سياحةٌ في عالَم المَعْنَى
الزِّيَارَةُ الأُولَى
١
أمضيتُ الأيَّام السابقة في إسطنبول للمشاركةِ في ندوةٍ تناولتْ أثرَ «الإصلاح الديني في التنمية السياسيَّة». إسطنبول مدينة مُوحِيَة، تتجلَّى فيها هيبةُ وشموخُ وعزةُ الإسلام، تضمُّ أكثر من أَلْفَي مسجد، معظمها يعود إلى العصر العثماني. تلك المساجدُ مدهشة، تنطوي على فرادة وابتكار وإبداع في نمط عمارتها. أروع ما تُفصح عنه شخصية المكان وهُوية هذه المدينة أنها مرآةُ الشرقِ في الغرب ومرآةُ الغرب في الشرق. مناخاتها الإسلامية الفوَّاحة فجَّرت المكبوتَ من أشواق الرُّوح وذكرياتها، فطلبتُ من صديقي مراد ولي، وهو دليل سياحي تركيٌّ، وخبير بتاريخ الدولة العثمانية، أنْ يدلَّني على خانقاه المتصوِّفة المَولَوية في إسطنبول. وسألته هل عاد المَولَوية إلى مجالس الذكر الخاصة بهم، بعد أن أغلقها أتاتورك، هذه المجالس المصحوبة بالموسيقى، والابتهالات، والرقص الصوفي على أنغام الناي؟ فهاتَف مراد أحد زملائه الذي أخبره بوجود ملتقًى للمَولَوية في معظم أيام الأسبوع، يجري فيه كلُّ ذلك. وحدَّد العنوان في منطقة «سركه جي» القريبة من جامع السلطان أحمد وآيا صوفيا.
ذهبتُ في الليلة التَّالية إلى خانقاه المَولَوية، المبنى أثري يعود للعصور الوسطى، حافَظوا على نمطه التقليدي، توافد عليه عشراتُ الناس، معظمهم من الشباب، إناثًا وذكورًا، ينتمون إلى إثنيَّات متعدِّدة، ما خلا العرب. بدأ المشهدُ الساعة السابعة والنصف مساءً، بموسيقى دينية، تعزفها فرقة ترتدي لباسًا مميَّزًا يتناغم وإيقاع الموسيقى. ضمَّت الفرقةُ عازفتين من بين مجموعةِ رجالٍ. تناغمتْ مع أوتارِ العازفين ألحانُ أذكارهم، بالتركية تارة والعربية تارة أخرى، ثم خرج من الباب الخلفي عدد من الشباب يمشون بخطًى واثقة، يكلِّلهم صمت هادئ، يبوح بلغة لا نفهمها، تبعث الخشوعَ والطمأنينةَ في النفس. جلستُ فيما يشبه المسرح المحاط بحلقات دائرية للحاضرين، الأنوار خافتة، بدا المشهد رؤيويًّا يفوح بالمعنى، يتداخل فيه الجمالُ بالجلال. اصطفَّ الدراويشُ على شكل هلال، أدَّوا حركات تجسِّد صورة مدهشة لمسرح الجسد الرُّوحي، حركات تحاكي الركوع والسجود والصلوات. تحدَّثتْ فتاة مسئولة عن تنظيم وإدارة المكان قبل العرض باللغة الإنجليزية، فقالت: ينبغي أن يلتزم الحاضرون الصمتَ، ويكفُّوا عن أي محاولةٍ للتصوير، أو التصفيق، أو الضوضاء. وكأنها تنبهنا إلى أننا في مجلس للذكر، وأن هذه الجماعة تمارس طقسًا صوفيًّا مشبعًا بالمعنى، وتدعونا لفهم لغتهم وتعبيراتهم، والتأمُّل في وسائلهم للتواصل مع عوالم الغيب، وتَساميهم وتَجرُّدهم من دنيا المحسوس إلى الشهود والكشف الملكوتيِّ، وارتواء ظمئهم الأُنطولوجي للمعنى، في عالم تفتقر فيه حياتُنا لما يخلع عليها معنًى.
بعد سلسلةٍ من الإيماءاتِ والحركات الموحية استغرقت خمس عشرة دقيقة تقريبًا، عادت المجموعةُ من حيث أتتْ، وخرجوا علينا مرتدين ثيابًا بيضًا، واسعة فَضفاضة من أسفلها، أطلُّوا علينا وكأنهم ملائكةُ الرحمة، تعالتْ أنغامُ فرقةِ العزفِ وابتهالاتُها، بألحانٍ تتناغمُ مع المشهد المُضيءِ للدراويش، الذين انخرطوا واحدًا تلو الآخر في حركاتٍ دائريَّةٍ تتسارعُ بالتَّدريج، تشرع فيها الأيدي نحو السماء، في ضراعات مستسلمةٍ للحقِّ، وطامحة للاغتراف من معينِه الذي لا ينضب. إنهم بمثابة ما رسمه مايكل أنجلو وليوناردو دافنشي ورُفائيلو من صور لملائكة تطير نحو الملكوت الأعلى. تتابعت الرقصات في أربع جوْلات، كل واحدة منها ترمز لسلام: الرقصة الأولى ترمز إلى السلام الأول، وهو يعبِّر عن إدراك الإنسان لعبادته لله تعالى. بينما تعني التي تليها السلامَ الثاني، أي الشعور العميق بعظمة الحقِّ وجلاله. أمَّا الرقصة الثالثة فتشير إلى السلام الثالث، وهو شهود جمال الحق وتذوُّق وِصاله. إنها سياحة من نوع الهيام والوجد في جماله. الجولة الرابعة من الرقص تعني السلامَ الرابع، وهي تُفضي إلى انقياد العاشق التامِّ لمعشوقه، بمعنى عودة الإنسان إلى وظيفته الكامنة في خلقه باستسلامه للحقِّ. استمرَّ المَولَويةُ لمدةِ ساعةٍ بجولاتهم ورقصاتهم المدهشة، وسكراتهم الرُّوحيَّة.
ساد مكانَ العرض الخشوعُ، حين تناغمتْ ألحانُ وأذكارُ وموشَّحاتُ الفرقة الموسيقية، فاتَّصل إيقاعُها مع السلامات الأربعة أو الرقصات الأربع للمَولَويَّة، وأكاد من فرط انفعالي وتأثُّري حتى هذه اللحظة، كلما تداعى إليَّ المشهدُ ينتابني انشراحٌ وابتهاجٌ وتسامٍ.
تُسَمَّى الحركةُ الدائريَّة للمَولَوية: «رقصة السماح»، ولعلها تحريف للسماع الذي يقترن عادة بها، أي يستمع الأذكار والمواجيد، يستسلم فيها المَولَوية بضراعةٍ وخشوع للحق، باسطين أيديَهم. ترمز اليدُ الأولى في إشارتها للسماء إلى الجنة، بينما ترمز الثانيةُ في انخفاضها نسبيًّا عنها إلى الدنيا. و«السماح» ارتياض خاصٌّ يهدف لاكتشاف خلود الرُّوح، والسعي إلى تحويلها رُوحًا عاشقةً للحق، عبر الاستغراق بالذكر والموسيقى والرقص، وخلق فضاء جميل تهيمن عليه كيمياء معنوية، تعمل على تسامي الرُّوح وإشراقها، بنحوٍ تصبح معه مرآة يتجلَّى فيها العالمُ بتمامه، فإن «العالم عندما خلقه الله كان شبحًا لا رُوح فيه، فاقتضى الأمرُ جلاء مرآةِ العالم، فكان آدم عين جلاء تلك المرآة، ورُوح تلك الصورة» بحسب ما يقول محيي الدين بن عربي.
جوهرُ العرفان والتصوف واحد، وإنْ تغايرتْ لغاتُه، وتعدَّدتْ رموزُه، واختلفتْ رسومُه، فما شاهدتُه في السَّلامات الأربعة يتماهَى مع رؤيةِ الشيخ محيي الدين بن عربي للأسفار الأربعة، عندما يرحل السالكُ فيها من العالَم السُّفلي إلى العالَم العُلوي، فيسافر في قوس الصعود من عالم المادة لتنتهي رحلتُه إلى الحقِّ تعالَى، وهي رحلة رُوحيَّة ارتقائيَّة تكامليَّة، يطوي فيها السالكُ إلى الحقِّ أربعة أسفار في مدارجِ تكاملِه المعنويِّ، يمر عبرها بعدة منازل، ويرتقي من مرحلة إلى أخرى. يتسامى من الدنيا إلى ما هو أسمى وأكمل من السابقة، وهكذا حتى يصل إلى غايتِه التي هي مُنْتَهَى كلِّ غاية، وهو الحقُّ سبحانه.
