الفصل الرابع عشر

تحديثُ المؤسَّسة الدينيَّة واكتشافُ المنطق الذَّاتي للموروث١

١

الإصلاح في المؤسسة الدينية
سؤال: ما المؤسسة الدينية، كيف تشكلت وتطورت في الحياة البشرية؟

جواب: الدين أصيل في حياة الإنسان، وحيثما وُجد الدينُ تجسَّد في السلوك الشخصي بهيئة شعائر وطقوس وممارسات تستلهم مفاهيمَه. ويرتبط عادةً في حياة المجتمعات بأماكن مقدَّسة ومعابد لأداء الشعائر والطقوس والتعليم الديني، وتُتخَذ هذه الأماكنُ مرجعيةً لكل ما يتصل بإدارة وتنظيم المقدَّس والشأن الديني، وهي نواةُ تشكُّلِ المؤسسة الدينية.

لا يستغني الإنسانُ عن الدين والمقدَّس، وتتنوع تجلياتُ المقدَّس بتنوع المجتمعات والأديان، ويتغلغل في مجالات الحياة المختلفة، ويظل أثرُه على الدوام محوريًّا وليس هامشيًّا أو زائفًا، بل حاسمٌ في مراحل ومنعطفات مهمة في التاريخ. ترتبط حركةُ التاريخ عضويًّا إلى حدٍّ كبيرٍ بتحولات المقدَّس وطرائق توظيفه في عمليات التغيير الاجتماعي في المسيرة البشرية. يحيل يورغن هابرماس مكاسبَ الحريات والحقوق في الغرب إلى الدين، بل إنه ينفي ما سوى الدين من عوامل، إذ يكتب: «المسيحية، ولا شيء ما عدا ذلك، المؤسسة النهائية للحرية، والضمير، وحقوق الإنسان، والديمقراطية. إلى يومنا هذا، نحن ليس لدينا خيارات أُخرى، نواصل تغذية أنفسنا من هذا المصدر. كل شيء آخر ثرثرة ما بعد الحداثة.»

حضورُ المقدَّس وتمثُّلاتُه وتعبيراتُه وتجلِّياتُه وآثارُه المتعدِّدة في الحياة ظاهرةٌ أبدية لا تنفك عن الاجتماع البشري، تُحدِّثنا عنها المكتشفاتُ الأثرية منذ فجر التاريخ في حضارات: وادي الرافدين، والنيل، والصين، والهند، وفارس، وأثينا، وروما، والمايا، والأزتيك … وغيرها. واكبتْ تلك الظاهرةُ تاريخَ الإنسان، وظلَّت على الدوام تمتدُّ عموديًّا وأفقيًّا في المجتمعات كافة، واستعصتْ على أية محاولة لطمسها مهما كانت ضراوتُها وقسوتُها. وأخفقتْ دعواتُ ووسائلُ اجتثاثها بالرغم من استخدامها لأساليب التصفية الجسدية والقتل العشوائي والإبادة الجماعية، كما حدث في الاتحاد السوفييتي السابق، ودول أوروبا الشرقية، خاصة ألبانيا التي فرض عليها أنور خوجة الإلحادَ لعشرات السنين، والصين الشعبية في عهد الثورة الثقافية وقيادتها المعروفة بعصابة الأربعة، الذين كانت أبرزَهم زوجةُ ماوتسي تونغ.

حين يتمأسس الدينُ يتحول كلُّ شيء يرتبط بالدين إلى مؤسسة تدير: التعليمَ، والرعايةَ، والتوجيهَ، والإرشادَ، والدعوةَ، والتمويلَ للشأن الديني. وما دام الدينُ متغلغلًا في المجتمعات، ويتصل بوشائج عضوية بأنماط حياة المجتمع الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية، والمدنية، فإن صيرورةَ المؤسسة الدينية وتمدُّدَها وانكماشها وانفتاحها وانغلاقها وتطوُّرها وتخلُّفها يرتبط بالاجتماع البشري وصيرورته. مثلما يتصل تطورُ المجتمع وتخلُّفُه بتطور وتخلُّف هذه المؤسسة. إنها عَلاقةٌ جدلية يتبادل فيها المجتمعُ والمؤسسةُ الدينية التأثيرَ والتأثُّر.

