فلسفة الدِّين ورِهانات الفكر الديني١
١
جواب: المركز الذي أسَّسناه في بغداد «مركز دراسات فلسفة الدين»، هو محاولة لتدشين أسلوب جديد في دراسة الدين، ينفتح على أفق واسع، ويتواصل مع المعطيات الحديثة والراهنة للعلوم الإنسانية، ومكاسب العقل والخبرة البشرية، ويوظِّفها في تفسير وتأويل النصوص الدينية، ومراجعة التراث وغربلته ونقده، والتَّعاطي معه باعتباره منجزًا بشريًّا، محكومًا بمشروطيَّة زمانية-مكانية خاصَّة، وتعبيرًا عن واقع «سياسي، اقتصادي، ثقافي، لغوي»، يسود بيئة معيَّنة. كما يوظِّفها في تحليل واستبطان التجارِب الدينية، والخبرات الرُّوحية، والأحاسيس والعواطف والمشاعر المنبثقة من الدين، ونمط المعنى الذي يخلعه الدينُ على حياتنا، وقيمة وأثر ذلك المعنى في إرواء ظمئِنا الأُنطولوجي، وإثراء عالمنا الباطنيِّ، وبثِّ السكينة والطمأنينة فيه، مضافًا إلى تهذيب سلوكنا. واكتشاف المنابع الدينيَّة لمختلِف الظواهر السَّائدة والمترسِّخة في مجتمعاتنا، والتعرُّف على آثارها في بناء أو تفتيت هذه المجتمعات.
تنشد فلسفةُ الدين اكتشاف أنظمة إنتاج المعنى المقدَّس، وكيف تتم عملية التلاعب بالمقدَّس، فيجري تقديسُ غير المقدس، تبعًا لإرادة الهيمنة، ومتطلَّبات الاستحواذ على السُّلطة والثروة، واحتياجات الإنسان المتنوعة، وشبكات مصالحِه المختلفة باختلاف الزمان والمكان.
فلسفةُ الدِّين نافذة ضوء للخروج من قراءة النصوص الدينية بمناهج وأدوات نظر تراثية، والتي هي مناهج وأدوات نظر أنتجتْها سياقات زمانية ومكانية وثقافية مختلفة اختلافًا كبيرًا عن سياقات عصرنا. لذلك تعيد هذه المناهجُ وأدوات النظر إنتاجَ النتائج ذاتها في تفسير النصوص الدينية، وفهم وتحليل الظواهر الدينية في حياة الإنسان، رغم اختلاف الإنسان وتحوُّلات ثقافته وطرائق عيشه.
فلسفة الدين محاولةٌ لفضِّ الاشتباك بين الدِّيني والدنيويِّ، عبر اكتشاف المجال الخاص لكلٍّ منهما، ورسم حدوده، كي لا يبدِّد الدنيويُّ الدينيَّ، ولا يبدِّد الدينيُّ الدنيويَّ.
ما تَعِدُ به فلسفةُ الدِّين يتطلَّب الكفَّ عن الموقف الارتيابيِّ المسكون بالتوجُّس من فتوحات واكتشافات عقلِ الآخر، والشِّفاء من الفوبيا «الخوف» من كلِّ ما هو جديد في العُلوم والمعارف البشرية. في «فلسفة الدِّين» لا نحذِّر من الإفادة من سلَّة العلوم الإنسانيَّة، وما انتهى إليه العقل البشري، من دون تجنيس هذا العقل أو تصنيفه: إثنيًّا، أو جغرافيًّا، أو لغويًّا، أو دينيًّا، أو ثقافيًّا.
فلسفة الدين لا يمكن أن تستغني في دراسة النصوص الدينية، والتجارِب الدينية، والتراث، عن: اللسانيات الحديثة والمعاصرة، والهِرمنيوطيقا وعلوم التأويل، وفلسفة اللغة، وعلم نفس الدين، وعلم اجتماع الدين، وأنثروبولوجيا الدين، ومعطيات الفلسفة وعلوم الإنسان. إنها مغامرة جسورة في عبور أنفاق الموروث، والانعتاق من تَكرار الحواشي والشروح وشروح الشروح.