هذه الأسفارُ نسج في إطارها الفيلسوفُ صدر المتألهين الشيرازي المعروف بمُلَّا صدرا ترتيبَ كتابه «الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة»، طبقًا لمراحلِ السَّير السلوكيِّ والآثار العملية للعارفين، لذلك عمل على تقسيم الكتابِ إلى أربعةِ أقسامٍ؛ كلُّ قسم يمثِّل سيرًا علميًّا نظريًّا يوازي السيرَ العمليَّ للعارف: السَّفَرُ الأوَّل «من الخلق إلى الحق»، أما السَّفَر الثاني فهو «من الحقِّ إلى الحقِّ بالحقِّ»، بينما يكون السفرُ الثالث «من الحقِّ إلى الخلقِ بالحقِّ»، وتُخْتَتَمُ الأسفارُ بالسَّفَرِ الرَّابع «من الخَلْقِ إلى الخَلْقِ بالحقِّ».
يخيَّل لي بعد أن رأيتُ الطقوس الرُّوحيَّة للمتصوِّفة المَولَويَّة، أنهم يجسِّدُون في طقسِهم الصياغةَ النظريةَ لهذه الأسفار حركيًّا وشعائريًّا، من خلال السلامات الأربعة، إذ تتوهج أرواحُهم وتشتعل أحاسيسُهم حتى تصلَ إلى حالةِ السُّكْر. فالسلامات الأربعة للمَولَوية، وهكذا الأسفارُ الأربعة لملا صدرا، كلُّها تصدر عن مرجعيَّة واحدةٍ، تحيلُ إلى محيي الدين بن عربي، وميراثه الرُّوحاني الرؤيويِّ المعرفيِّ الرَّحْب.
الحركاتُ الدائريَّة في السلامات الأربعة تُحَاكِي الحركاتِ الدائريَّةَ الفلكيةَ. المَولَوية فيها يحاكون إيقاعَ تسبيح كائناتِ الطبيعة، ويتناغمون مع وجهتها، بغية التواصل الحيِّ والالتحام العضويِّ بما حولهم، وبالتالي الارتقاء في مدارجِ الصعود إلى العالَم الربوبيِّ، وشهود الحقِّ.
٢
ذاكرة إسطنبول الإسلامية، وآثار التصوُّف ومناخاته الشائعة في تركيا، وحضوري مجلس المَولَوية، وموسيقاهم ورقصاتهم الموحية. هذا الطقس البهيج غريب عليَّ؛ ذلك أنَّ كثيرًا من الطقوس التي شهدتُها في حياتي اقترنتْ بالتراجيديا والحُزن والدُّموع، وقلما تقترن بالفرح. كلُّ ذلك أوقد أمنية قديمة طالما هاجتْ في نفسي كلَّما تذكرتُ «قونية»، وهي زيارة مرقد جلال الدين الرومي، الذي يسميه مريدوه الأتراك «مولانا»، ويسمى في بلاد فارس «مَولَوي»، ويُعرف أيضًا في أفغانستان ﺑ «البلخي»، وفي أوروبا والغرب ﺑ «الرومي». والرومي نسبة إلى بلاد الروم، حيث عاش معظمَ حياته في «قونية» عاصمة سلاجقة الروم.
وُلد جلال الدين محمد بن بهاء الدين محمد بن حسين الحسيني الخطيبي البكري في بلخ، المقاطعة التابعة الآن لأفغانستان، يوم ٦ ربيع الأول ٦٠٤ﻫ، الموافق ٣٠ سبتمبر ١٢٠٧م، وغادرها بمعيَّة أبيه بعمرٍ يقارب الثلاث سنوات، هربًا من الغزو المغوليِّ، واستقرتْ عائلتُه في بداية الأمر بنيسابور، وفيها تعرَّف الرومي — كما يُقَال — على الشاعر الفارسي فريد الدين العطار، الذي أهداه ديوانه «اسرار نامه»، ولعله أثَّر في تغذية نزعتِه الصوفيَّة باكرًا، وغوصه في التأمل الرُّوحي، ودفعه للاستغراق في المتخيَّل الشِّعري الوجداني. غادر بمعيَّة أبيه وعائلتِه نيسابور إلى بغداد، ومكث أبوه في المدرسة المستنصريَّة، لكنه لم يستقرَّ طويلًا، فغادرَ إلى مَكَّةَ، وهناك لُقِّبَ ﺑ «جلال الدين»، ومنها إلى الشام، الَّتي أَمْضَى فيها سبعَ سنوات، وفيها تُوفيتْ والدتُه، وأخيرًا وفد إلى قونية، بمعيَّة والده، حين دعا الحاكمُ السلجوقيُّ للأناضول علاءُ الدين كيقباد والدَه لإدارةِ مدرستِها، سنة ١٢٢٨م.
مضافًا إلى تعلُّم مولانا على يد أبيه، درس التصوُّفَ والمعارفَ الإسلاميَّةَ لمدَّةِ ٩ سنوات عند سيد برهان الدين محقِّق، وبعد وفاة الأخير في عام ١٢٤٠م، توجَّه إلى دمشق ومكث فيها أربع سنوات؛ ينهل من أعلامها، ويغذِّي تأملاتِه الوجدانية في حواضرها العلميَّة، ومجالاتها التأويليَّة الخِصبة، المشْبَعة بما أفاضه الشيخُ محيي الدين بن عربي في ذلك العصر، من رؤية لاهوتية معنويَّة، وآفاق رُوحيَّة ثريَّة للمعنى. وبعد أن نضجتْ تجارِبُ الرومي، وتراكمتْ خبراتُه، وغاص في عوالم المعنى، عاد ليُمضي ما تبقى من حياته في قونية، ومكث فيها حتى وفاته في ٥ من جُمادَى الآخرة لعام ٦٧٢ﻫ، الموافق ١٧ من ديسمبر ١٢٧٣م.
كما نظَم «المَثْنَوي المعنوي» في ٢٥٦٤٩ بيتًا، ويعبِّر عنه أحيانًا ﺑ «صَيْقَل الرُّوح». وهو عمل مكثَّف لامع، من أغزر منابع إلهام إنتاج المعنى في الميراث البشريِّ. يضمُّ المثنويُّ ستةَ دفاتر، هي بمجموعها دائرة معارف غنيَّة، تشتمل على: رؤًى عرفانية، مفاهيم أخلاقية، قيم جمالية، مقولات إنسانية، أناشيد للحب والوجد والهيام، سمفونيات عاشقين، مسالك وأساليب للارتياض الرُّوحي، لوحات لابتسامة الله ورأفته ورحمته، تأويلات للقرآن والحديث … وغيرها. كل ذلك أفاضتْه المخيِّلةُ الشعريَّةُ لمولانا، بتعبير ميسَّر، لكنَّه رؤيويٌّ، وأسلوب سهل لكنه ممتنع، يلامس وجدانَ وضميرَ كافَّةِ البشر، ولا يقتصر على النُّخَبِ أو أتباع ديانةٍ معيَّنة. إنه مدوَّنة للعشقِ الإلهيِّ تتَّسم بفرادة، تعمل على تأويل مختلِف النصوص المقدَّسة، عبر استلهامها وتمثُّلها رُوحيًّا، وسكبها في تجرِبةٍ رُوحيَّة عميقة، والتحدُّث عن هذه التجرِبة بموسيقى شِعريَّة فاتنة، تستلهم كلماتٍ وأمثالًا وحكايات، مستقاة من حياة الناس. المَثنَوي كتاب في التفسير والتأويل على غير الأنساق المتداولة في ذلك؛ ذلك أنَّه يعيد صوغَ استشراف آفاقٍ جديدة للدين ونصوصه، تُنتج للحياة البشرية معنًى، تفتقده المصنَّفاتُ الأخرى في هذه المجالات، وتفيض على الإنسان وعيًا إيجابيًّا وأحلامًا متفائلة، تنقذه من ضيقِ تفسيراتِ النصوص وفهمها حرفيًّا. من هنا يُنشد الجامي — وهو من أبرز شعراء العرفان بالفارسيَّة — في توصيف مولانا وكتابه المثنوي، ما ترجمته:
اخترق جلال الدين الزمانَ والمكانَ، وخلَّده عشاقُ عوالمِ الملكوتِ وما وراء المادَّة، وارتبطتْ به أجيالٌ من مختلِف المذاهب والفِرق والأديان والإثنيَّات، وذوي التجارِب الدينية بكافَّة ألوانها وتعبيراتها، والمتصوِّفة خارج إطار الأديان. مما دعا منظمةَ اليونيسكو إلى اعتبار العام ٢٠٠٧م عامًا دوليًّا للاحتفال بمناسبة مرور ٨٠٠ سنة على ولادته، وورد في بيانها بهذه المناسبة وصفُها لجلال الدين: «إنه كان ولا يزال أحدَ المفكِّرين والعلماء الكبار الذين أثْرَوا الحضارة الإسلامية. هو شاعر عالمي، إذ تعتبره الشعوبُ في كلٍّ من أفغانستان وجمهورية إيران الإسلامية وتركيا شاعرَها. كان في شعره يخاطبُ البشريَّةَ جمعاء.»
