١
التَّأْليفُ في الأخلاقِ في تراثنا
ظلَّ نصيبُ التَّأليف في الأخلاق هو الأقلَّ،
مقارنة بغيره من المعارف والفنون في تراثنا
المدوَّن بالعربية، فحين نراجع كتاب «الفهرست» لابن
النديم، وما تلاه من فهارس ومراجع ببليوغرافية
اهتمَّتْ باستقراء وتصنيف الكتب؛ نجد التفسير وعلوم
القرآن والحديث والفقه واللغة العربية وآدابها وعلم
الكلام والفلسفة والمنطق وغيرها، احتلَّتْ حيِّزًا
واسعًا من عناوين المؤلَّفات المذكورة في تلك
المراجع، بينما لا نعثر على مدوَّنات مستقلَّة
تعالج البحث النظري في الأخلاق أو الفلسفة
الأخلاقيَّة في الفترة المبكِّرة من عصر التَّدوين.
وإن انبثقت مفاهيمُ كلاميَّة تتَّصل بالأخلاق في
فضاء التفكير الكلاميِّ، ترتبط بالتَّأمل في نصوص
الكتاب والسنة، وتنامِي الجدل بين الفرق والمذاهب
المتنوعة، ثم بدأتْ تتسرَّب بالتدريج الآراءُ
الأخلاقية اليونانية والرواقية والإسكندرانية إلى
المسلمين، منذ أن تعرَّفوا على تراث أثينا
والإسكندرية من خلال التَّرجمة. وأفضتْ تأثيراتُ
هذه الآراء فيما بعد إلى أنْ يؤلِّف المؤرخُ
والفيلسوف المعروف مِسكوَيهِ في القرن الرابع
الهجري كتابَه «تهذيب الأخلاق»، الذي دشَّن أرضية
تأسيس علم جديد بموازاة العلوم والمعارف الأخرى في
المجال الإسلامي. فقد رفع مِسكويه الأخلاق أو البحث
فيها إلى مرتبة العلم الكامل «وفرض بذلك في المجال
الإسلامي اختصاصًا فكريًّا موازيًا لذلك الاختصاص
الذي فرضه أرسطو في اليونان الكلاسيكيَّة، عندما
كتب «رسالة في الأخلاق إلى نيكوماخوس». والواقع
أنَّ كتاب «التهذيب» يستعيد جوهر نظرية أرسطو.»
٢ وجرى استدعاءُ المواضيع الأساسيَّة
لكتاب مِسكويه في آثار لاحقة، بعد أنْ تمَّ «دمج
الجانب الفلسفيِّ بالجانب الدينيِّ والصوفيِّ»،
٣ وخُلعت عليها صِبغة إسلامية في «ميزان
العمل» للغزالي، و«أدب الدنيا والدين» للماوَردي،
و«الأخلاق والسِّيَر» لابن حزم.
أمَّا المُحاولات الحديثة في هذا الاتِّجاه، فلم
تزل محدودة وضئيلة مقارنةً بالمتطلَّبات الأخلاقية
الملحَّة لمجتمعاتنا، التي تجتاحها أعاصير وموجات
تقوِّض بِناها التقليدية وتَسُوقها نحو فوضى شاملة
ومصائر مجهولة.
لعلَّ أبرز هذه المحاولات هي رسالة قدَّمها محمد
عبد الله دراز لجامعة السوربون بباريس سنة ١٩٤٧م
بعنوان
La morale du
Koran «أخلاق القرآن» لنَيْل
شهادة الدكتوراه، وتُرْجِمَتْ إلى العربية بعنوان
«دستور الأخلاق في القرآن». وقد تحكَّمت في رؤيتِه
ﻟ «أخلاق القرآن» قضايا مرجعيتُها الأخلاق
الكانطية، والتي محورها: فكرة «الواجب» أو «الإلزام
الأخلاقي» أو «القانون الأخلاقي». وبذلك لا تغدو
هذه الرسالة سوى مسعًى لمعيار القضايا
الأخلاقية/الحقوقية المعاصرة للمؤلف في ضوء القرآن،
وليستْ مسعًى لصوغ «أخلاق القرآن».
٤
في سنة ٢٠٠٠م أصدر الدكتور طه عبد الرحمن «سؤال
الأخلاق». وهو كما يتحدث عنوانُه الشَّارح «مساهمة
في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية». وبالرغم من
استعانة المؤلِّف بمعطيات الفكر الغربي وتوظيفه
لأدواته المنهاجية، مثلما يفعل في جميع أعماله، غير
أنَّه يتسلَّح برؤية تستدعي التراث، كما تقرؤه
وتقدِّمه بعضُ التيارات السلفية المعروفة بنزعتها
التعصبيَّة ومواقفها الشديدة، الرَّافضة لكلِّ ما
هو مختلِف في الدين والمذهب والثقافة. كما تستعير
رؤيةُ طه عبد الرحمن خطابَ تيارات ما بعد الحداثة
المناهضة للعقلانيَّة والتنوير، وتحرص على اصطناع
صورة مجتزأة زائفة للحداثة، وتحاول تنزيه الذَّات،
وتبجيل الماضي بتمامه، ورؤية التراث من منظور
رومانسيٍّ حالم، واعتبار كل شيء فيه جميلًا
منزَّهًا، ومضيئًا ساطعًا.
٢
الإنسان كائن متدين
الدين ظاهرة وَاكَبَتْ تاريخَ البشريَّة منذ
وجودها على سطح الأرض، والإنسان كائن متدين وإنْ
تباينتْ تعبيراته عن تديُّنه، واختلفت تجلِّيات
الدِّين في حياته. ومع أنَّ طائفةً من الفلاسفة
والمفكِّرين تَنَبَّئُوا بانحسار تأثير الدين
كعاملٍ فاعل في الحياة، أو زواله نهائيًّا بعد دخول
الإنسان عصر العلم، واكتشافه للكثير من قوانين
الطبيعة، وتفسيره لما كان يحسبه أسرارًا وألغازًا
تستعصي على العقل، إلا أنَّنا نشاهد عودةً للمقدس،
أو انتقام الله لنفسه، وانبعاث العامل الديني، حتى
في المجتمعات الصناعية التي دخلت عصر العلم منذ
فترة طويلة. كذلك لم يتراجع تأثيرُ الدين في
مجتمعاتنا، بل انطلق عاصفًا ليجتاح كافَّة مجالات
الحياة التي لبث شيء منها مدَّة طويلة بمنأًى عنه.
