الفصل الثالث

الدِّينُ يمنح الإنسانَ معنى وجودِه

١

مفهومُ الدِّينِ والمقدَّس

يتسع مفهومُ المُقَدَّس للكثيرِ من المعاني، وتتنوع تعريفاتُه على نحوٍ يعسر الإمساك بمعنًى واحدٍ له؛ ذلك أنَّ هذا المفهوم يدخل في شبكةٍ واسعةٍ من العَلاقات المفاهيميَّة، ويتغلغل في نظامٍ معقَّد من المراجع والإحالات المكوَّنة من أحكام قيميَّة. فقد يُعَرَّف المقدَّس بأنَّه كلُّ ما هو في مقابل الدنيويِّ، أو يُعَرَّفُ بأنَّه كلُّ ما هو في مقابل المدنَّس. أو يُعَرَّف المقدَّس بأنَّه كلُّ شيء متعالٍ، أو هو ما يحنُّ إليه الإنسان، وينشغل به وينجذب إليه بالحدِّ الأقصى. أو يُعَرَّف بأنَّه كلُّ ما يرتبط بالدين ورموزه وتعبيراته. وقد يقال في تعريفه إنَّه مقابل اليوميِّ، أو العاديِّ، أو المُمِلِّ، أو الرِّجس، أو الخبيث. العَلاقة بين المقدَّس والدنيوي مَرِنَة، ديناميكيَّة، متحرِّكة، فربما يستوعب المقدَّسُ شيئًا من فضاء الدنيويِّ؛ حين يتمدد في لحظةٍ ما فيضُمُّ مساحاتٍ أخرى من الدنيويِّ إليه.

مجالُ المقدَّس مرتبط بما هو دينيٌّ في الكثير من نماذِجه وحقولِه، لكنْ أحيانًا للمقدَّس مجال خارج الدين بمفهومه المتداوَل والمتعارف؛ لأنه يرتبط أيضًا بطبيعةِ المجتمعات وحدوده فيها. يمكننا القول: إنَّ كلَّ شيء نمنحه بُعدًا قيميًّا يتجاوز وجودَنا كبشرٍ فهو «مُقَدَّس» بنحوٍ من الأنحاء، فالإنسان يصنع مقدَّساتِه ولا يعثر عليها صدفةً. ولستُ أعني بكونِ الإنسان «يصنع مقدَّساته» أنَّه يختلقها ويلفِّقها، بل بمعنى أنَّ تكوين أيِّ فكرةٍ عمَّا هو «مقدَّس» إنما يخضع لفهم الإنسان ونظريته بشأن وجودِه ووجود العالم الذي يحيا فيه. من هنا نجد أنَّ أشكال المقدَّس وتمثُّلاته قد تتنوع وتتعدد لدى الإنسان تبعًا لثقافته، حتى تخرج عن المسألة الدينية التي قد تبدو للوهلة الأولى أنَّها الميدان الحصريُّ له فقط.

إنَّ فضاءَ المقدَّس مفتوح وليس مغلقًا، ومداراتِه غير متناهية الأبعاد، فهي تتنوَّع بتنوُّع الثقافاتِ والأزمنةِ، وتتعدَّد بتعدُّد الجغرافيا البشريَّة، فكلُّ شيء سواء أكان إنسانًا، أو كائنًا حيًّا آخر، أو زمانًا، أو مكانًا، يمكن أن يغدو مقدَّسًا في إطار مشروطيَّة معيَّنة. من خلال أنثروبولوجيا الدِّين، وعلم اجتماع الدين، وعلم نفس الدين، وعلوم الدلالة والهرمنيوطيقا؛ بوسعنا أن نتعرف على تجلِّيات المقدَّس وتعبيراتِه وطبقاته ونفوذه وامتداداته وعوالمه ومجالاته. المقدَّس ظاهرة أبديَّة موجودة حيث توجد الحياةُ البشريَّة، وإحدى البنى العميقة في الوعي واللاوعي البشري، فحتى المجتمعات شديدة العلمنة لا يمكن أن تغادر المقدَّس، لأنَّه موجود في بنيتها العميقة، ونجد دائمًا تعبيراتِه في حياتها.

