من أين تشتقُّ الكراهيَةُ مفاهيمَها؟١
١
ربما لا توجد مجتمعاتٌ بشريَّة مولعة بهاجس التراث كالمجتمعات الإسلاميَّة، فهي تعيش حنينًا إلى الماضي لا حدودَ له، وتخلع عليه ما يحلو لها من المعاني والصور المثالية، وتتعاطى معه باعتبارِه نَاجِزًا ومكتملًا ومطلقًا وفريدًا، وتحشد كلَّ أحلامِها وأمانيها وتطلُّعاتها في استرداده كما هو، بنحوٍ أمسى معه ذلك التراث قَيْدًا يكبِّلُ حاضرَها ويلغي مستقبلَها؛ ذلك أنَّها تسعى لأن يصير زمانُها زمانًا تَكراريًّا، لا ينتهي إلا من حيثُ بَدَأَ، ولا يبدأ إلَّا من حيث انتهى. وأفضى حنينُها وتمجيدُها لتراثها مصدرًا لطائفةٍ من الالتباساتِ والخلطِ في الرُّؤية، بشكلٍ يتعذَّر فيه التمييزُ بين الدِّين بوصفه تساميًا للرُّوح وتجسيدًا للقِيَمِ النَّبيلة، والتُّراث بوصفه إنتاجًا بشريًّا، يرتبط عضويًّا بمختلِف الظروف والعوامل الثَّقافيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة المتغيِّرة، مثلما تعذَّر التمييزُ بين الواقعة التاريخيَّة والشخص التاريخيِّ، والواقعة الرمزية والشخص الرمزي، الذي صاغه المُتخيَّلُ الدينيُّ، وكرَّسَهُ في الذاكرة الجمعيَّة، واعتبره متعاليًا على الأرض، ومتجاوزًا لمعطياتِ الواقع. وكأنَّ حركة التاريخ لم تكن تحوُّلًا من النَّقص إلى الكمال، ومن الحَسَن إلى الأَحْسَن، وإنَّما تُخْتَزَلُ بتمامِها في رؤى ومواقف السلف، الذين توقف التاريخُ عندهم، حتى أصبحت أيَّةُ محاولة لمساءلة التَّاريخ، ونزع القناع عن التُّراث تُنْعَتُ بالعدوان على أمجاد الأمَّة وماضيها المُشرق، ويجري التشهيرُ بكلِّ باحثٍ يعمِد إلى الكشف عن عمليَّات حذف وإقصاءِ الحوادثِ والوقائع والمُعتقداتِ التي لا تنسجم مع الأيديولوجيا التبجيليَّة المهيمنة، أو يسعى للإعلان عن المُهَمَّش والمسكوتِ عنه، وفضح السَّائد والمُتَغَلِّب في التُّراث.
وتشتد سطوةُ التراثِ عبر حضورِ فكر الأمواتِ ومقولاتِهم، بل يغدو الأمواتُ هم مصدر الإلهامِ للكثير من المعاني في حياتنا، وتُعْلِي مجتمعاتُنا من مقاماتهم عندما تنصبهم حُكَّامًا على الأحياء، وتعود إليهم في ما تواجهه من تحديات، وتستعير آراءَهم في أكثر القضايا والمستجدَّات.
ويحسب أنصار التُّراث أنَّ الانتماء للإسلام لا ينفك عن الاستسلام للتراث واستدعائه بكافة عناصره في حاضرنا، غير أنَّ الإيمان والمعتقد لا يرتكز على التراث، والرُّكون إلى فهم السلف. الإيمان والانتماء للإسلام يعني بناءَ صِلَة حيويَّة فعَّالة مع الله في العصر الذي يعيش فيه الإنسانُ، تستقي هذه الصلةُ مادَّتها من فهمِ الشخص للوحي، وتجرِبته الرُّوحية الخاصَّة، ولا تستقيها من التراث.