وحتى أولئك الذين يعلنون رفضَهم وإقلاعهم عن كل
فكرة أو شعور ديني، لا يستطيعون الإفلات التامَّ من
ترسُّبات الدين الغاطسة في بنية لاوعيِهم والموروثة
من سلالاتهم العريقة والأسلاف المنحدرين منهم. يكتب
مرسيا إلياد: «الإنسانُ غير الديني ينحدر من سلالة
الإنسان الدينيِّ، وهو صنيعته أيضًا، أراد ذلك أم
لم يرد، وقد تكوَّن انطلاقًا من أوضاعٍ اتَّخذها
أسلافُه … إنَّ الإنسان الدنيوي، أراد ذلك أم لم
يرد، لم يزل يحتفظ بآثارٍ من سلوك الإنسان الديني،
لكنَّها خالية من المعاني الدينية. مهما فعل فهو
وارث، لا يستطيع أن يُلْغِيَ ماضيَه نهائيًّا ما
دام هو نفسه نتاجًا لهذا الماضي … الغالبية العُظمى
من الذين لا دين لهم ليسوا متحرِّرين تمامًا من
المسلك الديني، من اللاهوت والميثولوجيا، فهم
أحيانًا مُثقلون بكل «لخبطة» سحريَّة-دينية،
لكنَّها منحطة إلى درجة الكاريكاتور، ولهذا كان من
الصَّعب التعرُّف عليها.»
٥
إنَّ حياة مفرَّغة من أية مشاعر دينية، أو
مستغنية بشكل تام عن المتطلَّبات المعنوية للإنسان،
ولا تصبو للمتعالِي، ولا تتوق للامتناهي، ولا تسعى
لقول ما لا يمكن قوله، أو التعبير عن ما لا يمكن
التعبير عنه، أو تصور ما لا يمكن تصوره. إن مثل هذه
الحياة لا تتَّسع لها أرضُنا؛ ذلك أنَّه حتى في
أحرص المجتمعات على العلمنة، وأشدِّها إصرارًا على
نبذ الرموز الدينية، يمكن لرجل أعمال مثلًا أو
سياسي أن يَقبل بإخلاص قواعد الحياة العائلية التي
يشرعنُها الدين، بينما يسيِّر أعمالَه في الوقت
نفسه في الدائرة العمومية من دون الرجوع لأية قيم
دينية مهما كانت، بل إن انتشار العلمنة وشيوعها في
الحياة اليومية، لم يمنع من حضور رموز دينية مرتبطة
بمؤسسات الدولة والأسرة، فمثلًا: حيث يقبل جميعُ
النَّاس ألا يتخطَّى الدينُ أبوابَ الكنيسة، يمكن
أن يقبلوا وبالطريقة نفسِها ألا تُخاضَ حربٌ ولا
يُقدَمَ على زواجٍ من دون اللجوء إلى الرموز
الدينية التقليدية.
٦
إنَّ حاجةَ الإنسان إلى الدين تنبثق من أعماقه،
وحتى لو اجتاحت بعضَ المجتمعات جائحةٌ تناهض الدين
وما يتَّصل به، فإنها سرعان ما تضمحلُّ وتعاود
الظواهرُ الدينيةُ حضورَها الأبديَّ من جديد، وربما
بفاعلية وضراوة. ففي القرن التاسع عشر تحدَّث
فويرباخ، وماركس، ونيتشه … وغيرهم، عن غياب الإله،
أو «موت الله» بحسب تعبير نيتشه، غير أنَّ الله
انتقم لنفسه، فعاد الإيمانُ به يتَّسع بمرور
الأيام، وتحقَّق ما قاله أندريه مالرو: «إنَّ القرن
الحادي والعشرين سوف يكون رُوحيًّا أو دينيًّا، أو
أنه لن يكون.»
٧ صحيح أنه قد مات نمطُ التصوُّر
القروسطي للإله، وتشكلت صورةٌ بديلة عنه. أمَّا
الله تعالى فإنَّه حيٌّ لا يموت، وهو ظاهر ما غاب
قطُّ، وإن كانت أنحاء تصورات الإنسان عنه تموت
وتختفي، لتحلَّ بدلًا عنها تصوراتٌ أخرى.
وما دامت حياةُ الإنسان تفضي إلى الموت، والإنسان
كائن يتوق إلى الخلود وينشد الأبديَّة بطبيعته، فلا
يمكن أن يصل إلى اليوم الذي يستغني فيه عن الدين؛
ذلك أنَّ «كلَّ مجتمع بشري يمثِّل في نهاية التحليل
جمعية أُناس يتحالفون معًا تجاه الموت، وتكون قوة
الدين رهينة لمصداقية الرايات التي يضعها بين أيدي
البشر عندما يواجهون الموتَ، أو على الأصحِّ بينما
يتسابقُون نحوَه.»
٨
الدين هو المشروع البشري الذي يخلق كونًا
مقدَّسًا، ويجعل الإنسان يتخذ مكانته المناسبة في
عالم لا يفتقر للمقدس. ومعنى أن يضع الإنسانُ نفسَه
في موضعها الصحيح بالنسبة إلى العالَم معناه
حمايتها من تهديداتِ الفَوضى الكابوسيَّة، وأنَّ
الخروج من ذلك الموضع يعني الانزلاق نحو حافَّة
الهاوية. يذهب بيرجر إلى أن «الدين أدَّى دورًا
فريدًا في مشروع بناءِ عالَم بشريٍّ. الدين هو الذي
يسمح بفرض دلالاته الخاصة على الواقع بما هو أكثر
نجاعة، وعلى الوجه الأكمل. الدين يقتضي أن يسقطَ
النِّظام البشريُّ على مجموع الكون. وبعبارة أخرى،
فالدين هو أجرأُ محاولة في تصوُّر الكون كله ذاتِ
دلالة بشريَّة.»
٩
معنى أنْ يعيش الفردُ في كنف دين خاصٍّ هو افتراض
أن يعيش في سياقٍ اجتماعيٍّ خاصٍّ، يمكن لهذا
العالَم الديني داخله أن يضمن مصداقيته، وحيث يكون
ناموس الحياة الفكرية متماشيًا في كثير أو قليل مع
هذا العالَم الديني، يمثل الانفصال عن هذا العالم
تهديدًا باللاناموس.
