راهنُ الفِكْرِ الدِّينيِّ في إيران
١
ليس في وسعنا تقديم قراءة أقلَّ تحيُّزًا للتفكير الديني في إيران من دون الإشارة بإيجاز إلى السياقات التاريخية والاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية للاجتماع الإيرانيِّ، فالإنسان ابنُ بيئته والمحيط الخاصِّ الذي ينشأ ويتموضع فيه، والفكر حصيلةُ تفاعُل الذِّهن والوجدان والمخيال مع الواقع وملابساته، وما يحفل به من اختلالات وتحولات متعاقبة. وميزة الفكر الديني في إيران أنه ذو جذور راسخة في التاريخ، وينهل من منابع متنوعة، وتغذِّيه روافدُ غزيرة، وتتعدد مرجعياتُه التي يستقي منها ويصدر عنها. ونُلمِح فيما يلي إلى شيء من تلك المرجعيات والمنابع والجذور والخصوصيات:
-
(١)
ظهرت عدَّةُ حضاراتٍ في عصورٍ سحيقةٍ في العالم. غير أنَّ معظم هذه الحضارات اندثرتْ وانطفأتْ ثقافاتُها، وماتتْ لغاتُها. أمَّا الإشارات والحروف المستخدمة لديها في التدوين، فخرج معظمُها من التداول إلى الأبد. ولم تَعُد للنَّاس في البلاد المتوطِّنة فيها تلك الحضارات أية وشيجة تربطهم بها، لانتمائهم إلى ثقافةٍ بديلةٍ هاجرتْ فيما بعد إلى هذه الديار، ولم تكن قادرةً على وراثة الثقافات والحضارات السابقة عليها، إثر انقطاع أية وسيلة للتواصل معها، من لغة، أو خطٍّ، أو دين، أو آداب. وافتقر الكثيرُ من الحضارات إلى التواصل مع ما تلاها في الرقعة الجغرافية ذاتها، فلم يكن تاريخُها تراكميًّا، بل تجلَّت فيه القطيعةُ والانفصالُ التامُّ عن الماضي البَعيد.
لكنَّ شيئًا من التواصُل الحضاريِّ، واستيعاب الثقافة اللَّاحقة لبعض عناصر ومكوِّنات الثقافة السابقة، وتمثُّلها، وإعادة إنتاجها، كان علامة فارقة للحضارات الإيرانية المتعاقبة: «الأخمينيين، الأشكانيين، الساسانيين». وهكذا حال الأقوام الذين خلَفوهم في العصور الإسلامية، فقد ورثوا خلاصةَ ما أنجزوه من أنماط تمدُّن، وفنون، وآداب، وفولكلور، وثقافة، ولغة. فأضحى تاريخُ هذه البلاد تراكميًّا؛ تتداخل وتتفاعل في أنساقه الثقافات، تتصالح فيه الجغرافيا مع التاريخ، والحاضر مع الماضي، فلا يطمسه، أو يجتثُّه، أو ينفيه. أي إنَّ التَّاريخ هنا لا يبدأ من الصِّفر دائمًا مثلما تفعل بعضُ المجتمعات غير القادرة على مراكمة خبراتها وتطويرها. كما ظلَّ الدينُ أحدَ مكونات الهُوية القومية، وتم دمجُه بسواه من العناصرِ الأُخرى المحليَّة. حتى اكتسب الإسلامُ الإيرانيُّ خصوصياتِ القوميَّة الإيرانيَّة، وصار يعبِّر عن نفسِه بملامح الشخصيَّة الإيرانيَّة ويتحدَّث بميراثها الخاص.
-
(٢)
انفتح الإيرانيون على الثقافات الشرقية والغربية في وقتٍ مبكِّر من تاريخهم، ففي مدرسة جُندَيسابور تمازجتْ مجموعةُ مكونات ثقافية وافدة ساهم فيها النساطرةُ وغيرُهم، من مدرسة الرُّها وأثينا ومدرسة الإسكندرية والهند، وتلقَّت الثقافةُ الإسلاميَّةُ بعضَ النصوص الشرقية عبر مرورها بالفارسية، وأمستْ إيرانُ جسرًا لعبور آداب وفنون ومعارف المجتمعات الأُخرى، من الشرق إلى الغرب، ومن مشرق البلاد الإسلامية ومغربها إلى آسيا الوسطى وجنوب شرقي آسيا وشبه القارَّة الهنديَّة. ونشاهد في عدَّة آثار ما يشي بالدور الذي اضطلعت به المراكزُ والحواضرُ العلميَّةُ في هذه البلاد، كما في «تحقيق ما للهند من مقولة …» للبيروني.