التراث بمعنى مجموعة الممارسات الدينية والعقائد والمفاهيمِ السَّائدة في حقبةٍ مُعَيَّنَة من حياة المسلمين، هو مفهوم ثقافيٌّ أنثروبولوجي، لذا فالمجال مفتوح أمام المُتَأَلِّهين المسلمين في كلِّ زمانٍ لنقد ذلك التراث وتفكيكِه، إذ بوسعهم غربلة ونقد المسلَّمات والمسَبَّقات والميول، ومقدِّمات فهم الكتاب والسنة، والتطلعات الدينية الموروثة من عصور سالفة.
٢
لقد صارت الكلمات والعبارات في أحاديثنا وكتاباتنا بمثابةِ أدواتِ قتال نتراشق بها، وتعمل على بثِّ التَّشَنُّج، وإشاعة التوتُّر، حيال أيَّة قضيَّة نتحدث عنها، وأمسى الإصغاءُ للآخر، وتفهُّم ما يرمي إليه مستحيلًا، إثر عُنْفِ اللُّغة، وقسوة مداليل الألفاظ المتداولة بين المتخاطبين وصخبها، حتى صارَ المجالُ التداوليُّ للُّغة المُستعملة في حياتنا أحد أبرز منابع الكراهية، وتزوير صورة الآخر.
إنَّ تطهيرَ اللغة من الكلمات والمصطلحات القَدْحية المشبَّعة بالتشهير بالآخر ضرورةٌ يفرضها عنفُ الواقع، الذي يضجُّ بالاحتراب والصراع الديني والطائفي، وينبغي أنْ تتَّسع عمليةُ تطهير اللغة من العنف لتشمل المقررات الدراسية في سائر مراحل التعليم، ويجري تأهيلٌ لغويٌّ للمربِّين والمعلِّمين والمدرسين، مضافًا إلى الصحافيين والإعلاميين، ويعمِد إلى تثقيفهم وتنبيههم إلى خطورة تداوُل الكلمات والأساليب التعبيريَّة ذات الحمولة السلبيَّة، وما يمكن أنْ ينجم عنها من تشويهٍ لصورة الشركاء معنا في الإنسانية، فضلًا عن شركائنا في المواطنة.
ويستمدُّ معجمُ هذه اللغة مادَّتَه ومفرداتِه من الرؤية الصِّراطية وميراثها الكلاميِّ والفقهي المُمْتَدِّ في جميع الفرق والمذاهب الإسلامية، ولا سيَّما في تمثُّلاته السلفية المناهضة للعقل، والتي دوَّنته في فضاءٍ سجاليٍّ يضجُّ بالخصومات. ويتوكَّأ هذا النوعُ من الميراث على تفسيرٍ فظٍّ ساذج للنَّصِّ، معبأ بسلسلة من الإسقاطات والتحريفات، ويرفض أيَّة محاولة تسعى لتأويل النصِّ، واستكناه أبعادِه الرمزيَّة، والنظر إليه باعتبارِه نصًّا مكتنزًا بالإشارة والكناية والمجاز والإيحاء والتَّلميح وضرب الأمثال، ومنبعًا لتأويلات وقراءات متنوعة، تنبثق من الأفق المعرفيِّ للقارئ، وأفق انتظاره ورؤيته للعالَم، والفضاء الثقافي ونمط المعطيات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية السائدة في عصره.