٣
في الثامنة صباح الأحد ٥ / ١٢ / ٢٠١٠م وصلتُ مطار «قونية» قادمًا من إسطنبول. كانت صورة رقصة الدراويش المَولَوية هي رمزٌ يرتسم حيثما ذهبتُ في هذه المدينة، إنها بصمة وشعار «قونية»، رافقتُ على متن الطائرة زوَّارًا من جنسياتٍ وبلدانٍ وأعراقٍ متنوِّعَة. ذهب معظمُنا إلى ضريحِ مولانا، لافتاتُ صُوَرِ المُتَصَوِّف المَولَوي الراقص تواكب مسارَنا على طول الطريق الممتدِّ من المطار إلى ضريح مولانا، وجدتُ نفسي للمرة الأولى أمام نَموذج مختلِف للطقس، لا يكرِّر ما تعلَّمتُه في الدرس الفقهيِّ، وحالة تديُّن أخرى تتصاعد فيها أشواقُ الرُّوح، لتتناغم مع إيقاع تسبيح أوتارِ المخلوقاتِ جميعًا. لمحتُ قبَّةً خضراءَ تُحاكِي القبَّةَ الخضراءَ في المدينةِ المنوَّرَة على قبر رسول الله (ص)، غير أن لهذه القبَّة طرازًا يجمع بين المنارة والقُبَّة، لم أرَ مثلها من قبل، دخلتُ الصَّحن الذي يحيط بضريح مولانا من بابٍ خلفيٍّ، في المحلِّ الذي توقَّفتْ فيه السيارةُ، كان البابُ مغلقًا، فوقفتُ برهةً متسائلًا عن بوَّابةِ الدُّخول، بادرتْ سيدةٌ متوسطة العمر عليها سِيماء الصالحين، وجهها يتهلل بالتفاؤلِ ويشرقُ بالنُّور، مبتسمة للحياة، لم يشغلها الذكرُ والتسبيحُ عن مساعدتي، فسارعتْ لفتحِ البابِ. لم تطلُبْ مني الدخول من الباب الآخر الخاصِّ بالزائرين لبُعده، ثم انصرفتْ تدعو لي بعباراتٍ دافئة رقيقة، تستلهم ضراعاتِ ومواجيدَ وأذكارَ المرتاضين. دخلتُ الضريح مع جمهورٍ غفير من النساء والرجال، شبابًا وشيوخًا، خُطَّتْ على بابِه أبياتٌ بالفارسيَّة، تقول: «أنت هنا في كعبة العُشَّاق، وما يَهَبُ النَّاقصين كمالَهم.» كأنِّي أقرأُ مصطلحَ «كعبة العشاق» للمرة الأولى في حياتي، بالرغم من شغفي بالموروث العرفانيِّ والصوفيِّ وعودتي إليه باستمرار، إلا أني أحسستُ بصوتٍ يستفيق في داخلي يحدِّثني عن أنِّي في هذه اللحظة أكتشف تلك القراءة للدين وتجسيده العمليِّ الذي تفتقر إليه مجتمعاتُنا، فهم جميل للدين يتسامى به إلى تجرِبةٍ رُوحيَّة مضيئة، يصبح فيها الإيمانُ ضربًا من الحُبِّ، والتديُّن ضربًا من التَّراحُم. طالما اطَّلَعْتُ على أمثلةٍ لذلك في التَّاريخ، كلَّما قرأتُ الحلاج وأبا يزيد البِسطامي ومحيي الدين بن عربي وغيرهم، في هذه اللحظة أعثر على مواطن العاشقين، وأتلمَّس آثارَهم، وأتحسَّس مواجيدَهم، وأستمع إلى أنغامهم وألحانهم، وأشمُّ عبيرهم، وأقترب من مائدتهم، وأنزل ديارَهم.
كل شيء داخل الضريح يحافظ على طابعه القديم، وبساطته وتجريده، قبر مولانا يكلِّله غطاء تتعانقُ فيه مجموعة ألوان، تحيلُنا إلى الألوان المتداولة لدى المتصوِّفة، تعلوه قلنسوةٌ، تُماثل ما كان يعتمره في حياته، وتحيطه مجموعةُ قبور صغيرة لأبنائه وبعض مريديه وتلامذته. كُتب على ضريحه بيت من الشعر بالفارسية، يقول:
كلما تقدَّمتُ خطوةً نحو ضريحه خنقتْني العَبرةُ، وحين وقفتُ أقرأ له الفاتحةَ أجهشتُ بالبكاء، لا أعرف لماذا؟ شعرتُ بأنَّ هذا البكاء ليس حزنًا، ولا سيما أنَّ مولانا يوصينا بالابتعاد عن الحزن، فإن: «من يستبدُّ به الحزنُ لا ينال مائدةَ الحقِّ.»
فضاء المرقد رؤيويٌّ مُلْهِم، نَغَمُ النَّاي المتواصل فيه يملأ محيطَه بسحرٍ تضيق العباراتُ عن توصيفه. استفاق الكائنُ الميتافيزيقيُّ في أعماقِي، أدركَني خشوعٌ أضاءَ رُوحي، كأنِّي شربتُ كأسًا أشبعتْ ظمئي إلى عالم المعنى، لم ينتجها التديُّنُ الشائعُ في المجتمع الذي انتسبتُ إليه، مع أنِّي طالما تعطَّشْتُ إلى أمثالِها في بحرِ التديُّن الذي يَغرَق فيه مجتمعي، لكن من دون جدوى، حتى كدتُ أفتقدُ رُوحِي، لارتيابي في أنَّ صورةَ التديُّن التي أفتِّش عنها حلمٌ بعيدُ المَنَالِ.
ضريحُ جلال الدين وَهَبَنِي أملًا وحلمًا وثقةً بأنَّ ما كنتُ أفتِّش عنه حقيقة وليس وهمًا، وجدتُ صورةَ الحقِّ الجميل، المعشوق، الرحمن الرحيم، الذي أكرم خلقَه بمائة رحمة؛ «واحدةٍ منحها لنا في الدُّنيا، بينما ادَّخر ما تبقَّى للآخرة»، بحسب ما يروي لنا العارفون عن النَّبيِّ الأكرم (ص).
المتحف المجاور للضريح عُرِضَتْ فيه نسخ مخطوطةٌ عدَّة من «المثنوي»، والديوان الكبير «ديوان شمس تِبريز» لمولانا، ومصاحف، وأدوات ووسائل زهيدة يستخدمها المَولَويَّة في تدبير عيشهم وحياتهم، تعود إلى فترات مختلِفة، قرأتُ بتأمُّل شيئًا من صفحات مخطوطة المثنوي المعروضة وراء الزجاج، وكأني أقرؤها للمرة الأولى في حياتي، لاحظتُ تَكرار كلمات: عشق، عاشق، معشوق، ومرادفاتِها، وما يُفْضِي إليها من مداليل، مثل: حب، حبيب، محبوب، وصال … وأمثالها. رُحت بعد عودتي من «قونية» أتفحَّص «المثنوي» وديوان «شمس تِبريز»، فبهرني حضورُ هذه المفردات بشكل مُلْفِت، رأيتُ مثلًا كلمةَ عشق تتواردُ في بعض الأبياتِ مراتٍ عدَّة، وربما في شطر أو عجُز البيت تكرَّرَتْ أكثر من مرة، (تكرر ذكرُها ثلاث مراتٍ في شطر البيت ٣٢٢١٠ من الديوانِ الكبير). حينئذٍ أدركتُ لماذا اعتبر سعدي الشيرازي جلالَ الدين الرومي أهمَّ شاعر غزل بالفارسية، وصنَّفه النقادُ الخبراءُ بالأدَبِ بأنَّه «شاعرُ الشُّعراء».
