جلت حياتها عن الوصف — هذه القوة هي لله رب العالمين.
لهذه القوة نحن مدينون بكل شيء لنا، بحياتنا وبصحتنا وبحواسنا وبكل ملاذ الحياة وصنوف النعيم.
فواجب علينا حبه وإجلاله وشكره، نحبه لأنه مصدر كل خير لنا، وهو الذي يمدنا من قدرته بكل ما لنا من وجود وقدرة، ونحبه لأنه الموجود الكامل الذى لا حد لكماله، ونحبه لأن من طبيعتنا أن نحبه، فكل إنسان على الفطرة يشعر بحنين إلى إله يفزع إليه عند الشدائد، ويتضرع إليه في كشف السوء عنه، ويجد في الإلتجاء إليه سلوة وأسى عند المصائب، ومشجعا على العمل وباعثا على التضحية إذا دعا الواجب.
ومن آثار حبه التعبد بأشكال العبادات المختلفة، فإنها خير ما تكون إذا دعت إليها حرارة الحب وكانت مظهرا من مظاهر الإخلاص لله والطاعة له، وإلا كانت مجرد حركات وصور وأشكال لا روح لها.
وإن من أحسن أنواع الشكر لله الخضوع لقوانين الأخلاق والعمل بما تقتضيه، ذلك لأن الله خلق هذا العالم وجعل سعادته مرتبطة بأشياء من صدق وعدل وأمانة ونحوها، وشقاءه وفناءه في أضدادها، ثم أمر بما يوصل إلى السعادة وسماه خيرا، ونهى عما يجلب الشقاء وسماه شرا، وتلك الأمور التي توصل إلى السعادة هي بعينها قوانين الأخلاق، فمخالفها عاص لأمر الله جاحد لنعمه، ومطيعها مطيع لأمره مؤد لواجبه.
إذا امتلات النفس عقيدة بما قدمنا — من أن قوانين الأخلاق هي أوامر الله — صدرت الأعمال عنها ممزوجة بقوة تجعلها أقوى أثرا وأكثر نفعا، ولذا ترى أن أكثر من اندفعوا لنصرة الحق وتشددوا في التمسك به أو قدموا أنفسهم فداء للفضيلة كانوا ممتلئين عقيدة بالله ووجوب طاعته، ألهبتهم حماسة رغبة في رضاه وشوق إلى لقائه.
(٢-٢) واجب الإنسان نحو نفسه
يجب على الإنسان نحو نفسه أن يكمل ذاته جسميا وعقليا وخلقيا، فهو مكلف أن يرعى هذه الأمور الثلاثة (جسمه وعقله وخلقه) وأن يبلغ بها ما يستطيع من كمال، ولنذكر كلمة نوضح بها ما يجب في كل ناحية من هذه النواحي الثلاث.
إن جسم الإنسان آلة كسائر الآلات يجب لبقائها وقدرتها على أداء العمل أن تغذى الغذاء الصالح لها وأن يعنى بها، يجب للجسم الهواء النقي والغذاء الصالح والرياضة والإعتدال في العمل.
وإن سوء الصحة أكبر تلف يصيب الإنسان، فهو يضعف قدرته على العمل، ويختصر حياته، ويفسد شعوره، وفي كثير من الأحيان يكون ضعف البدن سببا في سوء الخلق وملل العقل وعدم قدرته على الإنتاج.
إن صحة البدن هي أساس كل ما له قيمة في الحياة من مال وحياة ومتاع، ومما يستوجب الأسف أن هذه الصحة لا تقدر تقديرا صحيحا إلا بعد ضياعها أو تعرضها للخطر، وأن كثيرا من الناس لا يراعون قوانين الصحة إلا إذا أُلجئوا إلى ذلك بسبب ضعفهم، وكان أسهل أن يقوا أنفسهم من الضعف قبل حصوله.
لا يستطيع الإنسان أن يكون إنسانا كاملا ناجحا في الحياة نجاحا حقا إذا كان مريضا أو ضعيف الجسم، وأقدر الناس على الإنتاج أطولهم عمرا في صحة، نعم إن كثيرا من عظماء الرجال كانوا مرضى، ولكنهم من غير شك كانوا يكونون أكثر إنتاجا وأصح نظرا وأعظم خيرا لأمتهم وللعالم لو كانوا أحسن صحة، ونجاح هؤلاء مع مرضهم دليل على أن قوتهم العقلية أو الخلقية غير عادية حتى استطاعوا أن يأتوا بما أتوا به على الرغم من مرضهم.