-
(٣)
عمقُ الحياةِ الرُّوحية وتنوُّعُها. فالشخصية الإيرانيَّة مسكونة بالأسرار، تدمن الارتياض، والممارسات الطقوسيَّة، المتمثِّلة بالأدعية، والمآتم الحسينية، ومجالس الذكر، والزيارات، وكلِّ ما من شأنه تكريس نزعة الاستشراف والمونولوغ الجَوانيِّ، والتأني والصبر والجلَد، والتخلص من الطيش، والتسرع في اتخاذ المواقف والقرارات.
-
(٤)
الفسيفساء الإثنية والفضاء الاجتماعيُّ في إيران مشبع برموز وشفرات وإشارات تَهَبُ الإنسانَ إمكاناتٍ واسعةً للتأمُّل والتدبُّر وإمعان النظر حين يتعامل مع الغير، وتمنحه براغماتية عملانية، وقدرة على التكيُّف والانسجام مع الآخر والإصغاء له، والتقاط ما هو مهمٌّ منه. وكان من نتائج ذلك أن اصطبغ الإنتاجُ الفكريُّ بمواءمةِ وتوليفِ مجموعةِ عناصر ودمجها وسبكها في مُرَكَّب تستقي مادته من منابع مختلفة وتغذِّيه مناهلُ متعدِّدَة.
-
(٥)
يمكننا ملاحظة الأبعاد الجمالية بوضوح في الآداب والأناشيد والشعر الصوفي في إيران، مثلما يتجلَّى الذوقُ الفنيُّ في الرسم والفنون التشكيلية والموسيقى والسينما والمسرح، وتدبير المنزل والعمارة والبناء. وتفيض اللغةُ الفارسيَّة بالرقة، وترفِد المشاعر والأحاسيس بالدفء؛ بما تشتمل عليه من إيقاع صوتي وسُلَّم موسيقي متناغم. وهكذا تحاكي الطبيعة الأبعاد الجمالية في التمدُّن الإيراني، بتضاريسها الخلَّابة، واختلاف مناخاتها وتنوُّع طقسها، بنحوٍ تتجاور فيه أربعة فصول في وقت واحد.
-
(٦)
امتداد الميراث العقلاني، في المنطق، والفلسفة، وعلم الكلام، وأصول الفقه، وما يصنَّف على المعارف العقلية في التراث، والاهتمام بدراسته وتدريسه على الدوام، واستدعاء تقاليد المناظرة والمدارسة والمباحثة والجدل بأسلوب «إن قُلتَ قُلتُ» في التعليم الديني في الحوزات. وقد كان للحضور الأبديِّ للمعارف العقلية في الحوزات بالغُ الأثر في إطلاق عملية الفكر وتنميتها، وإن كانت تلك المعارفُ ما انفكَّتْ تتحرك في قوالب المنطق وأشكال القياس الأرسطي، التي ظلَّت تعمل على كبح العقل، وعدم تجاوز الترسيمات المعروفة في تشكيل وصوغ المفاهيم، وفي المُحَاجَجَة والاستدلال. بيد أنَّ آفاقَ الفِكْرِ العقلي لم تنغلق تمامًا؛ ذلك أنَّ المنهجيَّة التشكيكية، ونمط الأدوات والمفاهيم المتداولة في المعارف العقليَّة الموروثة أسهمتْ في إيقاد جذوةِ الفكر وتأجيجها باستمرار.٢
-
(٧)
عَرَاقَةُ المنحى التأويليِّ في الموروث الشيعي، ونموُّه وتكامله عبر الزمن، باقتناص واستلحاق رؤًى وأدوات منهاجية مختلفة وشيوع دراسة العرفان النظري، خاصة نصوص وتراث المتصوِّف الشهير محيي الدين بن عربي، وهي نصوص تفيضُ بنزعةٍ إنسانيَّةٍ، ومواقف تصالحيَّة مع الأديان والثقافات، وتعمل على اكتشاف المشتركات، حين تتوغَّل في جوهر الأديان، وتغوص في عُمْقِ التَّجارب الرُّوحية لأتباع المِلَل والنِّحَل المختلفة، لترصد تجلِّيَاتِها وآثارها العامَّة. وتتميَّز الشخصية الإيرانية بسعيها المستمر لاستعارة كلِّ ما تظنُّه مفيدًا من معارف وأفكار وفنون وآداب، وتوليفه في خلطة، لا يقلقها أن تتكوَّن من عناصر مختلفة، وأحيانًا متنافرة.
