مقدمة الطبعة الثالثة

صدرت الطبعةُ الأولى والثانيةُ لهذا الكتاب بعنوان: «إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين»، وقد نفدتا من الأسواق منذ بضع سنوات. وقبل صدور هذه الطبعة أجريتُ مراجعةً شاملةً لكلِّ موضوعاته، فرأيتُ أنْ أُحَرِّرَه من جديد بإضافات وجدتُّها مكمِّلةً لموضوعاته، مثل إدراج زيارتي الثانية لجلال الدين الرومي في سياق الفصل الأول من الكتاب، وحذفِ كلماتٍ وعباراتٍ من مختلِف فصولِه واستبدالها بغيرها.

ولما كانتْ أعمالي في العَقد الأخير تهتمُّ بدراسة ماهيَّةِ الدِّين وفهمِ حقيقته، وتحديدِ مديات وظيفته وما يمكن أن يقدِّمه للكائن البشري، والتعرُّفِ على مختلِف آثاره وتجلياته المتنوِّعة في حياة الفرد والمجتمع، فقد ارتأيتُ أن يبدأ العنوانُ المشترَكُ لهذه الأعمال بكلمة «الدين»، يتلوها الموضوعُ المحوريُّ الذي تبحثُه فصولُ الكتاب وتدرس تنويعاتِه المتعدِّدة، وهو ما دعاني لانتخاب عنوان: «الدين والنزعة الإنسانية» لهذه الطبعة التي تتزامن مع صدورِ الطبعة الثالثة لكتابي: «الدين والظمأ الأُنطولوجي»، والطبعة الأولى لكتابي الجديد: «الدين والاغتراب الميتافيزيقي».

أما ما أعنيه ﺑ «النزعة الإنسانية» في عنوانِ الكتاب فهي «إنسانية إيمانية»، لا تُرادف المصطلحَ الذي ظهر في العصر الحديث تمامًا، وإن كانت تلتقي معه في أكثر دلالاته؛ كالتشديدِ على مرجعيَّةِ العقل، وإعادةِ الاعتبار للآدابِ والعلومِ والمعارفِ البشرية ومُهِمَّتِها العُظْمَى في بناء الحياةِ وتطوُّرها، واحترام كرامة الإنسان وحماية حرياته وحقوقه.

كان مصطلحُ «الإنسانية» قد نشأ في العصر الحديث إثر احتكارِ الكنيسة للعلوم والمعارف ورفضِها للعقل ودوره في اكتشاف الطبيعة والتعرُّف على العالم، وموقفِها السلبيِّ من توظيف الخبرةِ التي راكمتْها البشريةُ في مختلِف مجالاتِ الحياة. فدعا ذلك بعضَ الأدباء والمفكرين الغربيين في القرنين السادس عشر والسابع عشر للعودة إلى تعلُّمِ لغات المجتمعات القديمة والإفادةِ منها في التنقيبِ عن آداب وثقافات تلك المجتمعات، وكسرِ احتكارِ الكنيسة، والخروجِ على موقفها المُتَمَثِّل في رفضِ الاعتراف بكلِّ عِلْمٍ ومعرفة يُنْتِجُهما الإنسانُ خارج إطار النُّصوص الدينية وتفكيرِ رجال الدين ورؤيتِهم المُغْلَقَة.

اعتمدتُ تسميةَ «النَّزعة الإنسانية» في عنوان هذا الكتاب، لأنَّه أضحى أكثرَ تداوُلًا بالعربية، ولأنه أقربُ وأكثرُ تعبيرًا عمَّا أرمي إليه من دلالاتٍ يُحِيلُ إليها استعمالي له في مختلِف كتاباتي، وبوصفه يتضمَّن الإعلاءَ من منزلة العقل واعتمادَه مرجعيةً في فهمِ الوحي وتفسيرِ نصوصه، فضلًا عن دوره الأساسيِّ في تكوين العلوم والمعارف المختلفة، وما يَشِي به استعمالُه أخيرًا من مضمونٍ أخلاقي، وما يشير إليه التداولُ العامُّ ﻟ «الإنسانية» من معاني الرحمة والرأفة والعطف.