إن جلال الدِّين الرومي اشتقَّ مذهبًا جديدًا في تأويل الدِّين ونصوصِه، يمكن تسميتُه ﺑ «مذهب العشق»؛ مذهب تتغلَّب فيه الرُّوحُ على القانون، ماهيَّتُه التَّراحم والمحبة، تتَّسع مدياته الإنسانية، بنحوٍ يحرِّر البشريَّةَ من العُدوان والتعصُّب، ويفتح آفاقَ التَّواصُل والتَّفَاهُم بين مختلِف المجتمعات. إنَّه عابرٌ للأديان والثقافات، ليس نفيًا للأديان أو مناهضة لها، وإنَّما هو تعبيرٌ عَن المضمونِ العميقِ للأديانِ، إنَّه مرتبة متعالية من المعنويَّة والرُّوحانيَّة، تستوعب جوهرَ الأديان، وكأنَّه يُحَاكِي ما يذهبُ إليه الشيخُ محيي الدين بن عربي، عندما يعبِّر عن ذلك بوضوح:
دين يتأسَّس على الحبِّ والعشق والفن، ينشد الجمالَ، تبدو تمثُّلاته في الرَّقص والموسيقى والسماع، ويسكبها في قوالبِ الطقوس والعبادات، فتغدو سُلَّمًا للوصال مع الحقِّ، والمعروف لديهم أنَّ «مدارج السالكين إليه بعدد أنفاس الخلائق.» ينأى هذا التديُّن عن كلِّ ما مِنْ شَأْنِه أنْ يقودَ إلى القتل والموت، ويسمِّم الحياةَ بالحُزْنِ، ويلوِّث عوالمَ المَعنى بالدَّمِ المسفوح، لذلك لا نعثر على دعواتٍ للكراهية هنا، قد نجد من يشير إلى كراهية الخطيئة، بيد أنَّهم لا يكرهون الخاطئَ، بل يشفقون عليه. ذلك أنَّ معتقدَهم ينبثق عن «لاهوت الشفقة». لم يتحدَّث جلال الدين الرومي عن القتل، لم يطلب منا إعلانَ الحرب على الخطاة، ومن يختلفون معنا في المعتقد.
تمحورت رؤيةُ مولانا للدِّين بالحُبِّ والعشق، أصبح العشقُ لديه القوةَ المحرِّكةَ للحياة الرُّوحية، والكيمياءَ السحريَّةَ التي تتحوَّل بواسطتها مادةُ العناصر الخسيسةِ إلى مادَّةٍ نفيسة نادرة؛ ينشد مولانا في المثنوي:
ويستعيد مولانَا الرُّوحَ الإنسانيَّة الفيَّاضةَ لبعضِ المتصوِّفة، مثل رابعة العدوية، ولكن بأحاسيس أبعد مَدًى، عندما ينظر إلى الشيطان بمشاعر عاشق، ويصف الأثرَ السحريَّ للعشق وكيميائِه في تحويلِ عناصر الأشياء ليتبدَّل قبحُها جمالًا، إذ يقول:
كلُّ عامٍ يحتفِلُ مريدو مولانا بما اصطُلِح عليه «ليلة العرس». وهي ليلة وفاته، فقد اجترحوا تقاليدَ بديلةً للعزاء احتفالًا بهذه الذكرى سنويًّا، واعتبروها بمثابة ليلةِ العيد، تبعًا لما صرَّح به مولانا، من أنَّ «ليلة وفاته هي ليلةُ عُرْسِهِ»؛ لأنَّها ليلة الوصال، ولقاء الحبيب بحبيبه. يتوافد عشراتُ الآلاف من أَتْبَاعِ مولانا إلَى «قونية» في مثل هذه الليلة من شتَّى البلدان، يستمر الاحتفالُ لمدَّةِ ثلاثِ ساعاتٍ في مسرح واسع، تحضرُه شخصيَّاتٌ مهمَّة. في ١٧ / ١٢ / ٢٠١٠م من هذا العَام حضر الحفل وتحدَّث فيه: رئيسُ الوزراء رجب طيب أردوغان، ووزيرُ ثقافته، ورئيس الشئون الدينيَّة، ورئيس حزب الشعب المعارض، وغيرهم من الشخصيات التركية. بدأ الحفلُ بالإنشادِ الدِّيني، تلاه العزفُ الصوفيُّ على النَّاي، ثم النَّعت الشريف، أي المديح المعروف في مجالس الصوفية للنبي الكريم (ص) بإنشادهم، وقدَّم عددٌ غفيرٌ من المَولَويَّة عرضًا للرقَصات المعبِّرة عن السلامات الأربعة، وأخيرًا تلاوة الكتاب والفاتحة والتكبير.
ما أدهشني وآلمني أثناء زيارتي لمولانا، وكذلك في رحلتي إلى «قونية» ذهابًا وإيابًا من إسطنبول، أنِّي لم ألتقِ بأحدٍ من أهلي «أبناء يعرب»، مع أنِّي التقيتُ زوارًا من جنوب شرقي آسيا، إيران، أوروبا، تركيا، وسواها من البلاد غير العربية. قلتُ لنفسي: لعلها «الفروسية والخيل والليل والبيداء والرمح والسيف»، ألهَتْهُم عن أيِّ فهمٍ للدِّين يتجاوز ذلك، ولا أدري إنْ كان ذلك سببًا لانحدارِ معظم أصحابِ الاتِّجاهات الصوفية والعرفانية والإشراقية في الإسلام من مواطنَ بعيدةٍ عن الصحراء والجزيرة العربية، مثل: «سُهْرَوَرْد» قرية شيخ الإشراق شهاب الدين السُّهْرَوَرْدي، «مُرْسِيَة» في الأندلس مدينة محيي الدين بن عربي، «بَلْخ» مسقط رأس جلال الدين الرومي، «شيراز» مدينة حافظ وسعدي، «نيسابور» مدينة العطَّار، و«قونية» موطن صدر الدين القونوي، ومَثْوَى الرومي وعدد من الأولياء الصالحين.
ترك لنا مولانا الرومي منظومةً غنيَّةً، تنفتح على حقول متنوِّعةٍ في المعارف الدينية، نحن بأمسِّ الحاجةِ إليها في عصرٍ تَغَلَّبَ فيه فهمٌ حرفيٌّ قشريٌّ مغلق للنصوص، أفضى لصوغ لاهوتٍ يضجُّ بمقولاتِ الكراهيةِ والتعصُّبِ والعُدوانِ.
ميراثُ جلال الدين الرومي يلهمُنا مفاهيمَ ومقولاتٍ ورؤًى تنشد احترام كرامةِ الكائن البشريِّ، ترسِّخُ النَّزعة الإنسانيةَ في الدِّين، تُشبع حياتَنا بالمعنى، تَخْلَعُ على دنيانا صورةً أجمل، تهبنا أفقًا بديلًا للتَّواصل مع مُخْتَلِفِ أتباعِ الأديانِ والفِرَقِ والمذاهب، فلا تضيق مجتمعاتنا وتنفجر بمكوناتها التاريخية العقائدية والإثنيَّة، ويتأسَّسُ ما يمكن تسميته ﺑ «لاهوت الشفقة، الرحمة، المحبة، العشق، الجمال، الفرح، الحياة، الابتسامة، الأمل، الاختلاف، التنوع، التعددية، اللاهوت الإنساني»، الذي يكمن فيه سبيلُنا للخلاص من «لاهوت الكراهية، نفي الآخر، الموت، الحزن، البكاء، التشاؤم».
مولانا قصيدة الله الغزلية، حيث نُنشد هذه القصيدة تنقدح نورًا يتلألأ عشقًا، يعانق الجمال والجلال الإلهي ويضيء دروب الحياة للإنسان. مولانا سيمفونية تعزف ألحان الكون وصدى أرواح العشاق، وأنشودة التراحم. كتابه المثنوي قيثارة العشق، أشعاره تخاطب القلب وتأسره، تنفذ إلى الوجدان، وتصطاد الرُّوح، من دون المرور بالعقل، تصدح فيها أنغام الناي، وتعزف ألحانًا تتجاوب مع إيقاع الكون، تجعلك تتغيَّر بسرعة، يشتعل فؤادُك بمحبة الحق، فتتسع هذه المحبة لتستوعب كلَّ الخلق، يتبدل اغترابُك عن محيطك إلى ألفة وانسجام وتناغُم، تصير مثل طفل لا يشبع من الدُّمى، ولا يكفُّ عن المرح، يبتسم للحياة، فيبتسم له اللهُ، يتعطَّش للمعرفة واكتشاف العالم، يبتهج لما يراه، ففي الارتواءِ بعد العطش ذروةُ النَّشوة.