مرض البدن أو ضعفه ذو أثر كبير في الخلق، فمن العسير أن يكون إنسان كامل الخلق وهو ممعود أو مكبود أو ضعيف الأعصاب، إنك تراه غالبا ضيق الخلق غضوبا يائسا متبرما بالحياة، وكثيرا ما يسائل نفسه: هل هذه الدنيا تساوي شيئا، وينشد مع أبي العلاء قوله:
فخير إجابة لهذا أن يقال له: أصلح معدتك أو كبدك أو أعصابك تر أن في الدنيا ما يسر، وأن فيها ما يحبب الحياة.
إن تضخما قليلا في بعض غدد المخ يجعل من الصعب على الإنسان أن يعبر عن فكره، وصدمة لموضع من مواضع المخ تجعل الإنسان معتوها، واختمارا في المعدة يحول كل جميل سار في الحياة إلى قبيح مؤلم، وأخذ ملعقة من دواء يزيل هذا الإختمار يحول العالم في نظره إلى ما كان عليه من بهجة وسرور.
كان «كارليل» ممعودا، فقال صديق له مساء يوم مشيرا إلى السماء: ما أجمل هذا المنظر! إنه يبعث الحكمة إلى نفس الإنسان، فأجابه «كارليل»: إنه لا يبعث عندى إلا الأسف والحزن وقال مرة: «إن تسعة أعشار بؤسي وأكثر من تسعة أعشار أخطائي يرجع إلى اضطراب معدتي» ومثل ذلك كثير، مما يدل على ما لحالة البدن من تأثير كبير في العقل والخلق.
إزاء هذا كان واجبا على الإنسان السعي في أن يكون صحيحا وقويا، وذلك بأن يتخير من العادات في أكله وشربه وتنفسه واستحمامه وعمله ما يؤثر أثرا حسنا في صحته، وألا يفرط في غذاء عقله على حساب جسمه.
يقول بعضهم: «من مرض فقد أجرم» وهذا صحيح في كثير من الأحيان، لأن كثيرا من الأمراض يمكن اتقاؤه باعتياد النظافة والإعتدال في المأكل وانتظام المعيشة ونحوها، كما أن كثيرا من الأمراض يمكن الوقوع فيها باعتياد أضدادها.
وأول ما ينبغي أن يتعلمه تمرين حواسه حتى يكون ما تدركه صحيحا، فإن المواد الأولى للمعلومات إنما تأتي من طريق الحواس — السمع والبصر والشم والذوق واللمس ونحوها — فيجب أن يكون إدراكنا الذي ينشأ عنها صحيحا، ولا يكون ذلك إلا بتمرينها وتعويدها أن تكسبنا المعلومات الحقة من نفسها لا من طريق التلقين — يجب أن يمرن الإنسان حواسه حتى يعرف بالتقريب طول الحجرة إذا نظر إليها، ووزن الشيء إذا وضعه في يده، وكم ميلا مشى، وما منزلة الصوت في القوة والضعف، وأن يكون دقيق الملاحظة فيعتاد إذا نظر إلى شيء ثم غاب عنه أن يعرف أوصافه حتى يستطيع أن يحدثك عنه في جلاء ووضوح — كل هذه الأمور تفيد عقله فائدة كبيرة، لأن كثيرا من الأخطاء العقلية ناشئ من الخطأ في المعلومات الحسية، وهذه ناشئة من إهمال الحواس وعدم تمرينها في مبدأ الحياة.
إن كسب الإنسان معلوماته بنفسه من طريق حواسه أولا ثم من طريق عقله ثانيا خير من معلومات يجمعها من الكتب من غير اختبار شخصي.