لقد تعامل العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي برفق واحترام مع نصوص ديانات آسيوية. يقول الدكتور داريوش شايغان: «العرفان أول ما يسترعي اهتمامي. أجد انشدادًا قويًّا إلى العرفان، أنا من عشَّاق المذهب الطاوي، وأهوى «جوانغ تزو» للغاية. قضينا دورة بأستاذية العلَّامة الطباطبائي، وكان يبدي رغبة أكيدة في الاطلاع على كتاباتهم، ولأنها لم تكن مترجمة، عكفتُ أنا والدكتور سيد حسين نصر على ترجمتها. كان يفسِّر شانكارا كأنه أستاذ بالضبط، ويتركنا في حيرة من الأمر، فمثلًا في أحد الأوبانشادات عبارة تنطوي على مفارقة: «الذي يفهم لا يفهم، والذي لا يفهم يفهم.» وقد فسَّر الطباطبائي هذه العبارة، وأجلى غشاوتها، وحلَّل مضمونها، بنحوٍ أدهشني. بعد ذلك ترجمتُ أنا والدكتور نصر كتيِّبًا صغيرًا من تأليف لاوتسو، اسمه «داو جينغ»٣ كلُّه مفارقات. نقلناه من النصِّ الإنجليزي إلى الفارسيَّة. وحينما قرأه العلَّامة الطباطبائي قال: «هذه أهم رسالة قرأتها في عمري»، وصار من عشاق «داو جينغ».»٤إن نصوص العارفين تعمل على خلق مناخات رحبة للتأويل وتعدُّد القراءات وتنوُّع الفهم، وبالتالي تجاوز ظواهر الألفاظ، ومحاولة اقتناص مداليل لا تحكيها الكلمات بصراحة.٥ -
(٨)
في نصف القرن الأخير حدث انزياحٌ واسعٌ للغة العربية في الحوزة في قُمَّ، فأصبحت بالتدريج لغةً ثانيةً، بعد أن عبَرت اللغة الفارسية إلى الحلقات الدراسية والنقاشية، وأصبحت تحتلُّ مواقع العربية في المقررات الدراسية والتعليم والتأليف. وتغيُّر لغة التعليم الديني يعني تغيرًا في الرموز الدلالية، وأسلوب بيان المفاهيم، والتعبير عن الرُّؤى والأفكار. ولا ريب في أن صوغ المفاهيم والرؤى والآراء والمعارف الدينية بشفرة لغويَّة أُخرى، سيفضي إلى تشكيل حقل دلالي بديل، وانبثاق فضاء ثقافي، يستمد مكوناتِه وعناصرَه من ميراث هذه اللغة وآدابها، وأساليبها البيانية والتعبيرية؛ ذلك أنَّ لكلِّ لغةٍ معجمها الخاصَّ، وتراكيبها، وبنيتها، ومواضعاتها، وملابسات نشأتها وتحولاتها.
ومن المعلوم أنَّ نصوص كلِّ دين عندما تنقل من لغة إلى أُخرى، يُعاد صوغُها في آفاق اللُّغة الجديدة، وطبيعة ثقافة الشعب الذي يتحدث بها، مما يمنح النص فاعليات وإمكانات مختلفة، لم يمتلك شيئًا منها في عوالم اللغة السابقة.