١٠
إنَّ ما يجتاح الحياةَ البشريةَ من جراحات وآلام،
وما يستبدُّ بها من قلق ولامعنى، وكلَّ ما ينتجه
هذا اللامعنى من كوابيس وتوترات واضطراب، ليس بوسع
الإنسانِ الخلاص منه بالوفرة المادِّية والرفاهة
وارتفاع المستوى المعاشي، لأن كلَّ ذلك لا يُنتج
طمأنينة أُنطولوجية، وأملًا مفعَّمًا بالغبطة،
وسكينة، وأحلامًا متسامية، وانسجامًا مع العالم
الذي يعيش فيه البشرُ. إنَّ الدين بما يخلعه على
العالم من نظام رمزيٍّ يُصيِّر العالم مألوفًا
للإنسان، إذ إنَّ النظام الرمزي يمنح القيمة
لمختلِف المعاني التي تنطوي عليها التجلِّيات
المقدسة، فيتخلص فيه الإنسانُ من اغترابه، إذ
يتبدَّى العالَم مشبعًا بالمعنى. وتعزز رمزية
العالم من قيمته، عبر تراكُم دلالات إضافيَّة،
وإنتاج أنظمة سيميائيَّة تفيض بالمعاني من دون أن
تنال من قيمته الخاصَّة. وهكذا تكشف كلُّ فعاليات
الإنسان ونشاطاته عن معنًى، ولا تعود كثيفة ومرهقة،
بينما تبدو الأعمال الفيزيولوجية المجرَّدة عن
النظام الرمزيِّ للعالم، عاريةً من المضمون
الرُّوحي، فتغدو كثيفة ومرهقة، وربما ليست ذات جدوى.
١١ إنَّ الدين يحرِّرنا من الاغتراب
الميتافيزيقي، باعتباره نافذةً إلى المتعالي،
ووصالًا دائميًّا معه، وارتباطًا بوشيجة عضوية
وثيقة بكل الوجود.
٣
تديُّن متوحش
في اللحظات التي أكتب فيها هذه الأسطر، يوم
الثلاثاء ٢٤ / ٤ / ٢٠٠٦م هاتَفَنِي ولدي محمد حسين
التِّلميذ في الجامعة المستنصرية ببغداد، فأخبرني
بأنَّ سيارتَين مفخَّخَتَيْن انفجرتَا عند بوَّابة
جامعتهم ظُهر هذا اليوم — لحظة دخوله — فغرِق هو
وزملاؤه في حالةِ فَزَعٍ وذهول مهولة، بعد أن
تناثرت أشلاءُ رفاقِهم عند البوَّابة، وفاضت
أرواحُهم البريئة، لترسم دماؤهم على أحجار
الممرَّات المؤدِّية إلى الفناء الدَّاخلي لمباني
الجامعة بصمة أبديَّة، تصرخ بما يتعمَّد التستر
عليه ذلك النَّموذج اللاإنساني للتديُّن.
لقد فجرتْ أشلاءُ أولئك الفتية عويلًا واحتجاجًا
مدوِّيًا، يخاطب الأجيال الآتية في وطننا، فيحكي
لها حكايةَ فتية كتبوا التاريخ بدمائهم، ويصرخ
بشهادة كلُّها عويل لا يهدأ، يفضح ذلك النَّمط من
التديُّن الفاشيِّ الهمجي، الذي خدع آلافَ
النَّاشئة وأغواهم بوعودٍ خلاصيَّة، وفردوس خلَّاب،
ثمنه تفجير أنفسهم، وقتل الآخرين بأساليب بَشِعَة،
وحرق كلِّ شيء لا يكون نسخة مكررة عنهم. وبحسب ما
أوردتْه تقارير صِحافية قبل أيام، فقد تجاوز عددُ
السيارات المفخخة التي فجَّرها انتحاريون في العراق
منذ سقوط صدام سبعة آلاف سيارة، ممَّا يعني أنَّ
آلاف الانتحاريين جرى إعدادهم وتصنيعهم من خلال
غَسْلِ أدمغتهم، وتعبئتِهم بمفاهيم دينية، مَسَخَت
الرُّوح التطهرية التنزيهية الرقيقة للدين، فاستحال
التديُّن إلى إعصار عاصف يجتاح الحياة، ويحطِّم
كافَّة المكاسب التمدينية والمعرفيَّة والثقافيَّة
للبشرية. إنه ضرب من سادية مرضية، تتلذَّذ بقتل
الضحية واستباحتِه، ومازوشية فظيعة تحتفل بتمزيق
الذَّات والقضاء عليها.
وهذه المشاهد ليست غريبة على المجتمعات التي
تفشَّت فيها المعتقداتُ الفاشيَّة، وهي بالمناسبة
ليست شاذَّة وغريبة في تاريخنا، فقد نعثر على أمثلة
لها في محطات استبدَّتْ فيها سلطات فاشيَّة في
مجتمعات عالم الإسلام، وإنْ كان البعضُ يتنكَّر
لكلِّ ذلك ويحاول أنْ يخلق صورةً مثالية لهذا
التاريخ، يقول الدكتور محمد الطالبي: إنَّ تاريخنا
«كالتاريخ الإنساني عمومًا، مليء بالانزلاقات
والخروج عن الرُّوح القرآني، وهو خروج قد يصل
أحيانًا إلى أبشع ما تكون عليه الانحرافات: حروبٍ،
وإراقةِ دماء، وظلمٍ بكل أنواعه، وتعذيب، وردِّ
السيئة لا بالحسنة بل بأسوأ وأشنع منها … إنَّ
العنف ونتائج العنف كلها غير مفيدة للإنسان، لأنها
مراهنات غير رابحة، ولهذا عادة ما يخرج المؤرخُ من
دراساته التاريخية منكِرًا للعنف، لأنَّه إجهاض
للحضارة الإنسانية. إنَّ العنف هو الذي قتل الحضارة الإسلامية.»