- (١)
تحمل الصعاب والصبر عليها، فالوصول إلى الحق يحتاج إلى عناء ومكابدة في جمع الحقائق وامتحانها، واستخراج النتائج الصحيحة منها، فمن لم يتسلح بالصبر لا يمكنه أن يكون عالما، وكما قيل: «إن العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك» ليس مجرد الحفظ والإستظهار بل ولا مجرد الفهم مما يصح أن يسمى علما، إنما العلم أن تمتحن الحقائق بنفسك وتبحثها لتتبين صحيحها من فاسدها.
- (٢)
حب الحقيقة، فلا نندفع وراء عواطفنا في اعتقاد شيء أو عدم اعتقاده ما لم يثبت لدينا بالبرهان صحته، نتوقف في صدور الحكم إذا كانت البراهين لم تتوافر عليه، لا نخدع بحسن المظهر أو العبارات المنمقة حتى نصل إلى كنه الشيء ونزنه وزنا دقيقا، نلتزم الصدق في العلم فلا نصبغ الحقيقة بميلنا الشخصي ولا بشهواتنا وأهوائنا، ويدعونا حب الحقيقة إلى أن نوسع صدرنا للنقد يصدر على آرائنا وأفكارنا، نشغف بالقراءة فلا يكون كل غرضنا من العلم امتحانا ننجح فيه أو شهادة نحصل عليها، وإنما نقرأ لأن القراءة غذاء عقولنا، ولكن بجانب هذا يجب أن نتعلم كيف نقرأ، قال رسكن: «قد تقرأ كل ما في دار الكتب الإنجليزية ثم تصبح بعد — كما كنت — إنسانا غير متعلم، ولكن إذا أنت قرأت عشر صفحات بإمعان في كتاب جيد كنت إلى درجة مّا إنسانا متعلما» وقال آخر: «لا تعمل القراءة أكثر من تزويد العقل بالمعرفة، أما التفكير فهو الذي يجعل ما نقرأ جزءا من أنفسنا، يجب أن ننعم النظر ونطيل الفكر فيما نقرأ، وليس يكفي أن نثقل أنفسنا بالمعلومات الكثيرة نكدسها، فما لم نمضغه ونهضمه لا يغذينا ولا يكسبنا قوة».
- (١)
الأثرة أو التغالي في حب النفس.
- (٢)
الجهل.
فالأثرة نوع من أنواع الضعف متأصل في الإنسان، فكل امرئ يتحزب لنفسه ويفكر فيها أكثر مما يفكر في غيره، ويدعوه ذلك في كثير من الأحيان أن يضحي بمصالح غيره وسعادتهم لمنفعته الشخصية، ذلك هو ما نسميه الأثرة.
حارب المصلحون هذه الأثرة كثيرا ونجحت تعاليمهم، ففرق كبير بين أثرة المتوحشين وأثرة الممدنين، ولكنها لا تزال باقية، ولا يزال الطريق طويلا أمام الناس حتى يستطيعوا أن يعاملوا غيرهم كما يعاملون أنفسهم، ولا تزال هناك عوامل تحيي في النفوس هذه الأثرة كالحرب وتزاحم الناس على وسائل العيش.
وهذه الأثرة أصل كبير من أصول الشر، فلو بحثت عن أكثر ما يرتكب من الجرائم لرأيت أن سببها التغالي في حب النفس، وأن المجرم لم يستطع أن يتصور أن يضع نفسه موضع من أجرم معه، ولو وضع نفسه وغيره في مستو واحد ما استباح لنفسه الإجرام.
والسبب الثاني: الجهل؛ ونعني به الجهل بأن الناس مثلنا، يحسون إحساسنا، ولهم من الحقوق مالنا، وعلينا من الواجبات ما عليهم، فالإنسان يتخيل أن ليس لغيره مثل إحساسه، وأنهم لا يتألمون من الشر كما نتألم، وأن ليس لهم من الحق في الحياة والسعادة ماله، ومن أجل ذلك يتخذهم وسائل لمنفعته الشخصية، وقد حمله على هذا التفكير السيئ السبب الأول وهو الأثرة.
إذا زال هذا الجهل واتسع مجال الفكر وعرف الإنسان حقا أن الناس مثله سواء بسواء في شعورهم وحقوقهم وواجباتهم حقق القواعد الذهبية التي وضعها الأنبياء والمصلحون مثل «عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به» و«أحب لأخيك ما تحب لنفسك» و«اليد العليا خير من اليد السفلى» وفي ذلك تحقيق المثل الأعلى للأخلاق.
