الإيمان والاعتقادُ
١
تحيل معاني «أَمْن» ومرادفاتُه إلى: الأمان والطمأنينة والسكينة والهدوء والاستراحة والثقة. أي إنها تشفي الكائنَ البشري الذي يتحقَّق بها من: الفزع والذعر والروع والرعب والخوف والقلق والاضطراب.
الإيمان حالة حيَّة
الإنسانُ ليس عقلًا محضًا. الرُّوحُ والقلب والعاطفة أكثرُ أثرًا في مصائر الأفراد والجماعات من العقل. مَنْ يتجاهل الرُّوح والقلب والعاطفة، ويتنكر لأثرها يسقط في الفراغ والقلق والاغتراب الوجودي. ليس من السهل العيش بلا إرواء الرُّوح بالإيمان، وإشباع القلب بالمحبَّة، وتأمين متطلبات العاطفة.
الإيمانُ أمرٌ وجودي، الإيمان تجرِبةٌ ذوقية، كما يقول العارفون: «من ذاقَ عَرَفَ، ومن عَرَفَ اغترفَ.» أفهمُ الإيمان بوصفه حالةً أُنطولوجية (وجودية)، وليس معرفية (علمية). إنه حالة تحضر للرُّوح فتستفيق فيها، وتتحقَّق بطور وجودي جديد عندما تتصل بالوجود المطلق. لم يعد للعقل أثرٌ في الإيمان على وَفق هذا الفهم، فضلًا عن أن يكون للعلم أثرٌ في تحققه. دور العقل والعلم الفهمُ والتفسير، فهُما يفهمان الإيمان ويفسِّرانِه، ولا يُوجِدانِه.
في ضوء ذلك ينطوي مفهومُ «المعاند» الذي يُستعمل في التراث على تناقض، المعاندُ مفهومٌ تترتبُ عليه بعضُ الأحكام الفقهية، العنادُ لا يكون إلا إذا كان الإنسانُ مؤمنًا في باطنه، غير أنه يتنكرُ للإيمان في ما يعلنه ويقوله. ليس هناك معاند في الإيمان في الواقع، مَنْ يؤمن لا يمكنه خلع الإيمان من رُوحه مثلما يخلعُ لباسَه الذي يرتديه. الإيمان حالة، والحالات من جنس الوجود، كلُّ أمر وجودي لو تحقَّق لا ينعدم بقرار من صاحبه.
ليس الإيمان فكرةً نتأمَّلها، أو معرفةً نتعلَّمها، أو معلومةً نتذكَّرها. الإيمان حالةٌ للرُّوح نعيشها، وتجرِبةٌ للحقيقة نتذوَّقها. الإيمان مُستقرُّه القلب، ومأواه الرُّوح. إنه ليس صورةً ندركها، الصورةُ تتشكل في الذهن وهو من يختزنها. الإيمان نورٌ يكشفُ للإنسان معنى وجودِه، وثمرةُ الإيمان تُعرف بإثرائه للسلام الرُّوحي. الإيمان يكرِّس الرُّوحَ والقلب، يلهمهما الطمأنينةَ والسكينةَ والسلام، حتى يبلغ توحُّدُ القلب والرُّوح بالإيمان مرتبةً لا يخضعان معها لمعادلاتِ الذهن ومشاكساتِه مهما كانت. الإيمان حالةٌ ديناميكيةٌ حيَّة، تتغذَّى وتنمو وتتطوَّر وتتجذَّر. إنه جذوةٌ متوهجة، كأنها طاقةٌ مشعَّة. يضيء الإيمان الرُّوحَ لحظةَ تحقُّقها به، مثلما تضيء الكهرباءُ المصباحَ المظلم لحظةَ وصله بها. هذا معنى كونه حالةً نتذوَّقها كما نتذوَّق الطعامَ الشهي والشرابَ اللذيذ.
يسكن الإيمان الرُّوحَ مثلما تسكنه، ويرتوي بالرُّوح مثلما ترتوي هي به، ذلك أن الإيمان عودةُ الرُّوح إلى أصلها الإلهي. أودع اللهُ لدى كلِّ إنسان رُوحًا منه، إلا أن هذه الوديعةَ تغيب متى غاب الإنسانُ عن الله، اللهُ لا يغيب عنا إلا عندما نغيب عنه. لا يستردُّ هذه الوديعةَ إلا الإيمان؛ لأنه إيقاظٌ لصوت الله في ضميرنا، وانبعاثٌ لما ينتمي إلى الله فينا.
