الفصل الثاني

في الحاجة إلى إنسانية إيمانية

١

مفهومُ الدين

يحيلنا مفهومُ «أنسنة الدين» إلى تحديد ما نريده من الإنسان والدين، إذ يختلف مفهومُ «الإنسان» وهكذا مفهومُ «الدين» تبعًا للسياقاتِ التي نفهمه في فضائها، والمرجعياتِ التي يحيل إليها، والرؤيةِ للعالم التي نتبنَّاها.

لا أفهم الدينَ فهمًا وضعيًّا يقطع صلتَه بالمطلق، لذلك أختلف في فهمي ﻟ «أنسنة الدين» عمَّا هو شائعٌ لدى كثيرين من الباحثين في هذا المضمار. لكي يتضحَ ذلك سأشيرُ بإيجازٍ إلى مفهومِي للدين ومفهومِي للإنسان.

أما مفهومُ الدين، فعندما نعودُ لكتاباتِ المتخصِّصِين في علمِ الأديان نعثرُ على عددٍ وفيرٍ من التعريفاتِ المختلفة، وحتى المتضادَّة له. منهم من يُعرِّفه بعبارات تشرح منشأَه ومنابعَ إلهامه، وتتحدث عن أنماطِ تحقُّقه في حياة الفرد والجماعة، ومنهم من يُعرِّفه بجملةٍ واحدةٍ وكلماتٍ موجَزة، وحتى بكلمةٍ واحدة. لا أريدُ أن أقتبسَ هذه التعريفاتِ وأنسج عليها، كما لا أريدُ أن أنشغل ببيان التعريف استنادًا إلى معايير أهل المنطق. أتحدَّثُ عما خلَصتُ إليه من فهمٍ للدين، تحكيه مسيرةُ حياتي الرُّوحية والأخلاقية، وخبرتي في دراسة علوم الدين وتدريسها، ومطالعةُ كتابات متنوعة لفلاسفةٍ ولاهوتيين وعلماء في الدين والفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع. وفي ضوء ذلك كلِّه أحاول التعرُّفَ على الدِّين من خلال بيان وظيفته. الدينُ حياةٌ في أُفق المعنى، تفرضُه حاجةُ الإنسان الوجوديةُ لإنتاجِ معنًى رُوحيٍّ وأخلاقيٍّ وجماليٍّ لحياتِه الفردية والمجتمعية. هذا هو تعريفي للدين.

يحيلُ استعمالُ مصطلح الدين في كثير من الكتابات الحديثة إلى أنه ظاهرةٌ يُنتجها الإنسان، وهو فهمٌ اشتهر لدى مجموعة من الفلاسفة والمفكرين الغربيين، الذين قدَّموا تفسيراتٍ متنوعةً للدين، إذ كان الدينُ في مفهومهم تعبيرًا عن: خوفِ الإنسان، أو جهلِه، أو أنه ضربٌ من المرض النفسيِّ، أو أن الدينَ مرحلةٌ من مراحل تطوُّر الوعي البشري يغادرها المجتمعُ عادةً لحظةَ ينتقل إلى ما هو أنضج وأكمل من الوعي، أو أنه تبريرٌ للاضطهاد والتعسُّف والاستغلال الاقتصادي في الإنتاج والتوزيع الذي تتعرَّض له الطبقةُ المضطهَدة.

هذه التفسيراتُ وغيرُها تنزع إلى فهم الدين كما تفهمُ الفقرَ أو الجهلَ أو المرضَ أو غيرَ ذلك من الظواهر السائدة في الاجتماع البشري، في حين يتطلَّب الدينُ تفسيرًا أبعدَ مدًى مما ذهبتْ إليه كلُّ تلك التفسيرات. إذ إن هذه التفسيراتِ تُخفق في الكشف عن طبيعةِ الإنسانِ، واحتياجِ كينونته العميقِ للدين، بوصف الدين حاجةً وجودية، وهو الحلُّ الوحيدُ لمشكلة الاغتراب الوجوديِّ، والمنبعُ الذي يكفل إرواءَ الظمأ الأُنطولوجي للمقدَّس.

يُسهم الدينُ أيضًا في الإجابة عن أسئلةٍ مصيريَّةٍ كُبرى شغلت الإنسانَ أمس، وما زالت تشغله اليوم، وستلبث تتكرر كلَّ يوم. أسئلةٌ تتمحور حول: المبدأ، والغاية، والمنتهى. كلُّ هذه الأسئلة تَنشد اكتشافَ حقيقة الكائن البشري ومعنى حياته ومآلاته، والعالمَ الذي يسكن فيه، وما وراء هذا العالم. الدينُ أهمُّ عاملٍ لبناءِ إرادة الإنسان وتنميتها، الإرادةُ كبوصلة السفينة، عطَبُها يقودُ الإنسانَ إلى التردِّي والضياع. بناءُ الإرادة وتنميتُها كان وما زال خلاصةَ ما تنشده الأديانُ الآسيوية، وهو المحور المركزي الذي تلتقي حوله أهدافُ هذه الأديان.

أما الإنسانُ فهو الكائنُ الأغربُ والأعقدُ والأشدُّ ألمًا في هذا العالَم. ذاتُ الإنسانِ لغزٌ للإنسانِ نفسِه، وعلى حدِّ تعبير نيتشه: «إن كلَّ إنسان أعجوبةٌ فريدة.» الكائنُ البشري بطبيعته عميقٌ جدًّا، لا يخلو من تناقُضٍ. عقلُهُ مثلما يفكرُ في الخيرِ يفكرُ في الشرِ، ومثلما ينشغلُ بتدبير السلامِ ينشغلُ بتدبير الحربِ، ومثلما يبرعُ في ابتكار وسائل السعادة يبرعُ في ابتكار وسائل الشقاء، وإلا فمن أين يأتي كلُّ هذا الكيد والمكر والغدر واللؤم والخيانة، وكل هذه الكراهية والتعصب والعدوان، وكل هذا الخراب، وكل هذا القبح والظلام الذي يعبثُ بالحياة؟! وإن كان العقلُ يحاولُ ألا يفضحَ نفسَه، لذلك لا يعلن عما يصدرُ عنه من طاقة تدميرية. وكثيرًا ما يتحدث ويعِدُ بما هو بنَّاء وإيجابي، ويتجاهلُ ويهملُ ما هو هدَّام وسلبي. حجمُ الألمِ في حياة الإنسان أكبرُ من الراحةِ، والشرُّ أكبرُ من الخيرِ. رحلةُ الحياةِ من الولادةِ حتى الوفاة فيها كثيرٌ من الألمِ.

٢

الدينُ يجيبُ عن الأسئلة الوجودية الكبرى

الإنسانُ كائنٌ مسكونٌ باكتشاف وتفسير كلِّ ما حوله من عوالم، إذ إن كلَّ ما لا يُفسَّر يجعل هذا الكائنَ غارقًا بأسئلةٍ تثيرها افتراضاتٌ قلقةٌ وأوهامٌ مخيفة. الدينُ شبكةُ دلالات تمنح الإنسانَ قدرةً على العيش في عالم يستطيع فهمَه وتفسيرَه. صحيح أن أكثرَ تفسيرات وتبريرات الدين نَسَخها اتساعُ مجالات العلم، ومحتها مِمْحاةُ تطور العلوم والمعارف البشرية، والآفاقُ الجديدةُ للعقل الحديث. أتحدَّث هنا عن كل ما هو خارج هذه المجالات والآفاق من مديات تُلحُّ على العلماء على الدوام أن يفتشوا عنها، ويقدِّموا تفسيراتٍ متنوعة في فهمها. مهما بلغتْ فتوحاتُ العلم واتسعتْ مداراتُ العقل فإن العقلَ ذاتَه يدلِّل على أنها تظلُّ محدودةً مهما امتدَّ الزمان، لذلك يبحثُ الإنسانُ بموازاة ذلك عن الذي يمنحه معنًى جديدًا، يفسِّر به ما لا يفسِّره العلمُ في حياته. وأعني بذلك أنه ليس هناك كائنٌ بشري لا تُلحُّ عليه أسئلةٌ حائرةٌ عن معنى وجوده في هذا العالم، وعن الموتِ الذي يباغته وتتعطَّل فيه حياتُه الدنيا، ويتوقف فيه كلُّ شيء فيها، والمصيرِ الذي لا يعرف عنه شيئًا، وما يتفشَّى في العالَم الذي يعيش فيه من شرور مريعة، وغيرُ ذلك من أسئلة تتفرع عن الأسئلة الكبرى وتُحيل إليها. لن تغيب الأسئلةُ أبدًا ما دام هناك إنسانٌ يفكر في العالم.

يظلُّ الهدفُ الأعمقُ لحياةِ كلِّ إنسانٍ هو أن يخلِّدَ الحياةَ، ويميتَ الموتَ. لذلك لا يمكن أن يغيبَ الدينُ عن الحياةِ ما دام الكائنُ البشري عاجزًا عن أن يميتَ الموت. فيما يتصل بسؤال الموت فإنه مهما تقدَّمَ العلم لا يستطيع تعطيلَ هذا السؤال، وإن استطاع تأجيلَه. كلُّ إنسان يشعر بأنه يقع في أحضان الموت، وإنْ فعلَ كلَّ شيء لكن لا يستطيع طردَ كابوس الموت. الموتُ هو التحدي الأعظمُ للكائن البشري. استجاباتُ الكائن لهذا التحدي، وإن كانت متنوعةً، لكنها كلَّها لا تكفُّ عن التَّوق للخلود.