٣
إنَّ التفسيرَ الذي يفترضُ وجودَ فهمٍ واحد للنصِّ، هو الفهمُ الذي قالتْ به الجماعةُ الأولى من المسلمين. وكأنَّ النصَّ لا يحتملُ أيَّ تأويل أو تفسير يخرج على الصيغ التَّبسيطيَّة الجاهزة، ويُعْلِنُ عن رؤيةٍ مغايرة لها. مواقف وفهم السلف تمثِّل المشروعيَّة، أمَّا المواقف والتأويلات اللاحقة فإنَّها مشروعة بوصفها معبِّرة عن رؤيةِ السَّلَف ومستنسِخة لها، وهي هرطقة وبدعة حينما تجتهد في بلورةِ رؤيةٍ مختلفة، تغور إلى اللامرئي في النصِّ، وتتحرَّر من الأصول والترسيمات الصارمة والمغلقة للتعاطِي مع النَّصِّ. منذ أن دَوَّن الشافعيُّ هذه الأصول، وتكرَّسَتْ بمرور الزَّمان، وصارتْ ترسيماتٍ أبديَّةً، وصيغًا جاهزة تحتكر فهم النص، وتُسْبِغُ الشرعيَّة على كل تفسيرٍ مشتَّقٍّ منها، وترفض الاجتهاد الذي ينزع إلى التفكيرِ خارج مداراتها، وصوغ مفاهيم لا ترتدُّ إليها، كما نلاحظ في الميراث الغزير للعارفين والفلاسفة، الذين حرصوا على استلهام العناصر الرُّوحية والإنسانية والجمالية والعقلانية، وأدركوا أنَّ النصَّ القرآنيَّ إشاريُّ المقاصد، غزير المعاني، رمزيُّ البنية. وتخطَّوا القراءةَ الاختزاليَّة التبسيطيَّة، وما أفضتْ إليه من إفقارٍ للنص، وإظهارِه بصورةٍ عاريةٍ من كلِّ مضمون مكثَّف، غنيٍّ بالمداليل والمعاني المكتنزة.
تسودُ القراءةُ التبسيطيَّة للنصِّ اليومَ أدبياتِ الجماعات الدينية، ويتشكَّل في ضوئِها وعيُ قطاعاتٍ عريضةٍ من المنخرطين في هذه الجماعات، ويجري تجنيدُهم في معارك تستنزف طاقاتِ مجتمعاتِنا وتُهدر إمكاناتِها. تصرُّ هذه القراءةُ على القطيعةِ مع الميراثِ الإنسانيِّ في تاريخِنا، وتحارب بضراوةٍ التفكيرَ الفلسفيَّ، وتعتبر ذلك التراثَ غريبًا عن الإسلام، أمَّا التجارِب الرُّوحية الملهمة للعارفين، وما أنجزوه من آثار متنوعة المضامين، عميقة المعاني، فإنها تُصَنَّف شطحات وهرطقات أجنبية على الإسلام. الجماعاتُ الأصوليَّةُ تنشد تديُّنًا شكليًّا، يفتقر إلى استيعابِ المضمون التنزيهيِّ المفعَّم بالمعنى للتديُّن، وتستفزُّه التأملاتُ العميقة التي تُقَارِب النصَّ بفكرٍ عميقٍ ووعيٍ يُضِيءُ المضامينَ الكامِنَة الخفيَّة فيه.
٤
يفتقر التديُّن الأصوليُّ إلى التعاطي المتفائل المفعَّم بالأمل مع الحياة، والانفتاح على العالم، واستبصار ما يحفل به من ثراء وجمال وتنوُّع. يعجز هذا التديُّن السلبيُّ عن إدراك أنَّ الله وهب الحياةَ للإنسان، فصارتْ مناطَ الاستخلاف والأمانة، وبالتالي المسئوليَّة، وارتكزتْ عليها وانبثقتْ منها كلُّ مكاسب البشرية وإبداعاتها وتعبيراتها.
تحرص الأديانُ على احترام الحياة، وربما تقديسها، وتتطلع الرسالاتُ السماويةُ إلى تطهير الحياة من القلق، وبثِّ الطمأنينة والسكينة في رُوع الإنسان، عبر ترسيخ النَّزعة الرُّوحية والأخلاقية والجمالية، وتكريس المضمون المعنويِّ للعالَم، والكشف عن مظاهر الانسجام بين الإنسان وما حوله، وتحريره من الاغتراب الكونيِّ، ومن كلِّ ما من شأنه أن يسلخه وينفيه من هذا الوجود. غير أنَّ الحياة تغدو لعنةً، وأية محاولة للتشبُّث بها، والسعي لعمارتها، والتنعُّم بطيباتها، تصبح منافيةً للفهم السلفي للدين؛ ذلك الفهم الذي يتمحور خطابُه حول هجاءِ الحياة، وتمجيدِ الموت، ولعنِ المباهج، وأسبابِ الفرح والغبطة والمسرَّة، بل ومسخ الذوق الفنيِّ، وتجاهل الأبعاد الجمالية في الكون، والإعراضِ عن الجسد ونسيان متطلباته الغريزية، وما يحيط به من فضاء حسيٍّ، وما يجسِّده من جمال، والتعاملِ معه باعتباره عدوًّا، لا سبيلَ إلى التديُّن الحقِّ إلا بتجاوز رغباته وحاجاته، وأنَّ الاحتشام والعفة لا تحقُّق لهما إلا بالتخلُّص من المشاعر الحسِّية، ورفض الحب، واعتباره تهتُّكًا وابتذالًا، وأنَّ النجاة في اليوم الآخر ترتبط بالفرار من حبِّ الحياة وكلِّ شيء ينتمي إليها؛ ما يؤدِّي إلى انطفاء الذوق الفني، والعجز عن تذوق الجمال، والإفادة منه كلغة مشتركة في الحياة، ووسيلة رائعة للتواصل بين الشعوب، وقناة عابرة للتاريخ والثقافات.