سؤال: ما الخطوات الأساسية لإحداث الإصلاح في المؤسسة الدينية؟

جواب:  للمؤسسة الدينية مهماتٌ خطيرة، خاصة في المجتمعات التقليدية، لا يحدث تحوُّلٌ في مثل هذه المجتمعات ما لم يحدث تحوُّلٌ في المؤسسة الدينية، ولا يمكن تحديثُ المؤسسة الدينية ما لم يتم تحديثُ تلك المجتمعات، بمعنى أن بين طرفي المعادلة تأثيرًا مُتبادَلًا، إذ لا ينفكُّ أحدُهما عن الآخر، إنهما قطبان في معادلة واحدة. في مجتمع أُمِّيٍّ، فقير، متخلِّف، تتفشى فيه الأمراضُ، وتفترس عقلَه الخرافاتُ، لا يمكن تحديثُ المؤسسة الدينية؛ ذلك أن هذه المؤسسة نابعةٌ من المجتمع، هي مرآةٌ له، ترتسم صورتُه فيها، مثلما أن المجتمعَ مرآةٌ لها ترتسم صورتُها فيه. الطلاب الذين تلقَّوا تعليمًا أساسيًّا جادًّا ومتميِّزًا في المراحل الابتدائية والمتوسطة والإعدادية، عندما ينخرطون في التعليم الديني بعد التخرُّج من الثانوية العامة، هم أكثر استعدادًا لفهمِ واستيعابِ ودمجِ معارفهم التُّراثية التي يدرسونها في المدارس الدينيَّة بالمعارف الحديثة، ووصْلِ الماضي بالحاضر، والإصغاءِ لإيقاع العصر ورِهاناته واستفهاماته. بينما يعجز المنخرطُون في التعليم الديني، من الطلاب الذين لم يشملهم التعليمُ الأساسيُّ قبل التعليم الديني أو أخفقوا ورسبوا أو تلقَّوا تعليمًا أساسيًّا هشًّا، عن أن يُجسِّروا العَلاقةَ بين معارفِهم الدينية والواقعِ الذي يعيشون فيه.

مثلما أنَّ التنميةَ الشاملة تتطلَّب مساراتٍ مشترَكةً تشمل: التربوي، والتعليمي، والثقافي، والاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي، فإنَّ تحديثَ المؤسسة الدينية لا يمكن من دون تحديثٍ للمجتمع يتسع ليشمل ما هو تربوي، وتعليمي، وثقافي، واقتصادي، واجتماعي، وسياسي. في مجتمع بدوي متخلف يسوده نمطُ تفكير مُغلَق تنبثق مؤسسةٌ دينية سلفية، تقرأ النصَّ قراءةً حرفيَّة تبسيطيَّة، وتُنتج مفاهيمَ سطحية تعطيلية تمسخ الأبعادَ الإنسانية للدين، وتستبعد الميراثَ الرمزي والجمالي والمعنوي والرُّوحي والأخلاقي والعقلي للدين.

تعمل الأنساقُ الثقافيةُ الراسخة على تحديد طبيعة فهم النصِّ الديني وتفسيره، فإذا كانت تلك الأنساقُ مدنيةً متحضِّرةً يسودها التنوع والاختلافُ الإيجابيُّ، فإن الاتجاهَ التأويليَّ للنصوص الذي يهيمن فيها يتجاوز مداليلَها الظاهريَّة، ويغوص في رؤاها الرمزية، وتُنتج كذلك نمطًا متسامحًا للتديُّن يسوده التنوُّع كما هي بيئة الأندلس التي أنتجت تصوفَ محيي الدين بن عربي وابن سبعين، وعقلانيةَ ابن رشد، وظاهريةَ ابن حزم. وفي بيئات آسيا الوسطى وبلاد فارس وتركيا التي ظهر فيها: الفارابي، وابن سينا، والبيروني، وأبو زكريا الرازي، والقاضي عبد الجبار الهمذاني، وجلال الدين الرومي، وملا صدرا الشيرازي … وغيرهم.

تدلِّل المؤشراتُ التربوية والتعليمية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية على أنَّ بعض المجتمعات المسلمة غير العربية اليوم هي أكثر المجتمعات المسلمة تحديثًا، لذلك توالد فيها نَموذجُ تدين يستوعب التنوعَ والاختلاف، ويراكم المكاسبَ والمنجزات باستمرار، ولا يكفُّ عن التواصل مع محيطه الإقليمي بفاعلية وثقة، ويصغي باهتمام لمتطلَّبات الواقع، ويستجيب للمتغيرات المتنوعة.