بعد أكثر من خمسة عشر عامًا من جهود مركز دراسات فلسفة الدين وإصداراته ومَجلته «قضايا إسلامية معاصرة» في بغداد، قرَّرتْ وزارةُ التعليم العالي والبحث العلمي إدراج «فلسفة الدين» في المقررات التعليمية لأقسام الفلسفة في الجامعات العراقية. كذلك تناولتْ مجموعةُ رسائل ماجستير ودكتوراه هذا الموضوع ومسائله المتنوعة في السنوات الأخيرة.
المعنى الذي يضفيه الدينُ على الحياة
جواب: مما يؤسَف له أنَّ النَّموذج الممثِّل للدين في الحياة السياسية، ووسائل الإعلام وغيرها، في الكثير من المساجد والمنابر، المعلن اليوم في بلادنا، يصدر عنه ضجيج واستغاثة ونُواحٌ وتعبئة، عادةً ما تعبِّر عنه جماعات سلفية، عجزت عن إدراك مضمون رسالة الدين في الحياة، وأغرقت أنفسها ومجتمعاتنا في نزاعات ومعارك، يتجلَّى فيها كلُّ شيء سوى قيم التراحم والمحبة في الدين. لقد عملت هذه الجماعات على اختزال الدين في المدوَّنة الفقهية فقط، ثم اختزلت هذه المدوَّنةَ طبقًا لمطامحها السياسية بأيديولوجيا صراعيَّة نضالية. وقامت بترحيل الدين من حقله المعنوي الرُّوحي الجمالي القيمي الأخلاقي الإنساني إلى حقل آخر، تغلَّب فيه القانون على الرُّوح. أيديولوجيا أهدرت طاقات الدين وإمكاناته في إنتاج معنًى لحياة الإنسان، وإضفاء معنًى لما لا معنى له. ولعل في ذلك يكمن السبب لمناهضة تلك الجماعات للتصوُّف والعرفان والفنون الجميلة، وافتقار أدبياتها إلى التعرف إلى المضامين القيمية والتجارِب الرُّوحية العميقة في التدين.
إن الحديثَ عن المعنى الذي يضفيه الدِّين على الحياة البشرية لمن يعتقد بأصالته وواقعيته، ولا يرجع جذوره لأسباب وضعية من تاريخ أو اقتصاد أو غيرهما، ليس بالأمر الهيِّن، كما يبدو لأوَّل وهلة، كما ليس بوسع شخصٍ ما أنْ يدعي احتكار معرفته، ليس لأنَّ ذلك مرتهِن بمقدار استيعابنا لجميع الأسئلة والمفاهيم والمناهج التي أفرزها الإنسانُ في مسيرته الطويلة، وهو ما يعقِّد البتَّ في إشكالية المعنى، بل ولأنَّ الحديث المشار إليه يواجه مشكلات أُنطولوجية وإبستمولوجية بشأن عَلاقة النسبي بالمطلق، وإمكانية استكناه إرادة الذات الإلهية، وطبيعة وقيمة المعرفة البشرية وآلياتها ومناهجها في هذا الحقل. ولكي لا يفسَّر موقفي في هذه النقطة وكأنه «تعطيل» للمعرفة، كما كان يصطلح القدماء من مفكرينا في الحضارة الإسلامية، يمكنني الإشارة إلى دور الدين في منح الإنسان «هدفًا» أو «أهدافًا» تتجاوز وجودَه البشري المحدود إلى الأبديَّة المطلقة التي يمثلها «الله»، وما يعنيه ذلك من تحصينات هائلة في مواجهة المشاعر والمواقف العدمية والفوضوية التي يمكن أن يغرَق فيها الإنسانُ. كما بوسعنا الإشارة أيضًا، إلى ما بات يسمى ﺑ «الأخلاقيات المؤسسة على الدين»، ودورها في بثِّ التعاون والتراحم، والألفة والمحبة، وأعمال البِرِّ والإحسان، في واقع البشر.