١٢
إنَّ التعصُّب والعدوانية والاستغلال ظواهر
متفشِّية في الاجتماع البشري عبر التاريخ، كما أنَّ
عنف الإنسان ضدَّ أخيه الإنسان ليس طارئًا في
الحياة، بل هو سلوك بيولوجي، وسياسي، واجتماعي،
وثقافي وديني، مترسخ في دنيا الإنسان. وإنَّ رسالة
الأديان ومقاصدها الكلية تتلخَّص في إشاعة السلم
والتراحم والمحبة بين الناس، والسعي لتجفيف منابع
العنف والعدوانية والتعصب. ولكن طالما تم طمسُ تلك
المقاصِد ونقضُها، بنشوء جماعاتٍ وفِرَقٍ لا تقتصر
على إعلانِ انتمائها للدين، وإنما تصرُّ على احتكار
تمثيله، وتحرص على مخاصمة أية جماعة غيرها تقدم
فهمًا مختلفًا للدين وقراءة إنسانيَّة للنصوص
الدينية. وتهتمُّ تلك الجماعاتُ بتطويرِ أساليبها
الدعويَّة باستمرار، وتسعى للهيمنةِ على الدين
والدنيا، وتكريس الانغلاق على الذَّات، ومطاردةِ
أيَّة محاولة تهدف إلى نقدها، وإهدار دم الأشخاص
الذين يفضحون مفاهيمَها، ويفضحون انتهاكاتها
لإنسانية الإنسان، وتزييفها لأهداف الدين، وإهدارها
للقيم الرُّوحية.
عادةً ما تصدر هذه الجماعات عن قراءة حرفية مغلقة
للنصوص المقدسة، لا تكاد تتجاوز المدلولَ اللغويَّ
الساذج، وتُشيع تفسيرًا قمعيًّا للنصوص، تقبع
خلفياتُه الثقافيةُ في الصحراء والمحيط البدويِّ
المغلق على العالم، كما تحارب بلا هوادة كافَّة
القراءات التي تتخطَّى المعنى السطحي، وتغور في
الأعماق، مستلهمةً المضامين الرُّوحية الغنية في
النص، ومستوحيةً رؤيته الرمزيَّة المعنوية
الجمالية، مثلما فعل المتصوفةُ والعارفون
والفلاسفةُ الإشراقيُّون، وغيرهم. مضافًا إلى
تنكُّر هذه الجماعات للإسلام الحضاري، وتعبيراته
التمدينيَّة، والثقافيَّة، والرُّوحيَّة،
والجماليَّة، واعتبارها هرطقةً، وبدعةً، وزيغًا
وضلالًا. أمَّا الإسلام المستقيم الصحيح في نظرهم،
فيُختزل في إسلام العصر التدشينيِّ، أي إسلام جيل
الصَّحابة خاصَّة، بينما تخضع المعطيات المتنوعة
للإسلام في المراحل اللاحقة لمحوِ الذاكرة،
وكأنَّها لم تكن موجودة.
كما أنَّ الفنون الجميلة، من رسم ونحت وموسيقى
وغيرها، جميعها محرمة، وتعاطيها محظور بأيِّ شكل
كان، لا بد من أنْ ينطفئَ الحسُّ الجماليُّ،
ويتبلَّد الذوقُ الفنيُّ، ويشمل ذلك أيضًا الجسد
وتعبيراته الجماليَّة ولغته والفضاءات الحافَّة به.
ويشطب على الميراث الثقافي الهائل الخاص بالسماع
والألحان والترانيم والإنشاد.
العلامة الفارقة لخطابات هذه الجماعات، هو
تشديدُها على ضرورة تبنِّي آراء السلف ومواقفهم
بتمامها، وهروبها دائمًا إلى الماضي، وارتيابها من
كل ما مِن شأنه أن يطلَّ على المستقبل، أو يتعاطَى
مع الواقع بعقلانيَّة نقدية، وسعيها المتواصل
لتبجيل الذَّات، وعدم الكفِّ عن امتداحها، واصطناع
صورة رومانسية مثالية لها، تُعْلِي من شأنِها،
وتدافع عن أخطائها، ونكساتها، وتتجاهل ما يحفِل به
تاريخُها من ثغرات، واستبداد، ومظالم، وما يسود
حاضرَها من تخلُّف وتعصُّب وجهل وأمية وفقر …
وغيرها. بينما تصطنع صورةً للآخر ليستْ بريئة، يصبح
فيها كلُّ ما يمتُّ إليه من معارف ورؤًى ومفاهيم
وقيم، رجسًا مُدَنَّسًا، تجب مناهضتُه، وإعداد
التدابير الوقائيَّة اللازمة لإغلاق مساربه وقنواته
في مجتمعاتنا. وتتفنن هذه الجماعات في تجييش
المهمَّشين والمحرومين، وتتخذهم مادة لبناء ثقافة
خاصَّة بالانتحار وتمجيد الموت، يكون أحد روافدها
صورة الآخر المشوَّهة، التي تصير منبعًا لكراهيته
والغضب المتقد عليه.
لقد اتسع نفوذُ هذه الجماعات في عصرنا، وحاولت
الإفادة من تكنولوجيا المعلومات، وتوظيف التقنيات
الراهنة في الاتصالات، لنشر أفكارها، فتغلغلتْ
مقولاتُها في مختلِف المناطق، واستقطبتْ عددًا ليس
بالقليل من الشباب والفتيان، وحرصت على صوغ وعيهم
في ضوء توجُّهَاتِها. وأخشى أنْ يلبثَ الدينُ
لسنوات عديدة مختطفًا من قبل تلك الجماعات.
٤
النَّزعة الإنسانية في الدين
يفرض علينا هذا الواقعُ الكشفَ عن منابع النَّزعة
الإنسانيَّة في الدين، وإضاءة الحقول المنسيَّة في
النُّصوص المقدَّسة، والتنبيه إلى الجهل
والتَّجاهل، والإصرار على تغييب مساحة واسعة من تلك
النصوص، تغتني بالقيم التنزيهيَّة السامية، التي
تصطفِي الإنسانَ، وترفع مكانته، وتعتبره أكرم موجود
خلقه الله في العالم، بل خلق كل شيء مسخرًا من
أجله، وجعل حياته أغلى رأسمال في الوجود، فهي مناط
الخلافة، وموطن المسئوليَّة والأمانة
الإلهيَّة.
وقد أنكر بعضُ المفكرين والباحثين والدارسين وجود
نزعة إنسانية في الدين، بالاعتماد على ما ورد في
النصوص، من الأمر بالقتال، والحث على العنف، أو
بالعودة إلى تمثُّلات الدين السلبية والقاسية في
الاجتماع البشري، واستثماره في الصراعات الدموية
والحروب المقدسة في التاريخ، والاستعانة به للتحريض
على الموت، وتعبئة أتباعه في معارك تنتهك كافَّة
الحرمات، وتحيل كلَّ شيء إلى رماد.