سؤال: هل هناك نموذج أو معمارية معيَّنة لهيكلة الإصلاح المرجو داخل المؤسسة الدينية؟

جواب: المؤسسة الدينية بالغة الحساسية حيال النماذج المُستعارة من بيئات أُخرى، وتحرص على حماية نَسَقِهَا الثقافي الخاص، وأية محاولة للتحديث تتوكَّأ على استنساخ تجرِبة الإصلاح في جغرافيا دينية مختلفة تُقاوَم وتُجهَض، حتى لو عمد دعاتُها إلى توطينها متغلِّبين على التحديات والعوائق فإنها تولِّد نماذجَ ممسوخة، مشوَّهة، هجينة، مغتربة عن الفضاء الخاصِّ بالمؤسسة. التجديد في المؤسسة الدينية لا يجد نموذجَه في محاكاة الغير، وإنما يستند إلى المنطق الذاتيِّ، والسياقات التاريخية الدينية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية لهذه المؤسسة.

إنَّ تَعَثُّرَ وإخفاق محاولات تجديد الفكر الديني خارج سياق المؤسسة الدينية، وعجزَ مُنْجَز معرفيٍّ غنيٍّ وواسع عن اختراق هذه المؤسسة، والترسُّبَ في البنية الذهنيَّة العميقة للدارسين يرتدُّ إلى أن ذلك المنجز قدَّمه مفكرون وأكاديميون وباحثون ومثقفون من خارج المؤسسة، بمعنى أنهم يفتقرون إلى المشروعية التي لا تمنحها المؤسسةُ لأيِّ فردٍ من خارجها، وهذه المشروعيَّة تُكتَسَب عبر المكوث سنوات طويلة فيها للدراسة والتدريس، والبحث، والتبليغ والإرشاد والدعوة. وأشير هنا إلى محاولاتٍ لتجديد الفكر الديني نهض بها مفكرون وباحثون من ذوي التأهيل الأكاديمي الجيد، والتكوين اللغوي المتنوع، مضافًا إلى خبرتِهم الواسعة بالعلوم الحديثة، ومعرفتِهم بالتراث، وتمحورِ جهودهم وإنتاجهم الفكري حول كل ما يتصل بالدين وتعبيراته الشخصية والاجتماعية، ومع كل ذلك لم تجد البيئةَ الملائمةَ لاستنباتها في هذه المؤسسة.

تعزَّزت ممانعةُ المؤسسة الدينية بمرور الأيام حيال مساعي تجديد الفكر الديني من خارجها، وأضحى من يتعاطاها من التلامذة والمدرسين في هذه المؤسسة هدفًا للارتياب من أفكاره وسلوكه. ولم تجد لها قنواتٍ إلى وعي الناس وتفكيرهم، فضلًا عن إخفاقها في التأثير على الحركات الاجتماعية والسياسية في المجتمع. خلافًا لمحاولات انبثقت من داخل المؤسسة الدينية، مثل جهود الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في الزيتونة بتونس، والسيد محمد حسين الطباطبائي في حوزة قُمَّ، وهكذا محاولات السيد محمد باقر الصدر في حوزة النجف، إذ تمحورتْ هذه الجهود حول استكشاف وإعادة بناء المعارف الدينية في الفلسفة والعرفان وعلم الكلام والتفسير ومقاصد الشريعة في سياق الموروث، من دون إهمال شيء من معطيات المعرفة البشرية الجديدة.

لقد وجد المنجَزُ المعرفي للطباطبائي والصدر وابن عاشور وغيرهم صداه داخل المؤسسة الدينية أوَّلًا، من خلال أجيال من التلامذة الذين تشبَّعوا بمناخات التراث، واستلهموا رؤاهم التجديدية، ووجَّهوا حركةَ الفكر الديني في ضوء مرتكزاتهم ومنطلقاتهم المنهاجية. وهكذا وجدنا هذا النمطَ من التجديد يتوغل في الفكر الديني في الحركات السياسية والاجتماعية، وفي وعي النُّخب والجماهير، ويسري في التعليم الديني العالي في الجامعات.