كلُّ إنسان يواجه الموتَ بمنجزه، كلُّ جماعة بشرية يتضامن أفرادُها وتُنتج سرديَّاتِها ومتخيَّلَها في سياق مواجهة الموت. يظهر التَّوقُ للخلود في حياة الإنسان في كلٍّ من: الدين الذي تتمدَّد به الحياةُ ولا تزول أبدًا وَفقًا لما يفهمه المتدين، والفن الذي يخلِّد الذاكرةَ ويجعلها حيةً على الدوام، والعلم الذي يصيِّر وجودَ المرء أغنى، والكتابة التي هي ضربٌ من بقاء واستمرارية حضور الكاتب وديمومته، والأمومة والأبوَّة اللتين يتَّسع بهما الوجودُ الشخصي من خلال الأبناء، واكتناز المال الذي يشعر معه المرءُ بالاستغناء وعدم الاحتياج للغير، والسلطة التي تمنح من يمتلكها شعورًا يتخيل معه أنه يقبض على حياة أوسع من حياته الشخصية، بوصفه يمتلك قدرةً من شأنها التحكُّم بمصير الغير في مملكته، وكأنه يضمُّ حياتَه إلى حياتِه، لأنه يستطيع أن يهب الغيرَ البقاءَ أو يحكم عليه بالفناء. كلُّ ذلك وغيرُه يقوم به الإنسانُ ليواجه الموتَ، ويتخلصَ من الفناء، ويظفرَ بالأبدية.

يضع الدينُ بين يدي الإنسان منظومةَ تفسيرٍ تقدِّم له إجاباتٍ عن كلِّ ما لا يجيب عنه العلمُ في حياته. يجيب الدينُ عن الأسئلة الوجودية الكبرى، كسؤالِ معنى الحياة، والموتِ، والمصير. الدينُ تمثُّلٌ رمزي للوجود، ونمطُ حضور في العالم، يتشكل في فضائه مفهومُ الإنسان للحياة، وأفقُ رؤيته، وتتكيف تبعًا له صلاتُه بالأشياء، وأنماطُ عَلاقاته الاجتماعية بالأشخاص. كما يقدِّم الدينُ تبريرًا للحياة، وإنْ كان الدينُ لا ينفرد بذلك، غير أنه ينفرد في إنتاج رؤيةٍ للإنسان الديني يعيش معها في عالم مقدَّس بموازاة عالمه الدنيوي. كذلك يقدِّم الدينُ تبريرًا ينفرد فيه للموت، بوصف الموت ليس فناءً، وإنما تحوُّل في طبيعة الحياة، وتأبيد لها، بنحوٍ يجعل تحدي الموت أخفَّ وطأة على المتدين. كأن الإنسانَ الديني يشعر بأنه يهاجر من واقعه المرِّ ليسكن عالمًا طاهرًا لم تدنِّسه شرورُ وخطايا البشر، ثم يدنو ذلك العالمُ القدسي ليلتحمَ بالواقع ويتسامى به، بالشكل الذي يخفِّف على هذا الإنسان الكثيرَ من آلامِ الحياة ومواجعِها، إذ يمنحه تعويضًا مؤجَّلًا عن كلِّ آلام حياته، ويمنحه قدرةً إضافيةً تَخفِض من وطأة الألم وضراوته، بنحوٍ يصبح فيه هذا الإنسانُ قادرًا على تحمُّله مهما كان. كذلك يحرص الدينُ على منح الكائن البشري شيئًا من الألفة والانسجام مع العالم، يستطيع معها هذا الكائنُ أن يحتمي من الاغترابِ الوجودي والهشاشةِ والضياع. وتقاومُ التربيةُ الرُّوحيةُ والأخلاقيةُ والجماليةُ، المنبثقةُ من فهمٍ جديد للدين وتفسيرٍ مضيء لنصوصه، استعبادَ التكنولوجيا للكائن البشري، وتمكِّن الإنسانَ من توظيفها بشكل يجعلُه أقلَّ شعورًا بالاغتراب والقلق واللامعنى.

يبقى الدينُ أغزرَ منبع للطُّمأنينة والسكينة والسلام الرُّوحي، فالذي يكون في حضرة الله يُصغي لنداء القلب، ويشعر بوجوده مثلما يشعر بالبهجة في داخله، ويتذوَّق تجلياتِ جماله في الوجود مثلما يتذوَّق أجملَ الأعمال الفنية الخالدة.

أنا شخصيًّا لا أجد اللهَ في صورته التي رسمها اللاهوتيون والمتكلمون في الأديان والفرق والمذاهب، ولا أجده في المحاججات الحلزونية المملَّة حول أشكال وألوان صورته في مؤلفاتهم. كذلك لا أجد اللهَ في مفهومه المفرَّغ من كلِّ حياة ونور، الذي صاغه الفلاسفة، ولا في براهينِهم المتشعبة المتنوعة عليه، إنما أجده نداءً لحقيقة حيَّة مُلهِمة في القلب، تتذوقها الحواسُّ الباطنية، فتشرق بأنوار حضورها الرُّوح، بوصفها نمطَ وجودٍ تتسامى به، وحالةَ سكينة تعيشها، وتجرِبةً لحقيقة تبتهج بها.

٣

أنسنةُ الدِّينِ

في ضوء المفهوم المتقدِّم لكلٍّ من الإنسان والدين، ما أعنيه ﺑ «أنسنة الدين» ليس هو ما يذهب إليه بعضُ المفكرين من أن الدينَ ينبغي أن يُدرس كأيَّةِ ظاهرةٍ بشريةٍ مقطوعةِ الصلة عن طبيعة وجود البشر، ولا تبريرَ أو تفسيرَ لوجودها وتطورها خارج عوالم البشر الحسِّيَّة، وكأن الدينَ كأيَّةِ ظاهرةٍ مجتمعيةٍ يمكن أن نفهمها في إطار فهمنا لسواها من الظواهر.

لا أتمنى أن يتبادر إلى الذهن مما ذكرتُ أني أدعو لدراسةِ الدين وفهمِه خارج العقلِ والعلمِ والمعرفةِ والخبرةِ البشرية؛ ذلك أني أدرك جيدًا أنَّ أيَّ فهم بشري لا يتحقَّق خارج ذلك. كذلك لا أريد أن أذهب إلى القولِ بتصويب كلِّ دين، أو الإعلانِ عن أن كلَّ دين مصدرُه وحياني، بل أريد القولَ بأن الدينَ تَوقٌ أُنطولوجي عميق للرُّوح كي تتَّصل بالوجود المطلق، الذي يكرِّسها ويسمو بها، سواء أكان هذا المطلقُ هو الله كما في الأديان التوحيدية، أو مطلقًا تنسجه المخيِّلةُ. هذا التوقُ هو ما يفسِّر لنا ما لا يقبل التفسيرَ العقلاني لتفشِّي الصور الزائفة للمطلق، التي يستلهمها كثيرون في تغذية التعصُّب والنزعات العدوانية لدى البشر، وفي إنتاجِ الأوهام والخرافات التي تضجُّ بها أكثرُ الأديان.

«أنسنة الدين» هي نمطُ حضورٍ ﻟ «الإله الرُّوحي الأخلاقي» في حياة الإنسان. بكلمة أخرى أنسنةُ الدين تنشد «دينًا رُوحانيًّا وأخلاقيًّا وجماليًّا»، لا يقطع الصلةَ بالله، ويجعل الدينَ ظاهرةً بشريَّةً خالصة، مثلما لا يتجاهل الطبيعةَ الإنسانية، ويتعاطى مع الإنسان وكأنه رُوحٌ مجرَّدٌ فقط، بل يوظِّف كلَّ المعطيات المتاحة للتفكير والفهم الصحيح لطبيعة الإنسان. الدينُ كما يسعى لتأمين احتياجاته الجسدية في إطار هذا الفهم، لا ينسى احتياجاتِه العابرةَ للجسد، من حاجةٍ لمعننة الحياة، وتنميةِ القدرة على التغلب على القلق الوجودي، وتزويدِ الإنسان بما يخفِّف عنه آلامَ العيش، ويقلِّل أوجاعَ الحياة، ويخلِّصه من التشاؤم والعدمية في العالم الذي يعيش فيه، ويمنحه طاقةً إضافيَّةً تمكِّنه من العيش بألمٍ أقلَّ، كُلَّما تعرَّض لما يفوق طاقتَه المحدودةَ من آلام، ويضفي على حياته معنًى أكبر، كلما تكشَّفت له مواقفُ تشي بالعبثية واللامعنى في العالم.

أنسنةُ الدين مسعًى يهدف إلى إنقاذ المعنى الرُّوحي والأخلاقي والجمالي للدين، بعد ضياعه في دينٍ سياسي لا يعرف الكثيرَ عن هذا المعنى ولا يسعى لامتلاكه، ودينٍ فقهيٍّ يختزل الدينَ في أحكام قانونية تنسى بعض معانيه الرُّوحية والأخلاقية والجمالية، ودينٍ كلامي يتيهُ فيه الدينُ في ظلام جداليَّاتٍ لا تنتهي لعلماء الكلام، ومحاجَجَاتٍ عقيمةٍ تميت القلبَ وتطفئ شعلة الرُّوح.

٤

الإنسانية الإيمانية

أنسنةُ الدين عندي تعني «إنسانية إيمانية، وإيمانية إنسانية»، وهي مختلفةٌ عن «إنسانية» لا تعبأ بالإيمان؛ «إنسانية» يتحدث عنها بعضُ المفكرين في الغرب والشرق، تتمحور فيها الأنسنةُ حول مركزية الإنسانِ في الوجود، وتنصيب الإنسان بديلًا عن الله في كلِّ شيء، حتى تنتهي إلى نسيان الله وتأليه الإنسان.

ضرورةُ اقتران الإنسانية بالإيمان تعود إلى أنَّ الإنسانَ لن يستغنيَ عن الحياة الرُّوحية، لذلك كثيرًا ما يقود نسيانُ الله إلى ضياعِ هذا الكائن، وتخبُّطِه في رُوحانياتٍ مُستلبة زائفة، لا تخلو من وثنيات وخرافات غرائبية، وممارساتٍ هي أقرب للسحر والشعوذة المبتذلة، كعبادةِ البشر وتأليههم، أو الانصياعِ لضروب من رُوحانيات عبثية، والشغفِ ببعض أنواع الارتياض العنيف، أو اعتزالِ الحياة والهروب من الأوطان إلى غابات وكهوف وزوايا نائية، والتسليمِ الأعمى لدجَّالين مشعوذين، يزعمون أنهم مُلهِمون حاذقون في إيقادِ جذوة الحياة الرُّوحية.