في المجتمعات الغربيَّة، التي نظنُّ بأنَّ الدين اختفى من حياتها، الدين ما زال حاضرًا لديها، لكنَّ طبيعة حضوره في هذه المجتمعات مختلفة عنها في مجتمعات أخرى. كنتُ قبل أشهر في مدينة أثينا، ممَّا لفت نظري هناك أنَّ معظم الناس الذين شاهدتهم في وسائل النقل العام، الشباب والشيوخ، من النساء والرجال، كانوا يلبسون الصُّلبان، أو تظهر على ملابسهم رموز دينية. وتحمل مدن وشوارع ومرافق في عدة بلدان مسيحية أسماء قديسين، ففي فرنسا «وَفقًا لقاعدة البيانات الرسمية للرموز البريدية الفرنسية، تحمل ٤٥٨١ بلدية فرنسية اسم قديس.»١ معنى ذلك أن الدين ما زال مترسِّبًا في البنية العميقة للمجتمع. صحيح أنَّ الدين لا يتجلَّى بوضوح في الحياة الاجتماعية أو المدنية الغربية، أو ينعكس على الإدارة والعَلاقات والشأن العام بشكل مباشر، لكنَّه ما زال غاطسًا في بنية اللاشعور الجمعي، ولم يرحل تمامًا عن وعيهم؛ بمعنى أنَّ الدين ليس غائبًا ولم يندثر أو يختفي، وإن كان مجالُ حضورِه لديهم غيرَ مجالِ حضورِه في الجزيرةِ العربية مثلًا.

الدين ظاهرة مستمرة ومتواصلة، وحاجة بشرية لا يستغني عنها الإنسانُ، غير أنَّ تعبيراته وتمثُّلاته وطبيعة حضوره مختلفة من مجتمع لآخر. حينما تزور أيَّ مدينة غربية، وتدخل المتاحف أو الكنائس، أو الكاتدرائيَّات، أو المباني القديمة، تشاهد الكثيرَ من الرسوم والصور واللوحات الفنيَّة والتماثيل، من مختلِف عصور التاريخ الأوروبي، خاصَّة العصور الحديثة، تجد أن معظم الآثار الفنيَّة ترتسم فيها الأيقوناتُ والثيماتُ والإشاراتُ والإيماءاتُ الدينيةُ، ومن يجهل اللاهوتَ والميراثَ الدينيَّ المسيحيَّ والكتابَ المقدَّسَ يتعذَّر عليه فهم عدد كبير من هذه الآثار. يقول إمبيرتو إيكو: «من الصعوبة بمكانٍ فهم ثلاثة أرباع الفن الغربي تقريبًا إذا ما كنتَ تجهل حوادثَ العهدَين القديم والجديد، إضافةً إلى قصص القدِّيسين.»

للدين صلة عضوية بكافَّةِ الثَّقافات البشرية. ليستْ هناك ثقافة عابرةٌ للدين والمقدَّس، حتى في المجتمعاتِ التي فُرِض عليها الإلحادُ، مثل ألبانيا في عصر أنور خوجة، احتجب المقدَّسُ وتوارى الدين عن الأنظار لكنه لم يَمُتْ، إذ سرعان ما انتقم الدينُ لنفسه، فانبعث من مخابئه بعد انهيار نظام أنور خوجة. منتجات الثقافات البشرية على اختلافها وتنوعها لا تخلو من رموز وإحالات على معانٍ دينية.

المقدَّس هو موضوع الدين في مبحث العلوم الاجتماعية، وفي علم اجتماع الدين تحديدًا. وقد ركَّز السوسيولوجيُّون الأوائلُ، أمثال: أوغست كونت، وجيمس فريزر، والمتأخِّرون عنهم أمثال: دوركهايم، وماكس فيبر، على أنَّ الدينَ يبحث في ما هو مقدَّس، ويحتكر هذا المفهوم، في الوقت الذي تنفتح فيه العلومُ الاجتماعية الأخرى على تخوم المعرفة من دون احتراز. فالعلم، بحسب علماء الاجتماع، لا ينكص عن الولوج إلى عوالم ما قد يُعَدُّ مدنَّسًا بحسب المقولات الدينية. على أنَّ هذا الموقف قد سبق الفصلَ الحاسم بين ما هو دينيٌّ وما هو دنيويٌّ، إذ إن هذا الفصلَ ارتكز في مفاهيمه لاحقًا على الرَّبط بين الدينِ وبين موضوعِه الحتميِّ وهو المقدَّس. وقد أصبح هذا الموقفُ المفاهيميُّ منذ النصف الثاني من القرن العشرين مثارَ جدلٍ وبحث عميقَيْن ومستمرَّين لدى اللاهوتيين ولدى علماء الاجتماع على السواء.

٢

الحاجةُ إلى الدِّين

الدينُ يمنح الإنسان معنى وجودِه. الدينُ حياةٌ في أُفق المعنى، تفرضُه حاجةُ الإنسان الوجوديَّة لإنتاجِ معنًى رُوحيٍّ وأخلاقيٍّ وجماليٍّ لحياتِه الفرديَّة والمجتمعية. هذا هو تعريفي للدين.