•••
مراعاتك جسمك حتى يكون صحيحا قويا، وعقلك حتى يكون صحيحا قويا، وخلقك حتى يكون صحيحا قويا، هو ما يجب عليك نحو نفسك، وهذا وحده السبيل لسعادتك وسعادة أمتك بك.
(٢-٣) واجب الإنسان نحو أسرته
لكل الحيوانات — تقريبا — مأوى تأوى إليه، فللطائر وكره، وللسبع عرينه، وللنحل خلاياه، ويكاد يكون هذا المأوى أعز شيء عندها، فما أسعد الطائر يرفرف بجناحيه يروح ليلا إلى وكره، وما أخوفه إذا اقترب أحد منه فهدد بيضه أو فرخه، وما أضرى السبع إذا قصد أحد عرينه، لا شىء يثير الخوف والغضب عند هذه المخلوقات أكثر من أن يمس بسوء مأواها.
كذلك الإنسان يجب أن يكون بيته أعز بقعة على الأرض عنده، إن علاقة الإنسان ببيته أقوى من علاقة الحيوان بمأواه، ذلك لأن حاجة الحيوان الصغير إلى أبويه قليلة إذا قيست بحاجة الطفل، فصغار الطيور مثلا بعد أسابيع قليلة تقوى وتطير، وتفارق عشها وتستقل بنفسها، وتبني لها عشا خاصا بها، وتضعف علاقتها بآبائها إن كان ثم علاقة. أما الطفل فلا بد له من سنين طويلة حتى يستطيع أن يستقل بنفسه، وإذا استقل فلا تزال العلاقة بينه وبين أسرته قوية متينة، وسبب ذلك أن بناء الإنسان أكثر تركبا، ومطالب الحياة لديه أكثر تعقدا، فهو محتاج إلى زمن أطول حتى يتسلح للكفاح في هذا العالم ويؤدي واجبه.
في هذا البيت يتعلم الطفل أهم دروس الحياة، ولو خرج إلى العالم قبل أن يستكمل تربيته المنزلية لكان متوحشا، فالبيت في الحقيقة هو أكبر ممدن له.
في هذا البيت يتعلم كثيرا من الدروس، فمن حبه لإخوته وأخواته ووالديه يتعلم درس حب الناس وحب الوطن، ومن طاعته لوالديه يتعلم طاعة قوانين البلاد وقوانين الأخلاق.
وإذا كان للبيت من المنزلة ما بينا كان علينا نحوه واجبات نجملها فيما يأتي:
يجب على كل فرد في الأسرة أن يعمل على أن يكون بيته أسعد مكان، فخشونة المعاملة وخشونة القول والإساءة وإثارة الشحناء ونحو ذلك كل هذه إذا كانت خارج البيت رذيلة فهي في البيت أرذل.
ومما يؤسف له أن كثيرا من الناس يتجملون في أخلاقهم مع أصدقائهم ومن يتعاملون معهم فإذا حلوا في بيتهم تبدلت أخلاقهم إلى قسوة وخشونة وفظاظة وانقلب ذلك الصوت الهادئ المؤدب إلى هجر في القول وسوء في الأدب، والحق أن أدل شيء على الأخلاق الحقيقية هو خلق البيت لا خلق الشارع، فخلق الشارع خلق التصنع، والإختلاف في المعاملة بين أهل بيته ومن في الخارج يدل على أن الخلق الجميل ليس شيئا في نفسه، وإنما هو كالثوب الجميل يلبسه إذا خرج ويخلعه إذا عاد.
كذلك يجب أن نشعر أن منزل الأسرة للأسرة جميعها، فليس من الحق أن يستأثر أحد الأبناء بخير ما فيه، ولا يرعى إلا نفسه، ولا يهتم إلا بما يعود على شخصه.
أول واجب على الأبناء الطاعة للأبوين إلا في أحوال نادرة يأمر فيها الأبوان بالخطأ الواضح.
يجب أن يشعر كل فرد أنه مسئول — بقدر ما يستطيع — عما يحفظ للبيت سعادته ونظامه ونظافته وحسن العلاقة بين أفراده، وإن خطأة يخطئها أحد منهم تهدد سعادة المنزل وتعرضه للشقاء.