إن دراسة إشكالية المعنى في الدين قضية تقع في الصميم من معنى الكينونة البشرية، وهي بالإضافة إلى جِدِّيتها وعمقها وثرائها المعرفي، تنطوي على أبعاد شيِّقة وخِصبة رُوحيًّا، لا يكاد يُفلت من مداراتها العقل النقديُّ الشغوف بالحقيقة والمعرفة المتجدِّدة.
٢
جواب: تجديدُ الفكر الديني يعني إحياءَ واستلهام الميراث المعنوي العميق، واستدعاء التجارِب الرُّوحية التطهيرية التنزيهية السامية في التاريخ. وبناء إلهيات عقلانية مستنيرة، تحرِّرنا من التفسيرات التعسفية القمعية للنصوص. وتحديث الإلهيات يتطلَّب الخروج من السياقات الكلاسيكية للتفكير الديني، وعدم التوقف عن طرح تساؤلات حرَّة، والتوكُّؤ على منهجيات ومفاهيم مستوحاة من المكاسب الجديدة لفلسفة الدين وعلوم التأويل والمعارف البشرية، تفضي إلى التحرر من الصورة النمطية للإله، التي تشكلت في سياق الصراعات الدامية، والفتن والحروب العديدة بين الفرق والمذاهب، والسعي إلى ترسيخ صورة رحمانية للإله، تستلهم ما يتحلَّى به من صفاته الجمالية، وأسمائه الحسنى، ورحمته التي وسعت كل شيء.
وإنجاز مصالحة بين المتدين ومحيطه الذي يعيش فيه، والإصغاء لإيقاع الحياة المتسارعة التغيير، ووتيرة العلوم والتكنولوجيا التي لا تكفُّ عن مفاجأتنا كلَّ يوم بجديد، تتبدل معه صورة العالَم، وتختلف تبعًا لها أساليب تعاطينا مع الواقع، وتتيح لنا وسائل تكنولوجيا المعلومات والنانو والهندسة الجينية مغامرات وعي، توقظ عقولنا وتخرجها من الحالة السكونية، وتقدم لنا سلسلة معطيات ومعارف وأدوات، تصوغ لنا تصورات وإدراكات وأفكارًا، تتبدَّل معها رؤيتنا للكون والحياة.
جواب: لا معنى للحوار مع الآخر من دون معرفته. وأول ما تنطلق منه هذه المعرفة هو دراسةُ معتقداته، إن لم نقل بتعاطف، فبتفهُّم ورغبة باستيعاب الحقيقة، دراسة تمر عبر نصوصه ومدوَّناته الخاصَّة، وبالعودة المستمرَّة للخبراء والمختصين من دارسي تلك المعتقدات، بمن فيهم أتباعها ومعتنقوها. لو أردتُ دراسة الهندوسية أو البوذية أو الطاوية، لا ينبغي أن تذهب إلى جامعة الأزهر في القاهرة، أو جامعة محمد بن سعود في الرياض، أو الحوزة في النجف، إنما يجب أن تذهب لنصوص مؤسِّسِي تلك الأديان، وتفاسيرها وشروحاتها من قبل رجال الدين والخبراء فيها، لكي تكتشف مقولاتها وما ترمي إليه.
تتأسَّسُ لبنات الحوار من المراحل التعليمية التمهيدية والابتدائية، حين يتلقَّى الناشئةُ في مقرراتهم الدراسية صورةً أوَّلية عن الأديان والمعتقدات والثقافات، لا تنطوي على زيف وهجاء. عندما نلقِّن أبناءنا مفاهيم مزورة عن آراء الآخر ومفهوماته ومعتقداته، فإننا نسقيهم سُمًّا، يغرس في أذهانهم كراهية الغير والنفور منه، ويوفِّر أرضيات خِصبة في مشاعرهم لاستنبات وترسيخ كلِّ الأفكار المتحجِّرة المتطرفة، التي لا تطيق أي شكل من أشكال التواصل مع المختلِف دينيًّا وثقافيًّا. أطالع أحيانًا رسائل جامعية مقدمة في جامعات سُنية عن الشيعة، أو جامعات شيعية عن السُّنة، فأجدها غارقة بتشويه صورة المسلم المختلف، كذلك لا أستطيع الصبر على برامج الفضائيات الطائفية، وتشويهها لأبناء الملَّة. وأخشى أن يفضي الاستقطاب الطائفي الحادُّ إلى تفتيت ما تبقى من مجتمعاتنا.