من المعلومِ أنَّ قضية التعريف من القضايا التي يدور حولها كلام واسع في المنطق، يقسِّمون التعريف إلى: حدٍّ ورسم، والحدَّ إلى: حدٍّ تامٍّ وحدٍّ ناقصٍ، والرسمَ إلى: رسمٍ تامٍّ ورسمٍ ناقصٍ، إلى آخره. لا أريد الدخولَ في هذه التفاصيل المعروفة في المنطق الأرسطي. ومثلما يمكن أن نتعرف على الشيء عبر أضدادِه مثلًا، كما عرَّفنا المقدس بأنه يقابلُ المدنَّس، يمكنُ أن تُعَرِّف الشيء بوظيفته. وظيفة الدين هي إنتاج المعنى، الدِّين يضيء ما هو مظلم في حياتِنا، ويكشف عن تجلِّيات الجمالِ والجلالِ في العالَم، بل إنَّ الدِّينَ لا يقتصر على كشف جمالِ العالَم، وإنما غالبًا ما يراها المتدينُ شفيفة رقيقة، متناسقة مع عناصر الكون ونظامه، لترتسم كلُّ عناصرِها في لوحةٍ مضيئةٍ. وهكذا يغدو العملُ في حياةِ المتديِّن أيسر وأقلَّ مشقَّة، إذ تمنحه رؤيةُ العالَم بهذه الصورة قدراتٍ إضافيَّة على مواصلة الكدح والجَلَد والمثابرة.

كما أنَّ نمطَ إنتاج آلات ووسائل الإنتاج الماديَّة ماديٌّ، فإنَّ نمطَ إنتاجِ الدِّين معنويٌّ، أي أنه يخلع معنًى على ما لا يمكن أن تمنحه الوسائل والأدوات الأخرى التي يمتلكها الإنسان، ويتنوع هذا المعنى بحسب تنوع الظروف والأحوال، واستعداد الأشخاص الرُّوحيِّ، ومستوى اطلاعهم ووعيهم الحياتي وثقافاتهم.

المعنى الذي يخلعُه الدِّينُ على حياتِنا — نحن البشرَ — يتوقف في تفسيره وأبعاده وشموله ومجالاته على رؤيتنا للوجود البشري ومعناه وحدوده وإمكاناته، فقد يُعظَّم ويُبجَّل هذا الوجودُ ويُحتفى به، حتى يُجعل منه غنيًّا في «كلِّ شيء» عن «كلِّ شيء» ما عداه، فينتهي إلى موقف إلحاديٍّ فيما يتعلَّق بالدين. في المقابل، قد يُحَطُّ من قَدْرِه، فيُعتبر تافهًا ضحلًا، فتبدو له حتى عبادةُ الأوثان شيئًا مهمًّا وخيِّرًا، بل وضروريًّا. وقد تتشكَّل نظرةٌ متوازنة — بحسب المؤمنين بالديانات — بشأن هذا الوجود، فيعودُ للدين وظيفة ومعنًى يشغله في تفسيره أو توجيهه. يستعرض أنتوني غيدنز، في كتابه المدرسيِّ «علم الاجتماع» وكذلك علماء اجتماع آخرون، بعض المقتربات لتعريف الدين: منها المقترب الوظيفيُّ، والمقترب الجوهري أو الوجودي، والمقترب الشكلي. المقترب الوظيفي هو امتداد للبارادايم الوظيفي الذي أسَّسه داروين، وحمله البارادايم البنيوي إلى مدًى أبعد، كما بدتْ بواكيره في أعمال إيميل دوركهايم، وكلود ليفي شتراوس لاحقًا. ويركز دوركهايم على دَور الدين الاجتماعي في حفظ علائق الأفراد، وتعزيز أواصر التضامن الجمعيِّ. فالدين، كما يراه دوركهايم هو نتاج العقل الجمعيِّ، وصنو المجتمع، بل هو نتاج المجتمع. وعلى الرغم من أنَّ الدينَ يُعَدُّ نظامًا سيميائيًّا كبيرًا ومعقَّدًا، إلا أنَّ المعانيَ التي ينتجها هذا النظام تشتغل على المستوى الرمزي بأعلى طاقاتِها، ثم تتحوَّل إلى مستوى الفعلِ في العالَم الخارجي/الموضوعيِّ.

ومثلما يُنْتِجُ الدينُ معنًى للحياةِ، يُنْتِجُ أيضًا القيمَ الرُّوحيَّةَ ويغذِّيها على الدوام بما تتطلَّبه من عبادات وطقوس وشعائر، كي تظلَّ جذوتُها مشتعلةً ولا تنطفئُ في رُوح الإنسان. كذلك يعملُ الدينُ على إرواء الظمأ الأُنطولوجي للمقدَّس. وهذا الظمأ يعيشُه كلُّ كائنٍ بشري، وإنْ كان أسلوبُ إروائه يختلف باختلاف الإنسان، ويتنوع بتنوع الثقافة والزمان والمكان. ويبني الدينُ الإرادةَ ويعززها على الدوام.