لم تنشغل موضوعاتُ هذا الكتاب بدراسة مصطلحِ «الإنسانية» وتاريخِه وتطورِ دلالته وما واكبها من تحوُّلات حتى اليوم، لأنَّ كثيرًا من الكتابات درستْه في أبعادِه المتنوِّعة، بل حاول الكِتَابُ أنْ يتناوَلَ الدِّينَ ومدياتِ تأثيره في المجال الشخصيِّ والمُجتمعيِّ، والإفصاحَ عن القِيَمِ الإنسانيَّة التي يمكن أن يمنحها لحياةِ الكائن البشري، ونوعِ الاحتياجات الرُّوحية والأخلاقية والجماليَّة التي يلبِّيها لهذا الكائن.

كما اهتمَّتْ موضوعاتُ الكتاب بالتدليل على أنَّ الدِّينَ لا يمثِّل مرحلةً من مراحلِ تطوُّر الوعي البشري، لأنَّه كان موجودًا بوجود الإنسان الأول وسيلبث حتى الإنسان الأخير. وشدَّد الكتابُ، وَفق المفهوم الذي شرحه لإنسانية الدين، على ضرورةِ العمل بالعقل واعتمادِه مرجعيةً في كلِّ شيء، واستعمالِه في تفسير مختلِف الظواهر، والبرهنةِ على كلِّ قضية مهما كانتْ إثباتًا أو نفيًا، والثقةِ بالعقل في فهم الدين ورسم خارطةٍ تحدِّد المجالَ الذي يشغله في الحياة ويحقِّق فيه وعودَه، والكيفيةَ التي بها يتجلَّى فيه أثرُ الدين الفاعلُ في بناءِ الحياة الرُّوحية وإثراءِ المسئوليَّة الأخلاقيَّة وإيقاظِ العقل وترسيخ الإرادة، والكشفِ عن أنَّ تجاوُزَ الدِّين لحدودِه لا يُفْقِدُه وظيفتَه البنَّاءةَ فقط، بل يُمسي معها أداةً لتعطيلِ العقل، وإغراقِ حياة الفرد والمجتمع بمشكلات تتوالدُ عنها على الدوام مشكلاتٌ لا حصر لها.

وشرحتْ موضوعاتُ الكتاب المتنوِّعةُ كيف تمكَّنَ الإنسانُ من تجديد مناهج فهمه للدين، وتجديدِ أدوات تفسير نصوصِه، والأهميةَ الكبيرةَ لتوظيف تلك المناهج والأدوات في الدراسات الدينية اليوم. وحثَّتْ على ضرورة التمسُّك بالتفكير النَّقدي لاختبار قيمة كلِّ فكرةٍ سواء كانتْ تَتَّصِلُ بفهمِ الدين وتفسيرِ نصوصه أو غير ذلك، والكشفِ عمَّا هو حقيقي وتمييزه عمَّا هو زائف.

وأوضحتْ موضوعاتُ الكتاب أنَّ النقدَ ضربٌ من الاختلاف وليس المحاكاة، وأنَّ النقدَ العلمي للأفكار احتفاءٌ بها وتكريمٌ لكاتبها. وأنَّ النقدَ ضرورةٌ يفرضها تجديدُ حياة الدين وإثراءُ حضوره الحيويِّ في الحياة الرُّوحيَّة والأخلاقية والجماليَّة. وأنَّ النَّقْدَ هو الأداةُ العقليَّةُ الوحيدةُ لتصويبِ الأفكار وإنضاجِها. وأنَّ الفِكْرَ الدينيَّ الذي لا يُنقَد يُنسى ويخرج أخيرًا عن التَّدَاوُل.

يتساءلُ بعضُ قُرَّاءِ هذا الكتاب وشقيقَيْه: «الدين والظمأ الأُنطولوجي» و«الدين والاغتراب الميتافيزيقي» عن الإحالات المتكرِّرة على نصوص التصوُّف الفلسفي في مواضع متنوعة من كتاباتي المتأخرة. ولتوضيح ذلك أودُّ التذكير بأني باحثٌ حرٌّ أتوكَّأ على العقلِ النقدي. أنا لستُ متصوِّفًا، وإن كنتُ أتفاعلُ مع شيء من مقولات التصوُّف المعرفي، وأوظِّفُ في كتاباتي بعضَ الآراءِ الحيَّة للمتصوِّفة.

أنا ناقدٌ لتراثِ المتصوِّفة كما أنقد غيره من حقول التراث، وقد أعلنتُ موقفي بصراحة أكثر من مرة في سلوك المتصوِّفة، وشرحتُ رأيي بقيمة آثارِهم، وشدَّدْتُ على أنَّها تعبِّرُ عن اجتهادات بشرية وليست نصوصًا مقدَّسة، لكن يمكننا الإفادةُ مما هو حيٌّ ويتطلبُه زمانُنا منها.