عندما تنطلق فكرةُ التجديد من داخل المؤسَّسَة، ومن خلال الأسماء المكرَّسة فيها يناهضُها البعض، غير أنَّها تصمد وتنمو وتتجذَّر في خاتمة المطاف لأنها لا تفتقر إلى المشروعيَّة كما هي الفكرة الآتية من خارج أسوارها.

ولا أعني هنا المفهومَ الميتافيزيقيَّ أو الفقهيَّ للمشروعية، بل أعني المفهومَ الاجتماعي الثقافي، أي إنَّ خطيبًا دينيًّا على منبر بوسعه تعبئة وتحريضِ المستمعين وتجييش غرائزِهم على النَّحو الذي يعتنقون فيه آراءَه مهما كانت، تبعًا لما يمنحه المقامُ الذي يصدر عنه حديثُه من مكانة وقيمة رمزيَّة. في حين لا يمتلك المفكرُ والباحث والمثقف خارج المؤسسة الدينية ما يمنح آراءَه هذه القيمةَ الرمزيَّة.

سؤال: الإسلام، نظريًّا، لا يؤمن بالكهنوتية كالمسيحية، بينما تمثِّل المؤسسةُ الدينية تجسيدًا شاملًا لهذا الدور، ما رأيك؟

جواب: الإسلام كأيِّ دين لا ينفك عن الزمان والمكان والمجتمع البشري الذي يعتنقه. المؤسسةُ الدينية نمطٌ من التمثُّلات الاجتماعية للدين، وهي ظاهرةٌ ملازمة لحضور الدين واستمراره في الحياة البشرية. هذه المؤسسة محكومةٌ بسوسيولوجيا الجماعة ومصائرها ومطامحها ومتخيَّلها، وهي لا تنفكُّ عن شبكات المصالح المُعلَنة والمُضمَرة في المجتمع. وليس بوسعنا افتراضُ أن الإسلام ينفرد عن غيره من الأديان في أنه عابرٌ للتاريخ، ولا يخضع لصيرورات المجتمع وتحولاته حين يتجسَّد في الحياة الفردية والاجتماعية.

المؤسسةُ الدينية تمثِّل الذروةَ الرُّوحية العليا في المجتمع، مضافًا إلى إدارتها وتدبيرها للشأن الديني، ومهمتها هذه تتيح لها مديونيةً طوعيةً بلا حدود لأتباعها، وهي ما اصطلح عليها مارسيل غوشيه ﺑ «مديونية المعنى»، ما يمنحها فرصًا وإمكانات وامتيازات ومكاسب لا تظفر بها أيُّ مؤسسة غيرها. أفضِّل استبعاد استعمال مصطلح «كهنوت» هنا، ذلك أنه مشبع بدلالات قَدْحية في الوجدان الإسلامي.

سؤال: من يقف ضدَّ الإصلاح داخل المؤسسة الدينية: رجال الدين، السلطات الرسمية، السطحيُّون، أم العامة؟

جواب: لكلٍّ من هؤلاء نصيبُه، وهو يتناسب مع حجم الأهمية التي يعلِّقها على بقاء الوضع على ما هو عليه. أعداء التجديد الديني كثيرون. السطحيون أعداء للتجديد، ممن يتحدثون عن نموذج مشوَّه كاريكاتوري للدين والموروث من دون أن يتعمَّقوا في دراسة الدين والتراث، ويستكشفوا مسالكَه ودروبَه المتشعِّبة.

المراهقون الراديكاليون أعداء للتحديث أيضًا، ممن يحسبون أن الهتافات والشعارات والعناوين الصاخبة هي السبيل لانخراط المجتمع في تفكير مُغاير، وهم لا يدركون أن عمليةَ التغيير الاجتماعي والتحولات العميقة هي عملية بالغة الصعوبة، ترتدُّ إلى شبكة معقَّدة من العوامل والمؤثِّرات المتشابكة.

الذين يجرحون الضميرَ الديني للناس هم أعداءُ التجديد كذلك، وهم يتَّهمون الناس ويهجون مقدساتهم بعبارات قاسية على نحو يفضي إلى خشية الناس منهم على معتقداتهم التي هي ممتلكاتهم الرمزية والرُّوحية الثمينة.