الزِّيَارَةُ الثانيةُ
٤
بعد مضي سبع سنوات تقريبًا على زيارتي السابقة، زرتُ إسطنبولَ مرة أخرى، ومكثتُ فيها مدةً تقارب عشَرةَ أيام. أول ما أنعشني فيها الطقسُ الذي يبلغ التفاوتُ بينه وبين لهيبِ القيظ ببغداد ما يزيد على عشرين درجة. لا تتخطَّى درجةُ الحرارة الثلاثين، نهارًا، في هذه المدينة، وتلبثُ في حدود العشرين، ليلًا، هواءٌ لذيذٌ، مشبَّعٌ برطوبة ليست خانقةً كما هو حالُ معظم المدن الساحلية والمناطق المشاطئة للمساحات المائية الواسعة.
كلَّ مرة ألمح في هذه المدينة العريقة في ماضيها، آفاقًا تضيء الذاكرةَ بالفنون البيزنطية والإسلامية، وتتردَّد فيها أصداءُ آلاف المنائر المهيبة للمساجد، وفرادة أنماط عمارتها، وكيف يتناغم فيها إيقاعُ فنون بيزنطة المسيحية بموازاة الفنون التركية الإسلامية.
إسطنبول من أجمل المدن التي رأيتُ، أقرأ في وجوهِهَا لغةَ الشرق تتحدث للغرب، ولغةَ الغرب تتحدث للشرق. وأستمع إلى صوتها وهو يُنشد ماضيَ الشَّرق في الغرب وحاضرَ الغرب في الشرق. إنها مدينةٌ عنيدةٌ صمدتْ في وجه أعاصير عاتية وحروب مهولة، وظلَّتْ على الدَّوام تنتفضُ من رماد حروبها وزلازلها ومواجعها، لا تربكها ذاكرتُها الحزينة، ولا تغرقها بالأسى دموعُ جراحِها. كلَّ مرة أزورها أجدها مدينةً مولعةً بالبناء، وتجديدِ حياتها، وإضاءةِ دروب تقدُّمها.
إسطنبولُ مدينةٌ تحتفي بجمال طبيعتِها، وتشرق بالإيقاع الموسيقي المتناغم لأنماطِ عمارتِها، وتشمخُ بجلالِ جوامعها، وكأن منائرَ هذه الجوامع تروي حكايةَ ضمير إسطنبول وقصةَ صمودِها عبر التَّاريخ، إذ تهيمن الجوامعُ ومنائرُها على إسطنبول، وهي تجلس على قمم تلالِها السبع.
لو غضضْنا النظرَ عن استبدادِ كمال أتاتورك، على الرغم من أنِّي أمقتُ الاستبدادَ، وأعمل على مقاومته بكلِّ أشكاله وأقنعته وتعبيراته الدينية والسياسية والاجتماعية التي يختبئُ خلفها، لكن لولاه لما استطاع حكَّامُ تركيا من بعده بناءَ أيِّ شيء، إذ يبتني كلُّ بناء على بنية تحتية، وقد استطاع أتاتورك خلقَ بنية عميقة صُلبة لدولة حديثة على أشلاء الإمبراطورية العثمانية العتيقة المريضة المتفسِّخة.
في زياراتي للبلدان الحديثة أجدها مولعةً بالذاكرة المُلهِمة، وتحرص على محو بقايا الذاكرة القاتلة، في حين نحن مولعون بالذاكرةِ القاتلة، ونهمل الذاكرةَ المُلهِمة. كلَّما غِبتُ عن بلدٍ عدةَ سنوات وجدتُه يتقدم إلا بلدي الذي غِبتُ عنه ربع قرن فوجدتُه قد خرج من العصر، وارتدَّ لعصورِ الانحطاط، ومرحلةِ ما قبل الدولة، وما زال ينوءُ بأثقاله وأغلاله التي ورثها من الصحراء. ولعلَّه سيلبثُ طويلًا لا يشغله إلا إعادةُ تكوين قبائله، من دون أنْ يدركَ حاضرَه أو يغادرَ ماضيَه إلى مستقبله. لم تؤسِّس البلدانُ دولَها الحديثة إلا بعد أن أدركتْ أنَّ الدولةَ ظاهرةٌ مجتمعيةٌ تعبِّر عن مرحلةٍ متقدمةٍ من تطوُّر الوعي البشري، وأنها خلاصةُ تجلِّيات العقل، وعصارةُ خبراتِ الإنسان في تاريخِه الطويلِ.
الدولةُ الحديثة لا يبنيها إلا الخبراءُ، وما دام الخبراءُ ببناءِ الدولة خارجَ إدارةِ الدولة في بلادِنا، والمسئولياتُ الكُبْرَى في الوظائف التخصُّصِيَّة تُعهَد لغير ذوي الاختصاص، فلن نستطيع الشروعَ بالخطوة الأولى نحو الدولة.
أقمتُ في منطقة سلطان أحمد في إسطنبول، على مسافة ٣٠٠م عن الجامع الكبير الذي يحمل اسمَ هذا السُّلطان العُثماني، والرابضِ على مسافة قريبةٍ جدًّا مقابل كنيسة آيا صوفيا، وهي كنيسة بدأ الإمبراطور جوستنيان ببنائها عام ٥٣٢م، واستغرق بناؤها حوالي خمس سنوات، حيث تم افتتاحُها رسميًّا عام ٥٣٧م.
تجذبني في كلِّ مدينة أزورها المتاحفُ والمكتباتُ والمناطقُ الأثرية والمساجدُ والكنائسُ والمعابدُ القديمة، وعادةً ما تتجدَّد زيارتي لها كلَّما زرتُ المدينةَ مجدَّدًا، وغالبًا ما يضجَر مَن يرافقني من هذه العادات التي تأكل الوقتَ كلَّه، ولا تدع فائضًا منه للاستجمام والتسوُّق.
زرتُ من قبلُ كنيسةَ آيا صوفيا والجامعَ الأزرق (جامع السلطان أحمد)، ثم كرَّرتُ زيارةَ هذه الكنيسة والجامع هذه المرة، ومن الغريب أني كلَّما زرتُ أماكن عبادة عظيمة، بناها أباطرةٌ أو سلاطينُ أو ملوك، تملَّكتْني مشاعرُ متناقضة، فتارةً أتفاعل مع جمالِها وجلالِها وبراعةِ المعمار الذي أشاد بناءَها وابتكر طرازَها الفريد، وربما أستحضر شيئًا من حالاتِ الرُّوح لمن أدمن الارتياضَ الرُّوحي والصلاةَ والتهجُّدَ فيها، وتارةً أشعر بالألم والحسرة الموجعة لحظةَ أتذكَّر آلافَ العمال البؤساء، ممن سخَّرهم الحكَّامُ بالإكراه لبناء بيوت العبادة هذه. ترتسم أمامي صورٌ مفزعة لكيفية طحنِ ضلوع بعضهم، ودفنِ جماجمهم تحت كتل حجارتِها المهولة، وكأنِّي أصغي لزفراتهم وأنينهم حين نقلوا تلك الحجارةَ بطرق بُدائية قبل اكتشاف الآلات الحديثة لنقل الكتل الثقيلة.
تحضرني في مثل هذه المواقف الفتوى الأخلاقيةُ المنسوبةُ لبعض متصوِّفة المعتزلة، ممن قالوا ببطلانِ الصلاة في مدينة بغداد، بعد أن أسَّسَها أبو جعفر المنصور، بوصف الصلاة باطلةً في كلِّ أرضٍ مغصوبة، وكان المنصور — كما يُقَال — قد اغتصب هذه الأرضَ من مالكيها من دون أن يعوِّضهم بشيء.
وما زلنا حتى اليوم نصلي في جوامعَ بناها ملوكٌ وحُكَّامٌ غاشمون، ونحن لا ندري كيف تمَّ بناؤُها، ومن هو مالكُ أرضِها قبل أن يغتصبها الحاكم، وما مصدرُ الأموال الوفيرةِ لتشييدِها، وهل بناءُ جامعٍ أهمُّ من إطعام جائع، وهل يجوز اختطافُ لقمةٍ من فم جائعٍ لبناءِ جامع، مثلما كان يفعل صدام حسين أيام الحصار المرير في تسعينيات القرن الماضي، ففي لحظة بناء جوامعه العملاقة وقصوره الباذخة كان يسقط عراقيُّون صرعى من الجوع والمرض بجوارهما، ويَغرَق كثيرٌ منهم في البؤس والفاقة؟!