وللدينِ وظيفة عُظمى في إثراء القيم الأخلاقية. هذه القيم يستقلُّ العقلُ العمليُّ في إدراكِها، لكنَّ الدين يعمل على تكريسِها وتقنينها في سياق إنساني. يقول إيمانويل كانط: ‏«الديانةُ ‏هي القانونُ الذي فينا، إذ تستمدُّ قوَّتَها من مشرِّع أو قاضٍ فوقنا جميعًا. الديانةُ أخلاقٌ مُطبَّقَة على معرفةِ الله. ‏إذا لم تكن الديانةُ ‏مرتبطة بالأخلاق تتحول إلى سعي من أجل كسب الإنعامات … وأن ‏الطريقَ الوحيد الذي بواسطته يمكننا إرضاء الله هو أن نصبحَ أشخاصًا أفضل ممَّا نحن عليه.»٢

وقبل كل ذلك يمنح الدينُ الكائنَ البشريَّ إجاباتٍ واضحةً عن أسئلةِ المبدأ والمصير. وهي الأسئلةُ الأبديَّة في حياة هذا الكائن حيث وأنَّى كان.

٣

الحاجةُ إلى المعنى
سؤال «معنى الوجود والحياة» يختصر أسئلةَ الكائن البشري. تقول إحصائيةٌ: إنَّ ٥٥٠ ألف شخص شهريًّا يفتِّشون عن معنى الحياة، إذ يسألون google: «ما هو معنى الحياة؟». يصف مارتن هايدغر الإنسانَ بأنَّه: «الكائنُ المسكونُ بمشكلةِ منحِ معنًى لوجودِه.» عندما تعود إلى الميراث الفلسفي واللاهوتي، تجد أحدَ أهمِّ الأسئلةِ وأعمقِها، والذي ما زال حتى الآن يكرِّر نفسَه، هو التساؤل عن معنى الحياة. أبرز التيارات الفلسفيَّة، خاصَّة الفلسفة الوجوديَّة، التي ظهرتْ في التاريخ القريب للبشرية، تتمحور مهمتُها حول البحث عن معنًى لحياة الإنسان، ومعنى وجودِه في هذا العالم. من هنا تصبح مهمَّةُ الدين من أخطرِ المهمَّات في الحياة، وفي العالَم الذي نعيش فيه.

لا يرتوي المرءُ من الحياة ما دام لا يكفُّ عن إنتاجِ معنًى للحياة. رغم ما يتفشَّى من ضجيج الكثيرين الذين يتحدثون عن ضرورة المعاني الأخلاقية والقيم السلوكية، ومع أنَّ حياتَنا لا تفتقر إلى من ينتج نصوصًا تشي بشيءٍ من المعنى، لكنَّنا نفتقر إلى أمثلةٍ بشريَّة ملهِمة يمنح سلوكُها ومواقفُها الناسَ معنًى لحياتهم. تجرِبةُ إنتاجِ المعنى أجملُ قصيدةٍ يكتبُها ويعيشُها الكائنُ البشريُّ في حياته. الكلُّ يسعى إليها، الكلُّ يحاول تعلُّمَها، الكلُّ يعمل على تَكرار تجريبها، كي يمتلكها. الكثيرُ من البشرِ يكتبُها فتضيع، ثم يكتبها فتضيع، وهكذا. الإنسانُ الأصيلُ هو من يكتبها ويعيشها، ولن تتبدد أو تهرب أو تضيع بعد أن يمتلكها، بل إنه يُفيضها على غيره، كالشمس التي تضيء كلَّ ظلام. الشخصيَّة الأصيلة مولعة بإنتاج المعنى، إذ تتسامَى حياتُها الرُّوحية، وتتكرَّس مواقفُها الأخلاقية، فتصبح كالأعمال الفنية الخالدة التي لا تخبو جذوتُها ولا تندثر ثيماتُها مهما امتدَّ بها الزمنُ.

الدين يقدم جهازَي تفسيرٍ وتأويل، وهو على ما يبدو النظام العلاماتيُّ الوحيد الذي لا يكفُّ عن توليد المعنى، ولا يكف أيضًا عن تفسيره وتأويله. على عكس الأنظمة الأخرى التي تترك «للمستلم/المتلقي/المستمع/القارئ» حرية فهم المعنى، وتحليله، وتفسيره، وتأويله.

كذلك يخترق الدينُ مجالَ الخيال، فيشكِّله ويصوغه ويعيد تكوينَه. المسيحية مثلًا استطاعتْ صوغَ هذا المجال، من خلال اللوحاتِ الفنيَّة والتماثيل والأيقونات والصُّلبان، وأنماط عمارة الكاتدرائيات والكنائس والأديرة، فضلًا عن السينما والمسرح. ويذهب بعضُ المفكِّرين إلى أنَّ معركة المستقبل يحسمها من يستطيع السيطرةَ على مجال الخيال.