وتُشدِّد طائفة من المفكرين على أنَّ النزعة
الإنسانية عادةً ما تنبثق في سياقاتٍ ثقافية
واجتماعيَّة وسياسيَّة واقتصاديَّة محدَّدة، تشكِّل
إطارًا مناسبًا لتبلورها، ولم يتشكَّل هذا الإطارُ
إلا في القرن الثامن عشر في أوروبا، بعد القطيعة
الكاملة مع لاهوت القرون الوسطى. لذلك يعتقدُ
هؤلاءِ بعدم إمكانية انبثاق نزعةٍ إنسانية تتمحور
حول مركزيَّة إلهيَّة، وإنَّما لا تولد هذه النزعة
إلا بعد التمحور حول الإنسان وإحلاله في مركزِ
الإله، وهو ما لم يتحقَّق في الماضي، وإنَّما تحقق
في العصر الحديث. لكن جماعة من المفكرين برهنوا على
تجذُّر النزعة الإنسانية في الإسلام، أمثال: جورج مقدسي،
١٣ ومحمد أركون،
١٤ وجويل كريمر،
١٥ كما دلَّل جاك ماريتان على أولوية
العامل الرُّوحي، وشدَّد على رسوخ النزعة الإنسانية
في المسيحيَّة.
١٦
وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ الاجتماعَ الإنسانيَّ
طالما تعرَّض للانتهاك بذرائع دينية مختلفة،
والكثير من الجنايات والمظالم والاغتصابات ارتُكبتْ
في التَّاريخ باسم الذَّود عن الدين، والدفاع عن
«شعب الله المختار» أو «الأمة المصطفاة» أو «الفرقة
النَّاجية». وما زالت القراءةُ الفاشيَّةُ للنُّصوص
تُنتج أعدادًا لا حصرَ لها من المتطرفين الذين
ينتهكون كرامةَ البشر ويقتلونهم بلا سبب، بغية
الفوز برضوانِ اللهِ ودخول الجنَّة!
غير أنَّ مراجعةً نقديَّةً للتاريخ، وقراءةً
تحليليَّةً للنصوص، وتقويمًا للموروث من منظور
مختلف، يمكن أن تفتح لنا نافذةً على البؤر المضيئة
والثراء والتنوع في النُّصوص. ويمكننا في ضوء هذا
النَّمَط من التَّعاطِي مع النَّصِّ والتراث
التعرفُ على تمثُّلات الدين المتنوعة في الاجتماع
الإسلاميِّ عبر التاريخ، والكشف عن السياقات التي
تشكلتْ فيها، والوقوف على ما تكتنزه النصوص الدينية
من قيم رُوحية وأخلاقية وجمالية، وما تشترك فيه من
أهداف عامة ومقاصد كلية تفصح عن النزعة الإنسانية
فيها، والعمل على اكتشاف الأبعاد المطموسة للدين،
التي غيَّبها ركام الموروث وظلام التاريخ، وفضح
التفسيرات المتوحِّشة للنُّصوص، التي تحكي إسقاطات
أيديولوجيا إقصائيَّة ومعتقدات قمعيَّة. وكيف أنه
في كلِّ مرة يستغل السلطانُ المستبدُّ هذا النمط من
التفسيرات لتكريس نفوذِه، وبسط هيمنتِه على حياة
الناس، ويوظِّفها بأساليب بشعة لمراقبة الضمائر
وتفتيش العقائد.
إن إحياء النزعة الإنسانية في الدين يسارع في
تقويض ثقافة الاستبداد، ويفضح المشروعيات الزائفة
التي يسوِّق فيها طغيانه. وهذا يعني أنه متى تغيب
الحرية تذبل النزعة الإنسانية، ومتى تنبعث الحريةُ
وتسود قيم التعدديَّة وحقِّ الاختلاف، تزدهر
النَّزعة الإنسانية، وتسود قيمُها وأخلاقيَّاتُها
ومفهوماتُها التمدينية في المجتمع.
إنَّ بعض مقولات علم الكلام الموروثة لا تسمح
بانبعاث النزعة الإنسانية في الدين؛ ذلك أنَّ مثل
هذه المقولات تصدر عن رؤية أحاديَّة وذهنية مغلقة،
لا تسمح باستيعاب القِيَم الإنسانية المنفتحة. من
هنا ينبغي تجاوزُها، وبناء إلهيَّات عقلانية
مستنيرة، تنفتح على الميراث المعنويِّ العميق
للعارفين، والتجارِب الرُّوحية المضيئة للمتصوِّفة،
لو أردنا أنْ نجنِيَ ثمرات النَّزعة الإنسانية في
الدين، وحاولنا الخلاص من التفسيرات المتعسِّفة
القمعية للنصوص. وتحديث الإلهيَّات يتطلب أن ننفتح
على كل التساؤلاتِ الجديدة، التي تُفضي إلى
التحرُّر من الصورة النمطية للإله، وكلِّ ما تشكَّل
في سياق الصِّراعات الدامية، والفِتَنِ والحروب
العديدة بين الفرق والمذاهب، والسعي لترسيخ صورة
للإله تستلهم ما يتحلَّى به من صفاته الجمالية،
وأسمائه الحسنى «الرحمن، الرحيم، القدوس، السلام،
المؤمن، العزيز، الباري، المصوِّر، الغفَّار،
الوهَّاب، الرزَّاق، البصير، الحَكَم، العدل،
اللطيف، الحليم، الشكور، الحفيظ، الكريم، المجيب،
الواسع، الحكيم، الودود، الحق، المحيي، البَر،
التوَّاب، العفُوُّ، الغفور، الرءوف، مالك الملك،
الغني، النور، الهادي، الرشيد، الصبور … إلخ».
وإنقاذ الأبعاد الجمالية والرمزية والمعنوية للدين.
١٧
٥
إيقاظُ الحياةِ الرُّوحية
تعرَّضت النزعةُ الإنسانيَّة في الغرب الحديثِ
لمراجعاتٍ نقدية جادَّة ومتواصلة، من قِبل الكثير
من المفكِّرين المُدَافِعينَ عن إنسانيَّة الإنسان،
لكنَّ مواقفَ بعضِهم حيال الآخر المختلف تتَّسم
بالإهمال والتَّجاهل، فما تضجُّ به بلادُنا من بؤسٍ
وشقاء، وانتهاكات شنيعة لكرامةِ الكائن البشري،
وإهدارٍ لحقوقه، وبطشٍ بإنسانيَّته، يرتكبها
حكَّامنا وأجهزتهم القمعية، لا يدعو بعض المؤسَّسات
والمنتديات والأحزاب الغربيَّة للتَّضامُن مع
جراحاتِنَا وشَقَائِنا الدَّائم، بالرغم من
تَبَنِّي هذه المؤسَّسات لمبادئ حقوق الإنسان،
ودفاعها عمَّا يلحق أي مواطن في بلدانهم من أذًى.