كم في حياتنا من خداع تمارسه سلطاتٌ مختلفة، تحترف التَّمْويهَ، وتبرع في التزوير. كثيرٌ من السلطات في بلادنا لو أرادتْ تمريرَ فعلٍ يرفضه الناسُ عملتْ على إلباسه رداءً مُضَادًّا لمضمونه، فطالما ارْتَدَتْ صورةَ المقدَّس بغيةَ إخفاءِ المُدَنَّس، والتقوى بغيةَ إخفاءِ الخديعة، والورعَ بغيةَ إخفاء اللصوصية، والقانونَ بغيةَ إخفاء الفوضى، والعدالةَ بغيةَ إخفاء الظلم، والدولةَ بغيةَ إخفاء القبيلة، والوطنَ بغيةَ إخفاء العائلة.
وفي صراعِ الحكومات والجماعات الدينية على احتكار المال والثروة والسلطة خرجَ كثيرٌ من المساجد والأضرحة والمقامات والطقوس والشعائر من وظيفته الدينية، وتم توظيفُ العديد منها سياسيًّا، فأصبح مادَّةً أساسيَّةً في استراتيجيَّات الهيمنة والسُّلطة. كذلك صارتْ أكثرُ هذه الأماكن مثابةً للسياحة، وأضحتْ تؤدِّي وظيفةً اقتصاديةً تتحكَّم فيها معادلاتُ المالِ والسُّوق.
٥
الأماكنُ المشبعةُ بالمعنى عميقةٌ متعدِّدةُ الطبقات بطبيعتها، يحتاج التعرُّفُ عليها إلى مُنَقِّب ماهر، لا يمَلُّ من الحفر في طبقاتها، لذلك لا تكفي زيارةٌ واحدة لاكتشاف مدَياتها، ففي كلِّ زيارة تتحدث طبقةٌ فيها لم تتحدثْ من قبل، وقد تتكرَّر اكتشافاتُها كلَّما تكرَّرتْ زياراتُها.
المكانُ نَصٌّ، فكما يكون بعضُ النصوص هشًّا متشظِّيًا باهتًا لا يُدْلِي بدلالاتٍ متعدِّدةٍ، يكون بعضُها مكثَّفًا رؤيويًّا مضيئًا، كذلك الأماكن، بعضُها هشٌّ مسطَّحٌ باهتٌ بلا ملامح، وبعضُها الآخر يغمرك بحضورِه الطَّاغي، إنها كالشَّلال الذي لا يكفُّ عن التدفق، ولا تنضب طاقتُه المتجدِّدةُ لتوالد المعنى، ولا تَستنفد التفسيراتُ مدلولاتِه، مهما برع المفسِّرون في تأويلِه والغوصِ في طبقاته.
الأماكنُ ليستْ أشياء ميتةً أو جامدةً أو محايدةً أو صامتةً، إنها تتحدَّث إلينا بلغتها الخاصة، ولكلِّ مكان شفراتُه وأسرارُ لغته، فلو أتقن الزائرُ قراءةَ شَفراتِ لغةِ المكان لأمكنه فتح خزائن أسراره. إنها بمثابة القيثارة الصامتة التي لا تبوح بأنغامها إلا للخبير الذي يجيد العزفَ على أوتارها.
الزيارات الهامشية للأماكن لا تَهَبُ الإنسانَ شيئًا، الأماكنُ تحتاج منَّا أن نتوغَّلَ في أغوارِها كي نعطيَها وتعطيَنا، وتُودِعنا شيئًا من معانيها ونُودِعها شيئًا من أنفسِنا، وننتمي إليها بقدر ما تنتمي هي إلينا. الأماكنُ نحييها فتحيينا، نسكنها فتسكننا، نُلهِمها فتُلهمنا. للمكان رُوحٌ يمنح بعضًا منها لكلِّ إنسان على شاكلته، مثلما يمنح كلُّ إنسان الأماكنَ بعضًا من رُوحه على شاكلتها.
اللقاءُ المباشرُ بالأماكن، والتعرُّف الشخصي عليها، يُمكِّن الإنسانَ من اكتشاف أسرارها، ويمنحه متعةَ الاحتفاءِ بها. فقد يستمعُ الإنسانُ في مكان ما إلى لَحْنٍ يُنشد أشواقَ رُوحِه، عندما يجد ذلك المكانَ يتحدَّث إليه بلغتِه. لا يحتفي المكانُ بلقاءِ الإنسانِ إلا حين يشعر بأنه هو أيضًا يحتفي بلقائِه.
حين يقرأ الإنسانُ ما تكتنزه الأماكنُ من دلالاتٍ، ويبرع في تفسيرِها، يجدها تستحثُّ ذاكرتَه، وكأنَّها مَرايا ينعكس عليها شيءٌ من ملامح صورتِه، أو لعلَّه يتحسَّس فيها تمثُّلًا رمزيًّا يروي له شيئًا من حكاياتِ سيرتِه، وربما يجد بعضَ محطَّاتِ سيرته تحكي حكاياتها.
ومع أنَّ هذه الأماكن تبدو بنظرةٍ سطحيَّةٍ صامتةً، لكن لو تبصَّرناها بنظرةٍ مُتَرَيِّثَةٍ نراها تقول لنا ما لا يُقَالُ في الأوراقِ والكُتُبِ. وذلك ضربٌ من القول لا نمتلكه بالقراءةِ أو بتلقينٍ وإملاءٍ.
بعضُ الأماكن — كضريح جلال الدين الرومي — صارت بمرور الزمان موطنًا للمعنى، فما إن تُدفَنَ في مكان ما شخصيَّةٌ رُوحيَّةٌ مُلهِمةٌ حتى تهفو إليه أرواحُ المريدين فتهبط في فنائه وتتَّخذه موطنًا؛ توقًا لأنْ يسقيَ الرُّوحَ شرابُها الذي تهفو إليه، ويفيض عليها شراب سكينته وطمأنينته وسلامه. مثلُ هذه الأماكن يتكرَّس رصيدُها على الدوام بالمعنى بفضل شخصيَّات مُلهِمة تتَّخذها أرواحُها وطنًا، فتسمو بالمكان وتثريه بإلهاماتِ الرُّوح وجذوتها التي لا نجدها في أماكن أخرى.
٦
أدركتُ لحظةَ وصولي إسطنبول أنَّ صوتَ مولانا يناديني، ولا يكفُّ عن الحضورِ العميقِ في وجداني، وكأنَّ هاتفًا يهتف بي أن أُسرعَ للقاءِ صديقِ الرُّوح جلال الدين الرومي بقونية، وكأنِّي ألتقطُ من نبرة صوتِه ما هو مُضْمَرٌ من عَتَبٍ رقيق خفيٍّ؛ أنْ كيف أكون على مَقرُبة منه ولا أسعى للقائه.
شعرتُ بأنِّي إن لم أذهب سأخسر معنًى رُوحيًّا كبيرًا قلَّما أظفرُ به في أماكن أخرى. جلال الدين الرومي وزملاؤه كأبي يزيد البِسطامي والحلاج والنِّفَّري ومحيي الدين بن عربي حرَّروا الدينَ من مضايقِ أفقِ دينِ المتكلِّمين الذي وضع عقلَ المسلم داخلَ أسوارٍ مُقْفَلَةٍ، ودينِ الفقهاء الذي وضع كلَّ قولٍ وفعلٍ في حياة المسلم تحت وصايتِهم داخل دائرة مغلقة، وجعل الرُّوحَ تختنقُ فتستغيثُ من أعباءِ تحريماتٍ لا تعبِّر عن رُوح الشريعة، مثل تحريم أكثر أشكال الفنون الجميلة. وعلى الرغم من أنَّ تلك التحريماتِ لم تَردْ في آيات القرآن الكريم أو في أدلَّة أخرى معتبرة، لكنها تصادر على الإنسان الاستمتاعَ بكل ألوان التعبيرات الجمالية في العالم، التي هي من الحاجات الأساسية لكلِّ كائن بشري، فهو يحتاجها كما يحتاج الخبزَ والماءَ. حاجةُ الإنسان للجمال كحاجته للأمن والحُبِّ والاعتراف، لذلك قادَ الموقفُ التحريميُّ من الجمال وأشكال الفنون كافَّةً كثيرًا من النَّاس للهروبِ من الدين.