أما ضرورةُ اقتران الإيمان بالإنسانية فيعود للحاجة إلى اعتماد العقل مرجعيةً في فهم كلِّ شيء، ومن ذلك الدين، والاعترافِ بالذات الفردية للإنسان، وحمايتِها من أيِّ انتهاكٍ باسم الدين، وعدمِ التَّضحية بالفرد لأجل الجماعة، والتشديدِ على صيانة حقوق الذَّات البشرية وحرياتها، واعتمادِ العدل قيمةً عليا في الحياة.

ويعود اقترانُ الإيمان بالإنسانية إلى الخلاصِ من القراءةِ الخرافيةِ والمتوحشةِ للنصوص الدينية. القراءةُ المتوحشةُ تبدِّد الإيمان، وتُهدِرُ كرامةَ الإنسانِ وتفتِكُ به. والقراءةُ الخرافيَّة لا تخلو من وثنيَّة، وكلُّ وثنية لا تهدر كرامةَ الإنسان وتبدِّد المضمونَ الرُّوحيَّ والأخلاقيَّ للدين فحسب، بل يحتجب معها اللهُ عن العالم، وتنتصب بديلًا عنه أوثانٌ تتعدَّد بتعدُّد تلك الخرافات، وهذه الأوثان ليست إلا آلهةً زائفةً تستعبد الإنسانَ، بعد أن تشلَّ عقلَه، وتمزِّق رُوحَه، وتبذِّر حقوقَه، وتحجبه عن الإله الرحماني الأخلاقي الجمالي.

ما أعنيه ﺑ «الإنسانية الإيمانية» هو تحمُّل المسئولية أمام الله والإنسان، وهذا ما أفهمه من الاستخلاف الإلهي للإنسان في الأرض. الأخلاق والإيمان وجهان لحقيقة واحدة يعيشها الإنسان بوصفهما طورًا وجوديًّا واحدًا يعيشه الإنسان. الأخلاق تعني تحمُّل المسئولية تجاه الإنسان الآخر، والإيمان يعني تحمُّل المسئولية أمام الله. إنسانية الإنسان تتجلى في الأخلاق، وإيمان الإنسان يتجلى في الأخلاق، ودين الإنسان يتجلى في الأخلاق.

الإنسانيةُ الإيمانية يتَّحد فيها مسارُ الإيمان بمسارِ حمايةِ كرامة الكائن البشري واحترامِ إنسانيته، بل إن الإيمانَ إنما يتحقَّق ويتكرَّس فيها بالغَيرة على الإنسان. إنها أنسنةٌ للإنسان بحمايتِه من لا إنسانية الإنسان، وتحريرِ الإنسان من تعصُّبِ وعدوانِ ووحشيةِ الإنسان.

الإنسانيةُ الإيمانية عندي يحيل معناها إلى أن «اللهَ واحدٌ والإنسانَ واحدٌ»، بمعنى أن الإنسانَ يكتسب حقوقَه الطبيعيةَ بوصفه إنسانًا لا غير. وعلى هذا الأساس يبتني مفهومُ المواطنة التي ينبثق منها استحقاقُ كلِّ مواطن لحقوقه المدنية والسياسية. لو لم يستمد الإنسانُ حقوقَه من كونه إنسانًا، واستمدها من انتمائه إلى إثنية وهُوية وثقافة وديانة خاصة، وقتئذٍ يتضخم ما هو لاإنساني ليبدِّد ما هو إنساني. وعندما تكون الهُويةُ والمعتقَد والحقوقُ الثقافيةُ والإثنية الخاصَّة أعلى من إنسانية الإنسان، تنقلب الهُويةُ إلى لاإنسانية تُسجَن فيها القيمُ الإنسانيةُ الكونية.

«الإنسانيةُ الإيمانية» في مفهومي تختلف عن مفهوم «الإنسانية» الذي يُتداوَل في أدبيات وأحاديث الجماعات الدينية قناعًا يختفي خلفه مفهومٌ خاصٌّ للإنسان. الإنسانيةُ في مفهومهم توصيفٌ يختصُّ بالمسلم الذي يعبِّر تفكيرُه وسلوكُه ومواقفُه عن مدوَّنتِهم الكلامية والفقهية، حتى لو كان الكثيرُ من مفاهيمها وأحكامها لا ينطق برسالةِ القرآن الرُّوحيةِ والأخلاقية. لا يأتي الإنسان في أدبيات هذه الجماعات بوصفه مكتفيًا بذاته في مكانته الإنسانية، بغضِّ النظر عن: ديانتِه، أو عرقِه، أو لونِه، أو جنسِه. كما لا تعني كثرةُ الحديث عن الإنسان في أدبيات هذه الجماعات اليومَ اعتمادَ إنسانيتِه، بوصفه إنسانًا، معيارًا في منح الحريات والحقوق البشرية، بل تعني الإنسانَ الذي ينتمي إلى: ديانة وفرقة ومذهب وجماعة خاصة. إن الإنسانيةَ تقتضي بطبيعتها الإرادةَ والحريةَ والمسئولية. لذا فإن «الإنسانية الإيمانية» على الضدِّ مما في تلك الأدبيات، لأنها تمتلك حسًّا تاريخيًّا يُصغي لرُوح العصر، فتشدِّد على مواكبة الواقع، وتسعى لإنتاجِ نمطِ إيمانٍ يتناغم وذلك الواقع، وتديُّنٍ يخلِّص المتدينَ من الاغتراب عن عصره ومحيطه. ولا تنجز ذلك إلا بعبورِ الماضي وأسئلته وإجاباته، والخلاصِ من صور الإله المحارِب التي ترسَّختْ في دين الآباء.

اكتشافُ المنابع الإنسانية في الدين محاولةٌ لإحياءِ الصورة الرُّوحانيَّة والأخلاقيَّة والجماليَّة لله، والتحرُّرِ من كلِّ الصور النمطية لله التي أنتجتها العصورُ المختلفةُ للاستبداد في الاجتماع الإسلاميِّ، وأضحتْ فيها صورةُ الله تُختزل في سلطة غاشمة، لذلك اقترن في مفهومها الإيمانُ بالله بطاعةِ السلطان والرضوخِ له، وصار التديُّنُ رديفًا لاسترقاقِ الخليفة والسلطان للرعية، وعدمِ الاكتراث بكرامتهم وحرياتهم وحقوقهم. رسوخُ تلك الصورة وتفشِّيها في مقولات كلامية وفتاوى فقهية أسهم بتشكيل أرضية ثقافة الطاعة والانقياد في عالم الإسلام، وكرَّس باستمرارٍ أرضيةً للاستبداد يصعب تقويضُها، يتوالد منها على الدوام نمطُ تفكير يبرع في إنتاج كلِّ أشكال الاستعبادِ وعدمِ الاكتراث بكرامة الإنسان.

٥

إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين

إنقاذُ النزعة الإنسانية في الدين يعني التدليلَ على أن الدينَ ظلَّ على الدوام أحدَ أهمِّ منابع إلهامِ المحبة والتراحم والتعاطف والشفقة واحترام كرامة الكائن البشري، والتحرُّرِ من الصورة النمطية للإله التي تشكلت في سياقِ الصراعاتِ الدامية والفتنِ والحروب العديدة بين الفرق والمذاهب، والسعي لترسيخ صورة رحمانية للإله تستلهم ما يتحلى به من صفاته الجمالية وأسمائه الحسنى ورحمته التي وسعت كلَّ شيء، واستلهامِ الميراث الرُّوحي المضيء، واستدعاءِ التجارِب التطهيرية السامية في التاريخ، وبناءِ إلهيات عقلانية مستنيرة تحرِّرنا من التفسيرات التعسفية القمعية للنصوص، وصياغةِ رؤية المسلم المعاصر للعالم في ضوء الإيقاع المتسارع للعلوم والمعارف البشرية ومشكلات عالم الإسلام المخيفة ومصائر الفكر الديني في عالم يتغير فيه كلُّ شيء.

إن تجديدَ علوم الدين يتطلب الخروجَ من سياقات التراث، وعدمَ التوقف عن طرح تساؤلات جسورة، والتوكؤَ على منهجياتٍ ومفاهيمَ مستوحاةٍ من المكاسب الجديدة لفلسفة الدين وعلوم التأويل وفتوحات المعارف البشرية.

تحريرُ الإنسان يبدأ بتحرير صورة الله من الظلام والكراهية والعنف الغارقة بها. لا تتحقق الإنسانيةُ في الدين من دون إنجازِ مصالحةٍ بين المتدينِ ومحيطِه والعصرِ الذي يعيش فيه، والإصغاءِ لإيقاعِ الحياة المتسارعة التغيير ووتيرةِ العلوم والتكنولوجيا التي لا تكفُّ عن مفاجأتنا كلَّ يومٍ بجديد تتبدل معه صورةُ العالم، وتختلف تبعًا لها أساليبُ تعاطينا مع الواقع، وتتيح لنا وسائلُ تكنولوجيا المعلومات والنانو والتقنياتُ الجينية مغامراتِ وعي توقظ عقولَنا وتخرجها من الحالة السكونية، وتقدِّم لنا سلسلةَ معطيات ومعارف وأدوات تصوغ لنا تصوراتٍ وأفكارًا تتبدل معها رؤيتُنا للعالم والحياة.