وإثر ذلك وصف بعض المفكرين الغربيين هذا الشكل من
الإنسانية ﺑ «الأنسنة الشكلية الأدبية
Humanisme formel et
litteraire، وهي الأنسنة التي
تكتفي بالتلاعب اللفظي في الصالونات الأدبية
المنفصلة عن الحياة اليومية للطبقات الكادحة
والمهمَّشة والمستعبَدة، إلى الدَّرجة التي نعرفها
في عهد الثورات البروليتاريَّة، ووصل هذا النَّقد
والرفض للأنسنة الشكلانية إلى حدِّ الإعلان عن «موت
الإنسان». لماذا؟ لأنهم اعتبروا أنَّ الأنسنة
الشكلانيَّة ليستْ إلا مفهومًا مجرَّدًا أو
تجريديًّا منفصلًا عن واقع الوجود.»
١٨ وكان الفيلسوفُ ميشيل فوكو قد أعلن في
الستينيات شعارَه الشهير «موت الإنسان» بعد تفشِّي
الممارسات الوحشية الشنيعة للاستعمار، من استباحةِ
ونهبِ ثروات البلدان المستعمَرة، وقتل سكانها،
وتدمير ثقافاتها، وتمزيقها وتفتيتها جغرافيًّا.
وأثار شعارُ فوكو عددًا غير قليل من المفكرين
الغربيين الذين احتفوا به وكتبوا في سياقه الكثير
من الدراسات.
إنَّ البشريَّة اليوم بأمسِّ الحاجَة إلى تعزيز
النَّزعة الإنسانيَّة، عبر استيعاب الحياة
الرُّوحية الخِصبة في الدِّين، وإحياء التجارِب
الإيمانية؛ تلك التجارِب التي تمنح أصحابَها رؤيا،
يُصبح فيها العالمُ ساطعًا، شفيفًا، ممتلئًا
بالمعنى. يتخلق فيها الإنسانُ بأخلاقِ الله، وتغدو
صفاتُ الله مؤشرات وغايات عُظْمَى لمخلوقاته، يجب
أنْ يكدح الجميعُ للانخراط في مدياتها الرحبة، بل
يسعى العارفون والمتصوفة، الذين تطغى في وجدانهم
أشواقُ الرُّوح، ليكونوا مرآة لها. وفي ذلك يقول
تور أندريه
١٩ بأنَّ هذا الاتحاد ليست له عَلاقة
بتحوُّل ميتافيزيقي، وإنما بتحوُّل ديني أخلاقيٍّ،
فالاتحاد بالله يعني أنَّ مشيئة الله تصير مشيئة
الإنسان، وأن الإنسان يحلُّ في صورة الله، بالمعنى
الأخلاقي، أي إنَّه يتقمَّص — كما يُقال — سجايا
الله، فمثلًا: «المحبة» تعني — كما يقول الجنيد:
«دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المحب.»
٢٠ ويخبرنا الداراني عن ماهيَّة هذه
الصفات التي يمنحها الله إلى أصفيائه ويمنُّ بها
عليهم، فيقول: «جلساء الرحمن يوم القيامة مَن جعَل
فيهم خصالًا باقية: الكرم، والحلم، والعلم،
والحكمة، والرحمة، والرأفة، والفصل، والصفح،
والإحسان، والعطف، والبر، واللطف.»
٢١ لذلك صارتْ «معاشرة العارف كمعاشرة
الله يحتملك ويحَلُم عنك تخلُّقًا بأخلاق الله الجميلة.»
٢٢ ومعنى هذا أنَّ من تجسد به هذا المثلُ
الأعلى هو الذي نال الاتِّحاد بالله. ويُطلِق
التصوف الإسلامي على الحياة الجديدة مع الله التي
تحلُّ مكان الوجود الذاتي الأناني مصطلحَ «البقاء»،
وبهذا المعنى يكونُ «الفناء هو التَّلاشي بالحقِّ،
والبقاء هو الحضور مع الحق.»
٢٣
أمَّا الأسماءُ الإلهيَّة فهي منبع الإلهام
والتأمُّل بالنسبة لأصحاب التجارِب الرُّوحية
السامية، وهي تُفهم لديهم بمعنًى أخلاقي، فمثلًا:
الحق سمَّى نفسه «البصير» ليمنع الإنسان من الذنب،
أو «السميع» لكي لا يفتح الإنسانُ فاهَهُ بكلام
مَعيب ومنفِّر، وهكذا بقيَّة الأسماء، فهي تعمل في
الإنسان بمثابة نماذج للتحذير والتنبيه. فمثلًا:
عندما يريد الإنسانُ أن يجتنب غضبَ الله، عليه أنْ
يتخلص أوَّلًا من غضبه هو، لأنَّ الإنسان مَدْعُوٌّ
إلى أن «يُخلِّق نفسَه بأخلاق الله.»
٢٤ ويوضِّح الحديث المعروف بحديث النوافل،
كيف يطوي المخلوق في مدارج السالكين المنازلَ إلى
الرحمن، فإنَّه بمجرد أنْ يتوجَّه ويسعى للاقتراب
منه تعالى، يُقْبِل عليه الرحمنُ فيجتذبه إلى عالَم
الملكوت. «عندما يقترب عبدي مني بالنوافل أقترب
منه، فإذا تقدَّم شبرًا تقدَّمتُ ذراعًا، وإذا أتَى
ماشيًا أتيتُ جاريًا، ثم أُصبح اليدَ التي بها
يُمسك، والعينَ التي بها يرى، والأُذنَ التي بها
يسمع …»
٢٥ وبالتخلُّص من الخطايا والأخلاق
الذميمة «يستطيع الإنسان أن يصل إلى الفناء في
الإرادة الإلهيَّة، والفناء أساسًا مفهوم أخلاقي.»