كما أن من يختزلون الدينَ في بُعْدٍ واحد هم أبرز من يقف ضدَّ التَّجديد، أولئك الذين يشدِّدون على أنَّ الإسلام لا يساوي سوى المدوَّنة الفقهيَّة. هؤلاء يقدِّمون قراءةً أحادية للدِّين تستبعد نظامَه الرمزيَّ والمعنوي والرُّوحي والجمالي والفني والقيمي والأخلاقي، وتشدِّد على مضمونه الدنيوي، بل تسعى لقَلْبِ ما هو ديني إلى دنيوي، وما هو دنيوي إلى ديني. الدين ذو البعد الواحد الذي تنادي به الجماعاتُ السلفية فرَّغَ الدينَ من محتواه الميتافيزيقي، وأهدرَ معظمَ مضامينه الرُّوحية والمعنوية والأخلاقية والإنسانية. من يؤمن بالأثر الاستثنائي للدين في الحياة البشرية وأبدية الدين على مرِّ التاريخ، ويستوعب معارفَ ذلك الدين، ويمتلك رؤيةً شاملة للمنجزات العلمية والمعرفية الراهنة يمكنه المساهمة بصياغة رؤية علمية لتجديد الفكر الديني.

في حين لا ينبغي لمن لا يعتقد بذلك، ويحسب أن الدينَ والشأنَ الديني هما منبع كلِّ تخلُّف وانحطاط، وينصِّب نفسَه متحدثًا باسم تجديد الفكر الديني؛ ذلك أنَّ هؤلاء لا يفقهون رسالةَ الدين في الحياة، ويعمل موقفُهم على استفزاز المجتمع وتوجُّسه من أية دعوة لتجديد الفكر الديني.

٢

الفكر ليس ساكنًا
سؤال: هل تعتقد بأن تراجعَ دور العقل وغلبةَ النقل في بنية العلم داخل المؤسسة الدينية أسهم في تراجعها؟

جواب: الاتجاهات النصوصية الأخباريَّة تناهض المنحى العقلي في الفكر الديني. في المجتمعات التي تهيمن عليها السلفية يضمحل المنطقُ والفلسفةُ وعلمُ الكلام والعرفانُ والتصوفُ، ويُتَّهَم من يتعاطاها بالمروق والكفر والزندقة والابتداع. في الجزيرة العربية تُناهض السلفيةُ العقلَ والتراثَ العقلاني، وتحرِّم تعاطي الكتب المتخصصة بذلك. حتى هذه اللحظة لا نعثر على قسم لتدريس الفلسفة والميراث العقلي في الإسلام في جامعات المملكة العربية السعودية، كما لا نعثر في المنشورات العديدة الصادرة عن دور النشر أو الدوريات والصحف السعودية على كتابات فلسفية إلا نادرًا.

الفكر الفلسفي ضرورةٌ لكلِّ عملية تحديث فكري. في الفلسفة غالبًا ما تتحوَّل الإجابات إلى أسئلة، وتجديد الفكر الديني لا يتحقَّق من دون توالد الاستفهامات والأسئلة اللاهوتية.

سؤال: ابتعدت المؤسسة الدينية عن معطيات العلوم المعاصرة ونتائجها المثمرة على صعيد الإنسانية جمعاء، وتمسَّكت بالتراث الماضوي بكل تفاصيله. إلى أي مدًى أسهم هذا الفعلُ بتحجيم تأثيرها داخل الشرائح المتعلِّمة والنخب الأكاديمية والفكرية والثقافية الفاعلة؟