أهدافُ القرآن وما ينتظم في سياق منطقه الكلِّي تنشد جعلَ الإنسان في أسمى مكانة. القرآنُ خطابٌ مباشرٌ للإنسان، وحوارٌ بينه وبين الله يتحدث فيه اللهُ للإنسان كما يتحدث فيه الإنسانُ لله، تارةً يتحدث فيه الإنسانُ بكلماتِ الأنبياءِ وغيرِهم من البشر، على اختلاف مواقفهم، وأخرى يتحدث فيها اللهُ مع المجتمعات وتتحدث المجتمعاتُ مع الله من خلال مواقفِها وكلماتِها المعلنة. حوارٌ يتضمن الكثيرَ من الصراحةِ والتعبيرِ الحر عن الآراء والمواقف التي تستفهم وربما تستنكر وعدًا أو فعلًا إلهيًّا، وقد لا تُصغي لله أحيانًا. لو لم يكن الإنسانُ بهذه المثابة من الاحترام والتبجيل عند الله لما تحدَّث معه وحاوره بكلِّ ما ورد في كتابه، وحتى ما يشير إليه اللهُ من مخلوقات أخرى في القرآن كالملائكة فإنه يَذكُرهم بوصفهم مخلوقاتٍ تنجز ما يُوكَل إليها لأجل خدمة الإنسان. إن مكانةَ الملائكة تقع على هامش مكانةِ الإنسان، ومهماتها لأجل المهماتِ الكبرى للإنسان. لذلك نجد القرآنَ يشدِّد على قدسية حياة الإنسان، ويبجِّل كرامتَه، وينظر إلى فرديته بوصفها مناطَ مسئوليته، كما تقول الآية: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ،١ فلو ضاعتْ فرديتُه تضيع مسئوليتُه العظمى بوصفه خليفةً لله في أرضه: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً.٢

لقد أهمل أكثرُ تفسيرات القرآن المكانةَ الاستثنائيةَ للخلافة في الأرض، وهي المهمةُ العظمَى التي أناطها اللهُ بالإنسان، وتناست القيمةَ التبجيليةَ للكرامة التي جعلها اللهُ له، ولم تفكر بفرديته، ولا بحريته، ولا بحقوقه المدنية والسياسية، وشدَّدت بشكل لافت على عبوديته، على الرغم من أن الخلافةَ والكرامةَ لا تتحققان إلا بالحرية، وتنقضهما العبودية بكلِّ أشكالها. تمسَّكَتْ تلك التفسيرات بذرائع واهية، تشدِّد على ألا قيمةَ للحياة الخاصة تعلو على حياة الأمة، ولا كرامةَ للفرد تعلو على كرامة الأمة، ولا حرياتِ وحقوقَ للفرد تعلو على حريات وحقوق الأمة. وهي تفسيراتٌ تستمدُّ فهمَها من سياقات الاستبداد والاستعباد المُتراكمة التي سقط تاريخُ الإسلام السياسي والمجتمعي والديني في أسرها قرونًا طويلة.

لا تعِدُ دعوتي ﻟ «إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين» بأجوبة، بل يهمُّني طرحُ الأسئلة والحرصُ على تنمية رُوح التفكير النقدي الذي يفضي بدوره، وبنحوٍ متواصل، للتساؤلِ المستمرِّ، وتدريبِ التفكير على عدم الكفِّ عن التحري وفحص المسلَّمات. ولا يتجاوز ذلك إلا بمقترحات وافتراضات وآراء يعرضها للنقاش والحوار والتفكير. إنه محاولةٌ للتفكير خارج الأسيِجة التقليدية، ودعوةٌ للنظر في القطعيات واليقينيات والجزميات والخلاص من: تَكرار المكررات، وشروح الشروح، وهوامش الهوامش، وتعليقات التعليقات، والتحرُّرِ من: الشغف بما هو كَمي بدلًا مما هو كيفي، واستئنافِ النظر في كلِّ ما عطَّل التفكيرَ الديني في الإسلام، وأقعده عن إرواء الظمأ الأُنطولوجي للمقدَّس في حياة المسلم اليوم، وأعاقه عن مهمته في تكريسِ الإيمان، وتجذيرِ وتنميةِ قيم الأخلاق والجمال في الحياة.

٦

التفسيرات المتشدِّدة للنصوص الدينية

استغلت الدينَ سلطاتٌ مختلفة اعتمدت تفسيراتٍ متشدِّدةً مغلقةً لنصوصه، وظَّفتها في هتكِ كرامة الإنسان ومصادرةِ حقوقه وحرياته. وهو ما نقرؤه في كلمات وكتابات دينية عدوانية تثير التعصبَ والكراهية وتدعو للعنف، تغذِّيها الجماعاتُ السلفية عبر ما تبثُّه فضائياتُها وإعلامُها الإلكتروني والمنابر، وعدوانُها الواسع على السلم الأهلي، ودعواتُها التحريضية ضدَّ الدولة الحديثة وقوانينها وقيمها. لا أريد التغاضي عن ذلك، ولا التقليلَ من أهميته، ولا الدعوةَ إلى تجاهله. إنني أحتجُّ على كلِّ هذا الواقع المأساوي للدين، وأنقد كلَّ هذا الزيف المهول الذي يتلفع بأقنعة دينية. لا يمكن تجاهلُ أثر تلك الدعوات في تلويث المجال الاجتماعي العام، وتهشيم مرتكزات العيش المشترك في مجتمعاتنا، مثلما لا يصحُّ إنكارُ الحضورِ الكثيف والفاعل والمؤثر لها، وأثرِها في تفشي أنماط همجية متوحشة من العنف الديني.

وقد تكرَّس أثرُ هذه الجماعات، وأُتيحت لها فرصةٌ تاريخيةٌ مهمة في الاستيلاء على المجال العام بعد هيمنةِ الإسلام السياسي على السلطة الذي انتهت إليه ثوراتُ ما سُمي ﺑ «الربيع العربي» ابتداءً، واحتكارِهم لتمثيل المجتمعات، واختزالِهم التنوع الهُوياتي والإثني والديني والعقائدي والفكري بأيديولوجياتهم الخاصة، وتوظيفِهم الديمقراطية والانتخابات كسُلَّم يُستخدم لمرة واحدة، حتى إذا تحقَّق الغرضُ منه استُغني عنه من دون وعي لفلسفةِ الديمقراطية، ومضمونِها الحقيقي من الحريات والحقوق، والمواطنة، والمساواة أمام القانون والعدالة في تطبيقه، والفصل بين السلطات، والتداول السلمي للسلطة.

لا أدافع عن فشل الإسلاميين في إدارة السلطة في وطني، كما لا أتجاهل ما تتكشف عنه تجرِبةُ التطبيق والممارسة البائسة من حقيقة أن السلطةَ أضحت مقبرتَهم التي يُدفنون فيها، وأخشى أن يَدفنوا معهم في مقبرتهم هذه أوطانَنا، وكلَّ أحلامنا ومستقبلنا.

إن فشلَ الإسلاميين في بناء الدولة يعود إلى عجزِ أكثرهم وقصورِهم عن إدراك الجذور العميقة للدولة الحديثة، وافتقارِ الكثير من المسئولين إلى أي تكوين أكاديمي أو معرفي أو فكري، وعدمِ وجود خبرةٍ سابقة لديهم تؤهلهم لإعداد قوانين وبرامج وخطط اقتصادية وإدارية وتربوية وعلمية وثقافية معاصرة، فضلًا عن عدم توفرهم على تدريبٍ مهني وخبرة عملية في إدارة الدولة وبناء مؤسسات السلطة.

إنهم يفكرون في مرحلة ما قبل الدولة، لذلك يحرصون على استدعاء القبيلة وقيمها وتشكيلاتها العتيقة، ويغرَقون في كهوف الماضي، ويُفرِطون في استهلاك التراث، وكأنهم لا يعيشون في عالمنا إلا بأبدانهم، في حين تلبث عقولُهم وأرواحُهم في كهوف الموتى. مضافًا إلى أن معظمَهم لم يتشبع بتربية رُوحية وأخلاقية، تتسامى بها رُوحُه، وتحقِّق له امتلاءً ذاتيًّا يُثري ضميرَه بالغَيرة على الإنسان والأوطان، ويشفيه من عُقد الجوع وجروح الحرمان. لم يعرف بعضُ هؤلاء من الدين سوى الاستيلاء على السلطة، وليست السلطةُ في مفهومه إلا الظفرَ بالغنيمة، واستيفاءَ الديون التاريخية المتمثِّلة بكافة ألوان الاضطهاد والتهميش في الوطن والمنفى.

يقلقني مصيرُ وطني العراق، وأنينُ تراب عالم العرب والإسلام الذي تفترسه وحوشٌ باسم الإسلام، فتنتهك إنسانيةَ الإنسان باسم الإسلام، وتستبيح دمَه باسم الله، وتصادر حقوقَه باسم الغيرة على الدين. أنا قلقٌ على مصير مجتمعاتنا الرُّوحي والأخلاقي والعقلي، مذعورٌ مما قد نهوي إليه لنسقط في قاع تلك الهاوية السوداء، فندفن دنيانا ودينَنا في مقبرةِ وطننا العراق، وترابِ بلادنا الأخرى.

لقد وصلنا إلى درجة مخيفة، إذ توطَّن وحشُ الكراهية قلوبَ جماعات من الشباب في مجتمعاتنا، فأضحى مرضًا يبلغ مرتبةً تفوق قدرةَ الكائن البشري على التحكمِ به، وتفاقم هذا المرضُ بنحوٍ تغلغَلَ فيه العنفُ وتشبَّعت به الذات، فبدا في لغتهم وأصواتهم وأجسادهم ومواقفهم، وفشلوا في إخفائه مهما حاولوا أن يغلِّفوه ويتكتَّموا عليه.

أعرف شبابًا ممن يتفانَون في تلوين سلوكهم بصورة مشرقة، ويحاولون تقليدَ ومحاكاة سلوك شخصيات مسالمة دافئة وديعة، لكنهم يفشلون في التغلب على عدوانيتهم المتجذرة، وكراهيتهم لكل شيء من حولهم، فصاروا كأنهم قنبلةٌ موقوتة تتفجر عنفًا، مع أول تماسٍّ بأي كائن بشري.

لا يمكننا تحريرُ الشباب من السقوط في شبكات الإرهاب، إلا بتحرير الفكر الديني من احتقار وإهانة المختلف.