٣
جواب: لا أريد أن أبخس جهود النخبة العراقية الوطنية المرابطة في العراق، ومعاناتها، وألمها، فترة هيمنة فاشيَّة حزب البعث. لكنْ أودُّ أن أشير إلى أن بطش السلطة وقمعها اضطرتهم للغياب سنوات طويلة، وأن الحصار في التسعينيات من القرن الماضي حطَّم البنية التحتية للثقافة العراقية، والمؤسسات الثقافية كافة، وغيَّب عن العراق الإنتاج الفكري الجديد، مع تعطيله حركة الطباعة والنشر، فصمتت الثقافة والمثقف العراقي. بين هلالين: (أنا لا أتحدث عن ثقافة ومثقفي صدام حسين، إنما أعني جماعةً من المثقفين الأحرار، ممن مكثوا في وطنهم في تلك الظروف البالغة العنف والقساوة).
أما المثقف العراقيُّ الجادُّ في المنفَى، فواصلَ تجرِبتَه الإبداعيَّة، وتراكم بمرور الأيام رصيده وإنتاجه الفكري، وتطوَّر تكوينه الأكاديمي والمعرفي واللغوي، بما أتاحه له مهجره، وبخاصة في تلك البلاد التي تمنح اللاجئين بعد سنوات قليلة حقَّ اكتساب الجنسية، والتعلُّم، والضمان الاجتماعي والصحِّي، وتوفِّر لهم حرية واسعة للتفكير والتعبير والكتابة. لا يمكن أن ننسى مبدعين عراقيين أنجزوا أعمالًا متميِّزة في المنفى، تركوا بصمتهم في الثقافة العربية في العقود الثلاثة الأخيرة، وأضحت آثارُهم مراجع إلهام للدارسين والباحثين.
هل يمكننا استبعاد آثارهم، وإسقاطها من الذاكرة، واعتبارها ليست عراقية؟! هل يمكن تجاهل ما أبدعه في المنفى: محمد مهدي الجواهري، مصطفى جمال الدين، عبد الوهَّاب البياتي، طه جابر العلواني، سَركُون بُولس، سعدي يوسف، فوزي كريم، فاضل العزاوي، هادي العَلَوي، نجيب المانع، صلاح نيازي، كاظم جهاد، فالح مهدي، شاكر لُعيبي، غائب طُعمة فَرْمان، فؤاد التكرلي، عبد الله إبراهيم، عبد الرحمن مجيد الرُّبيعي، شوقي عبد الأمير، فاطمة المحسن، عالية ممدوح، محسن الرملي، صموئيل شمعون، نجم والي، لطفية الدُّلَيمي، سميرة المانع، إنعام كَجَجي، مَيسَلون هادي، فالح عبد الجبار، رشيد الخَيُّون، سعيد الغانمي، عمار أبو رُغيف، هشام داود، كامل شياع، ضياء العزاوي، جبر علوان، صلاح جِياد، فيصل لُعيبي، رافع الناصري، عفيفة لُعيبي، ستَّار كاوُوش، يحيى محمد، إبراهيم الحيدري، حسن العلوي، حسن ناظم، فلاح رحيم، علي حاكم، عبد الجبار الرفاعي، صائب عبد الحميد، غالب الشابندر، جودت القزويني، ماجد الغرباوي، خالد توفيق، إبراهيم العبادي، علي المؤمن … والقائمة طويلة جدًّا وحافلة بالعلماء والأكاديميين والباحثين والروائيين والشعراء والمترجمين والنقَّاد والفنانين. يضاف إلى هؤلاء أصحاب المشاريع الثقافية المهمَّة والناشرون، مثل: فخري كريم «المدى»، خير الدين حسيب «مركز دراسات الوَحدة العربية»، خالد المعالي «دار الجمل» … لست بصدد استقراء شامل لجهود المثقفين العراقيين في المنفى، ذكرت نماذج فقط.