ان التعامل مع الحياة بهذا المنطق، هو مصدر الشعور بالإحباط والفشل، وهو الذي يقود إلى العنف، والرغبة في تدمير الحياة، وتحطيم كل شيء ينتمي إليها. حين تهيمن ثقافةُ الموت على وجدان الإنسان، تنطفئُ جذوةُ الحياة في نفسِه، ويفتقد القدرةَ على المساهمة في البناء، ولا يتقن أيةَ حرفة سوى تقديس الحزن، وصناعة الحقد والبغضاء، فتندثر طاقاتُه، وتتعطَّل قابلياته، وتتبدَّد إمكاناتُه ومواهبُه بأسرِها.
وليس هناك دربٌ يقودُنا إلى الحياة، ويعيد قطاعاتٍ واسعة من الشباب إلى العالم الذي افتقدهم، سوى إشاعة فهم عقلانيٍّ جريء للدين يخترقُ الأدبيَّاتِ الجنائزيَّةَ في تراثِنا، التي تكثِّف حضورها في الخطاب السلفي اليوم، كما يخترق ما راكمتْه تجرِبةُ الاجتماع الإسلاميِّ من إكراهات ومظالم وصراعات مختلفة، عملت على تبلوُر مفهومات وفتاوى مشبعة بتلوينات تلك التجرِبة ومشبعة بإكراهاتها.
يطغى في خطاب تلك الجماعات تبجيلُ العنف، والإعلاء من قيمته، والتَّشديد على أثره الحاسِم في الدَّعوة، وتصرُّ على أنَّه السبيل الوحيد للخلاصِ من الظُّلم والاضطهاد في الدنيا، والفوز بالفردوس في يوم القيامة، بينما تتجاهل الأساليبَ اللاعنفيةَ في دعوات الأنبياء، كذلك تهمل بِعَمْدٍ أَبْرَزَ حَرَكَتَيْ لاعنفٍ في القرن العشرين؛ وهما المقاومة السلمية الواسعة في الهند بقيادة المهاتما غاندي، مضافًا إلى المقاومة السلميَّة في جنوب أفريقيا بزعامة نيلسون مانديلا، وما تحقَّق في المسعى السلميِّ لهما من مكاسب مهمَّة، وما قطفتاه من ثمار في تحرير الهند وجنوب أفريقيا.
٥
ينظر السلفيُّون للإسلام باعتباره شيئًا مطلقًا ولا نهائيًّا في التَّاريخ، من دون أن يتنبهوا إلى أنَّ الإسلامَ دينٌ مثل بقيَّة الأَدْيَان، تتنوَّع تمثُّلاته وتجلِّيات حضوره في الواقع. والدين بمعنى الظاهرة الأنثروبولوجيَّة التاريخية، كما أنَّه يُساهم في تشكيل التاريخ، كذلك يتشكل طبقًا للتاريخ، ويتَّخذ في صيرورته شكلَ الزمانِ والمكان الذي يتحقَّق فيه. ومثلما يهدفُ الدينُ إلى بناء وتغيير الإنسان، فإنَّ الإنسانَ أيضًا يبني مفهوماتِه الخاصَّة عن الدين، ويعمل على صوغ تصوُّره عن الدِّين في فضاءِ رؤيتِه للعالم وأنماط حياته المختلفة. ومن الوَهم النظرُ إلى الإسلام والمسلمين كأَمْرَيْنِ قارَّيْنِ ساكِنَيْنِ، لا يتحوَّلان ولا يتبدَّلان، يؤثِّران في كلِّ شيء ولا يتأثَّران على مَرِّ الزَّمان. الإسلام والمسلمون يخضعان للمشروطيَّة التاريخية، والعواملِ الزمانيَّة والمكانيَّة المتغيِّرة. لذلك كانت الإلهيَّاتُ المتوارثةُ لدى المسلمين مشتقَّة من طبيعةِ حياتِهم، وشَكْل النِّظام السياسيِّ الحاكم في دولهم، والنظام المعرفي المهيمن على تفكيرهم.