٧

الدين ظاهرة فردية ومجتمعية

لا يتوقفُ أثرُ الدينِ على حياة الفرد كما يرى جماعةٌ ممن لا ينظرون للواقع بتأملٍ دقيق، ما فعلتْه الأديانُ في حياة المجتمعات لا يقلُّ عن فعلِ الأديان في حياة الأفراد. يحضرُ الدينُ في حياة الفرد مثلما يحضرُ في حياة المجتمع، لا دينَ بلا تديُّن فردي ومجتمعي، كلُّ ما يؤثرُ في حياة الفرد يؤثرُ في حياة المجتمع. يُعبِّر الدينُ عن حضوره بشكلٍ ظاهر في تفكير الفرد ولغته وثقافته ومواقفه وسلوكه، كما تظهرُ تمثلاتُ الدين في تفكير المجتمع ولغته وثقافته ومواقفه وسلوكه. يتوغل الدينُ بشكل خفي في اللاشعور الفردي، وهكذا يتوغل بعمق ليكون بنيةً راسخة في اللاشعور الجمعي.

لا نرى دينًا في الحياة إلا ويكون مؤثرًا ومتأثرًا بكيفيةِ حياة الناس ومتفاعلًا مع طرائقِ عيشهم. لا يستقلُّ الدينُ عن التديُّن الفردي والمجتمعي، التديُّنُ هو كيفية تَمثُّل الدين وتعبيره في حياة مَنْ ينتمي للدين. حتى أولئك الذين يتمردون على دين مجتمعهم يظلُّ الدينُ مكونًا خفيًّا لهُويتهم وغاطسًا في ذاكرتهم، ويعلن عن حضوره أحيانًا في عَلاقاتهم الاجتماعية ولغتهم وثقافتهم ورؤيتهم للعالَم وطريقة عيشهم، ولا تغيب بصمتُه عن شيء من مواقفهم المتنوعة في الحياة.

كلُّ حضورٍ للدين في حياة الإنسان هو تديُّن، لا دينَ في الأرض خارج ذلك، التديُّنُ يتحقق في سلوك الإنسانِ وتفكيره وتعبيره. لا يستقلُّ الدينُ عن ثقافةِ الإنسان وذاكرته الفردية وهُويته الجمعية ونمطِ تمدُّنه وعمرانه. يحضرُ الدينُ في حياة الفرد والمجتمع بأنماطِ تديُّن فردية ومجتمعية متنوعة، ويختلف التديُّن باختلاف مستوى ونوع الثقافة، ودرجة التطور الحضاري، وكيفيةِ رؤية العالَم، ومختلِفِ العوامل المنتجة لطريقة عيش الفرد والمجتمع.

إنَّ تحقُّقَ الدين في الحياة الشخصية يعني تحقُّقَه في الحياة الاجتماعية، كلُّ بصيرة ومعنًى ديني مُلهِم عندما يُنتج تحوُّلًا رُوحيًّا وأخلاقيًّا وجماليًّا في شخصية الفرد فإن هذا التحول يجد صداه المباشر في المجتمع. لا نجد تديُّنًا فرديًّا مُلهِمًا من دون أن يكون له أثرٌ بنَّاءٌ في الفضاء المجتمعي. إن كان التديُّنُ يبني الحياةَ الرُّوحيةَ والأخلاقيةَ للفرد ويمنحه رؤيةً جماليةً للعالم، فإن أثرَه الإيجابي سيظهر في بناءِ القيم الرُّوحية والأخلاقية السامية في المجتمع وتهذيبِ ذوقه الفني.

فهمُ الدين ونصوصه نسبي، يختلف باختلاف المجتمعات والأفراد. الدينُ ليس نصوصًا مقدَّسة فقط، بل هو كائنٌ حيٌّ منخرط في التاريخ. الدينُ كأي ظاهرة تاريخية لا يمكن أن تتخلص من المشروطيات المتنوعة للاجتماع البشري، يخضع الدينُ لنواميس التغيير والتحوُّل والتطور، على وَفق صيرورة الزمان والمكان والأحوال والبيئة المجتمعية الحاضنة له. تختلفُ تجلياتُه باختلاف المجتمعاتِ وثقافاتِها ودرجةِ تطورها الحضاري، بل يختلفُ التعبيرُ عنه أحيانًا باختلاف الأفراد في مجتمع واحد.

إذا أردنا إنتاجَ فهم رُوحي وأخلاقي وجمالي للدينِ ونصوصِه المقدَّسة يجب العملُ أولًا على تغيير وعي الإنسان وظروفِه المادية وثقافتِه. قلَّما نجد فهمًا عنيفًا متوحشًا للدين ونصوصه في مجتمعات متحضِّرة، حتى لو وجدنا في هذه المجتمعات فهمًا عنيفًا للدين أحيانًا، فإنه يظلُّ محصورًا في نطاق أفراد أو جماعات محدودة، ولا يتحول إلى موجٍ يعصف بالبناء الاجتماعي كلِّه، كما يحدث لدى بعض مجتمعاتنا اليوم.

لا يتحققُ أيٌّ من الأديان في الواقع إلا في إنسان يعتنقه وتظهر تعبيراتُه في حياته الشخصية والاجتماعية، بوصفه فردًا ينتمي لجماعة تعتنق هذه الديانة. قراءاتُ النصِّ الديني وتأويلاتُه هي أُولى أشكال تمثُّلات الدين في حياة الإنسان، وهي المنبعُ الرئيسُ الذي تُسْتَقَى منه سلوكياتُ ومواقفُ مَن يعتنق معتقدات هذا الدين. تراثُ الأديان وبعضُ التفسيرات المغلقة لنصوصها هو ما يورِّط أكثرَ معتنقيها بكراهية المختلِف في المعتقد. تلك التفسيراتُ رسمتْ صورتَها الخاصة لله، ونمَّطتها في إطارٍ يحاكي كلَّ ظروف وملابسات الحياة السائدة في زمان ومكان وبيئة متشدِّدة في الماضي، وهي صورةٌ طالما عملتْ على تشريع أشكالٍ متنوعة لمناهضةِ العقل، وقمعِ الإيمان الحر، ومصادرةِ الحقوق والحريات، وسوَّغت الاستبدادَ والتمييزَ بين البشر.

بمرور الزمان لم تصبح تلك التفسيراتُ للنصِّ الديني وحدها مقدَّسة، تستعصي على المراجعة والنقد والغربلة، بل غالبًا ما يمسي مفسِّرُ النصِّ مقدَّسًا أيضًا، لا يخضع للمساءلة فيما يقول ويفعل. وهي ظاهرةٌ بشريةٌ عامةٌ لا تختص بدين، بل استبدَّتْ في كلِّ الأديان في التاريخ، لكن بعضَ الأديان استطاعت الحدَّ منها، عندما شدَّدتْ على عدمِ الخلط بين مكانةِ مفسِّر النصِّ والنصِّ ذاته، إذ بدأتْ تعمل على وضع كلٍّ منهما في نصابه.

هنا تظهر الحاجةُ ماسَّةً لتوظيف الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع في فهمِ الدين وقراءةِ نصوصه، بغيةَ اختراقِ الطبقات الكثيفة للقراءات المتراكمة عليه بمرور الزمان، والعملِ على تحيينه واستحضارِ معناه الذي يتحدث للمسلم اليوم، ويجيب عن أسئلة عصره، ويُصغي لآلامه ومشكلاته باهتمام، وكيف عجزت الصورةُ النمطيةُ لله المتوارثةُ من عصور الاستعباد عن حلِّها.

ينبغي أن نعمل على إحضار صورة الله المغيَّبة، الصورة التي تنشد الحقَّ والخيرَ والعدل والسلام والعطاء والتضامن والرحمةَ والحبَّ والجمالَ. في ضوء هذه الصورة يمكن أن يظهر في حياتنا تديُّنٌ لا يخاف العقل، ويتصالح مع الزمان والمكان، ولا يتمسك بمنطق أحاديٍّ يرفض الواقع. تديُّنٌ ليس حَذِرًا أو وَجِلًا من مكاسب الغير في العلوم والمعارف والتكنولوجيا المتنوعة. تديُّنٌ ليس مصابًا بشيزوفرينيا من المختلِف. تديُّنٌ لا يطلب من المسلم مواجهةَ البشرية وإعلانَ الحرب على العالَم الذي يعيش فيه.

ولا يعني ذلك تسلطَ الدين على الفضاء العام أو تحكُّمَه بالحياة الخاصة للفرد. والتضحيةَ بفردية الإنسان والغفلةَ عن آثار ما يتركه استلاب الذات من هشاشة في المجتمعات، وما ينتج عن ذلك من تفشِّي النفاق والازدواجية في سلوك أفرادها، كما نرى الكثيرَ من ذلك في بلادِنا المستباحةِ فيها الحياةُ الخاصة، والمُنتهَكَةِ فيها الكرامةُ الشخصية، بفعل تحكُّم القيم المتشددة للقبيلة، والفهمِ المغلق للدين، والتفسيرِ العنيف لنصوصه. لا يمكن القبولُ بأن نضحِّيَ بحرية الضمير الفردي، ونبدِّدَ حرمةَ حياة الإنسان الخاصة، وننحرَ كرامتَه وحريتَه وحقوقَه لأجل الجماعة. أعلم أنها معادلةٌ صعبةٌ جدًّا في مجتمعاتنا، لكن لا يمكن أبدًا قبول ما ينتهي إلى عبوديةِ الفرد للمجتمع ومحوِ الذات لأجل الجماعة.

التمييزُ الذي نشدِّد عليه بين الدينِ بوصفه ظمأً أُنطولوجيًّا متجذِّرًا في كينونة الإنسان، وتمثُّلاتِ الدينِ في حياة الفرد والمجتمع تمييزٌ نظري. ذلك أن تمثُّلاتِ الدين في حياة الإنسان ليست سوى ما يظهر في الأفعال والمواقف المتنوعة لحياته، فكيف نفصلُ بين الإنسانِ وأفعالِه ومواقفِه وعَلاقاته وطريقة عيشه التي لا يحضرُ إلا من خلالها في العالَم.