إن المنجَز الثقافي وما يَعِد به المثقفون في المنفى، يفتقر إليه العراق الآن، من حيث راهنيته، وتنوُّعه، وكفاءته، وثراؤه. العارفون بهذا الإنتاج يدركون قيمته وضرورته في التنمية الثقافية، وإمكاناته في إعادة بناء الأكاديميات والتعليم العالي. أتمنَّى أن يوثَّق هذا المنجز الواسع، بتبنِّي وتوجيه وزارة الثقافة في بلدنا، بإعداد ببليوغرافيا شاملة تستوعبه، وتتاح على الإنترنت للجميع. وقتئذٍ سندرك ما قدَّمه أولئك المجهولون المضحُّون بمتعهم الحسِّية، وراحتهم الجسدية، ممن اعتكفوا سنوات طويلة في مكتباتهم، واستنزفوا عمرهم في جهدٍ مضنٍ، من أجل أن ينحتوا لنا صورة بديلة للعراق في منفاهم.
٤
جواب: أنا منحاز للكرامة والحرية أبدًا. وهي شرط لكل ما هو صحيح وضروري في الاجتماع البشري، لا شيء حقيقيًّا من دون كرامة وحرية، حين تغيب الكرامة والحرية يسودُ: التمويه، التضليل، الحيلة، الدجل، النفاق، الازدواجية، ومختلِف أنماط التشوُّهات النفسية والأخلاقية والسلوكية. لا يمكن شفاءُ مجتمعاتنا من عاهاتها، وخروجها من نفق التخلُّف، وعبور مأزقها الحضاري إلا بعد توافر الكرامة والحرية. السلطات الشمولية في البلدان العربية تسوِّغ فاشيَّتها بتخويفنا من الإرهابيين، والسلفيين، وجميع أعداء الحرية، بل أحيانًا ترعى وتدرِّب وتموِّل وتوجِّه أجنحة خاصة بها من تلك الجماعات، بغية نفورنا من المستقبل، وإخضاعنا طواعية لعبوديتها، عبر استخدام خطاب سياسي يشي بسد الذرائع وتقديم الفاسد على الأفسد، بحسب منطق «التزاحم» في أصول الفقه.
لا أخاف من أيِّ مسعًى لاسترداد كرامتنا المستباحة، وحريتنا المغدورة. بدأ الربيع العربي صرخة كرامة وحرية عميقة، تفجَّرت بعد عشرات السنين من الفتك والدم المسفوح في أقبية زنزانات الأنظمة العربية، لكن اختطفتْه الجماعات الدينية المتشدِّدة، وأخيرًا سقطتْ ليبيا واليمن وسوريا في فخِّ العنف المريع، فتحوَّل الربيع إلى ليل بغيض، تفشَّت فيه جماعات القاعدة وداعش والمافيات الدموية التي تفتك بكل شيء.
أنا أعرف جيِّدًا قيمة الحرية، فقد عشتُ سنوات شبابي في معاناة مريرة مع حزب البعث في العراق، خضعتُ مثل غيري من مُواطنِيَّ إلى أساليبَ شنيعة من إهدار الكرامة، بذرائعَ وخدعٍ ماكرة، يلخِّصها شعار حزب البعث الصاخب، منذ ١٩٦٨م: «كل شيء من أجل المعركة». ورَّطَنا صدام وحزبه بمعارك وحروب مهولة، لم تكن أية واحدة منها تجسيدًا للشعار الخدعة. أتت تلك الحروب على كل شيء في وطني، من دون أن نتوجه إلى المعركة الموعودة/الذريعة، في فلسطين.
أتفهَّم جيدًا أن الحرية أثمن ما يمكن أن يظفر به الإنسان، فلا يمكن أن توهب الحرية للشعوب بلا أوجاع وآلام. لذلك، فسيواجهنا بعد سقوط الحكام المزيد من العواصف والاختلالات والاضطرابات السياسية والمجتمعية، كل ذلك نتيجة لعشرات السنين من سلطة حزب واحد، ورأي واحد، وشعار واحد، ورجل واحد كرَّس كافة ثروات البلد وموارده في إنتاج ثقافة منقوعة بالنزعات التعصبية، ومناهج تربية وتعليم تدجِّن المواطن على قبول العبودية الطوعية، وتُرسِّخ نفسية العبيد في المجتمع.