ترتكزُ الإلهياتُ الموروثةُ على بنيةٍ تستبعد الآخرَ، وتكرِّس مركزيَّة مطلقة، تجد مثالَها الأرضي في الخليفة أو السلطان، وحكومته الشمولية المستبدة. إنَّ حقلًا عريضًا من هذه الإلهيَّات لا محلَّ فيه للحرية الدينيَّة، أو إفساح المجال لصاحب الدِّين المختلف، ومساواته بسواه من الرعايا على أساس مفهوم المواطنة.
يتمدَّد مفهومُ الإله في هذه الإلهيات ليغطِّي كافَّةَ المجالات الدنيوية، وهو ما يصطلح عليه بعض المفكرين الغربيين «إله الحدِّ الأقصى». ويذهب فريق من المفكرين ومؤرِّخي العقائد في الغرب إلى أنَّ ظهور «إله الحدِّ الأقصى» في القرون الوسطى أدَّى إلى خروج الإلهِ تدريجيًّا من ساحة الحياة. والمقصود بهذا التصوُّر للإله، هو أنَّه الإله غير الملتزم بأيَّة موازين أخلاقيَّة، أو منطقيَّة، أو عقليَّة، أو فلسفيَّة، والمتمتِّع بحرية مطلقة، حتى قيل إنَّ بوسعه ارتكاب المُحالات العقلية والمنطقية، أي إنَّ «إلهَ الحدِّ الأقصى» فتحَ الباب على مصراعَيْه لإلغاء الإله الرُّوحي والأخلاقي.
وبغية تجاوز الإلهيات الاستبعادية، لا بدَّ من تحرير صورة الإله مما تراكم عليْها عبر الزمان من رؤية السَّلف للعالم، وما تعرضَتْ إليه حياتُهم من كراهية وإكراهات.
بوسعنا اليوم الاستعانة بمعطيات العلوم والمعارف الحديثة، والتفكير بواسطة كلِّ ما هو متاح في عصرنا، للتحدُّث عن الإله، فكما أتاحت لنا هذه المعطيات معرفةَ الإنسان، واكتشاف الكثير من الأبعاد المجهولة في شخصيته الفردية والاجتماعية، من خلال الاستعانة بعلم النفس والأنثروبولوجيا والاجتماع واللسانيات والسيميائيَّات وغيرها، يمكن أن تمنحنا هذه العلومُ أدواتٍ ومناهجَ جديدة لدراسة الدين كظاهرة أبديَّة في الاجتماع البشري، والتعرف على مساراته عبر التاريخ، وبالتالي اكتشاف ما هو مرتبط بالمعطيات الظرفيَّة والثابتة منه، وكذلك التعرف على ما يتعلَّق بصورة الإله وأنماط تشكُّلها عبر التاريخ، وصلة هذه الصورة بالملابسات والظروف المتنوعة.
وتظلُّ المُعطيات الرَّاهنة للعلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية والعلوم البحتة، من أهمِّ مكاسب العصر، وكلُّ ما أنجزه الغرب من تقدم ورفاهية إنما هو ثمرةٌ لامتلاكه العلم الحديث، ومثابرته المتواصلة على تنميته وتطويره، بينما يقبع في نفق التخلف من يفتقد العلم، ويبقى على هامش حركة التاريخ مستهلكًا لما ينجزه غيرُه.