٤

الرمز الديني وسيلة لإنتاج المعنى

يستوعب هذا العالمُ أشياءَ لا حصر لها، لا ندرك معناها. الدين كما أشرنا يُمَعْنِنُ ذلك، يفكُّ الألغاز، أو تغدو الألغازُ من منظورِ المتديِّن ذاتَ مضمون، يفيض بمعانٍ يستقيها من رؤيته الدينية. الدين يخلع معنًى على ما لا معنى له. أمَّا كيفية إنتاجِ المعنى ووسائل الدين في ذلك، فتتحقق عبر نظام دلالي واسع يستوعب الكثيرَ من الأدوات والوسائل والدَّوَالِّ. واحدة من أهمها هي الرموز. الإنسانُ بطبيعته كائنٌ رمزيٌّ أو حيوان رمزي، كما هو معروف عند السيميائيين. حياةُ الإنسان تغنيها الرموزُ، كلُّ شيء رمز، وكل شيء علامة، ولكل علامة ورمز معنًى. تنتشر الرموزُ انتشارًا واسعًا في المجتمعات البشرية، لا يخلو مجتمعٌ من الرموز والإشارات والعلامات. دراسةُ الأنساق الرمزيَّة والأنظمة السيميائيَّة مدخل مهمٌّ لدراسة الثقافات، وتفسير أنماطِ السلوك الجمعيِّ، وتحليل الظواهر الاجتماعية. «تُعَد الرموز بالفعل أدوات جيدة وصالحة للتفكير» بحسب كلود ليفي شتراوس.

متى اتَّسع مجالُ الرموز في الدين كان أثرى وأخصبَ، بمعنى أنَّ الشخصَ المتدين بذلك الدين المشبع بالرموز ترفِده بسيل لا ينضب من المعاني. الدين يهتم باللباس، والطعام، والمكان، والزمان، وبكثير من الأشياء، فعندما يكتسي اللباسُ بشَفراتٍ وإشاراتٍ قدسيَّة خاصَّة، وقتئذٍ يتحول إلى رمز، يخرج فيه من مجالِه الدنيويِّ إلى مجالِ المقدَّس. الكفن مثلًا، هو نمطٌ من اللباس الذي يُلبس للميت، قبل غسل الميت وإجراء عملية التكفين كان الكفنُ قماشًا عاديًّا، لا يحمل أيَّ مفهوم ديني ولا يوحي بمعنًى يتصل بالمقدس، غير أنَّه بعد إجراء طقوس التكفين، يتحول إلى لباس مختلف، أي يصبح كفنًا، يمتلك مفهومًا دينيًّا. إنه محترم، مصون، يفيض معنًى جديدًا لم يتضمنْه قبل أن يغدو كَفَنًا، إذ يشير إلى مفهوم ديني، ويصير منتِجًا لمعنًى آخر. وهكذا الأمر في لباس الإحرام الذي يرتديه الحاجُّ في الحج، فإنه ينتقل من كونه قماشًا عاديًّا إلى لباس مقدَّس، بمجرد أنْ يرتدي الحاجُّ هذا اللباس ينتقل إلى فضاءٍ بديل، يصير بحالةٍ جديدة، يصبح فيه نوعًا من التحول بعد دخوله ذلك الطقس، وارتدائه لباسًا لتأدية شعيرة الحج أو العمرة. لهذا اللباس وظيفة رُوحيَّة، أنتجتْ سلسلةً من المعاني.

وهكذا الأمر عندما يُتَّخَذُ زمان معين عيدًا، أو مناسبة دينيَّة، أو يُتَّخذ مبنًى أو مكانٌ مَعْبَدًا، فإنَّ ذلك يعني أنَّ الدين منح هذا الزمانَ أو المكانَ رمزيَّة خاصَّة، أضاف إليه دلالة تُلمِح إلى أنه صار مقدَّسًا. إذ يُمسي هذا الزمانُ مختلفًا عن الزمان الآخر، إنه غير الزمان العادي الرتيب المُمِلِّ. الدين عندما يَعْتَبِرُ زمانًا ما عيدًا مثلًا، فإنه يرتقي ويتسامى به ويمنحه وظيفة أخرى، وكأنه أعادَ الزمانَ إلى فجره؛ ذلك الزمان الذي لم يتلوَّث، لم يُستعمَل بعد، إنه زمان طاهر غير مدنس. العيد مناسبة لأن يُجَدِّد فيها الإنسانُ الزمانَ، ويتخلَّص من رتابته وتَكراره، ينتقل به من زمان يفتقد معناه إلى آخر يفيض بالمعنى.