وبوسعنا ملاحظة تحولات الفكر الديني المسيحي عندما عبَرت نصوص هذه الديانة من الآرامية إلى اليونانية، فاللاتينية، وأخيرًا اللغات الأوروبية بعد حركة الإصلاح الديني ودعوة مارتن لوثر لترجمة الكتاب المقدس للألمانية والإنجليزية والفرنسية.٦ -
(٩)
في معظم البلاد العربية والإسلامية تتخصَّص بالدراسات الدينية الحواضر العلمية التقليدية ومدارس وكليات الدراسات الشرعية، ولا يهتم الأكاديميون وعموم المثقفين من غير الدارسين في تلك الحواضر والمدارس والكليات بهذا النوع من الدراسات، وربما يحسب الكثير منهم أن مهمَّة الفكر في الدين وما يرتبط به من إشكاليات أمر لا يعنيهم، باعتباره من مهمَّات تلك المؤسسات، ولذلك لا نجد تيَّارًا وسط النخبة يصنَّف على أنه المثقف الديني، الذي يتعاطى مع الموروث والتمثُّلات الاجتماعية للدين بوعي نقدي، وباستطاعته توظيف المفاهيم والأدوات المنهاجيَّة في العلوم الإنسانيَّة الحديثة، حين يتعامل مع تعبيرات وتمثُّلات الدين في الواقع.
بينما تنخرط معظمُ النخبة في إيران في الفكر الديني، ويتعذَّر على الحواضر العلميَّة الدينية المعروفة بالحوزات احتكار الفكر والدراسة والبحث في قضايا الدين وظواهر التديُّن؛ ذلك أن الدارسين والباحثين في الجامعات والمنتديات الفكرية والجمعيات الثقافية يتناولون الشأن الديني وأنماط التديُّن في حلقاتهم النقاشية ودراساتهم ومحاضراتهم، وتحضر بكثافة مقولات ومناهج المفكرين الغربيين، وآراء رواد تحديث اللاهوت الكنسي في مقارباتهم للشأن الديني.
-
(١٠)
شموليَّة الفكر الديني وشيوعه لدى معظم الناس، فكثير منهم ينخرطون في جداليات وسجالات دينية، والكلُّ يتداول الأفكارَ والمعتقدات الدينية، حتى إن المفكرين والكتاب المعروفين في إيران يتوارثون تقليدًا في التواصل مع المجتمع من خلال ندوات ومحاضرات جماهيريَّة، يحضرها مئاتُ الأشخاص في المساجد والحسينيات والجامعات، وتسجَّل على أشرطة ضبط الصوت وتُطبع في كتب لتوزَّع بشكل واسع. وهذا التقليد الثقافي في التواصل مع الجمهور يدعو المفكر الديني لبناء خطابه وتنظيم أفكاره بنحوٍ ينسجم مع المشاغل الذهنية للناس، وما يملأ مخيالهم من فولكلور وأمثال وحكايات ورموز وميثولوجيا.
إن جدليَّة المتحدث والمتلقي تثري الخطاب، وتحرره من تهويماته التجريدية، وتقحمه في مطامح الناس وأحلامهم، وتوجِّه مساره نحو الهموم العاجلة، وتدعوه للاستجابة للمتطلبات الراهنة للاجتماع البشري.
-
(١١)
مشروع الدولة الدينية كان أحد أحلام الدارسين في الحوزة منذ مدة طويلة، وقد استطاعت الحوزةُ في خاتمة المطاف تجييش وتعبئة الجماهير، تحت لافتات وشعارات تطبيق الإسلام، وإشادة حكومة الحقِّ والعدل، من خلال إعادة صوغ الحياة الاجتماعية في ضوء الفتاوى والأحكام الوفيرة في التراث الفقهي، فتحقَّق الظفر بانتصار الثورة، والإعلان عن الدولة الإسلامية. لكن الكثيرين من المتحمِّسين لتطبيق الفقه، والاستناد إليه في تنظيم الإدارة، والاقتصاد والمال، والثقافة، والتربية والتعليم، اكتشفوا غربة حقل واسع من الفقه عن الواقع، وغربة الواقع عن هذا الفقه، لأن الفقه لا يعدو إلا أن يكون معرفة تشكلت في السياقات الثقافية والحضارية للاجتماع الإسلامي عبر التاريخ، وهذه المعرفة مطبوعة بكلِّ ما اكتنف الحياة الإسلامية من اختلالات وظواهر اجتماعية وسياسية وغيرها.