تكرَّر هذا التمييزُ كثيرًا بصيغٍ عدة في أدبيات عصر النهضة، وما زلنا نُسوِّغُ به كلَّ سلوك خاطئ يصدر عن المتشددين تجاه المجتمعات الأخرى حتى اليوم. كلَّما صدر فعلٌ لاأخلاقي ولاإنساني من مسلم في الغرب والشرق نقول هذا فعلٌ لا يمثِّلنا، ونعبر عن ذلك بالقول المكرَّر: «إن الدين غير التديُّن، والمتدين غير الدين.» طالما ناقشني بعضُ الشباب حول السلوك المتوحش للإرهابيين، مثل انتحاريي داعش وغيرهم، ممن يتخذون آثارَ ابن تيمية وبعض الفقهاء والمتكلِّمين والمفسِّرين والمحدِّثين مرجعيةً تُسوِّغ أفعالَهم اللاإنسانية، من الذين ما زال ميراثُهم حيًّا وفاعلًا ومؤثِّرًا في تربية وتنشئة وتثقيف الشباب، وممن تبجِّلهم وتحرص على نشر آثارهم جماعاتٌ ومساجدُ ومؤسَّساتٌ كثيرة في بلاد متعدِّدة، ويعتمدون مؤلفاتِ أولئك الأَعلام وكتاباتِ تلامذتهم أمس واليوم، بوصفها ملهمةً للقيم وموجهةً للفقه الذي يقودهم في الحياة.

يمكن التمييزُ النظري بين إسلام الرسالة وإسلام التاريخ، أو إسلام الرسالة وإسلام التراث، أو إسلام الرسالة وإسلام الفتوحات، أو إسلام الرسالة وإسلام فهم المسلمين، أو إسلام الرسالة الصافية وإسلام التطبيق، وإسلام الرسالة الأصيل والإسلام الدخيل. غير أن هذه الحدود تتطلب تأملًا دقيقًا يدرك أن التمييزَ بينها نظريٌّ يقع على الدوام خارج مجال الفعل والتطبيق، إذ لا رسالةَ بلا إنسان يعتنقها وتنعكس معتقداتُها وقيمُها وشريعتُها على مواقفه وسلوكه، ولا رسالةَ بلا تاريخ، ولا رسالةَ بلا تراث، ولا رسالةَ بلا فهمٍ بشري تتموضع فيه نصوصُها المقدَّسة وتعبِّر عن حضورها فرديًّا ومجتمعيًّا.

٨

علوم الدين والعلوم الإنسانية

ليس بوسعنا إنقاذُ النزعة الإنسانية في الدين من دون تجسير العَلاقة بين علومِ الدين وعلومِ ومعارفِ الإنسان المختلفة. في الأديان الوحيانيَّة فضلًا عن سواها لا يتحقق أيُّ دين منها خارج فضاء حياةِ الإنسان، وأنماطِ تعاطيه مع ما حوله، وأساليبِ عيشه، لذلك نجد كلَّ تمثُّلات الأديان أرضيةً، تتجسد في سلوكِ الإنسان ومنجزاتِه ومكاسبِه المتنوعة، وترتسم في تجلِّيات إبداع عقله، وما ترتوي به أشواقُ قلبه، وما تسكن به رُوحُه. لكننا لم نزل حتى اليوم نرفض بشدَّة توظيفَ تلك العلوم في دراسة وتحليل وتفسير تعبيرات الدين في الحياة الشخصية والاجتماعية، ونتهم أيَّةَ محاولة تدعو أو تعمل على ذلك بالمروق عن الدين. المؤسفُ أن هذه القطيعةَ لم تقتصر على علوم الدين، بل تسرَّبت إلى مجالات حياتنا الأخرى؛ الاقتصادية والسياسية وحتى الثقافية وغيرها، التي ما زال أكثرُها سجينَ الأفق الماضي.

الطلاقُ الذي ورثناه في عالم الإسلام منذ عصور الانحطاط بين علومِ الدين وعلومِ الدنيا كما يسميها القدماء، وما تركته الاتجاهاتُ النصوصيةُ للمحدِّثين والأخباريين سُنة وشيعة، والمواقفُ المناهضةُ للتفكيرِ الفلسفي وعلومِ المعقول في الإسلام، قادنا إلى دروب مسدودة، يكرِّر فيها حاضرُنا ماضينا، فلا نبدأ خطوةً فيها إلا حيث ننتهي ولا ننتهي إلا حيث نبدأ. هذا الطلاقُ ولَّد انطواءً وحساسيةً سلبيةً حيال العلوم والمعارف والخبرات الإنسانية الكونية، أوهمتنا بالاكتفاء بما لدينا، وألا حاجةَ لنا بكلِّ ما يبدعه الإنسان. وبمرور الزمان تحوَّلت هذه الحساسيةُ إلى ممانعة غاطسة في اللاوعي الجمعي، تَبرز أحيانًا على شكل ممانعة مرَضية حيال كلِّ ما لا نعرفه وما لم نألفه في ميراثنا، مما يبتكره ويكتشفه غيرُنا. ويعود إلى تلك الممانعة الكثيرُ من إخفاقِ عالم الإسلام وضآلةِ إسهامه في إنتاج ما يتناسب وحجمَه الديمغرافي الهائل في الفلسفة والعلوم والمعارف المتنوِّعة الحديثة. وإلا بماذا نعلِّل هذا الإخفاقَ الحضاري؟ وكيف نفهم التنافي بين الشعورِ بالتفوُّق على الأديان والثقافات والمجتمعات الذي يغذِّينا به تراثُنا من جهة، والعجزِ عن الإسهام في صناعة ما هو خلَّاق وجميل في العالم اليوم من جهة أخرى؟ وكيف نفسِّر الغيابَ شبهَ التامِّ لما يقارب مليارًا ونصفَ مليار إنسان عن أعياد نوبل منذ أكثر من قرن، في حين تحضر مجتمعاتٌ صغيرةٌ جدًّا بكثافة وفاعلية فيها؟

لعلنا نعثر في تلك الممانعة المرَضية على معظم العوامل الكامنة خلف إجهاضِ مبادرات تحديث التفكير الديني في الإسلام منذ القرن التاسع عشر حتى اليوم، وإخفاقِها في بلوغ غايات لا تتطابق ومنطقَ البدايات في تشكيل علوم الدين.

٩

تفسير القرآن يعكس الأفق التاريخي للمفسِّر

كان القرآنُ الكريم في الإسلام وما زال، كما هي النصوصُ المقدَّسة في الأديان الأخرى، مُلهِمًا لسلسلةٍ من التفسيرات والتأويلات المختلفة التي أفرزتها العصورُ المتواليةُ للاجتماع الإسلامي، وما استبدَّ فيها من صراعاتِ الاستحواذ على السلطة السياسية والرُّوحية، وما ورثته من ثقافاتٍ وقيمٍ لدى الإثنيات والمجتمعات المسلمة المختلفة، وطبيعةُ الظروف الثقافية والاقتصادية والاجتماعية في حياتها.

لقد تراكم عبر الزمان كمٌّ هائلٌ من التأويلات والتفسيرات، التي نسميها علومًا أو معارف إسلامية، وأضحت منجمًا يموِّن الحياةَ الدينيةَ في الإسلام بكلِّ ما تتطلَّبه. وغيَّبت تلك التأويلاتُ والتفسيراتُ بالتدريج القرآنَ، وغرِق الأساتذةُ والتلامذةُ في الحواضر والحوزات والمدارس الدينية في طبقاتها المتراكمة. معظمُ الدارسين نسُوا أن كلَّ هذه القراءات هي هوامشُ وشروحُ واجتهاداتُ الآباء في فهمِ النصِّ وتفسيرِه، وهي ليست إلا تمثُّلاتٍ بشريةً للقرآن تنتمي لأفقها التاريخي، حدودُها الزمانُ والمكانُ واللغةُ وثقافةُ المجتمع، وكلُّ ما كان يسود العصرَ الذي أُنتجت في فضائه.

«نسيانُ الإنسان» ظاهرةٌ استبدَّت في حقول عدة من تراثنا، نراها في الكثير مما أنجزه المحدِّثون والمفسِّرون والمتكلِّمون والفقهاء وغيرُهم، وساعدتْ ظاهرةُ نسيان الإنسان على إنتاجِ قراءةٍ مُغلَقة للنصوص الدينية، لا تنفي الإنسانَ باسم الله فقط، بل تنفي الحياةَ باسم الآخرة، وتنفي العمرانَ البشري باسم الاستخلاف، وتنفي الذاتَ باسم التكليف، وتنفي الأخلاقَ باسم الفقه، وتنفي الحرياتِ باسم العبودية لله، وتنفي حقوقَ الإنسان باسم حقوق الله، وتمحو الصورةَ الرُّوحانيةَ والأخلاقيةَ والجماليةَ لله باسم التمسك بدين السلف ومحاربة البدع والمستحدثات.

على الرغم من أن السلفيةَ، بوصفها نمطًا في التفكير والتعبير والسلوك، شائعةٌ في كلِّ الأديان والثقافات، لكنها اجتاحتْ بشكل مريع الحياةَ الدينيةَ لعالم الإسلام في هذا العصر. فلم تتوقف الدعوةُ السلفيةُ عند المؤسَّساتِ الدينية ورجالِ الدين، بل تبنَّاها بعضُ المفكرين والباحثين اليوم في عالم الإسلام، ممن برعوا في دراسة وتوظيف الاتجاهات والمناهج والمقولات الجديدة في الفلسفة وعلوم التأويل، بغية خلعِ غطاءٍ على السلفية يغوي الشبابَ ويفتنهم بها.

السلفيةُ على الضدِّ من «الإنسانية الإيمانية»؛ ذلك أنها نمطُ تفكيرٍ يعاند التاريخ، ويظلُّ يكرِّر كلَّ شيء ينتمي للآباء ليبقيه كما هو. تتشبَّث السلفيةُ دائمًا بمقولات لازمانية لامكانية لاتاريخية، لذلك تقاوم بشدَّة كلَّ تساؤل، وتناهض أيَّةَ دعوة للمراجعة والنقد والغربلة والتمحيص.