ما أريدُ أنْ أخلُصَ إليْهِ هو أنَّ الدِّينَ مُنْتِجٌ للمعنى، ما يصنعه الدينُ من أنساق رمزيَّة من أهمِّ الدلالاتِ التي يعتمد عليها هذا النوعُ من الإنتاج. كذلك يوظِّف الدينُ الطقوسَ لإنتاجِ المَعْنَى، أي إنَّ العباداتِ أيضًا يجري توظيفُها في ذلك.

من المؤسف أنَّ الاتجاهاتِ السلفيَّة، والنزعةَ الدنيويَّةَ الحديثةَ في التفكير الدينيِّ، أو ما يُصْطَلَحُ عليه «البروتستانتية الإسلامية»، أهْدرَتْ معظم الأبعادِ المعنويَّة والرمزيَّة والجماليَّة والرُّوحيَّة في الدِّين، عندما اختصرتْ وظيفةَ الدينِ في بناءِ دولةٍ دينيَّةٍ، فتلاعبتْ بمهمَّته، وجعلتْه وقودًا لعربةِ السياسةِ، وطمست وظائفَه الأصليَّةَ في الحياة الإنسانيَّة.

٥

التَّلاعُبُ بوظيفةِ الدِّين

عندما يتحوَّل الدينُ إلى مؤسَّسة، أي يتمأسس، يتحوَّل إلى واحدةٍ من المؤسَّسات الاجتماعيَّة، والاقتصاديَّة، والسياسيَّة، فإنَّ هذه المؤسساتِ ترتبط عُضويًّا بكلِّ ما يعيشه المجتمعُ من مصالح وملابسات وتناقُضات. الأيديولوجيَّات والمؤسَّسات في المجتمع مشتقَّة منه، ومعبِّرة عن كلِّ ما يضِجُّ فيه من اختلافاتٍ، وصدامات، ومصالح، وغير ذلك. الجمعيَّات والأحزاب والمؤسَّسات محكومة بذلك، وهكذا القبائلُ والعشائرُ والتجمُّعات والنِّقابات المهنيَّة. الدين عندما يَتَمَأْسَسُ، فيصبح إحدى المؤسسات الأيديولوجيَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، وقتئذٍ ينخرط في هذه التناقضات والملابسات.

حين نعودُ إلى تاريخ الإسلامِ كديانةٍ، نرى الإسلامَ الذي كان مُتَعَارَفًا عليه بين المسلمين هو ما يمكن أن نطلق عليه إسلام الأكثريَّة، وأعني بإسلام الأكثريَّة، الإسلام العامَّ مقابل الإسلام الخاصِّ، أو إسلام الجماهير، الإسلام الشعبيَّ، إسلام الناس، إسلام أمِّي وأمِّك، وأبي وأبيك، وكل هؤلاء الناس، الذين هم مسلمون، محكوم بإسلامهم، يولدون مسلمين، ويموتون مسلمين، ويُدْفَنُونَ في مقابر المسلمين، هذا الإسلام كان غنيًّا بالأبعادِ الرُّوحيَّة والمعنويَّة والأخلاقيَّة والرمزيَّة والجماليَّة.

ما حصل في المرحلةِ الحديثة من تاريخنا، إنما هو ترحيلٌ لوظيفةِ الدين، فأصبحتْ وظيفتُه سياسيَّةً نضاليَّةً كفاحيَّةً، وبذلك جَرَى نقلُه من مجالِه الرمزيِّ المعنويِّ الرُّوحيِّ الأخلاقيِّ الجماليِّ، الذي هو مجالُه الطبيعيُّ، إلى مجالٍ آخر، وهنا تغلَّب فيه القانونُ على الرُّوح، وأصبح الدينُ أيديولوجيا سياسيَّةً صراعيَّةً، أيديولوجيا أَهْدَرَتْ أبعادَه الرمزيَّةَ والجماليَّة والرُّوحيَّة والمعنويَّة والأخلاقيَّة.