يحقِّق الإيمان الإنسانَ في طور وجودي جديد؛ فحيث يسافر الإنسانُ للحقِّ تتكرَّس قدرتُه، وتترسَّخ إرادتُه، وتتعذَّر هزيمتُه؛ لأنه يتحقَّق بالحقِّ. يجعل الإيمانُ الاشياءَ المستحيلةَ ممكنة، والشاقَّةَ سهلة، والمُرَّةَ حُلوة.
الإيمان والحُبُّ كلاهما كيمياءٌ للرُّوح، كلاهما منبثقان من جوهر واحد، يُولَدان معًا، ويرتضعان معًا، ويتكرَّسان معًا، ويتوحَّدان معًا. حيث يشتدُّ الإيمانُ يشتدُّ الحُبُّ، وحيث يذبل الإيمان يذبل الحُبُّ. إنهما في صيرورة وتفاعل واتقاد، يتحول الإيمان إلى حُبٍّ، كما يتحول الحُبُّ إلى إيمان. الإيمان عصارةُ الحُبِّ، والحُبُّ عصارةُ الإيمان. كلتا الحالتين تنبثقان من منبع واحد وتستقيان منه، يصبح كلٌّ منهما صورةً لحقيقة واحدة متعددة الوجوه. حين يصير الإيمان حُبًّا والحُبُّ إيمانًا تشهد حياةُ الإنسان أنوارَ الأبد.
الإيمان حالةٌ رُوحيةٌ متساميةٌ ليست حسِّيةً، الإيمان جوهرةٌ كيفيةٌ، لا تخضع لقياساتٍ كَمِّيةٍ مادِّيةٍ، إنه حالةٌ فرديةٌ لا جماعية، تتحقَّق في الذات من خلال الشروع في رحلة كدحٍ ذاتيٍّ للعروج نحو الحقِّ. الإيمان، خلافًا للفهم والمعرفة، لا يتحقق بالنيابة؛ ففي عملية الفهم يمكن أن يتلقَّى الإنسانُ معارفَه من شخصٍ آخر، أو يقلِّد غيرَه في آرائه، لكنَّ الإيمان تجرِبةٌ ذاتيةٌ تنبعث داخل الإنسان، إنه صيرورةٌ تتحقق بها الرُّوحُ وتتكامل، ونمطُ وجودٍ يرتوي به الظمأُ الأُنطولوجي للكائن البشري، إنه مما تضيق به العبارة، ولا تشير إليه إلا الإشارة.
٢
كلُّ معاني الاعتقاد ومرادفاتِه تحيل إلى: الإحكام والإبرام والتوثيق والحبْك والربط والتوطيد والغلق. هذه المعاني تضيء لنا مدلولَ الاعتقاد الذي يعني رسمَ خارطةٍ لحدود المعتقدات، تحدِّد بوضوح كلَّ التضاريس والمكونات داخل أسوار خاصة، وتميِّزها عن سواها بمعالم جلية، وما يميزها ينفي سواها من معتقدات أخرى.
يتشكل الاعتقادُ في الذهن في إطارِ الأنساقِ الاعتقاديةِ المجتمعية المولِّدة له. مثلًا: يعتقدُ الإنسانُ بالله والوحي والنبوة وما يتفرَّع عن ذلك من معتقدات في مجتمع إسلامي، تبعًا للأسوار التي بناها المحدِّثون والمفسِّرون والمتكلمون والفقهاء. لا تتزحزح هذه الصورةُ أو يخرج عنها إلا بعد مراجعات نقدية، يخترق فيها تفكيرُه تلك الأسوار. الإنسانُ الذي يولد ويعيش في سياق أنساق اعتقادية لمجتمعات بوذية أو هندوسية أو طاويَّة، لا يمتلك ذهنُه صورةً لهذا الإله الإسلامي، فلا يعتقد بالإله المعروف في الأديان الوحيانية. يخضعُ في بناء متخيَّله للأسوار التي بناها ميراثُهُ ومؤسساتُ الدينِ ورجالُهُ في موطن ديانته. لا تتزحزح هذه الصورةُ أو يخرج عنها إلَّا بعد أن يخترقَ تفكيرُه تلك الأسوار فيهدمَها بالأسئلة العميقة والنقد الجذري. أكثرُ الناس يمضي عمرُه وهو يعتقدُ بمعتقدات لم يسائلها، ويدافع عن أيديولوجيات وأفكار لم يفكر فيها، ويحرس مفاهيمَ لم يناقشها، وربما يموت من أجلها، أو يقتل غيرَه إن لم يعتنقها.