ليست الأمة إلا عدة أسرات، وليست المدينة إلا عدة بيوت، والسلوك الذى يسلكه الناشئ في بيته ليس إلا صورة مصغرة لسلوكه بعد في أمته، وإذا كان منبع النهر ملوثا تلوث النهر، فصلاح الأمة وصلاح البلاد دائما هو بصلاح الأسرة.
(٢-٤) واجب الإنسان نحو وطنه
الوطنية حب الإنسان لبلاده، أرض آبائه وأجداده، وإنما نحب وطننا لما بيننا وبينه من الصلات المتينة، فقد تربينا في جوه وبين قومه، وصرنا منه بمنزلة الفرع من الشجرة، كون هواؤه وتربته أجسامنا، وصارت قوانينه وعرفه عاداتنا، وأصبحت طريقة أهله في مأكلهم وملبسهم وكلامهم طريقتنا، نحن إليه إذا نزحنا عنه، ويهيج أشجاننا إليه ذاكرنا له، ونأنس بقربه، ونعتز بعزته، ونهون بهوانه.
ويكون حب الوطن عند أكثر الناس في حالة كمون إلى أن يدهم وطنهم خطر، أو توجد دواع تنبهم، فتتنبه مشاعرهم، ويظهر حبهم لوطنهم بأجلى مظاهره، ويدعوهم للعمل على خدمته، فيبذلون نفوسهم وأموالهم في سبيل نصرته، والذود عن مجده وحريته.
- (١)
الدفاع عن البلاد إذا هوجمت أو أريد التعدى على حريتها، وهذه هي وطنية الجنود، وقد ظهر هذا النوع من الوطنية بأجلى مظاهره في الحرب العظمى، فقد بذلت فيها الدماء من كل فريق من المتحاربين بسخاء حفظا على البلاد من التعدي عليها أو على حريتها.
- (٢) وقف الحياة على خدمة الوطن، وهذه وطنية السياسيين والمصلحين، فالسياسيون يديرون دفة البلاد نحو ما يرقيها ويعلي شأنها، ويقودون الرأي العام إلى ما فيه مصلحة الوطن، فإن رأوا رأيا لم يرضه عامة الناس عملوا ما يرونه حقا، ولم يثنهم من عزمهم تهمة يتهمون بها ولا نقد يوجه إليهم، يفضلون عمل الحق ولو أهينوا على عمل خطأ يرضي الجمهور وإن كرموا، عمادهم إخلاصهم ومرشدهم وجدانهم، وأما المصلحون فإنهم يرون موضوع الداء فيعالجونه، وكثيرا ما يحدث أن الداء يتأصل فيها حتى تألفه وتظنه السلامة، فإذا دعاها المصلح إلى العمل على الخلاص منه قامت في وجهه وعارضته وحسبته خارجا عليها، كما قال الله تعالى: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ولكن المصلح يزيده الإضطهاد تمسكا برأيه ودفاعا عنه، ولا يزال الناس يلتفون حول رأيه شيئا فشيئا حتى يصبح المذهب المقرر والرأي السائد، ويعجب الناس إذا نظروا إلى ماضيهم كيف كانوا يعتنقون هذا المذهب الفاسد، وكيف لم يدركوا فساده بمجرد الدعوة إليه.
- (٣)
أداء الواجب: وهذه وطنية الناس كلهم، فأداء كل واجبه اليومي في عمله وفي بيته ومع أولاده وأصحابه ومن يعاملونه وانتخابه خير الناس إذا انتخب، ومساعدته المشروعات النافعة بماله وعمله وجاهه.. كل هذه وطنية صادقة صحيحة ترفع شأن الوطن وتعلي مكانته.
- (٤)
تشجيع المصنوعات الوطنية والحاصلات البلدية وتفضيلها على غيرها ما أمكن، كما أن وطنية الصانع والمنتج تقضي عليهما أن يبذلا الجهد لجعل المصنوع والمنتج في حالة لا تقل عن أمثالها مما يرد من الخارج، وعلى الحكومة مساعدة ما تنتجه البلاد نفسها بما تضع من نظام الضرائب ونحوهما، وإن الأمة إذا ساعدت المصنوعات والحاصلات البلدية تكون قد ساعدت على حفظ الثروة في بلادها وجعلتها تنتقل من يدها إلى يدها الأخرى.