وكان عجز الفقه التقليدي عن الوفاء بمتطلبات الدولة والاجتماع الإسلامي المعاصر، باعثًا لانبثاق طائفة من الأسئلة الحائرة، التي ظلَّت غائبة قرونًا طويلة. ومنها: هل الفقه صناعة بشرية أم تشريع إلهيٌّ، بل هل هناك تشريع إلهي يحكيه الإنسان، أم أنَّ ما يكتبه الفقهاء هو تعبير عن مكوناتهم الذهنية ومسلَّماتهم ورؤيتهم للعالم؟ وهل الدين والفقه مسئولان عن إدارة وتنظيم كل ما يجري في الحياة البشرية؟ وما الذي يبقيه الدينُ والفقه من دور للعقل والخبرة البشرية؟ ألم يكن نظامُ المعاملات الفقهي إمضاءً وتهذيبًا للمعاملات والتشريعات السائدة في المجتمع العربي عصر البعثة، وهل تتَّسع تلك الأطرُ التشريعيَّةُ الخاصَّة بمجتمع رعويٍّ بسيط لمجتمعات تجارية وصناعية تسودها الكثير من المعاملات المعقَّدة غير المعروفة للإنسان من قبل؟ وهل كمال الدين بمعنى استيعابه وشموله لكل شيء في الدنيا والآخرة، أم أنَّه بمعنى أنَّ الدين لا يُعْوِزه أو ينقصه شيء فيما يرتبط بأهدافه وغاياته في هداية الإنسان؟
وهكذا تبدَّتْ حيرةُ الفقه التقليديِّ عن استيعاب تطلُّعات الثوار، وإنجاز أحلامهم، وتحقيق وعودهم وآمالهم، فاستفاقتْ جماعةٌ من النُّخب لتحاكم التراث الفقهي وتُسائل اللاهوت التقليدي، وتغربل مفاهيمَهما ومقولاتِهما، فلم تَعُدْ قناعاتُهم الماضية يقينيات، وإنما تحوَّل الكثيرُ منها إلى شكوك، وما انفكَّ بعضُهم يرزح في ارتيابِه ولايقينه.٧ -
(١٢)
تنتشر في إيران عشراتُ الجامعات والحوزات العلمية، والمئات من مراكز البحوث والدراسات، وعدد كبير من دُور الطباعة والنشر، وعشرات الصُّحُف والمَجلات الأسبوعية والشهرية، والدوريات الفصليَّة، والكثير منها تهتم بجداليات الفكر الديني، واستفهاماته القلقة، وطروحاته المتنوعة. ولا يكفُّ الصحافيون والباحثون وسائر الكتَّاب، الذين يساهمون في تحرير تلك المطبوعات والنشر فيها، عن الحوار والنقاشات الساخنة في المسائل السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية، التي تتصل بصورة عضويَّة بمواقف ورؤًى لاهوتية ودينية، تصدر عن مرجعيات تراثيَّة في الفلسفة، والعرفان، وعلم الكلام، والفقه، والتفسير … إلخ، أو مرجعيات جديدة تنتمي إلى مكاسب الدراسات الإنسانية الحديثة.
ربما لا توحي لنا غزارة الإنتاج الفكري بمستوى هذا الإنتاج وممكناته النهضوية، من دون العودة إليه واجراء دراسات استطلاعية لمضامينه واتجاهاته، غير أنَّ ما يمكن رصده بيسر وسهولة هو وفرة الأسئلة، وتعدُّد المسائل المطروحة فيه، واختلاف طرائق فهمها ومقاربتها، وكثرة المناظرات على الورق، وتدفُّق الردود والأجوبة، حتى إن موضوع «التعددية الدينية» الذي أثاره الدكتور عبد الكريم سروش في مقالة له نشرها في إحدى الدوريات الناطقة بالفارسية في طهران، تحوَّل إلى ما يشبه الموجة الفكرية لمدَّة تجاوزت العَقد من السنين، فكُتِبَتْ مئاتُ المقالات والبحوث والأطروحات والكتب، مختلفة أو متفقة مع رؤى سروش.