٣
إيمانُ الحرية هو الإيمانُ الذي أعنيه ﺑ «الإنسانية الإيمانية». هو الإيمان المُحرِّر، الذي هو نمطُ حضورٍ ﻟ «الإله الرُّوحي الأخلاقي» في قلبِ الإنسان وضميرِه وحياتِه. الإيمان الذي تحدثتُ عنه هو إيمانُ الحرية لا إيمان الاستعباد، إيمانُ الحرِّ لا إيمان العبد. كلُّ إيمانٍ يصبح حقيقةً حيَّةً، وإشراقةَ نور تُلهِم الرُّوحَ كلَّ معنى جميل، لن يكون إلا حرًّا ومُحرِّرًا. هذا النمطُ من الإيمان المُحرِّر هو ما يؤنسن البشرَ، فهو بقدر ما يحرِّر صاحِبَه من كلِّ أشكال استعباد الرُّوح والقلب والضمير والعقل والجسد، فانه يصيِّره مواطنًا كونيًّا ينتمي للإنسان بوصفه إنسانًا، من دون نظر لمعتقد أو عنصر أو جغرافيا أو ثقافة. لذلك تصبح قضيتُه العظمى تحريرَ الإنسان من حيث هو إنسان من كلِّ أنواع الاستعباد.
في الإيمان المُحرِّر يوقظُ صوتُ الله الضميرَ، وتُشرق حياةُ المؤمن بنوره الأبدي. الإيمان المُحرِّر ينقذ العالمَ من مأزق المتوحشين، ممن اغتصبوا كلمةَ الله، فهتكوا كرامة الإنسان واستباحوا اسمَ الله. الإيمان المُحرِّر وعدٌ بالسلام والحُبِّ والجمال، الإيمان المُحرِّر يصبح فيه الإيمان سلامًا والسلامُ إيمانًا، والحُبُّ دينًا والدينُ حُبًّا، والجمالُ تديُّنًا والتديُّن جمالًا.
هُويةُ المواطن الكوني في الإيمان المُحرِّر أنه أنسانٌ أولًا، وكلُّ هُوية أخرى ينتمي إليها تتفرَّع عن إنسانيته، إنه لا يتبنَّى من ديانته إلا ما تقوله أخلاقُه وإنسانيتُه، ولا يتبنَّى من مذهبه إلا ما تقوله أخلاقُه وإنسانيتُه، ولا يتبنَّى من إثنيته إلا ما تقوله أخلاقُه وإنسانيتُه، ولا يتبنَّى من قوميته إلا ما تقوله أخلاقُه وإنسانيتُه، ولا يتبنَّى من أيَّة هُوية فرعية أخرى إلا ما تقوله أخلاقُه وإنسانيتُه.
إيمان الاستعباد اعتقادٌ مغلَق
إيمانُ الاستعباد هو ضربٌ من «الاعتقاد المغلَق» وإن كان يتلفع بصورة إيمان، وهو تعبيرٌ عن خرابِ الرُّوح ومرضِ القلب وشقاءِ الضمير وسُباتِ العقل. إنه يستبدُّ بصاحِبِه فيأسره، ويُعمي بصيرتَه، ويصيِّره كائنًا متوحشًا، مولعًا بالموتِ لا الحياة، بالحربِ لا السلام، بالكراهيةِ لا المحبَّة. لا يعرف معنًى لاحترام حقوقِ الناس وحرياتِهم، ولا يكترث لما تقوله أخلاقُه وإنسانيتُه؛ لأنه في كلِّ قول وفعل أسيرُ صورةِ إلهٍ دموي محارِب، وعبد لمعتقده هذا.