في تاريخ الدِّين الإسلاميِّ مثلًا، يميِّزُ الباحثون بين تجرِبتَيْنِ لنبيِّ الإسلام (ص)، هما: المرحلةُ المكِّيَّة من الدَّعوة، والمرحلة المدنيَّة. يعرف المختصُّون طبيعةَ وخصائصَ كلِّ مرحلةٍ في العقيدةِ والتشريع، فلا حاجةَ لنا في وصفهما. الخطير في تعاطينا مع المرحلتين؛ هو تغليب المرحلة الثانية على الأولى، بمعنى قراءةِ وتفسير التجرِبة النبوية، والإسلامية برمَّتها، في ضوءِ مناخات وملابسات المرحلة الأخيرة، حتى لتكاد أنْ تكونَ هي المرجع الوحيد والنهائيَّ الذي يختزِل كلَّ ما يمكنُ أنْ يُقَالَ عن الإسلام. المؤسف في الأمر أنَّ رحيل نبيِّ الإسلام سريعًا بعد عودته إلى مكة وفتحها، ترَك بابَ التوتُّر مفتوحًا في فهم دورِ كلٍّ من المرحلتَين في استيعاب ما هو صميميٌّ من الإسلام. في نظري، إن أيَّ محاولةٍ للتَّنظير عن مهمَّة الإسلامِ في حياتنا المعاصرة تنطلق من مركزيَّةِ المرحلةِ النبويَّة الثانية (المرحلة المدنيَّة)، في إقصاءٍ أو تهميشٍ للمرحلةِ المكيَّة، فهي محاولةٌ تُخْفِي وراءَها أغراضًا مصلحيَّةً أكثر من كونها دينيَّة. إنها تكريسٌ لما هو تاريخيٌّ على حساب ما هو جوهريٌّ في الدين.

٦

الصِّراع بين القانون والرُّوح

فلْأَضْرِبْ لكَ مثالًا بمجتمعٍ من المجتمعاتِ الحديثةِ، وهو المجتمع الفيتناميُّ، فقد استمرَّ هذا المجتمع طَوال نِصف قرنٍ يُقَاوِمُ الاستعمارَ الفرنسيَّ ثم الأمريكيَّ، وتعرض للتدمير والإبادة، ثم تحرَّرت فيتنام وانتهت المقاومةُ، ووجد المجتمعُ الفيتناميُّ نفسَه خارج منطقةِ الحرب، فانشغلَ بإعادةِ البناء والتنمية، ولم ينشغل بإعادة إنتاجِ الكراهية للمجتمعات الغربية، والنفور من العلوم والمعارف والمنجزات التكنولوجية الحديثة. مقاومتهم وقتالهم لم يكونا منبعًا لكراهية المجتمعات الغربيَّة، وإنما وجد نفسه بكل سهولة يمكن أن يتعاطى مع العلم الغربي والمجتمعات الغربية، من دون عقدة أو مشكلة، واستمرَّت حياتُه في البناء والتنمية بشكل طبيعي.

هذه مشكلة ليس من اليسير حسمُ القولِ فيها. لكي نتخلص فيها من الأحكام السريعة المبتسرة، ذات الهجاء العِرْقِيِّ أو الثقافيِّ أو الدينيِّ لذاتنا، نحتاج إلى تضافُر عدَّةِ دراساتٍ تاريخيَّة وثقافيَّة واجتماعيَّة ونفسيَّة لتلك المرحلة وما تلاها. يمكن القول — وأنا أطرح ذلك كفرضيَّة — إنَّ اقترانَ بداية التحديث الجدي في مجتمعاتنا بدخول الاستعمار ولَّد لدينا قناعةً بأنَّ كلَّ ما هو «حديث» فهو على عَلاقة بالخارج، يخدم أغراضَه ويحقِّقُ مصالحَه! وهذا ما أفضى بمجتمعاتِنا إلى الارتكاس في مواقفِ الماضي وثقافته وقيمه ومعاييره. في حين أنَّ المجتمعات الأخرى التي خلت عن هذا الوضع التاريخيِّ المتأزم صاغت تجرِبتَها مع ثقافة المستعمر وعلومه ومعارفه ومنتجاته بنحوٍ مختلف عنا.

لستُ بحاجةٍ للقول إنني مناهض للاستعمار، ولأيِّ شكل من أشكال الإمبرياليَّة، إلا أنَّ المؤسفَ في القضيَّة أنَّ مجتمعاتنا خاضتْ هذه الحروبَ، وتحرَّرَتْ من الاستعمار، لكنَّها ظلَّت تعيش عقدةً تكمن في عدم القدرة على التَّعاطي مع العلم والمعرفة والمكاسب والمنجزات الحديثة بشكلٍ حرٍّ، من دون أن ترى فيها الصورةَ البشعة للإمبرياليَّة والاستعمار، وبقيتْ هذه العقدةُ متحكِّمةً وغارقةً في اللاوعي الجمعيِّ، وأضحتْ منبعًا لسلسلة من متاهات الشباب والشيوخ في عالمنا، ورصيدًا هائلًا تعبثُ به وتستغلُّه الجماعاتُ السلفيَّةُ، والقوميَّةُ، وكافَّةُ الاتِّجاهات والتيارات والأيديولوجيات، التي كرَّست حالةَ الانحطاط والتخلف بنحوٍ مزمن، من خلال خديعة الناس بتوهيمات وغوايات مصطنعة، عطَّلتهم عن بناء بلدانهم والمساهمة في تنميتها وتطويرها. لقد كان صدام حسين وشعاراته ومعاركه أبرزَ نموذج لذلك، إذ كان يستثمر رصيد الكراهية العميق، ويوظِّفه ببراعة مثلما يريد ويهوى، وبحسب ما تحرِّكه غرائزُه ونزواتُه.