إن المثقف في إيران يظلُّ مسكونًا بهاجس الدين وقضاياه، مهما كان تخصُّصه أو مجالُ اهتمامه ونمط همومه المعرفية؛ ذلك أنَّ الفضاء الثقافي الذي يتموضع فيه ينبض على الدوام بجدل الدين والواقع.
٢
شغلتْ مفاهيمُ الهويَّة والأصالة والخصوصيَّات المحلية المفكرين الإيرانيين منذ مطلع القرن العشرين، وكانت الثورة الدستورية المعروفة في تاريخ إيران القريب ﺑ «المشروطة» لحظة حاسمة بلغ فيها الصراع ذروته بين تيارين، تبلور موقفُهما في إطار رؤيتهما للهُوية وصيرورتها، ونمط التعاطي مع الآخر، فبينما شدَّد أحدُ التيارين على حراسة الهُوية، ومنع توظيف مكاسب الفكر السياسي الغربي الحديث، والإفادة من مقولات الحريات والحقوق لديه، بذريعة تحصين الذات وتأصيلها، والحفاظ على نقائها وطهرانيتها، والاقتصار على ما يشتمل عليه التراث من مفهومات تتصل بالاجتماع السياسي، رأى التيارُ الثاني ضرورة الانفتاح على الآخر، واستدعاء خبراته، واستعارة معطيات فكره وتجارِب اجتماعه السياسي، فيما يتعلق بتدوين الدستور، والتمثيل الشعبي، والتداول السلمي للسلطة. وذهب هذا الفريق إلى أن المجتمع المثالي في العصر الحديث هو المجتمع المفتوح؛ ذلك أنَّ انغلاقَ المجتمع يُفضي إلى تبديد طاقاتِه، وطَمْسِ فاعليَّاته، وبالتالي موته، وانطفاء جذوة الانبعاث فيه.
واستمرَّ السِّجال الفكري في إيران لعشرات السنين يدور حول طبيعة العَلاقة مع الآخر، وكيفية الاحتفاظ بالخصوصيات، والسبيل لأن نكون معاصرين دون أن نفرط بأصالتنا، أي إنَّ سؤال الهُوية كان السؤالَ المحوريَّ، الذي انبثقتْ منه كافةُ الأسئلةِ الفرعيَّة لسنين طويلة في الفكر الديني، وانخرط في هذا السؤال وما تفرَّع عنه أبرزُ المفكرين إلى قيام الثورة الإسلامية سنة ١٩٧٩م. وكان البحثُ دائمًا لدى الفريق الأول عن التمايزات الجوهرانية بين الشرق والغرب، والتوكيد على استعادة وترسيخ القيم الثقافية المحلية، من خلال استعارة المبادئ الإبستمولوجية للاستشراق، وإعادة توظيفها باتجاهٍ معاكس.
في عَقدي الستينيات والسبعينيات تواصلت الدعوةُ «للعودة إلى الذات» لدى علي شريعتي (١٩٣٣–١٩٧٧م) الذي استلهم أفكار صديقه فرانتز فانون في «المعذبون في الأرض» واهتمَّ بتغذيتها برُوح دينية، واكتشاف جذورها الإسلامية، بدلًا من الخصوصيات العرقية واللغوية والتاريخية للعالم الثالث في كتاب فانون. ويبدو أنَّ الهموم النضاليَّة لشريعتي، وجهوده الحثيثة لأنسنة الدين، والإفصاح عن مدلولاته الاجتماعية، وتقليص أسراره وأبعاده الميتافيزيقية وعوالمه الباطنية، هي الباعث لمسعاه في تحويل الإسلام «من ثقافة إلى أيديولوجيا». ومما لا ريب فيه أنه كان شديد التأثُّر بجماعة لاهوت التحرير، ودعوتهم لتحويل الدين إلى أيديولوجيا لمناهضة الاستعمار، وتكريس لاهوت الأرض، بعيدًا عن مدارات اللاهوت الكلاسيكي.
وتتضمن نصوصُ شريعتي هجاءً لاذعًا للغرب وما اجترحه عبر تاريخه الاستعماري في آسيا وأفريقيا والأمريكتين، بالرغم من أنَّ مرجعيته في تفكيره ودراساته مستقاة من المعارف الغربية، كمن سبقه من الدارسين الذين تبرَّموا من الغرب وممارساته، في الوقت نفسه الذي استلهموا معارفه ولغاته ورؤاه.