وبعد، فكل إنسان يستطيع بعمله ولو حقيرا أن يخدم وطنه، وليست خدمة الوطن مقصورة على العظماء، بل إن العظماء لا يكون لهم أثر كبير ما لم تؤيدهم الأمة، فالقائد الكبير إنما فخره نتيجة عمله وعمل الجنود الصغار، بل وعمل من صنع للجنود نعالهم وملابسهم ونحو ذلك، والسياسي العظيم لا يصل إلى غرضه إلا بمعونة كتاب يعينونه في فروع من العمل مختلفة، وأفراد يبذلون ما يحتاج إليه من المال وهكذا، الأمة كالساعة، كل آلة لها عمل، ولا بد من أداء كل آلة عملها لينتظم سيرها، وإن كان يختلف عمل الآلات أهمية، وسير هذه الآلات وانتظامها لا تقع عليه العين عادة، وإنما مظهر هذا الانتظام سير العقارب، فإذا دلت على الأوقات بالضبط دلنا ذلك على أداء كل آلة وظيفتها وإلا لا، كذلك الحوادث العظيمة في الأمة والنجاح الكبير لها مظهره عظماء الرجال والمصلحون، ولكن ما كان يتم ذلك في الحقيقة لولا أعمال آلاف من الناس لم يعرفهم التاريخ، فهؤلاء الآلاف منزلتهم منزلة آلات الساعة الخفية، والعظماء بمنزلة عقربي الساعة هما مظهران لأعمال عدة دقيقة، غير أن الشأن في الساعة أنه إذا تعطلت آلة منها وقفت الساعة جميعا أما في الأمة فإذا تعطل أحد أفرادها عن السير حملت الأمة عبأه وسارت، فالجندي في الجيش إذا خر صريعا سار الجيش وتحمل عبء الجندي، وكان الأولى للجيش ألا يخر أحد منه صريعا، وأن يحمل كل واحد عبأه فقط.
فالفلاح في زرعه الأرض وعنايته بالبقر والغنم، والنجار في صناعته، والتاجر ببيعه وشرائه، والجندى بمحاربته، والكناس في الشوارع يكنس الأقذار، والأم تربي بنيها وتعني بالبيت وشؤونه والخادم بخدمتها، والأطباء بمحاربتهم الأمراض ومعالجتهم المرضى، ورجال الحريق بإطفائهم النار، ورجال العلم الذين ينشرون العلم ويحاربون الجهل، ورجال السياسة الذين ينصرون الحق ويخذلون الباطل بأقوالهم وأعمالهم، والشعراء والموسيقيون وجميع رجال الفن الذين يمدون الحياة بالسعادة، ويشعرون الناس بالجمال، كل هؤلاء يخدمون وطنهم بعملهم، وكل هذه الأعمال لا بد منها لسير الأمة إلى الأمام، وكل هؤلاء إذا أدوا أعمالهم باتقان ولم يراعوا فيها مصلحتهم الشخصية فحسب بل راعوا فيها خيرهم وخير الناس فهم وطنيون صادقون يفخر الوطن بهم، ويشرف بعملهم.
(٢-٥) واجب الإنسان نحو الإنسانية عامة
النوع الإنساني مؤلف من أمم وقبائل مختلفة لكل منها ميزات وخصائص، وهى مع كثرتها جسما واحدا، كل أمة وكل قبيلة عضو من أعضائه، يستفيد كل عضو من سلامة باقي الأعضاء ويتضرر بما يصيبها، فالحي في المدينة إذا كان قذرا غير صحي هدد جميع أجزاء المدينة بالخطر، وانتشار الوباء في جزء من مملكة يعرض المملكة جميعها للضرر، والمخترع يخترع آلة جديدة فيستفيد من اختراعها عدد كثير، والعالم يستكشف حقيقة علمية فيشترك في الإستفادة منها سائر العلماء في أنحاء الأرض، والأمة تجني جناية كأن تشهر حربا فيتضرر العالم كله منها ضررا بليغا، وهكذا.