جواب: تعود صلتي بالحوزة إلى أكثر من أربعين عامًا، فمنذ سنة ١٩٧٨م انخرطتُ في حوزة النجف، وما زلتُ حتى هذه اللحظة متواصلًا مع الحوزة. واكبتُ عدة متغيرات في نظام التعليم الديني تحكي التجاوبَ مع مقتضيات الزمان، والإصغاءَ للمستجدات المتنوعة. حدث تحوُّلٌ في شيء من أساليب التعليم عبر توظيفِ وسائل معاصرة، والإفادةِ من الحاسوب مثلًا، واستخدامِ الإنترنت، وإصدارِ عدة دوريات بعضها جادة تهتم بدراسة وتحليل المناهج والأدوات والمفاهيم الجديدة في: فلسفة العلم، وعلم النفس، والاجتماع، والأنثروبولوجيا، والألسنيات، ومناهج التأويل والقراءة الجديدة للنصوص، وتحليل الظواهر الدينية، واستكشاف وتفسير التجارِب الدينية. فمثلًا نلاحظ كتاباتٍ وفيرةً تتناول: علمَ الكلام الجديد، وفلسفةَ الدين، وفلسفةَ الفقه، والهرمنيوطيقا وتوظيفَها في قراءة نصوص الكتاب والسنة. وهي تحكي التفاعلَ بين الفكر الديني ومعطيات العلوم المعاصرة. ويمكن الاطلاع على ستة وستين عددًا من مَجلة قضايا إسلامية معاصرة التي صدرت قبل ٢٠ عامًا وغيرها من الدوريات المتخصصة في ذلك للتعرف على ملامح التفاعُل في الحوزة بين مكاسب المعارف البشرية والتعليم الديني. هناك محاولاتٌ رائدة خارج المؤسسة الدينية لدراسة وتحليل الظواهر والنصوص الدينية من خلال توظيف المعارف الجديدة، غير أنها ظلَّت محدودةَ التأثير، كما أشرتُ فيما سبق.

لا أنكر أن حجمَ ومستوى الإفادة من المعارف الإنسانية ما زال أقلَّ من مستوى الطموح، ولولا شيوع دراسة الفلسفة والعرفان في الحوزة لحُظِر أيُّ شكل من أشكال التعاطي مع المعطيات الحديثة للمعرفة البشرية، مثلما يحدث في الجامعات السلفية.

سؤال: هل بالإمكان إحداث الإصلاح في المؤسسة الدينية بعد كلِّ قرون التخلُّف؟

جواب: الفكر الديني كأيِّ حقل من حقول الفكر ليس ساكنًا. الخبراء في تاريخ ومقارنة الأديان يعرفون جيِّدًا كيف بدأ الفكرُ الديني لدى المجتمعات الأولى، وكيف تحوَّل وتطوَّر بمرور الزمان. التطوُّر ناموس اجتماعي، من لا يتطوَّر يموت.

الفكرُ الديني في مجالاته المختلفة يتأثَّر بما يجري من تحولات في بنيةِ المجتمعات وثقافاتِها وأنماطِ عيشها. فلسفةُ العلم تدلِّل على الترابط بين المعارف والعلوم الإنسانية، وتكشف عن أن المخترعات والمكتشفات في العلوم الطبيعية والعلوم البحتة تؤثِّر في العلوم الإنسانية ومعارف الدين، إذ تُحدِث تحولاتٍ مفصلية ومنعطفاتٍ فيها. وهكذا تؤثِّر النظرياتُ الفلسفية الجديدة على العلوم الطبيعية وغيرها. المعرفةُ البشرية شبكةٌ ذاتُ نسيج متواشج، والفكر الديني أحدُ عناصرها، وافتراضُ أن كلَّ شيء يتغير ويتحول بينما الفكر الديني ساكن لا يتغير تكذِّبه فلسفةُ العلم اليوم.

ما تشهده المؤسسةُ الدينية من تطورات وتحولات عادةً ما يكون بطيئًا جدًّا؛ ذلك أن ديناميكيةَ التغيير فيها تستبطنها بنيةٌ تحتية عميقة، وتمرُّ من خلال أنساق تاريخية كثيفة لا تسمح بالعبور من مرحلة إلى أُخرى بسهولة. لا يجري التغييرُ فيها بنحوٍ دفعي آني كيفي، مثلما يجري في الانقلابات والثورات، وإنما على نحو تراكميٍّ تدريجيٍّ ببطءٍ، وهذا شأن المعتقدات والأديان في الحياة الاجتماعية. لقد احتاجتِ المجتمعاتُ الغربية ثلاثةَ قرون من انبثاق تفكير فلسفيٍّ حديث ومكتشفات علمية متواصلة حتى اقتلعتْ من أذهان الناس فكرةَ مسئولية الجنِّ والأرواح الشريرة عن حدوث الجنون. لقد وصف ميشيل فوكو ذلك بنحوٍ عميقٍ وممتعٍ في كتابه «تاريخ الجنون»، فما بالك في قضايا من أمثال فلسفة الدين وتأويل النص وتاريخية الفقه. لا أريد القولَ إن المهمةَ مستحيلةٌ، وما نحن فيه سيلبث أبدًا، بل أعني أنَّ المسألةَ تحتاج إلى شعور عميق بالمسئولية وصبر وجَلَد.