الإيمان الحرُّ يتكلمُ لغةً واحدة يتجلى فيها المضمونُ المشترك للأديان. المعتقدات تتكلم لغاتٍ متعارضة وأحيانًا متهافتة. عَلاقةُ الإيمان بالاعتقاد عَلاقةٌ عضوية تفاعليةٌ تبادلية، بمعنى أن الإيمانَ يولد في فضاء الاعتقاد، ويكون من جنسه، فلو كان الاعتقادُ حرًّا ينتجُ عنه بالضرورة إيمانٌ حرٌّ، ويوفر هذا الإيمان مناخاتٍ يكتسب فيها الاعتقادُ مزيدًا من الانفتاح والحرية. وكما ينشأ الإيمان الحرُّ في فضاء الاعتقاد الحرِّ، تتطور معتقداتُ الحريات والحقوق في فضاء إيمان الحرية، في حين تترسخ في فضاء إيمان الاستعباد معتقداتُ العبودية.
الاعتقادُ ينغلق عندما ينتجه عقلٌ مسجونٌ في أنساق ثقافية مغلَقة. كلُّ عقل هو معقولاتُه، يستفيق العقلُ لو كانت معقولاتُه تنتمي لمعارفِ عصرنا وعلومِه وفلسفتِه وأسئلتِه، ويُنتج هذا العقلُ رؤيةً للعالم منفتحة، واعتقادًا حرًّا محرِّرًا، وتبعًا لذلك يُولد من هذا الاعتقاد إيمانٌ حرٌّ محرِّر.
ولو كانت معقولاتُ العقل مقولاتِ المتكلمين ورؤيةَ علم الكلام القديم التي لا يرى فيها إلا الصورةَ النمطيةَ لله، فسيلبث العقلُ يكرِّر نفسَه، ويرسِّخ أغلالَه في تلك السجون.
يمكن أن يكون الاعتقادُ حرًّا ومحرِّرًا، يولد منه إيمانٌ حرٌّ ومحرِّرٌ، ويمكن أن يكون مغلقًا، يولد منه إيمانُ استعباد. الاعتقادُ الحرُّ مثل اعتقاد أبي يزيد البِسطامي ومحيي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي وغيرهم. الاعتقادُ المغلَق هو ما يصنعه علم الكلام، وهو الذي يفضي للتنازع بين الأديان، وأحيانًا يقودها إلى الحروب.
الإيمان كائنٌ حي، تتغذَّى به الرُّوح، ويرتوي به القلب. الإيمان الحرُّ والمحرِّر يتوالد في فضاء الاعتقاد الحرِّ والمحرِّر، والاعتقادُ الحرُّ يعني الخروجَ من أسوار الصورة النمطية لله، التي نحتها المتكلمون والفقهاء والمحدِّثون والمفسِّرون وغيرُهم، وكرَّسها الاستبدادُ السياسي والديني والاجتماعي. تنمَّطت هذه الصورةُ في إطارِ القيمِ الأبوية للعائلةِ والقبيلةِ والسلطة، والنظامِ الاجتماعي للرق. في إطار هذه الصورة ينغلق ويتحجَّر الاعتقاد، فينضب الإيمان، وتتبلَّد الرُّوحُ، ويموت القلب.
يتطلَّب الاعتقادُ الحرُّ سعيًا حثيثًا لاكتشاف صورة الله في سياقٍ رحماني أخلاقي، تلك الصورةُ التي رسمتها القيمُ المُلهِمةُ في القرآن، ولوَّنتها الاشراقاتُ الرُّوحية والأخلاقية والجمالية المضيئة في الحياة الدينية، ورفدتها المعاني الحيَّةُ في الميراث الديني.
السلامُ بين الأديان وحوارُها الجادُّ ينتجه الاعتقادُ الحرُّ، اعتقادُ الحرية. أما الاعتقادُ المغلَق فلا يُنتج حوارًا جادًّا بين الأديان، وغالبًا ما يكون الحوارُ في سياق الاعتقاد المغلَق حوارَ مجاملات، وكليشيهاتٍ جاهزة، وعباراتٍ برَّاقة، وعَلاقاتٍ عامة.
الخلاص من الاعتقاد المغلَق يتطلب بناء علم كلام جديد، يكشف عن رؤيةٍ توحيدية في سياقٍ رحماني أخلاقي. رؤية لا تنفي حقوقَ الإنسان باسم حقوق الله، ولا تنفي الحريةَ باسم التكليف، ولا تنفي الضميرَ باسم الغيرة على الله، ولا تنفي الأخلاقَ باسم الولاء والبراء. هناك حاجةٌ إلى رؤيةٍ توحيدية يتسع الإيمان فيها للحرية والحقوق البشرية، واحترام كرامة الكائن البشري بوصفه إنسانًا، وإن كان مختلفًا في الاعتقاد.