زيارةُ جلالِ الدين حسب خبرتي السابقةِ ضَرْبٌ من السِّيَاحَةِ في عوالم المعنى، واقتباسٌ لضوءٍ يشرق على رُوحٍ حزينة، قلَّما يشرق عليها في أماكن أخرى. أنا كائن يباغتُني حُزْنٌ وقَلَقٌ وجودي، لا أعرف منابعَهما، ربما ينبعان من جروحِ طفولتي، وتشرُّدي في فتوَّتي، ربما ينبعان من انطفاءِ أوهامي، وتبدُّد أغلب أحلامي ووثوقيَّاتي التي كنتُ أخالها حقائقَ نهائية في مراهقتي.
لم يخفِّفْ حزني وقلقي الوجوديَّ ويبدِّدْ ظلامَ رُوحي سوى وِصالي مع الحقِّ وزياراتي لبيت الله والمشاهد المقدَّسة، فقد حضرتُ ١٦ مرةً مواسمَ البيت الحرام في مكة حاجًّا ومعتمرًا، وإن كان الإيقاعُ الرُّوحي لهذا الحضور ظلَّ يتراجع ويخبو في رُوحي بالتدريج عامًا بعد عام؛ ربما إِثْرَ غَرَقِي بتطبيق تفاصيل فتاوى تشدِّد على ضرورة الالتزام بالشكل حرفيًّا في مدونة فقه الحج، وتهمل المعنى الذي تبوح به المناسكُ، فقد أطفأتْ تلك التفاصيلُ الفقهيةُ الجزئيةُ الدقيقةُ جذوةَ الحجِّ، وأفرغتْ مناسكَه من أثرها الفاعل في إيقاظ الرُّوح. وربما إِثْر محوِ الصور الأثريَّة التاريخيَّة للبيت الحرام والمعالم العتيقة، وطَمْسِ كلِّ ما ينتمي للنبع المقدَّس في مشاعر الحج بعبثِ البناءِ الحديث وكُتَلِ الخرسانة الميِّتة، فلم تَعُدْ هناك ثيمةٌ رُوحيَّة موحيةٌ تنتمي لذاكرة الحج الموغلة في الماضي، بسبب العمل بفتاوى متشدِّدة ترى في كلِّ احتفاءٍ بأثرٍ مادِّي ينتمي لماضي الرسالة ضربًا من الوثنيَّة، مضافًا إلى جشع رأس المال وتوحُّشه الذي لا يعبأ باحتياجات الرُّوح ولا يحتفي بأيِّ شيء آخر سوى الرِّبح المادي. وربما لأننا نُرْهِقُ الأماكنَ بمتطلَّبات يتعذر عليها الوفاءُ بها، بعد أن نتلاعبَ بهُويتها الرُّوحية، فنختزلها في مكاسبِها الاقتصادية فقط. وربما لأن الاكتشافَ يحدث مرةً واحدة، ونحن دائما نفتِّش عن الجديد في طبقةِ المكان ذاتِها من دون أن نسعى لاكتشاف طبقاتٍ أعمق. وربما لأنَّ المكانَ باتَ غريبًا علينا ونحن غرباء عليه، فلم يعد يتحدَّث إلينا بلغةٍ نلتقط إشاراتِها، ولم نعد نحن نتحدث إليه بلغةٍ يلتقط هو إشاراتِها.
ألهمتْني زيارتي السابقةُ لجلال الدين الرومي الكثيرَ من الثِّقة بقدرةِ الدين على إرواء الظمأ الأُنطولوجي للمقدَّس، والذي لم تَعُدْ معظمُ دراساتي وممارساتي الماضية تفي بها. فقد اكتشفتُ في مفهوم الدين لدى مولانا الرومي ما كنتُ أبحث عنه من منابع إلهام الرُّوح، لكني لم أعثر إلا على ملامح باهتة له في مُدَوَّنَتَي المتكلمين والفقهاء، حتى ظننتُ أنَّ الدينَ ضنينٌ بذلك.
وجدتُ في مفهومه دينًا لا يكره الحياةَ، دينًا لا يخافُ الفنَّ، دينًا لا يزدري الفرحَ. دينُ جلال الدين هو دينُ التَّضامُن ضدَّ الدَّعوة للموت بكلِّ أشكالها، دينٌ ليس على الضِّدِّ من الطبيعة البشرية، دينٌ يدعو للابتهاج، دينٌ يحتفي بالمسرَّات، دينٌ مادَّتُه المحبَّة، دينٌ يهمُّه تطهيرُ القلب من الحقد وجعلُه مِفتاحًا لطهارة الإنسان، دينٌ يرسم بوصلتَه جلالُ الدين الرومي بقوله: «تَوَضَّأْ بالمحبَّة قبل الماء، فإنَّ الصلاةَ بِقَلْبٍ حاقِدٍ لا تجوز».
أظن أن حضورَ الميراث الرُّوحي للرومي هزم الفهمَ العنيفَ لدين البادية السلفي المولع بالموت، ولم يجد الفهمُ الآخرُ المسكونُ بالحزن فضاءً له يتنفس فيه في «حضرة مولانا»، حيث تملأ رُوحَ الزائر أنغامُ صوت الناي الموحية التي لا تكفُّ عن التدفُّق. جلالُ الدين الرومي يوصي زائريه: «أَيْ أخي؛ عندما تأتي لزيارةِ قبري، سيظهرُ لكَ قبري المسقوفُ راقصًا، لا تأتِ لقبري من دونِ دُفٍّ، لأنَّ مَنْ يستبدُّ به الحزنُ لا يليقُ بمائدةِ الحق.»
بعد هذا الحديث ربما يظنُّ بعضُ القراء أنَّ جلالَ الدين الرومي وغيرَهُ من العُرفاء ينظرون للكائن البشري نظرةً رومانسيَّةً حالمةً، لا تعرفُ شيئًا عن طبيعةِ هذا الكائن فتحسب كلَّ إنسان يعيشُ حالةَ طُهْرٍ ملائكيَّة، لكن من يقرأُ آثارَهم بتدبُّرٍ يرى أنهم كما كانوا خبراء بحالاتِ الرُّوح ومكاشفتِها، كانوا خبراء بحالاتِ النَّفْسِ وانفعالاتِها أيضًا، ففي نصوصهم ما يشي بتحليلٍ عميقٍ لطبيعة النفس البشرية، وبصيرةٍ نافذةٍ لما يختبئُ فيها من آلام ومواجعَ وعُقَد، لذلك كان جلالُ الدين وأسلافُه العارفون يعترفون بأنَّ الخطيئةَ من طبيعة الإنسان، إذ ما دام الإنسانُ يعيش في الأرض فهو ينوءُ بأثقالها، ويتعذرُ عليه أن يتعالى على أطيانِها، لكنَّهم مع كلِّ ذلك كانُوا يثقون برحمةِ الله ثقةً لا حدودَ لها، ويرون أنَّها تتَّسِع لأولئك الخاطئين الذين يعفو اللهُ عنهم لو ساروا إليه في أيِّ وقت يشاءون، لذلك يوصي جلالُ الدين كلَّ إنسانٍ بأنْ يسافرَ إلى الله مهما كانتْ خطاياه، لأنه كما يرى: «لَمْ يَكُن أبدًا من شروطِ السَّيْرِ إلى الله أنْ تكونَ في حالة طُهْرٍ ملائكيَّة. سِرْ إليْه بأثقالِ طِينِكَ، فهو يُحِبُّ قدومَك عليه ولو حَبْوًا».
٧
التشديدُ على تقليد أقطابِ التصوُّف في سلوكِهم، والحثُّ على تقمُّصِ حياتِهم الخاصَّة، والوقوع في أَسْرِ تعاليمِهم يَمْسَخُ الإنسانَ فيصيِّره كائنًا شبحيًّا، يفتقد أيَّةَ ملامح شخصية يختصُّ بها ويتميَّزُ عن غيرِه. تصوُّفُ الاستعباد يؤكِّدُ على الاستسلامِ والسَّمْعِ والطَّاعَة، والتَّخَلِّي عن الإرادة الذاتيَّة. الطاعةُ بهذا الفهم تعني انقيادَ الإنسان ورضوخَه وخضوعَه الكامل للشيخ، وتنازلَه عن ذاته وحقوقه وحرياته، وقد يصلُ ذلك إلى استعداده للتنازل عن كرامته. ربما يوصي بعضُ شيوخ التصوُّف المُريدَ بشيءٍ من الممارسات المبتذَلة مما يستبشعها الذَّوْقُ السَّليمُ. بعضُ الطرق الصوفية ترى التنكيلَ بالنَّفس ضرورةً تربويَّةً للسَّالك، حتى لو لجأ للتسوُّل والتسكُّع في الطرقات.