يجب أن يشعر الفرد أنه عضو في الهيئة الإنسانية، يحب الخير للناس جميعا من أي جنس كانوا، وبأية لغة تكلموا، وفي أى صقع سكنوا، ويشعر نفسه بالشفقة والرحمة على البائسين أيا كانوا، ليس النوع الإنساني إلا أسرة كبيرة تقوم الأمم فيها والقبائل مقام الأفراد في الأسرة، فيجب أن يكونوا جميعا متعاونين على ترقية نوعهم وتحقيق الخير للإنسانية عامة.
إن الإنسانية مصابة بمواضع ضعف كثيرة، فكثير من بقاع الأرض حرمت ضروريات الحياة، يعيش أهلها عيشة بؤس وشقاء، تفتك بهم الأمراض وتكتسحهم الأوبئة، ويفسد حياتهم الجهل، واجب علينا إزاء هؤلاء أن نرقيهم ما استطعنا وأن نرسل إليهم أشعة النور والعلم ونمدهم بوسائل العيش، كذلك تحدث كل يوم كوارث مزعجة، فإصابة عمال، وحوادث اصطدام، وغرق وحريق، ونكبات زلزال، وثوران بركان، ونحو ذلك من مصائب الحياة، فالإنسانية توجب إعانة هؤلاء المنكوبين بكل الوسائل، كالذي ترى من جمعيات الإسعاف والهلال الأحمر والصليب الأحمر والجمعيات الخيرية، كل هذه تحتاج إلى مال ينفق منه على أغراضها ومساعدات تقدم لها.
كثير من المرضى حرموا وسائل العلاج، فقر مدقع، وبيوت قذرة، ومعيشة تعين المرض على الفتك، فهؤلاء لا بد لهم من مستشفيات تنفسح لهم، وأطباء يتولون علاجهم، وهذه لا بد لها من مال ورجال.
آباء مجرمون حكم عليهم بالسجن فحرم أولادهم العائل الذى يعولهم، أو تجار أفلسوا أو قعد بهم المرض عن مواصلة السعي فحرمت أسرهم ما يقيم أودهم، وأفراد نكبوا بعمى أو صمم أو عاهة جعلتهم من العاطلين لا يجدون ما يأكلون، كل هؤلاء وهؤلاء لا بد أن ترحمهم الإنسانية فتزيل كربهم، وتأخذ بيدهم، بإنشاء المعاهد والمستشفيات وجميع المرافق، يجب أن يتساند القادرون لحمل العبء عمن ضعفوا عن مواصلة السير في الحياة، وتخفيف ويلاتهم، ولذلك وسائل كثيرة كالإشتراك في الجمعيات التي أشرنا إليها قبل، والإحسان إلى البائسين ونحو ذلك من ضروب الخير.
•••
ارتقى الناس فيما بعد فكانوا في حكمهم بالخيرية والشرية والحسن والقبح أوسع نظرا، تبودلت التجارات بين الأمم، وحسنت الصلات، ووجدت القوانين الدولية، والأخلاق الدولية، ولم ينظر الفرد من أمة إلى الفرد من أمة أخرى نظرة العدو لعدوه، وإن كانت لا تزال عند الأمم وفي النفوس بقية موروثة من آبائنا المتوحشين، ومن أفظع هذه الآثار الحروب بين الأمم، والناس سائرون إلى الكمال، وستتغلب حتما فكرة الإنسانية فينظر الإنسان إلى الإنسان من أى جنس كان كأنه أخوه، لا يظلمه ولا يخونه، يعدل معه كما يعدل مع أفراد أسرته، وسيضمحل النظر الشخصي أو الجنسى خضوعا لسنة النشوء والإرتقاء، ويحل محله النظر العالمي، فينظر كل فرد إلى النوع الإنساني كأنه جسم واحد، يعمل على ترقيته، وتتعاون الأمم وتتبادل المنافع، وترمي كلها إلى غرض واحد هو كمال النوع.
وهذا النظر لا يتنافى مع الوطنية، فكما أن الفرد في الأسرة يعمل لخيره وخير أسرته كذلك الفرد في الأسرة الكبيرة — وهي الجنس البشري — يعمل لخير وطنه وخير الإنسانية.