مقدمة الطبعة الرابعة

الإنسانُ بوصفه خليفةً لله نورُ الله في العالَم، لو اختفى الإنسانُ يحتجبُ نورُ الله ويختنقُ العالَمُ بالظلام. النزعةُ الإنسانية في الدين في أعمالي هي الإنسانيةُ الإيمانية، مفهومُ الدين فيها غيرُ الدين المستلَبة فيه إنسانيةُ الإنسان. الإيمانُ في الإنسانيةِ الإيمانية هو الإيمانُ الحرُّ الذي يقترنُ دائمًا بالحرية، يكونُ الإيمانُ حيث تكونُ الحرية. الصلةُ بالله في الإنسانيةِ الإيمانية صلةٌ حيَّةٌ يقِظة، لا تتأسَّسُ على الرضوخِ والاستعباد والانسحاق وإهدار الكرامة، بل تتأسَّسُ على الحرياتِ والحقوق. الصلةُ باللهِ لا تأخذُ نصابَها في تشييدِ حياةٍ رُوحية وأخلاقية وجمالية إلا إن كانت مبنيةً على حريةٍ واختيار، لا على إكراهٍ وتخويف واستعباد واسترقاق وامتهان. الدفاعُ عن الله في الإنسانيةِ الإيمانية يبدأ بالدفاعِ عن كرامةِ الإنسان، وصيانةِ حقوقه، وحمايةِ حرياته، إذ لا يمرُّ الطريقُ إلى الله إلا من خلال احترامِ الإنسانِ ورعايتِه وتكريمه.

ما أعنيه ﺑ «الإنسانية الإيمانية» هو تحمُّل المسئولية أمام الله والإنسان، وهذا ما أفهمه من الاستخلاف الإلهي للإنسان في الأرض. الأخلاق والإيمان وجهان لحقيقة واحدة يعيشها الإنسان؛ بوصفهما طورًا وجوديًّا واحدًا يعيشه الإنسان. الأخلاق تعني تحمُّلَ المسئوليةِ تجاهَ الإنسان الآخر، والإيمانُ يعني تحمُّلَ المسئوليةِ أمام الله. إنسانيةُ الإنسانِ تتجلى في الأخلاق، وإيمانُ الإنسانِ يتجلى في الأخلاق، ودينُ الإنسانِ يتجلى في الأخلاق.

الكثيرُ من التفسيراتِ لآياتِ القرآن تنسى الإنسانَ ولا ترى إلا الله، لا ترى صورةَ الله كما ينبغي أن يكون عليه، ولا ترى الإنسانَ كما تحدَّثَ عنه القرآنُ الكريم، بل ترى اللهَ والإنسانَ بمرآةِ المفسِّرِ وأُفقِه التاريخي. عندما يتحدَّثُ القرآنُ عن الكرامةِ فإنه يضعُ الإنسانَ في أسمى مراتبِ الخلق: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا.١ لم تخصِّص الآيةُ الكرامةَ بأَتباعِ دينٍ أو مُعتقَدٍ، بل عمَّمتها لكلِّ بني آدم، إنها واحدةٌ من القيم الأبدية المشتركة للناس جميعًا، لا تختص بإنسان دون غيره. الكرامةُ قيمةٌ أبديةٌ، يتصفُ بها وجودُ الإنسان بما هو إنسانٌ. الإنسانُ يحظى بالتكريمِ منذ ولادتِه، ولا ينتهي بوفاتِه، بل يظلُّ الإنسانُ مُكرَّمًا بعد وفاتهِ ودفنه. الكرامةُ قيمةٌ كونيةٌ لكلِّ إنسانٍ نِصابُهُ فيها،‬‬‬‬ لذلك يكونُ ‫انتهاكُ كرامةِ أيِّ إنسانٍ انتهاكًا يطالُ كرامةَ غيرِه أيضًا. الدعوةُ إلى إنقاذِ النزعةِ الإنسانية في الدين تعني بناءَ فهمٍ آخرَ للدين، وتفسيرًا مضيئًا مواكبًا للواقعِ للنصوصِ الدينية، تفسيرًا لا يبوحُ به إلا عبورُ المنظومةِ المغلقةِ للفهمِ السلفي، وتوظيفُ منهجياتِ وأدواتِ ومعطياتِ المعرفةِ الحديثة والعلومِ الإنسانية. إنه تفسيرٌ لا يختزل الدينَ في المدونةِ الكلاميةِ والفقهية، ولا يقومُ بترحيلِه من حقلِه الرُّوحي والأخلاقي والجمالي إلى حقلٍ يتغلَّبُ فيه القانونُ على القيم، ولا يتحوَّلُ الدينُ فيه إلى أيديولوجيا صراعية، أيديولوجيا تهدرُ طاقاتِه الرُّوحيةَ والأخلاقية والجمالية.