٢٦
نجد عدَّة نصوص تصرِّح بأنَّ اللهَ هو «ربُّ
العالمين». ولم يسمح ربنا لأي شخص أو جماعة
باحتكاره أو تمثيله دون سواها، وهو ليس إلهًا
خاصًّا ببني إسرائيل أو العرب أو العجم، وإنما هو
إله كلِّ الناس، رحيم بهم جميعًا، و«الناس كلُّهم
عيال الله، وأقربكم إلى الله أنفعكم لعياله»، كما
ورد في حديث النبي محمد الذي أرسله اللهُ «رحمة للعالمين».
٢٧ وما أرقَّ تعبيرَه وهو يوضِّح المراميَ
والأهداف الإنسانية لبعثته، فقد قيل له: «يا رسول
الله، ادع الله تعالى على المشركين. فقال: إنما
بُعِثْتُ رحمة، ولم أُبْعَثْ عذابًا.»
٢٨ يحلو للمتألِّهين أن يرسُموا صورة
للنبي، يكون فيها «الكيمياء من أجل الإنسان»، بينما
يصير الناس كالنحاس الرديء، لكنَّ نوره يحوِّلهم
إلى ذهب. ومن طريفِ كنايات جلال الدين الرومي
توصيفه للنبي، بأنه «مطرُ الرَّحمة»، باعتباره
المعشوق الذي يُعِيدُ الحياةَ إلى الأرض العطشى
للأرواح بحلوله.
٢٩
ويقرن ابنُ عربي في كتابه «فصوص الحِكم» اسمَ
سليمان النبي بالحكمة الرحمانيَّة، في عنوان الفصل
الخاصِّ به، حينما يضع هذا العنوان: «فصل حكمة
رحمانية في كلمة سليمانية»، ويشير إلى أنَّ سليمان
«أتى بالرحمتَين: رحمةِ الامتنان، ورحمةِ الوجوب،
اللتين هما الرحمن الرحيم، فامتنَّ بالرحمن وأوْجَب
بالرحيم. وهذا الوجوب من الامتنان، فدخل الرحيم في
الرحمن دخول تضمُّن. فإنه كتب على نفسه الرحمة
سبحانه، ليكون ذلك للعبد بما ذكره الحقُّ من
الأعمال التي يأتي بها العبدُ، حقًّا على الله
تعالى أوجبه له على نفسه، يستحقُّ بها هذه الرحمة،
أعني رحمة الوجوب.»
٣٠ أورد الدكتور أبو العلا عفيفي تعليقًا
على ذكر ابن عربي للاسمين الإلهيين «الرحمن الرحيم»
في الفصل السليماني، يقول فيه: على هذين الاسمين
الإلهيَّين، الرحمن والرحيم، الوارد ذكرهما في كتاب
سليمان إلى بلقيس، والوارد أيضًا في فاتحة كلِّ
سورة من سور القرآن الكريم، بنى ابنُ عربي فكرة
فلسفية من أخصب الأفكار في مذهبه. وليس بين الاسمين
من الناحية اللغوية كبيرُ فرق، ولكنهما يُستعملان
في اصطلاحه الخاص للدلالة على «الحقِّ» باعتبارين
مختلفين تمام الاختلاف، فالرحمن هو واهب رحمة
الامتنان، والرحيم هو واهب رحمة الوجوب. ورحمة
الامتنان هي الرحمة العامَّة الشاملة لجميع الخلق،
وليست إلا منح كلِّ موجود وجوده على النَّحو الذي
هو عليه في غير مقابلة أو عِوض، فهي الرحمة التي
أشار إليها في قوله:
وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ.
إنها مرادفة للوجود، أو لمنح الوجود على سبيل
المنَّة، وليس لها أيُّ صلة بمعاني الشفقة أو العطف
أو العفو … أمَّا رحمة الوجوب فهي التي أوجبَها
الحقُّ على نفسِه في قوله:
كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ
الرَّحْمَةَ … دخل الاسم الرحيم في
الاسم الرحمن دخولَ تضمُّنٍ كما يقول، وكان الاسم
الرحمن هو الواهب الرحمة، أي واهب الوجود إطلاقًا،
سواء أكان الوجودُ محضَ امتنان من الحقِّ للخلق، أو
حقًّا عليه لهم. ويبدو التخلُّق بأخلاق الرحمن
بنحوٍ أجْلَى لدى ابن عربي، في موضع آخر عندما يذكر
سمة مميزة للربانيين من أهل الكشف، ممَّن «يسألون
رحمة الله أن تقوم بهم» بحسب تعبيره، بمعنى أن
يتحقَّقوا بصفة الرحمة التي هي من صفات الله،
فيصبحوا راحمين لا مرحومين، أي يصير الشخص ذاته
منبعًا لفيض الرحمة، ولا يكون هناك فرق بين الراحم
والمرحوم، فالحق سبحانه إذا رحم شخصًا، يعني أنه
أوجد فيه الرحمة، أو جعل الرحمة تقوم به، بحيث يصبح
قادرًا على أن يرحم غيره من المخلوقات، وبذلك يُصبح
المرحوم راحمًا. أي إنَّ الحقَّ لا يُوجِد الرحمة
في المرحوم ليرحمه بها، بل ليُكسبه الصفةَ الإلهية
التي بها يرحم غيره. وهو في نظر ابن عربي لا يتحقق
إلَّا للكاملين من العارفين.
٣١
ومن أَجْلَى مصاديق التخلُّق بأخلاق اللهِ هو
تدريب النَّفس على حُبِّ الآخرين وهو أمر صعب
جدًّا، وتمنِّي الخير لهم، ومحاولة تحرير النفس من
النَّزعات العدوانيَّة، وترويضها على الخلاص من
الدَّوافع الشريرة التي يُبتلى بها البشر. ويُعتبر
الحب منبع إلهام الحياة الرُّوحية، ومصدر الانجذاب
إلى الحقِّ تعالى، فإنَّ المتألِّهين في وجدٍ لا
ينقضي لشهود نورِ جمال الحق، وشوقهم لا ينضب،
وظمؤهم حارق لا ينطفئ، ولعلَّ فيما يُنسب إلى أبي
يزيد البِسطامي إشارةً إلى ذلك: «شربتُ الحب كأسًا
بعد كأس، فما نفد الشرابُ وما رَوِيتُ.»
٣٢
وقد عبَّرت رابعة العدوية عن عدم كراهيتها لأيِّ
شيء لأنَّ حبَّها لله شغلها وملأ وجدانَها، حتى
أضحى صِبغةً لها، فنزَّهها من كراهيةِ أحطِّ مخلوق،
وهو الشيطان، حينما قالت: «إنَّ حبي لله قد منعني
من الاشتغال بكراهية الشيطان.»