لن يتحرَّر فقهُ المسلمين من نزعات التكفير والتشدُّد، ما دام هذا الفقهُ متمسكًا بالولاء والبراء والأحكام التي وُلدت في سياقات تاريخية لا تعرف منطقَ الحريات والحقوق. لن يتحرَّر فقهُ المسلمين ما دام لا يرى اللهَ والإنسانَ والعالم إلا في آفاق «علم الكلام القديم». ولن يبلغ تفكيرُنا الديني الآفاقَ المضيئةَ الرحبة للإيمان إلا من خلال بناء «علم كلام جديد».
الإيمان خارج الدين
لا أفهم إيمانًا خارج الدين. حتى على فرض تموضع إيمان شخص خارج كلِّ دين فإن صاحِبَه يجترح دينًا خاصًّا، صحيح هو لا يكرِّر إطارَ الأديان المعروفة ومعتقداتِها وطقوسَها في مجتمعه أو غيره، لكن إيمانَ هذا الشخص يُنتج إطارَه الديني ومعتقدَه الخاص، الذي لن يبتعد كثيرًا عن بيئته وثقافته ورؤيته للعالم. حتى لو كان إيمانُه خارج فضاء إطار الأديان مجتمعة، فإنه لا يخلو من حالات رُوحية وقيم أخلاقية تعبِّر عن ذلك الإيمان، وهي ضرب من الدين.
ينصرف الإيمان دلاليًّا لدى كلِّ جماعة بشرية على وَفق تفسيرها له، إذ يحيل الإيمان لما تتسم بها ثقافةُ تلك الجماعة، ويكوِّن بنيةَ فهمها، ورؤيتَها للعالم. مثلًا متى قلت «إيمان» في مجتمع مسيحي فلا تبتعد الدلالةُ عن الآب/الابن/الرُّوح القدس/الكتاب المقدَّس. ومتى قلت «إيمان» في مجتمع إسلامي فلا تبتعد الدلالةُ عن: الله/الرسول/القرآن. كما أن «الإيمان – الدين – التديُّن» ثلاثيةٌ مترابطةٌ عضويًّا، إذ ينسج كلُّ واحد عَلاقةَ تأثيرٍ وتأثُّر متبادَل مع كلٍّ منها. كما يتماثل الإيمان ويتحقَّق في إطار ديني، كذلك يشبه التديُّنُ نمطَ الإيمان وإطارَ الديانة مثلما يشبه بيئتَه أيضًا.
التمييزُ بين الإيمان والاعتقاد يُبتنى على أن الإيمان مفتاحُ السلام بين الأديان، بوصف الإيمان هو: حالة لا فكرة، تجرِبة لا معرفة، حقيقة لا وهم. إنه حقيقةٌ حيَّةٌ تتحقَّق بها كينونةُ الكائن البشري، وتتكامل بها حياتُه، وتغتني بها رُوحُه، وتتخلق بها شخصيتُه وتسمو، وتتجلَّى بصمتُها في أقواله وأفعاله. الإيمانُ مسعًى أبدي لاستبصارِ تجلياتِ الحُبِّ والخير والجمال في كلمات الله التدوينية والتكوينية.
الإيمان كما أفهمه هو الحضورُ في حضرة الله، والإصغاءُ لنداء القلب، والإحساسُ بوجوده مثلما يحسُّ الإنسانُ بالبهجة في داخله، وتذوُّقُ تجليات جماله في الوجود مثلما يتذوَّق الإنسانُ أجملَ الأعمال الفنية الخالدة.
هذه رؤيتي للإيمان والاعتقاد، كتبتُها وَفق حياتي الدينية، وتجرِبتي الرُّوحية. وكلُّ رؤية مرآةُ الرائي، وصورةُ ذاته، وتجلٍّ لكينونته. وقد تجنَّبتُ فيما كتبتُ الضياعَ في متاهات اللاهوتيين والمتكلمين، التي تذوي فيها الاستبصاراتُ المضيئةُ للرُّوح وتنطفئ.