يسعى هذا التفسيرُ إلى اكتشافِ وظيفةِ الدين الأصيلة في إنتاجِ معنًى لحياةِ الإنسان. وهي وظيفةٌ عجزت معظمُ الجماعاتِ الدينية اليومَ عن إدراكِها، وأغرقت نفسَها ومجتمعاتِها في نزاعاتٍ ومعارك، يمكن أن ترى فيها كلَّ شيء إلا الأخلاقَ وقيمَ التراحمِ والمحبة والسَّكينة والسلام.

«الإنسانيةُ في الدين» تعني: تجديدَ الصلةِ بالله، وذلك يبدأ بتجديدِ الصلةِ بالإنسان، والخلاصِ والتحرُّرِ من نسيانِ الإنسان في أدبياتِ الجماعاتِ الدينية، والدعوةِ للاعترافِ بإنسانيتهِ وكرامته ومكانته في الأرض، وتصحيحِ نمطِ صلتِه بالله، وتحويلِها من صراعٍ مسكونٍ بالخوفِ والرعب والقلق إلى صلةٍ تتكلَّم لغةَ المحبة، وتبتهجُ بالوصالِ مع معشوقٍ جميل.

لا تعني «الإنسانيةُ في الدين» الدعوةَ لتصوُّفٍ مُقنَّع، ذلك أني لستُ مع تصوُّف يُخرِج الإنسانَ من العالم. أتضامنُ مع شيءٍ من مقولاتِ التصوُّفِ المعرفي الذي يثري الرُّوح، ويضيء القلبَ بجمالياتِ الوجود، ويجعلُ الإنسانَ مشاركًا فاعلًا في بناءِ هذا العالَم.

«الإنسانيةُ في الدين» تعني: عدمَ التنكيلِ بالجسدِ والتضحيةِ بمتطلَّباتِه الضرورية وحاجاتِه الغريزية، كما يفعلُ تصوُّفُ الاستعبادِ والرَّهبنةِ القاسية. تصوُّفُ الاستعبادِ يفهمُ التربيةَ الرُّوحية فهمًا ساذجًا، يفضي إلى تجاهلِ طبيعةِ جسدِ الإنسان وقمعِه وتعذيبه، بمحاربةِ الغرائزِ والعملِ على اجتثاثِها وإماتتها، والغرقِ في عزلةٍ تتعطَّلُ فيها الحياة، وتنبذُها الطبيعةُ الإنسانية. لستُ مع تسليعِ الجسدِ وهبوطِه وابتذاله، وتوظيفهِ كبضاعةٍ رخيصة وتجارةٍ قذرة.

«الإنسانيةُ في الدين» تعني: الدعوةَ للسلامِ واحترامَ كرامةِ الكائنِ البشري، والخلاصَ من بواعث العنف الديني بين المجتمعات، عبرَ دراسةِ الأديانِ ومقارنتها، والغوصِ في أعماقِها لاكتشافِ جوهرِها المشترك، ومنابعِ السلامِ الكامنة في نصوصِها وتراثاتهِا الدينية، والحوار بين الخبراءِ والمختصين فيها، خارجَ إطارِ المجاملاتِ وعباراتِ التبجيل والعَلاقاتِ العامة. إن حوارَ الذواتِ الحرةِ والعقولِ المنفتحة يكتشفُ القيمَ الكونية للعيشِ المشترك، أمَّا حوارُ الهُوياتِ القارَّةِ والعقائدِ المغلقة والعقولِ الساكنة فليس سوى تبذيرٍ لمعنى وأسس العيشِ المشترك.

قبلَ أكثر من عشر سنوات صدرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب بعنوان: «إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين»، ونُشِرَ في طبعتين لاحقتين، ويُنشَرُ اليومَ بطبعةٍ رابعة مزيدة ومنقَّحة. عند كلِّ نشرة جديدة لأعمالي تفرضُ عليَّ المسئولية الأخلاقية أمام القراء الكرام أن أعيدَ النظرَ فيها، أقرؤها قراءةً ناقدة في ضوء ما يستجد في ذهني، وأعملُ على تحريرها وغربلتها وتمحيصها وتهذيبها.

عبد الجبار الرفاعي
بغداد، ٢ / ٥ / ٢٠٢٢م
١  الإسراء: ٧٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