٣٣
الحبُّ كالرحمة عند ابن عربي، فكما يصيرُ المرحوم
راحمًا، كذلك لا بد أن يتعالَى ويتسامَى المُحب إلى
محبوبه، إذ يقول: «فالمحبُّ الصادق من انتقل إلى
صفة المحبوب، لا من أنزل المحبوب إلى صفته.»
٣٤
بذلك يمكن أن يطهِّر حبُّ الله الذين يسكرون به
من أية رُوح عدوانية، ويجعلهم يُفيضون رأفةً وعطفًا
على جميع الكائنات، لأنهم يتشبهون بصفات من يحبونه،
وهو «أرحم الراحمين»، وربما غامرُوا براحتهم
وتحمَّلوا الكثير من المشاقِّ والمتاعب من أجل
سعادة الآخرين، وكأنَّهم يجسِّدون ما قاله القديس
أوغسطين في بيانه لحقيقة السعادة: «السعادة هي أن
نُسعد الآخرين.»
ويتعاظم إحساسُ جلال الدين الرومي بالحب والعشق،
فتصبح لديه القوة المحركة للحياة الرُّوحية، وهو
الكيمياء السحرية التي تتحوَّل بواسطتها مادة
العناصر الخسيسة إلى مادة نفيسة ثمينة، يُنشد
الرومي في المَثْنوي:
بالمحبة تصيرُ الأشياءُ المُرَّةُ
حُلوةً.
وبالمحبة تصيرُ الأشياءُ النحاسيةُ
ذهبيةَ الصِّفات.
وبالمحبة تصيرُ الأشياءُ العَكِرة
صافيةً.
وبالمحبة تصيرُ الآلامُ شفاءً.
بالمحبة يحيا الميِّتُ.
ويستعيد مولانا الرومي الرُّوح
الإنسانية الشفافة لرابعة العدوية، ولكن بأحاسيسَ
أبْعدَ مدًى، عندما ينظر إلى الشيطان بمشاعر عاشق،
فيقول:
لو صار الشيطان عاشقًا لاختطف كُرة
السَّبق،
ولصار مثل جبريل وماتتْ فيه تلك الصفاتُ الشيطانيَّة.
٣٥
يرى المتألِّهون أنَّ الله
والإنسان يتبادلان الحب: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ (المائدة:
٥٤). وإنْ كان حبُّ الله يسبق حبَّ الإنسان. ولو
راجعنا النُّصوص التأسيسيَّة للأديان نراها تتفق
بتوجيه أتباعها نحو حبِّ الخير للغير، مثلما يحبه
المرء لنفسه. وفيما يلي نماذج من نصوص أبرز الأديان
في العالم حيال الآخر:
-
«هذا مجمل الواجبات: لا تعامل الغيرَ
بما إذا عوملتَ به آلمك» (البراهمانية،
مهبهراتا، ٥: ١٥١٧).
-
«لا تؤذِ الغيرَ بسلوك تجده أنت
بنفسك مؤذيًا لو سُلِكَ معك» (البوذية،
أودانا-فارقا، ٥: ١٨).
-
«هذا حقًّا مثل المحبَّة اللطيفة: لا
تعامل الغيرَ بما لا تريد أن يعاملوك
به» (الكونفوشيوسية، ديوان، ١٥:
٢٣).
-
«الشيء الذي تبغضه، لا تعامل به
صحبَك، هذا مجمل النَّاموس، وكلُّ ما
تبقى شروح» (اليهودية، التلمود، شباط:
٣١أ).
-
«سمعتُم أنَّه قيل تُحبُّ قريبك
وتبغض عدوَّك. وأمَّا أنا فأقول لكم
أَحِبُّوا أعداءكَم، بارِكوا لاعِنيكم،
أحسِنوا إلى مُبغضِيكم، وصلُّوا لأجل
الذين يُسيئون إليكم ويطردونكم» (إنجيل
متى، ٥: ٤٣).
-
«فكلُّ ما تريدون أن يفعل الناس بكم،
افعلوا هكذا أنتم أيضًا بهم، لأنَّ هذا
هو النَّاموس والأنبياء» (المسيحية،
إنجيل متى، ٧: ١٢).
وَلَا تَسْتَوِي
الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ
وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ
وَلِيٌّ حَمِيمٌ *
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا
الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا
يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ
عَظِيمٍ. (الإسلام،
القرآن، فُصِّلَت: ٣٤-٣٥).
-
«لا يكون المؤمن مؤمنًا حتى يحبَّ
لأخيه ما يحب لنفسه» (الإسلام، حديث
نبويٌّ شهير).
٣٦
إنَّ السبيل للتخلُّق بأخلاق الرحمن إنَّما
يتحقَّق عبر إنقاذ النَّزعة الإنسانيَّة في الدين،
وإضاءة أبعادِه الأخلاقيَّة والمعنوية والرمزية
والجمالية، وتطهير التديُّن من كافَّة أشكال
الكراهية والإكراهات.
لا ريب في أنَّ ذلك لا يعني اختزال الإنسان في
مجموعة مفاهيم وقيم مثالية، تتعالى على بشريَّته،
وتصيِّره كائنًا سماويًّا مجرَّدًا، منسلخًا عن
عالمه الأرضيِّ، مثلما تريدُ بعضُ الاتِّجاهات
الصوفيَّة والدعوات الرهبانيَّة، بل يعني إنقاذُ
النزعة الإنسانية إيجادَ حالةٍ من التَّوازن
والانسجام بين متطلَّبات جسده من حيث هو كائن بشري،
وإمكانية غرس وتنمية رُوح التَّصالُح مع العالَم،
والتناغُم مع إيقاع الكونِ، وتكريس حالةِ الانتماء
للوجود، والتعاطُف مع كافَّة الكائنات الحيَّة
والشفقة عليها، وتعزيز أخلاقيَّة المحبة، وتدريب
المشاعر والأحاسيس والعواطف على القيم النبيلة،
والسعي لاكتشاف روافد ومنابع إلهام الطاقة الحيوية
الإيجابية في هذا العالَم، والتواصل العضويِّ معها.
وهذا يعني التحلِّيَ بصفات الله، مثل: الرحمة
والمحبة والعفو والمغفرة والسلام.