٦
تتغلَّب في مجتمعاتنا نزعاتُ التعصُّب والتشهير الدائم بالآخر، وكأننا في عالم لا يعيش فيه معنا سوى الأعداء، وكأنَّ المجتمعات الوحيدة التي تعرَّضت للاستعمار هي نحن، فكلُّ أمراضنا ومشكلاتنا وعاهاتنا نعلِّقها على هذا المِشجَب، ونغذِّي باستمرارٍ رُوح الانتقام والكراهية للآخر، في صحفنا وقنواتنا الفضائية ووسائل إعلامنا المختلفة. وبالرغم من أنَّ الاستعمار شمل في القرون الماضية معظمَ الكرة الأرضية، وتوطَّن في أكثر بلاد العالم عشرات السنين، لكنْ تحررتْ هذه البلادُ، وتجاوزت ماضيَها، والتحق العديدُ منها بالغرب، بل تقدَّم بعضُها عليه صناعيًّا واقتصاديًّا، وما زلنا في رِهانات الهُوية والخصوصية والأصالة.
أمَّا من يحسب أنه مفوَّض بانتهاك كرامة الإنسان، وإلزامه بمعتقد معين، أو حرمانه من حقِّ الحياة، باعتباره يمتلك الحقيقةَ، وهو الوصيُّ على الآخرين، فانه يحتكرُ رحمةَ الله ويُنَصِّب نفسَه ناطقًا باسمه في الأرض. وهو لا يدري أنَّ حقَّ الحياة من الحقوق المصونة المحترمة لكافة البشر، بقطع النظر عن أجناسهم وثقافاتهم ومعتقداتهم، وأنَّ عدم الإيمان أو الكفر وحده لا يصلح أنْ يكون موضوعًا للحُكم بالاعتداء على شخصٍ أو قتله، وأنَّ الأصل هو براءةُ الكلِّ من العقوبة الدنيويَّة، وإثبات أيَّة عقوبة بحاجة إلى دليل. ذلك أنَّ المعتقدَ أمر داخليٌّ باطنيٌّ، وليس أمرًا جوارحيًّا خارجيًّا، وأنَّ تحقُّقَه وحصولَه ليس باختيار الإنسان؛ بمعنى أنَّ العالَم الجَوَّاني الداخليَّ لا يمكن فرضُه بالقسر، ما يمكن القسرُ والإكراهُ عليه هو الفعلُ الخارجيُّ، أمَّا الإيمان والاعتقاد فهو حالة داخليَّة خارج مجال القسر والإكراه.
وهذا يعني أن المعتقَد ما لم ينبثق الإيمانُ به من قناعة وجدانية، وإرادة قلبية، لا يمكن أنْ يُلامس شغاف القلب. وكلُّ الأنظمة الشمولية، التي تفرض نسقًا أيديولوجيًّا مغلقًا على مواطنيها، إنما تعمل على تفشِّي ظاهرة النفاق، وهي تحسب أنها دمجت كافَّة المواطنين في النسق الاعتقادي الذي اختارتْه لهم؛ ذلك أن المعتقد ليس بمثابة الثوب الذي يُلبس ويُخلع بسهولة. وفي مثل هذه البلاد تَشِيع عادةً عقيدةٌ ظاهرة، وهي ما تريده السلطة، بينما يخفي الأفرادُ معتقداتِهم، التي باتَتْ واحدةً من مكونات هُويتهم الباطنيَّة.
وبالرغم من أنَّ القرآن لا يساوي بين الهدى والضلال، لكنه يمنح الإنسان حرية في الاختيار، ولا يُلزمه بأحدهما خاصة، لأنَّ المعاد يترتب على هذه الحرية، وليست هناك مسئولية وحساب مع سلب الاختيار في الدنيا. وفي طائفة غيرها من الآيات يحدِّد القرآن نمطَ دعوة الرسولِ الآخرين إلى الدين، فيصفه بأنه «مذكِّر، ومبشِّر، ومنذِر، وشاهد، وسراج منير، ورحمة للعالمين، وما عليه إلا البلاغ، وليس بمسيطر، وليس بجبار …».