المقدَّس مستمر متواصل، غير أنَّه ليس ساكنًا أو قارًّا أو ثابتًا، بل هو متحرِّك ومتغيِّر. إنه موجود دائمًا، لكنَّ أشكالَه وأنماطَه شديدةُ التنوع. وعادة ما يتعرَّض المقدَّسُ للتلاعب من قِبل البشر، إذ يجري توظيفُه في صراعاتهم، ويُستخدم كقناع وذريعة في الحروب، ويخضع لمختلِف أنواع التفسير والتأويل والقراءات المنبثقة عن الفضاء البشري الحاضن له. ولما كان المقدَّسُ يرتبط عضويًّا بالمؤسسة الدينية، فإنَّ كلَّ ما يتعرَّض له من توظيفات واستخدامات ينعكس عليها بنحوٍ مباشر أو غير مباشر، وتظهر أصداءُ ذلك في عمليات التحوُّل والتغيير داخل المؤسسة.

٣

آفاق التحديث في المؤسسة الدينية
سؤال: ما المقوِّمات الفكرية لتحديث المؤسسة الدينية لتكونَ منسجمةً مع النسيج الاجتماعي والثقافي لمجتمعات اليوم؟

جواب: لتجديد الفكر الديني رافدان يستقي منهما:

  • الرافد الأول: دراسةُ وفهم واستيعاب ونقد الموروث الديني، واستكشافُ مداراته ومدياته وآفاقه المتنوعة، والاهتمامُ بالميراث العقلي في المنطق والفلسفة وعلم الكلام، والميراث الرمزي الإشاري الرُّوحي الأخلاقي في التصوُّف والعرفان، والتحرُّرُ من المواقف التبسيطية الساذجة في التعاطي مع التراث، والنظر إليه بوصفه كمًّا من النصوص التي يجب استظهارُها وحفظُها وتَكرارُها، وتوقُّف الفكر عند تنظيمها وترتيبها وتصنيفها بلا تدبُّر وتحليل وتأويل ومراجعة وتمحيص.
  • الرافد الثاني: الاطلاعُ على العلوم والمعارف البشرية الحديثة، وفلسفة العلم خاصَّة، وعلم النفس، والاجتماع، والأنثروبولوجيا، والقانون والحقوق، والعلوم السياسية، والألسنيات، والهرمينيوطيقا، وتوظيفُها كأدوات في قراءةِ النصِّ الديني وتحليلِه، وتفسيرِ الظواهر الدينية في المجتمع، واكتشافِ ومعرفةِ أنماط التجارِب والخبرات الدينية الشخصية.

تجديد الفكر الديني يتطلَّب دراسةَ مسارات الدين عبر التاريخ والجغرافيا والاجتماع البشري، واكتشافَ طبائع التدين وأشكالِه في مختلِف المجتمعات، والاهتمامَ بمقارنة الأديان ونصوصها المقدَّسة وأنماط مؤسساتها الدينية.

سؤال: هل ثمة مبادرات أو محاولات إصلاحية جادَّة داخل المؤسسة الدينية؟

جواب: ترتدُّ حركةُ تجديد الفكر الديني في الإسلام الحديث إلى الشاه ولي الله الدهلوي (١٧٠٣–١٧٦٢م) في الهند. أما في العالَم العربي فترتدُّ إلى مطلع القرن التاسع عشر، إذ دشَّنها رفاعة رافع الطهطاوي (١٨٠١–١٨٧٣م) الذي أوفده الشيخ حسن العطار شيخ الأزهر وقتئذٍ مرشدًا دينيًّا لأول بعثة طلابية مصرية إلى باريس، غير أن الطهطاوي كان أبرزَ المبعوثين الذين اكتشفوا التنويرَ الأوروبي، وهذه حقيقة لا تخلو من مغزًى، ذلك أنها تضيء ما قلتُه قبل قليل. عرفَ الطهطاوي منجزاتِ العقل الحديث، والتنظيماتِ الجديدة في الغرب، ودوَّن ذلك في كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، ثم عكف بعد عودته مباشرة على إنشاء مؤسسة للترجمة، وحاول إصلاحَ النظام التقليدي للتربية والتعليم.