المؤسف أنَّ مآلات ونتائج هذا الربيع محزنة؛ ذلك أن النور الذي بدأت تضيئه شعاراتُ «الشعب يريد إسقاط النظام» تبدَّد لحظةَ قفزَت الجماعاتُ الدينية على المسرح، فاختطفَت الوطن والمواطن والوطنية، بما تمتلكه هذه الجماعات من شبكة هائلة من الخطباء والمنابر والفضائيات ووسائل الاتصال الجديدة، وبمهارتها العالية في تهييج غرائز الجماهير، وإيقاد مشاعرهم، وسلب عقولهم.
جواب: نعم أخشى ذلك، لأن الجماعات الدينية هي وحدها المنظمة في هذه البلاد، إذ تدير هذه الجماعات شبكات معقَّدة تهيمن على مجالات مهمة في دنيا العرب. ولديها براعة في تعبئة الناس وتحشيدهم خلف شعاراتها، بواسطة عدد وفير من الدعاة وخطباء المنابر وأئمة الجمعة. لذلك استطاعت هذه الجماعات احتواء الربيع العربي، وقطف مكتسبات جهود الشباب الثائرين من أجل الحرية والكرامة.
أتيحت لهذه الجماعات فرصةٌ تاريخيَّة مهمة في الاستيلاء على المجال العام، وقضم السلطة بالتدريج، وابتلاع الدولة. واحتكار تمثيل المجتمعات، واختزال التنوُّع الإثني والديني والمذهبي بأيديولوجياتها الخاصَّة، والتوكؤ على الديمقراطية والانتخابات كسُلَّم يستخدم لمرة واحدة، حتى إذا تحقَّق الغرضُ منه طُرح جانبًا. من دون وعي لفلسفة الديمقراطية ومضمونها الحقيقي، من الحريات والحقوق والتداول السلمي للسلطة.
لست متنبِّئًا، بَيْدَ أن كل الوقائع تحدِّثنا عن فشل الإسلاميين في إدارة السلطة، وجهلهم بتشكيل الدولة. السلطة مقبرة الإسلاميين، وأخشى أن تكون مقبرتنا ومقبرة الوطن كله معهم، بسبب عجزهم وقصورهم في إدراك الجذور العميقة للدولة الحديثة؛ ذلك أن نموذجهم في الدولة هو دولة الخلافة، أو الدولة السلطانية، وهي نمط ينتمي إلى مرحلة ما قبل الدولة الحديثة.
يفتقر الكثيرون من مسئوليهم في السلطة إلى أي تكوين أكاديمي أو معرفي أو فكري، يؤهِّلهم لإعداد نظم وبرامج وخطط اقتصادية وإدارية وتربوية وعلمية وثقافية معاصرة، فضلًا عن عدم توفُّرهم على تدريبٍ وخبرة عملية في إدارة السلطة، وصياغة مؤسسات الدولة. إنهم يفكرون في إدارة السلطة وبناء الدولة بفقه: «الأحكام السلطانية»، و«الخراج»، و«أحكام أهل الذمة». ويتلهَّفون إلى استدعاء الأنماط التاريخية في الاجتماع السياسي الإسلامي كما هي، بلا وعي لسياقات الزمان والمكان والثقافة، والأطر الاجتماعية للمعرفة. يحرصون على إحضار كل ما هو موروث، حتى القبيلة وقيمها وتشكيلاتها العتيقة. إنهم يغرَقون في كهوف الماضي، ويفرطون في استهلاك التاريخ، وكأنهم لا يعيشون في عالمنا إلا بأبدانهم، في حين تلبث عقولهم وأرواحهم مع الموتى.