وأشير هنا بإيجاز إلى أني ضدُّ كلِّ أشكال توثين المعتقدات، والأفكار، والأشخاص مهما كانوا، سواء فعَل ذلك التوثينَ المتصوِّفةُ أو غيرُهم، فأيَّةُ فكرة تستمدُّ قيمتَها من تعبيرها عن الحقيقة، وأيَّةُ شخصية تستمدُّ مكانتَها من تمسُّكِها بالحقِّ، وانحيازِها للإنسان ودفاعها عن كرامته وحقوقه وحريَّاته وقضاياه العادلة. إنَّ المتصوِّفةَ بشرٌ تورَّطَ أكثرُهم في توثين شيوخهم وأقطابهم، وتمادَى «المُريدُ» منهم في سجن نفسه بعبوديةٍ طوعيَّةٍ لشيخِه، وتعالَتْ تعاليمُ الشيخ في وجدانهم فصارتْ مُقَدَّسَةً يرضخُ لها الأتباعُ إلى حدِّ الاستعباد، بطريقة تكبِّلهم وتشلُّ حركتَهم.

بموازاة ذلك وجدتُ بعضَ آثارِ التصوُّف المعرفي تغتني بما هو شحيحٌ في آثار علم الكلام وغيره. فقد أعادَ هذا النمطُ من تراث التصوُّف بناءَ الصلة بالله فجعلها تتكلمُ لغةَ المحبَّة وتبتهجُ بالوصال مع معشوق جميل. وفاضتْ مدوَّنتُه بمعاني الرحمة والمحبة والشفقة والرأفة والعطف والتضامُن مع البؤساء والمنكوبين، ويُعلي بعضُ المتصوِّفةِ من هذه المعاني بالشَّكل الذي تصبح فيه مقصدًا محوريًّا للدين برأيهم. مضافًا إلى أنَّ أعلامًا للتصوُّفَ المعرفي لا يرفضون العقل، بل يعتمدونه ويتمسَّكون ببراهينه في بناءِ نظامهم المعرفي ورسمِ رؤيتهم للعالَم. وهذا ما نجده في أعمال محيي الدين بن عربي وبعض العارفين الذين يبتكرون طريقتَهم العقليَّة في الاستدلالِ على مقولاتهم ونقضِ حجج خصومهم.

كما يسودُ آثارَ بعض أعلام التصوُّف كجلال الدين الرومي تبجيلٌ للعشق الإلهيِّ، ونظرةٌ متفائلةٌ للحياة، واحتفاءٌ بالفن، وكشفٌ عن تجلِّيات جمال الوجود، ودعوةٌ للفرح، وجعلُ المحبَّة مادَّةَ الدين، بحيث صار تطهيرُ القلب من الحقد مِفتاحًا لطهارة الإنسان، كما ينص على ذلك جلالُ الدين الرومي بقوله: «توضَّأ بالمحبَّة قبل الماء، فإنَّ الصلاةَ بقلبٍ حاقد لا تجوز». وتمكَّن بعضُهم من صياغة سلسلة مفاهيم تعمل على تحريرِ الإنسان من اغترابه الوجودي، وإرشادِه لتعاليم تحثُّه على التَّصالُح مع العالَم الذي يعيش فيه.

ونعثر في آثارهم على فهمٍ للدين وتفسيرٍ لنصوصه يذهب للتَّعامل مع المختلِف بوصفه إنسانًا بغضِّ النَّظر عن معتقده. وتخلو أكثرُ آثار المتصوِّفة من الأحكامِ السلبية حيال المختلِف في الدين التي نجدها في آثارٍ أخرى، ولا نجد لدى أعلامهم مفاهيمَ تغرسُ كراهيةَ الأديان الأخرى، وتحظر التعاملَ مع أتباعها، وترسِّخ النفورَ منهم. وبعضُ أعلامهم ينفردون في مقولاتٍ تكسر احتكارَ الرَّحمة الإلهية وتوسِّع دائرةَ الخلاص، وتصوغ فهمًا للنجاة في الآخرة لا يجعلها حقًّا حصريًّا لمن يعتنق معتقدًا خاصًّا.

عبد الجبار الرفاعي
بغداد، ٢٢ / ٧ / ٢٠١٨م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