١٠

الدين خارج التفكير عند أكثر الباحثين

الدينُ خارجَ التفكير عند أكثر الباحثين والدارسين والأدباء والفنانين والمثقفين في بلادنا. التفكيرُ والتعبيرُ والكتابةُ الجديدةُ في قضايا الدين ضريبتُها موجعة. مسيرةُ المفكر والباحث المهتمِّ ببحث أسئلةِ الدين وإشكالياتِ المعرفة الدينية اليوم لا تخلو من مغامرة. إنه يجازفُ برزقه وأمنه الشخصي، لحظةَ تقديمِ فهمٍ مختلِف في تحليلِ طبيعة المعرفة الدينية، ودراسةِ تعبيرات الدين في الحياة، لأنه يتوكَّأ على مناهج وأدوات لا تكرِّر ما هو شائع في قراءة النصِّ الديني.

لا يصحُّ وضعُ المفكر والباحث في الدين في سلة واحدة مع غيره من المفكرين والأدباء والنقاد والكُتَّاب المهتمين بحقول أخرى خارجَ الدين وقضاياه، ممن لا يواجهون مخاطرَ ومعاناةً ومتاعبَ كتلك التي يواجهها من يفكر في الدين خارجَ السياق الموروث، كلُّ الخبراء المكوَّنين تكوينًا أكاديميًّا ممتازًا في المناهج الحديثة، ينشغلون بكل شيء خارج الدين، هروبًا من التورط في تطبيقِ تلك المناهج في فهم الدين وتفسيرِ نصوصه.

لدينا عددٌ جيدٌ من الكُتَّاب بالعربية، لكن قلَّما تجد أحدًا يمتلك تكوينًا حديثًا جادًّا يكتب في تجديد الفكر الديني في الإسلام. الأعمُّ الغالب من الكتابات العربية في قضايا الدين يتحدث فيها التراثُ للتراث، وتنشد تكريسَ فهم الآباء للدين، وتوظيفَ قراءاتهم لنصوصه في مجالات حياة المسلم كلِّها اليوم.

محمد أركون ونصر حامد أبو زيد وعبد المجيد الشرفي وغيرُهم مفكرون غامروا فكرَّسوا جهودَهم لفهمِ الدين ودراسةِ تمثلاته المتنوعة في حاضرنا وماضينا، وبيانِ أنماطِ الإيمان، وطبيعة التجارِبِ الدينية، وحقيقةِ الوحي، وكيفيةِ تشكُّل النصِّ الديني وتدوينه، وماهيةِ المعرفة الدينية، وعَلاقتِها العضوية بالزمان والمكان، والسياقات المتنوعة للعصر المنتَجة فيه، ومدى استجابة النصِّ الديني لمتطلبات حياة المسلم اليوم. قدَّم هؤلاء المفكرون وتلامذتُهم وغيرُهم سلسلةَ أبحاث تناولتْ بالتحليل والنقد: مدوناتِ التفسير وعلومَ القرآن، والحديثَ وعلومَه، والفقهَ وأصولَه، وعلمَ الكلام وأصولَ الدين، والفلسفةَ والتصوُّفَ، والسيرةَ والتاريخ. للمرة الأولى تنتقل الدراساتُ الدينيةُ مع هذه الأبحاث إلى أفق جديد باللغة العربية، أفق لا يتحدث فيه التراثُ للتراث، كما هو المأزقُ المزمنُ في بلادنا لتعليمِ الدين والبحثِ والكتابةِ في قضاياه. هؤلاء الباحثون قدَّموا للدراسات الدينية ما لم يقدِّمه ركامُ هائلٌ من الكتابات التي لا تقول شيئًا يزيد على ما قاله الآباء. لم يتمَّ قبلَهم في كتابات الإحيائيين والإصلاحيين هذا الحجمُ من التوظيفِ الواسع للفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع في فهمِ الدين، واكتشافِ حدود الديني والدنيوي، ودراسةِ إمكانات حضور المعنى الرُّوحي والأخلاقي والجمالي للدين في الحياة البشرية.

بغضِّ النظر عن كفاءة ونجاح كلِّ هذه الجهود، لكن ما طالعتُه منها محاولات محترفة لتدشين مسارٍ بديلٍ للدراسات الدينية، يسعى لإخراجها من المسارات الدائرية المسدودة، من خلال ردم الفجوة بين علومِ ومعارف الدين وعلومِ ومعارف الإنسان المختلفة، بوصف الأخيرة تدرس الظواهرَ الدينيةَ وتجلياتِ النصِّ الديني في الحياة، وهي ظواهر بشرية يمكن فهمُها في إطار معطياتها ومناهجها المتنوعة، كما يجري فهمُ كلِّ ظاهرةٍ في الحياة في ضوءِ هذه المناهج والمعطياتِ الجديدة.

المؤسف أن هناك الكثيرَ من الارتياب والتشكيك بجدوى هذا النوعِ من الدراسات بالعربية، وتعرُّضِها وأصحابِها لأحكام قدْحية قاسية، تشكِّك في مشروعيتها، قد تصل إلى حدِّ التكفير أحيانًا. مع أن هذا الاتجاهَ في الدراسات الدينية ظهر في الغرب منذ قرون عدة. وسبقنا إليه مفكرون دينيون في الهند وباكستان وإيران وغيرِها من بلاد الإسلام غير العربية. في إيران مثلًا تكتسب جهودُ المفكر الديني أهميةً فائقةً لدى فقهاء ومدرسين وتلامذة في الحَوزة، ويصغي إليها الكثيرُ من الأكاديميين وتلامذة الجامعات والنخب في البلاد، وتُحدِث بعضُ الآراء جدلًا ونقاشًا واسعًا، لا يتوقف عند الورق، بل يتخطاه لمنابر الخطابة، وحلقات الدرس الحَوزوي، والفضاء الثقافي العام. لا يعتقد معظمُ النخب أن مثلَ هذه الآراء تنقض تديُّنَهم أو تمحق إيمانَهم. المفكرُ الديني الإيراني، مع أن رؤيتَهُ للعالم وفهمَهُ للدين وطريقةَ قراءته لنصوصه مختلفةٌ، لكنه لا يختلفُ في معظم مظاهر سلوكه عن النمط العام لتديُّن الناس فهو ملتزم في صلاته وعباداته بحرفية الفقه، لذلك يتضامن مع طروحاته كثيرون من الحَوزويين والنُّخب والشباب.

تكمن أزمةُ المفكر والباحث الديني في البلاد العربية في غربتِه عن المجتمع، وغربةِ المجتمع عنه. لا يتوجَّس الناسُ من تفكيرِه وآرائِه فقط، بل يشعرون بأنه منقطعٌ عنهم في حياته ونمط تديُّنه وسلوكه. إن جهودَ هؤلاء المفكرين والباحثين في ديارنا ما زالت لم تعثر على تربتها المناسبة، ولعلَّها لا تجد مثلَ هذه التربة ما دامت بعيدةً عن الحواضر والحوزات ومعاهد التعليم الديني.

الفضاءُ الديني العام كان وما زال مُحتَكَرًا لرجالِ الدين والخطباءِ وأئمةِ الجمعة والجماعة، وكُتَّابِ وشبابِ الجماعات الدينية، في حين يفكر المفكرُ الديني في بلادنا ويكتبُ ويتحدثُ خارجَ هذا الفضاء، لا يصغي إليه أحدٌ، مثلما لا يصغي هو إلى أحد.

أشرتُ في كتابات سابقة إلى أن تحديثَ المؤسسة الدينية لا ينجز وعودَه ما لم ينبثق داخل هذه المؤسسة، وهنا أودُّ أن أضيف: مع أن الفلسفةَ الحديثة وعلومَ الإنسان والمجتمع وُلدتْ خارج الفضاء الديني للمسيحية، فلم يظهر أكثر الفلاسفة والمفكرون الكبار في الكنائس والأديرة، غير أنها فرضتْ حضورَها على الحياة الفكرية الدنيوية والدينية فيما بعد، واضطُرت الكنيسةُ لتحديثِ تعليمها الديني، والانسحابِ من مجالات الحياة الدنيوية، التي لبثت قرونًا طويلة أسيرةً بيدها. وأظهرتْ براعةً في تفكيك اشتباك الديني بالدنيوي، فوضعتْ كلًّا منهما في مجاله الخاص.

١١

المثقف الديني وبناء فهم جديد للدين

هناك مبالغاتٌ وتهويلٌ ورومانسيةٌ في فهمِ دور الفكرِ والمفكر، والثقافةِ والمثقف، وما يجب على المثقَّفِ الديني خاصةً أن ينهض به، والرِّهانُ على تأثيرِه السحري في عملية التغيير الاجتماعي، وكأنه نبيٌّ جديد. وعلى أثر هذا الفهم الملتبس أصبح المثقفون متَّهمين أو خونةً، أو مناضلين تبعًا لما تصفهم أدبياتُ اليسار، أو فدائيين كما يذهب الراديكاليون، أو مجاهدين وشهداء كما تتحدث عنهم أدبياتُ الجماعات الدينية.