حتى عبادة الله يمكن أن تتحوَّل إلى صنم يَستعبدُ بعضَ المتصوِّفة. سُئِل أبو يزيد البِسطامي: «ما لنا نعبدُ اللهَ ولا نجدُ لذةَ العبادة؟ قال: إنكم عبدتم العبادةَ، ولو عبدتم اللهَ لوجدتُم لذَّةَ العبادة». ميكانيكيةُ العبادة، والإسرافُ في تَكرار الأذكار باللسان، والولع بالكَمِّ، وانفصال القلب عن اللسان يعبث برُوح الإنسان، وربما يكون أثرُه عكسيًّا يُهشِّم الإنسان.
بناءُ الإرادة وترسيخها على الدوام من الأغراض الأساسية للعبادة في الأديان، وإن كانت هذه العبادةُ تنحرف أحيانًا عن غايتها الأصلية، وتُستخدم في وظيفة مضادَّة. تفتكُ الوظيفةُ المضادَّة بالإرادة وتسحقها، كما يفعل تصوُّفُ الاستعباد وأشباهه، عندما يستغلُ العبادةَ لترويض المُريد على العبودية الطوعية، وتدريبه على التنازل للشيخ عن كلِّ شيء في حياته، إلى درجة قد تصل حالةُ المريد إلى الاستسلام الكامل بتنازله حتى عن شيء من كرامته، عندما يكون الشيخُ بارعًا في ترويض المُريد وانقياده كأعمى.
يتعاملُ المُريدون مع شيخ الطريقة بوصفه صنمًا، لذلك تنطفئ شعلةُ أرواحهم، ويُمْسُونَ رقيقًا لا يمتلكون شيئًا من ذاتهم. يصادر مشايخُهم حرياتِهم، ويتسلَّطون على حياتهم الخاصَّة أحيانًا، ويحاولون التحكُّمَ بتفكيرهم وعواطفهم وسلوكهم. بمهارةٍ يبتكر شيوخُ بعض الطرق عملياتِ تدجينٍ للأتباع، يتنازل فيها المُريدُ لهؤلاء عن حرياته طوعًا، ويسمح لهم بالتسلط على كلِّ شيء في حياته. هنا تنقلب وظيفةُ التصوُّف، فبدلًا من أن يكون امتلاكًا للذَّات عبر وصالِها بالحقِّ، والاستغناء عن كلِّ شيء سواه، يتعرَّض المُريدُ إلى انسحاقٍ مُهين للكرامةِ أمام مشايخ الطُّرُقِ.
تصوُّفُ الاستعبادِ يعني أن يتطوَّعَ الإنسانُ بوضعِ كلِّ شيء في حياته تحتَ وصايةِ شيخِه. هذه بدايةُ محوِ الذات الفرديَّة، وإنتاجِ نُسخٍ متماثلة من المتصوِّفة، تظهر متطابقةً في الخارج؛ تتشابهُ في كلِّ شيء كأنَّها روبوتات. نشأ تصوُّفُ الاستعباد من إساءةِ فهمِ وتطبيقِ معاني القضاءِ والقدرِ، والتوكُّل والتسليم لله، والصبر وتحمُّل الألم، وغير ذلك من اعتقاداتٍ أنتجتْ تعطيلَ إرادةِ المتصوِّف، وشلَّ فاعليته وحركته، وغفلتَه عن استعمال عقله، وتقييدَ حرية تفكيره النَّقدي، وجعله إنسانًا مُسْتَلَبًا رَاضِخًا.
تضخُّمُ الصور المتخيَّلة في ذهن المُريد يعمل على تنازله عن كلِّ شيء في حياته لشيخ الطريقة، واذعانِه وانقياده وخضوعه له مختارًا. متخيَّلُ المُريد لا يكفُّ عن ابتكارِ المواقف الخارقة والأحوالِ المدهشة والهالةِ المقدَّسة للشخصية الرُّوحية الاستثنائية. يظلُ المُريدُ يُراكمُ الصورَ المتخيَّلة بشغف، إلى أن تصلَ الصورُ المتخيَّلة حدًّا تمحو فيه الطبيعةَ الإنسانية لهذه الشخصية، وتصيِّرها في ذهن المُريد كائنًا مجردًا من المادة وشئونها، لا تشبه في عيشها وأحوالها حياةَ الناس في الأرض بشيء. الصورُ المتخيَّلة تتوالد باستمرار، كلُّ صورة تولِّد صورةً أوسع منها، تواصلُ هذه الصورُ تمدُّدها وتوليدها لصورٍ أخرى بكثافة حتى تستبدَّ بالذهن، وتنتزع تلك الشخصية من عالَمِها الأرضي وترفعها إلى العالَم الربوبي. تفرضُ الصورُ المتخيَّلة حضورَها فتأسر ذهنَ المُريد وتخفي عنه الواقع. إذا تضخَّم متخيَّلُ المقدَّس توارى العقلُ النقدي واحتجبَ الواقع. لو لم يضع العقلُ النقدي حدًّا لِتضخُّم هذا المتخيَّل يَغرَقُ الذهنُ في اللامعقول.
من أمراضِ التصوُّف المتأخرة تفشي التوريث من خلال الانتساب إلى مؤسِّس الطريقة، الذي يمنح الأبناءَ مشروعيةً على أساس الدَّم، وإن كان بعضُ هؤلاءِ الأبناء بِلا عِلْمٍ، وبلا حياةٍ رُوحيَّةٍ، وبلا ضمير أخلاقيٍّ يقظ. مثلًا المَولَويَّة لم يتوقفوا عند جلال الدين الرومي الذي صار معبودَهم، بل انصاعوا لسلسلةٍ من أحفادِه وذريتِه، ممَّن أضحى بعضُهم لا ينتمي لجلال الدين إلا بالدَّم. تفشَّى هذا المرضُ الرُّوحيُّ والأخلاقيُّ في حياةِ المريدين، إلى الحدِّ الذي أضْحَى يَصْعُبُ شِفَاءُ أكثرِهم منه.
بعد أن صارَ النسبُ معيارًا محوريًّا في توريث زعامة طرق التصوُّف، لم يكترث الأحفادُ كثيرًا بالتعليم الديني، ولم ينفقوا جهودَهم باستيعاب التراث والتوغلِ في حقوله المتنوعة الواسعة، كما فعلَ العارفون من أسلافهم. أهملوا دراسةَ آثار محيي الدين بن عربي، مثل كتاب فصوص الحِكم وغيره، ولم يهتموا بدراسة مَثنوي جلال الدين الرومي، والنظرِ فيه بتفكير وتأملٍ دقيق، ولم يستلهموا وثبته الرُّوحية اليقِظة. استبدلَ الأحفادُ تقاليدَ التعليم الديني الرصين بالانشغال بالأنساب وغيرها، والإعلاءِ من قيمة النسب وترسيخِ مكانة الانتماء بالدم، بوصفها بديلًا مجانيًّا عن العلم والعمل والتقوى. الأنسابُ وغيرها من موضوعات ربما تبدو شكلية، غير أنهم يدركون تأثيرها السحري في إثراء رصيدهم المجتمعي، وانقياد المريد الأعمى لهم، وتكريس سطوتهم على حياته.
كما انشغل بعضُ أحفاد مؤسسي الطرق الصوفية ببناء التكايا والخانقاهات والزوايا؛ بدوافع في أغلبها ليست رُوحيةً ولا أخلاقية ولا إنسانية. دوافعُ تشبه بناءَ المساجد لدى أكثر الخلفاء والسلاطين والحكام المستبدين، الذين يبحثون عن مشروعية دينية. الطاغيةُ صدام حسين انشغل ببناء المساجد المدهشة سنوات الحصار المريرة، وهو يتفرج على المشاهد المريعة لموت أطفال العراق، وانتهاك كرامة المواطنين وتجويعهم بسبب مغامراته وحروبه الطائشة. كلُّ سلطة تفتقرُ لمشروعية الأرض تسعى لاستعارتها من السماء.