مقدِّمة الطبعة الثانية

حين صدر هذا الكتاب قبل مدَّة أبدى بعضُ المثقَّفين تحفُّظَه بشأن عنوانه، فقال متسائِلًا: وهل هناك «إنسانيَّة في الدين» كي ينبغي أن نبادر إلى «إنقاذها»؟ وأضاف آخر: إنَّ مهمتَنا هي إنقاذ الإنسانيَّة «من» الدين، ولم يكترث بما أوضحتُه له من أن فكرةَ الكتاب تتمحور حول التدليل على: أنَّ الدينَ ظلَّ على الدوام أحدَ أهم منابع إلهام قيمِ المحبَّة والتراحم والتعاطف والشفقة واحترام كرامة الكائن البشري، وبناء وترسيخ الإرادة، لكنه شدَّد على ما تنوء به مجتمعاتُنا من تعصُّبات وكراهيات ونزاعات، وما يستتبعها من انقسامات وحروب مزمنة تغذِّيها على الدوام الجماعاتُ الدينية السلفية، وبعضُ رجال الدين. وراح يتحدَّث عن نماذج متنوعة مما تبثُّه الفضائيات والمواقع والصحف الإلكترونية، والمنابر، وأدبيات السلفية الجهادية وغيرها من تلك الجماعات، وعدوانها الواسع على السِّلم الأهلي، ودعواتها التحريضية لتفتيت مجتمعاتنا.

ليس من أهداف هذا الكتاب التَّغاضي عن ذلك، ولا التقليل من أهميته، ولا الدعوة إلى تجاهُله، بل إنَّ من يطالع صفحاتِه يجد أنَّ صميمَ رسالته الاحتجاجُ على كل هذا الواقع المأساوي للدين، ونقد كل هذا الزيف المهول الذي يوضع من قِبل أطياف من الإسلاميين على اسمه.

لا يمكن تجاهل أثر تلك الخطابات المُشار إليها في تلويثِ المجال العام، وتهشيمِ مرتكزات العيش المشترَك في مجتمعاتنا، مثلما لا يصحُّ إنكار الحضور الكثيف والفاعل والمؤثِّر لها، ودورها في تفشِّي أنماطٍ همجيَّة متوحِّشة من العُنف الدينيِّ. وقد تكرَّس أثر هذه الجماعات، وأُتيحت لها فرصةٌ تاريخيَّة مهمَّة في الاستيلاء على المجال العام بعد هيمنة الإسلام السياسي على السلطة، الذي انتهى إليه ما يُسَمَّى ثورات الربيع العربي في بعض البلدان، واحتكارهم لتمثيل المجتمعات، واختزالهم التنوع الإثني والديني والمذهبي بأيديولوجياتهم الخاصَّة، وتوظيفهم الديمقراطية والانتخابات كسُلَّم يُستخدم لمرة واحدة، حتى إذا تحقَّق الغرضُ منه طُرح جانبًا. من دون وعيٍ بفلسفة الديمقراطية، ومضمونها الحقيقي من الحريات والحقوق، والتَّدَاوُل السلميِّ للسلطة. مضافًا إلى تفجُّر الطائفيَّة، والتعصُّبات الموروثة كافَّة بصورة لم يسبق لها مثيل في شرق المتوسط، بنحوٍ أضحى معه الاحتماءُ بأمراء الطوائف الوسيلةَ الوحيدة في بعض البلدان لضمان الحياة، في مجتمعات تقوَّضت فيها واضمحلَّت معظمُ بنى الدولة الحديثة.

في مثل هذه الحالة يبدو المتحدِّثُ عن «النزعة الإنسانية في الدين»، كمَنْ يحكي لنا عن ماضٍ مضى ولن يُستعاد، أو مَنْ يحلُم بعالَمٍ رومانسيٍّ مثاليٍّ، لا صلة له بمجتمعاتنا اليوم.

لا يدافع هذا الكتاب عن فشل الإسلام السياسي في إدارة السلطة وبناء الدولة، كما لا يتجاهل ما يبدو من حقيقة أنَّ السُّلطةَ قد تكون مقبرَتهم، بسبب عجزهم وقصورهم عن إدراك الجذور العميقة للدولة الحديثة، وافتقار الكثير من المسئولين إلى أيِّ تكوين أكاديمي أو معرفي أو فكري يؤهِّلهم لإعداد نُظم وبرامج وخطط اقتصادية وإداريَّة وتربوية وعلمية وثقافية وصحية حديثة، فضلًا عن عدم توفُّرهم على تدريبٍ وخبرة عمليين في إدارة الدولة وبناء مؤسسات السلطة. إنهم يفكرون في مرحلة ما قبل الدولة، لذلك يحرصون على استدعاء القبيلة وقيمها وتشكيلاتها العتيقة، ويغرَقون في كهوف الماضي، ويُفرِطون في استهلاك التاريخ، كأنهم لا يعيشون في عالمنا إلا بأبدانهم، في حين تلبث عقولُهم وأرواحُهم مع الموتى.

ميزة هذه الطبعة من الكتاب أنها مزيدةٌ ومنقَّحة، فقد تطوَّع مشكورًا صديقي وتلميذي الأستاذ علي المدن بمطالعةِ الطبعة الأولى، فأضاء النصَّ ببصيرته النافذة، وصوَّبَ ما ورد فيه من أخطاء، وأثراه برؤاه الدقيقة، ورَفَدَهُ بتوضيحاتِه المهمَّة. وهكذا تمَّت إعادةُ ترتيب موضوعات الكتاب على نحو تزحزحت معه معظمُ المواد عن ترتيبها في الطبعة الأولى.

وما توفيقي إلا بالله، عليه توكَّلت وإليه أنيب.

عبد الجبار الرفاعي
بغداد، ١ / ٣ / ٢٠١٣م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