لم يعد المفكرُ أو المثقفُ، أو أيُّ فرد مهما كان، صانعَ العالم، ولم تعد حركةُ التاريخ مُرتَهنةً بالأبطال، ولم يعد تغييرُ المجتمع في عالمنا اليوم متوقِّفًا على الفكر والثقافة بمعناهما القديم، بل إن تطورَ العلوم والمعارف البشرية وضع معادلةَ التغيير في مسارٍ مغايرٍ لما هو متعارَف عليه، مسار يواكب ما استجدَّ من تحولات عميقة في أنماط حضور الإنسان في العالم. تكنولوجيا النانو، والهندسةُ الوراثية، وتكنولوجيا المعلومات والإنترنتُ والاتصالات، تنجز كلَّ يوم ما لبث الكثيرُ منه حتى الأمس أحلامًا وربما خيالًا علميًّا. لا أظن أن شخصًا اليوم لم تُحدِث تكنولوجيا المعلومات ووسائلُ الاتصال الجديدةُ تأثيرًا في نمط حياته وطريقة عيشه. العام الماضي كنتُ في رحلة برية من بغداد إلى جنوب العراق، سلكتُ فيها طريقًا يمرُّ من خلال مراعٍ وأراضٍ زراعية، فهالني حضورُ الهواتف النقالة لدى الرعاة والفلاحين في قرًى نائيةٍ مهملةٍ مبعثرةٍ على مساحات زراعية شاسعة، حتى الرعاةُ والفلاحون الأميُّون اخترقت حياتَهم وسائلُ الاتصال الحديثة، رأيتُ بعضَهم يمشي حافيًا في أرض يباب غير أنه يستعمل الهاتف. وطبقًا لما يراه هايدغر فإن دخولَ أيَّة تقنية جديدة تتحول تبعًا لها رؤيةُ الإنسان للعالم، وطبيعةُ حياته، ونمطُ وجوده. التقنيةُ ليست أدواتٍ وآلاتٍ وأجهزةً وأشياءَ محايدةً كما كنا نعتقد، إنما هي كيفيةُ حضورٍ للكائن البشري في العالم، يحاكي هذا الحضورُ كيفيةَ هذه التقنية ويتناغم معها، بما في ذلك إعادة تشكيل الرؤية للعالم وطريقة التفكير ونمط الثقافة. لقد «حذَّر تقرير صادر حديثًا من شركة McKinsey & Company’s من أن ما يقرب من ٤٥٪ من الوظائف الموجودة قد يتم شغلها بواسطة الروبوتات. وأضاف التقرير أن من بين كل الدول الشرق أوسطية الست التي تم فحصها، تبين أن ٣٦٦٫٦ مليار دولار من دخل الأجور و٢٠٫٨ مليون موظف ممن يعملون بدوام كامل يرتبطون بنشاطات تُشَغَّل بشكل آلي بالفعل اليوم … وأن نحو ٥٠٪ من الأشخاص سيكونون معرَّضين لعملية التشغيل الآلي المقترنة بالتقنيات الجديدة ذات الصلة بالثورة الصناعية الرابعة. وفي تقريرٍ من إعداده، قال منزر توهمي، الذي يشغل منصب نائب الرئيس الإقليمي بشركة EpicorSoftware لمنطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، إنه ستتم الاستعانة بأكثر من ١٫٧ مليون روبوت صناعي جديد في المصانع حول العالم بحلول عام ٢٠٢٠م، وهو العدد الذي يشكل معدلَ نمو سنوي قدره ١٤٪، ما يعكس مدى النمو بهذا المجال.»٣
بموازاة تقنية المعلومات ووسائل الاتصال الجديدة هناك تكنولوجيا الهندسة الوراثية التي تعِدُنا بما لم تعِدْنا به علومُ ومعارفُ الإنسان من قبل، ذلك أنها تتدخَّل في الخارطة الوراثية للكائن البشري، وتبشِّر بأنها تستطيع أن تُجري تعديلًا على DNA يغيِّر من الصفات الوراثية الثابتة. وفي ذلك ما يُنبئ بإمكانية التحول في بعض الصفات الأبدية للطبيعة البشرية.

نقرأُ في كتاب «فيزياء المستحيل» للفيزيائي الأمريكي من أصل ياباني الحائز على جائزة نوبل ميشيو كاكو، وفي كتابه المهم الآخر «رؤى مستقبلية: كيف سيغير العلم مستقبلنا في القرن الواحد والعشرين»، صورةً مختلفة للغد، وما يعِدُنا به العلمُ من انتقال إلى طرائق أخرى في العيش، تتغير معها الحياةُ بشكل كبير.

«المثقفُ الديني» كما أفهمه هو الباحثُ المستوعبُ للتراث، والخبيرُ بِراهِن الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع، والمهتمُّ بدراسةِ الدين وأشكالِ تعبيراته المختلفةِ في الاجتماع البشري، والقادرُ على تقديمِ فهم نقدي للتراث، وتحليلٍ علمي لتمثُّلات الدين في الحياة الشخصية والاجتماعية، وهو فهمٌ لا يتحدث فيه الماضي للحاضر، ولا تترسَّخ فيه سطوةُ الآباء على الأبناء.

مثلُ هذا الباحث أعزل، لا يحميه أحدٌ عادة، لأنه لا يعزف ألحانَ أيَّة سلطة سياسية أو دينية، ولا يُنشد أنشودةَ الجماهير، ولا يحظى برعاية أيَّة مؤسسة حكومية أو اجتماعية، ولا تعترف به أيَّةُ منظمة حزبية، بل يتحفَّظ الكلُّ على منجزِه ويحذِّر منه. وأخيرًا تحاربه المؤسساتُ التقليدية، والجماعاتُ الدينية، والتنظيماتُ الحزبية.

شغفُهُ بفضحِ المسكوت عنه في التراث، واكتشافِ أنساقه المضمرة، وتفكيكِ النسيج الكامن للسلطة السياسية والرُّوحية المختلفة، ونقدِ إسلام الآباء، وما يقدِّمه هذا المثقفُ من فهمٍ مختلف للدين. كلُّ ذلك من شأنه أن يستفزَّ الكلَّ، ويحرِّضهم لمواجهته. الناسُ بطبيعتهم يقلقهم كلُّ صوت غيرُ مألوف، يتحدث لغةً لا يعرفونها، ولا يعزف ألحانَ معزوفاتهم المألوفة.

على الرغم من أن المثقَّفَ الديني لا يمالئ أيَّةَ سلطة، غير أن البروليتاريا الرثَّة، وبعضَ المثقَّفين المغرمين بشعارات اليسار الفوضوي، لا يرضيهم ذلك، فيطالبونه بكلِّ ما يحلمون به ويتمنَّونه، يترقبون منه أن يكون بديلًا لمؤسسات الدولة والمجتمع الثقافية والإعلامية والسياسية والاقتصادية، بل يريدون منه أن يحمل بندقيتَه ويقاتل، مثلما فعل ريجيس دوبريه الذي توجَّه إلى بوليفيا والتحق بالمناضل الشهير تشي غيفارا، وإلا فهذا المثقَّف في نظرهم قاعدٌ جبانٌ، متَّهم، وإن كانت جهودُه متواصلةً في تنمية التفكير العقلاني النقدي، والتربية والتعليم، والبحث والكتابة والنشر. لا يعبَئون بما يكابده في تأمين رزقه، وحيرته في تأمين الحدِّ الأدنى لأمنه الشخصي ومصير أسرته.

المثقَّفُ الديني وكلُّ مثقَّف حرٍّ ليس مبشرًا أو داعيةً أو مناضلًا أو فدائيًّا. المثقَّفُ الديني ليس مسكونًا بأدلجة الدين، وليس صاحبَ دعوة تبشيرية. تتلخَّص مهمتُه بتفسير العالم أولًا، كي يعملَ على تغييره، لأنه يدرك أن تفسيرَ العالم يسبق تغييرَه، إذ تخفق كلُّ محاولة لتغيير العالم دون تفسيره.

تتمحور جهودُ المثقَّفِ الديني حول تفسير ونقد ما يتفشَّى في مجتمعاتنا اليوم من قراءة خرافية للنصوص الدينية، كما يعمل على تقويض القراءة الفاشيَّة المتوحشة لهذه النصوص. المثقفُ الديني غيورٌ على الحياة العقلية للناس، لا يمَلُّ من إيقاظ القيم الرُّوحية والأخلاقية والجمالية في الدين. تَنشد رسالتُه: إيقاظَ العقل، وإحياءَ الرُّوح، وإثراءَ الأخلاق، وتربيةَ الذوق الفني. يعمل على حماية العقل من أن تستهلكه الخرافاتُ، وما تفضي إليه تلك الخرافاتُ من أوهام وتشوُّهات في رؤية العالم. يهتم المثقف الديني ببناء تديُّن عقلاني من خلال اكتشافِ ما هو دنيوي وما هو ديني، ورسمِ الحدود الخاصة بكل منهما، وبيانِ المجالاتِ التي يتحقق فيها الدنيوي، والمجالاتِ التي يتحقق فيها الديني. ويهمه التعريف والسعي لبناء تديُّن أخلاقي، في مقابل ما يتفشى من تدين شكلي زائف.

همومُ المثقف الديني ترمي إلى بناءِ الإيمان وتمتينِه، لا تبديده وتهديمه، وحمايةِ الأجيال الجديدة من التمزُّق والعبثية والضياع في دروب التيه. يهمُّه تكريسُ الحياة الرُّوحية، وبعثُ وتنميةُ المواقف الأخلاقية، بوصفها تجرِبةً للحياة يعيشها، وتجرِبةً للحقيقة يتذوقها. ويشرح كيف أن تأثيرَ هذه المواقف متبادلٌ في الحياة الشخصية، إذ تمرُّ الأخلاقُ بدورة إنتاج تكون فيها هي الأثر وهي المؤثر. كما ننتج نحن المواقفَ الأخلاقيةَ ونعيشها ونتذوقها تعيد هي إنتاجَ شخصياتِنا أخلاقيًّا. الأخلاقُ نسيجُ منظومةٍ علائقيَّة يُنتِج بعضُها بعضًا. كلُّ موقف أخلاقي تغتني به شخصياتُنا ويثريها ينقلنا إلى مرتبة أسمى في سُلَّم التكامل. وهكذا كلَّما تسامى الإنسانُ أصبحتْ بصمةُ أقواله وأفعالِه أخلاقيةً، وصارت الأخلاقُ يصنعها فتصنعه، يرفِدها فترفِده، يصونها فتصونه، يحميها فتحميه.

١  المدثر: ٣٨.
٢  البقرة: ٣٠.
٣  صحيفة إيلاف الإلكترونية، ١٦ فبراير ٢٠١٨م. عن:
https://ameinfo.com/technology/it/21_million_middle_east_jobless_soon/.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