ميزة شايغان أنه مفكر يدمُج العقلَ بالرُّوح، والذهن بالقلب، والمشاعر بالأفكار، والبرهان بالحكمة والشعر، ويثري كتاباته بمزيج من مفاهيم متنوعة، تختلف مواطنها، فشيء منها يعود إلى ديانات آسيوية، وشيء آخر إلى العرفان والتصوُّف، بينما يعود شيء ثالث إلى تيارات الحداثة وما بعد الحداثة في الفكر الغربي، لكنه يصوغها في توليفة متسقة، ويثريها دائمًا بتأويلات ونظرات حاذقة.
٣
سادت عناوين بديلة، وطغى سجال مختلف في الحياة الثقافية، وظهر مفكرون يتسلحون بمناهج تستند إلى فلسفة العلم، والهرمنيوطيقا وعلوم التأويل الراهنة، ولا يخشون استعارة مفهومات اللاهوت الغربي الحديث، وتطبيقها في دراسة النص والتراث وتحليل أنماط الرياضة الدينية. وتعرضت المعارفُ التقليدية إلى مراجعات من منظور نقدي، يغور إلى الجذور، ويبحث عن الخلفيات، ويهتم باكتشاف الأنساق المعرفية، وتفكيك العناصر والأسس وغربلتها. فمثلًا: في الحقل الفقهي لم تقتصر الدعوة على تحديث مناهج الاجتهاد، وتوظيف مقاصد الشريعة في الاستنباط، وإنما وُلدت محاولات لبناء علم بموازاة أصول الفقه ومقاصد الشريعة، اصطلح عليه بعض الباحثين ﺑ «فلسفة الفقه». يطمح هذا العلم لبيان الهُوية التاريخية والاجتماعية للفقه، واكتشاف العناصر الراقدة خلف عملية الاستنباط، من مسلَّمات وفرضيات لاواعية، وكيف تتنوع تجارِب الاستنباط، وطبيعة الفضاء المعرفي الذي تتمخض داخله تلك التجارِب. وتسعى فلسفة الفقه لتفكيك نسيج الفقه، والكشف عن طبيعة المعارف الخفية المستترة في بنيته، وتهتم بتشخيص ما يطبع المعرفة الفقهية، وما تتلون به من رؤية الفقيه للعالَم وثقافته، ومحيطه الخاص، إنها تغامر باجتراح أسئلة كانت غائبة من قبل.
وتبلور في دراسة اللاهوت اتِّجاه يدعو إلى تجاوُز علم الكلام الكلاسيكي وصوغ علم كلام جديد، يغلب عليه الطابع المعرفي التبييني، ويتحرَّر من النزعة الدفاعية، وينفتح على الجغرافيا الراهنة للمعرفة البشرية، ويتعاطى مع نتائجها بلا وجل، ويعيد رسم الهندسة المعرفية للمسائل الكلامية بنحوٍ مغاير لما مضى، ويستوعب طائفة من الموضوعات الجديدة في إطار هذه الهندسة، ويرتكز على سائر معطيات ومناهج العلوم الإنسانية الحديثة، من أجل توظيفها في البحث والدراسة، ويتمرد على أشكال القياس الأرسطي الموروثة.
إلا أن الكثير من الإنتاج الفكري الراهن في إيران يطبعه المنظور النقدي التفكيكي التحليلي، ولم يتسلح بمنظور بنائي تركيبي. إنه يبرع في عمليات التقويض والهدم، من دون أن ينتقل إلى بناء رؤية أو مرتكزات معرفية أُخرى. ولعل ما يبرر ذلك له أن الفكر الحديث بطبيعته فكر نقدي، لا يكف أبدًا عن التساؤل، ويهمه إثارة الاستفهامات قبل البحث عن الأجوبة، والرؤية دائمًا تنبثق في فضاء النقد والتساؤل.
في مناسبة قادمة نود أن نتحدث عن مجموعة من المفكرين الذين كان لمساهماتهم أثر كبير في إحداث هذه التحولات في الفكر الديني في إيران بعد الثورة الإسلامية، مثل الدكتور عبد الكريم سروش والشيخ محمد مجتهد شبستري والاستاذ مصطفى ملكيان.