لم تتوقف محاولاتُ تجديد الفكر الديني، وإصلاح نظام التعليم الديني منذ ذلك التاريخ. لكن بعضَ تلك المحاولات أُجهضتْ في وقت مبكر، أو تخبَّطتْ وارتبكتْ وانهارتْ، لأنها لم تدرك رِهاناتِ عصرها بدقة، أو لم تتعمق في دراسة التراث واكتشاف ما تراكم من طبقاته، أو قفزتْ على الماضي، واستخفَّتْ بالتراث فتجاهلته وأهملته. وظلتْ مساعي تجديد الفكر الديني خارج المؤسسة الدينية لا تلقى استجابةً مناسبةً داخل هذه المؤسسة، ولم تُحدِث تحوُّلًا أو تطورًا في نمط الفكر السائد، خلافًا لجهود ومساعي المجدِّدين من الفقهاء ورجال الدين، الذين اكتشفوا المنطقَ الداخلي للموروث، واستلهموا رُوحَ العصر، فاستدركوا ما يمكنهم استدراكه، واستأنفوا بناءَ المعارف الإسلامية في ضوء متطلَّبات المسلم المعاصر وهمومه. ولا تفتقر المؤسسةُ الدينية على الدوام إلى محاولات شجاعة في تجديد الفكر الديني، وإنْ كانت تُحَارَب بضراوة من رجال هذه المؤسسة.

في مراجعة عاجلة لحركات الإصلاح الديني الفاعلة والمؤثِّرة في تاريخ الأديان التي امتدَّت وترسَّخت عبر الزمان نجد الحركاتِ المشتقَّة من المؤسسة الدينية، والمتولِّدة منها خاصة كحركة الإصلاح الديني التي قادها مارتن لوثر من داخل الكنيسة، هي ما أحدث منعطفًا وتحوُّلًا مهمًّا في تقاليدها ونظامها، إذ يظل صوتُها على الدوام مسموعًا ومؤثِّرًا في المؤسسة. تحديثُ المسجد لا يتحقق إلا حين ينبثق من داخل المسجد، تحديثُ الحوزة لا يتم إلا عندما ينطلق من الحوزة، تحديثُ الأزهر والزيتونة وغيرهما من معاهد وحواضر التعليم الديني لا يتم إلا عندما ينطلق منها. لحظة ينبثق التجديد منها لا يفتقر إلى المشروعية، وتبعًا لذلك يتوافر له حاملٌ اجتماعي. في حين لا تجد الدعواتُ والكتاباتُ في الإصلاح من خارج المؤسسة الدينية حاملًا اجتماعيًّا يعتنقها ويتبنَّاها ويتفاعل معها داخل المؤسسة، ويستخدم الإمكانات التي يتيحها له انتماؤه للمؤسسة الدينية كالمنابر والشعائر والمواكب ودور العبادة في التثقيف على المفاهيم والمقولات والرؤى والأفكار التي تدعو إليها.

قد لا تكون هذه الفكرةُ محبَّبَةً لدى بعض المنشغلين بدراسة ونقد الفكر الديني المنحدِرين في تكوينهم من خارج المؤسسة الدينية، ولعلَّ بعضَهم يرى فيها تقليلًا من دورهم التحديثيِّ، إلا أنني أرى أن الواقعَ التاريخي لمسيرة التجديد يصبُّ في صالح هذه الفكرة. في النهاية تبدو هذه الملاحظة سديدةً إذا بقيتْ مجتمعاتُنا في بنيتها الاجتماعية وفي مصادر تكوينها العلمي والثقافي على ما هي عليه الآن. نعم، في ظل نظامٍ تعليمي — ولا سيَّما الجامعي منه — جديدٍ أكثرَ حداثةً وتنوُّعًا وعمقًا مما نجده اليوم من الممكن توقُّع دورٍ للنُّخَب العلمية المشار إليها أكبرَ وأوسع.

١  حوار أجرته مَجلة الراصد التنويري، لندن، السنة الثالثة، العددان ١٠-١١، شتاء ٢٠١١م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