جواب: السلطة واختبار بناء الدولة الحديثة مقبرة هذه الجماعات. مضافًا إلى ما أشرنا إليه من افتقارهم للتأهيل والخبرة والتجرِبة، يضيق صدرهم بالحوار والمناقشة والمراجعة، فضلًا عن عجزهم عن الإصغاء للنقد وفضح الأخطاء. إنهم يتحدثون دائمًا باعتبارهم المفوَّضين من الله تعالى، والناطقين باسمه، والأوصياء على عباده. لو طالعنا أدبيات الإخوان المسلمين منذ تأسيسهم، عام ١٩٢٨م في الإسماعيلية، على يد حسن البنا، حتى اليوم، وهكذا غيرهم، لا نعثر على أيَّة مراجعة نقدية لرؤاهم وممارساتهم السياسية والدعوية، ما خلا محاولة «حسن الهضيبي» في «دعاة لا قضاة»، التي لم يعبئوا بها، وسرعان ما تنصَّلوا منها، وأسقطوها من نصوصهم. لو راجعنا أدبياتهم وخطبهم المنبرية والسياسية ووسائل إعلامهم، فإنَّ الكلمات الأكثر تكرارًا، هي: الأعداء، المؤامرة، المتآمرون، الموت أسمى أمانينا، ومرادفات تلك الكلمات أيضًا.
الرئيس محمد مرسي لم يمضِ على رئاسته أكثر من ستة أشهر، لكنه قدَّم ٢٤ بلاغًا للقضاء ضد الصحافة والصحافيين، في حين لم يقدِّم الرئيسُ السابقُ حسني مبارك سوى ٦ بلاغات في ظرف ٣٢ عامًا، وهي فترة حكمه. وبحسب فقهاء القانون في مصر، فإنَّ التشريع الذي قدَّم بموجِبه مرسي بلاغاته صدر قبل مئة عام تقريبًا، لاحترام الذات المَلكية في العصر الملكي، لكن لم يتقدَّم الملوكُ والرؤساءُ السابقون لمرسي بمجموعهم في مئة عام بهذا العدد من البلاغات ضد الصحافيين، بينما ضجِر هو وجزِع من نقد الصحافة لإدارته والإخوان للسلطة! لعل التربية المكثفة على «بيعة المرشد»، و«السمع والطاعة» له، المشهورة في أدبيات الإخوان المسلمين، رسَّخت في وجدانهم وضميرهم لزوم انصياع المواطنين وطاعتهم العمياء للرئيس؛ ذلك أنهم «رعية»، تكليفهم وواجبهم الشرعي «السمع والطاعة».
لم يدرك الرئيس محمد مرسي، وغيره من أتباع الجماعات الإسلامية، ألَّا بيعة على «السمع والطاعة» في الديمقراطية، بل إن البيعة تنتمي إلى جغرافيا مفهومية تحيل إلى تراث الفقه السياسي، بينما تنتمي الديمقراطية إلى بنية مفهومية مغايرة مشتقَّة من الفكر السياسي الحديث، الذي يتناشز ومضمون البيعة وما يترتَّب عليها.
إن جيل تكنولوجيا المعلومات ووسائل الاتصال الجديدة لا معنى لمفهوم البيعة في تفكيره، بمعنى أن البيعة لا تحيل في ذاكرته إلى ما ينشده ويتطلَّع إليه من أحلام، في تأسيس نموذج للحياة السياسية يستوعب ما يحفِل به المجتمع من تنوع، ويضمن حق الاختلاف والتعددية والتداول السلمي للسلطة. نموذج الشباب السياسي ودولتهم التي هتفوا لها في ساحة التحرير في القاهرة وغيرها ليست في الماضي، إنما نموذجهم ومثالهم الديمقراطية، بكل فلسفتها وحمولاتها ودلالاتها وآفاقها ووعودها في الحريات والحقوق.
وأخيرًا، أود أن أشير إلى شِحَّة تداول أدبيات الجماعات الإسلامية لمصطلحات: «وطن، وطنية، مواطن، تعددية، تنوع، اختلاف، تداول سلمي للسلطة، انتخابات، حريات، حقوق …» مما يعني أن الأفكار التي تحيل إليها تلك المصطلحات، وغيرها من مفاهيم الدولة الديمقراطية، لم تستقر في بنية التفكير السياسي للإسلاميين. فكيف يمكن أن ينجحوا في إشادة دولة ديمقراطية تعددية، نصابها: «الوطن، المواطن، المواطنة، الحقوق، الحريات»، وليس: «الراعي، الرعية، البيعة، السمع والطاعة»!