إنَّ الحركاتِ القوميَّةَ والسلفية المُتَّحِدَة في رؤيتها ومنطلقاتها أهدرت الرُّوحَ وتمسكتْ بالأيديولوجيا، إذ تمحورتْ أدبياتُها وأساليبُها في التثقيف والتربية، على تجذير نزعةِ الكراهية للآخر، والدَّفع بها إلى أقصى المديات. أذكر لك مثالًا آخر هو جنوبُ أفريقيا، فقد عاش شعبُها فترةً طويلةً من تاريخه القريب في ظلِّ سياسةِ تمييز عنصري بغيضة، عطَّلت حياتَهم، وصادرت حقوقَهم، وكان نيلسون مانديلا أحد ضحايا سياسة التمييز، إذ لبث في السجن أكثر من ثلاثين عامًا، لكن بعد ذلك استطاعتْ جنوبُ أفريقيا تجاوزَ حالة التمييز العنصري بقيادة مانديلا وسياسات التسامح والغفران التي انتهجها، وانتقلتْ هذه الدولةُ من حالة الأحقاد والضغائن إلى الصفح، لأن ثقافتَها مكَّنتْها من اعتماد هذا النَّمط من السياسة، وانطلق هذا المجتمعُ من جديد في رحلة العيش معًا في فضاء التنوع والاختلاف، وبدأ يعتمد سياسةَ تنمية شاملة، تجلَّى أثرُها في كلِّ مجالاتِ الحياةِ.

مجتمعاتنا ما زالت مكبَّلة تعاني من جراحاتها المختبئة منذ سنوات طويلة. نحن بحاجة ماسَّة إلى إعادةِ النَّظر في هذه الثَّقافة، وتفكيكها، والخلاص مما حرصت الأيديولوجيا القوميةُ والسلفيَّةُ على تكريسه. هناك تحالُف غير معلن بين السلفية الدينية والأيديولوجيا القومية والقيم والمفاهيم التعصبية القبلية، كلُّها تنشد بقاء ما كان كما كان.

ينبغي ألا نُغفل فعل وتأثير العقل القَبَلي المتأصِّل والمستحكم في ميراثنا الاجتماعي والديني والسياسي، وأنساقه الثقافية العميقة. لقد عمل الدينُ الإسلاميُّ على تحطيم أغلال العصبيَّة القبَليَّة، وقوَّض مفاهيمَ القبيلة، ومعاييرها وأحكامها القيميَّة، الغارقة في كل ما هو مادِّيٌّ وأرضيٌّ، وفتَح آفاقَ العقل على عوالِمِ التَّجْرِيدِ والتأمُّل، غير أنَّ ما يحدث اليوم هو استدراجُ الدين إلى منطقة القبيلة ومنطقها وقيمها، وإسقاط القِيَم الرَّاسخة في أنساقِها الثقافيَّة على فهم الدين وتفسير نصوصِه، وطَمْسِ أبعادِه الإنسانيَّة والرُّوحيَّة والأخلاقيَّة والجماليَّة.

٧

لا توجد منطقةٌ محرَّمةٌ في التَّفكير

تكمنُ أهميَّةُ النَّقد في أنَّه أهمُّ أداةٍ يعتمدُها العقلُ البشريُّ في التطوُّر في مختلِف المجالات، لأنَّ عمليَّة التفكير تعتمدُ بشكلٍ أساسيٍّ على التأمُّل والغربلة والتَّمحيص والتقويم، ما لم يكن هناك نقد وغربلةٌ وتمحيص لا يمكنُ أنْ نفكِّر بجِدِّيَّة. النَّقْدُ علامةُ التفكير بحُرية، إمَّا أن نفكِّر بحرية أو لا نفكر أبدًا، هذا هو التفكير الذي يضعنا في عصرٍ جديد، وينقلنا إلى عوالم مختلفة.

يلخِّص الفيلسوف الألماني الشهير عمانوئيل كانط شعار الأنوار في جملة واحدة، وهي: «اجْرُؤْ على استخدامِ فهمِكَ الخاصِّ». المشكلة التي نعيشها هي قلَّما تجد شخصًا يعتمد على فهمِه الخاصِّ، في الغالب العقل في إجازة، يعتمد الناس على فهم غيرهم، يتوكَّئون على فهمِ الآباء، أيًّا كان مثل أولئك الآباء. عندما يجرُؤ الإنسانُ على العودةِ إلى عقلِه واستخدام فهمِه الخاصِّ، ويدرِّب عقلَه على ذلك عبر تمارين بالتَّفكير الجريء المُغاير لما هو سائد ومستحكِم، من شأنه أنْ يصل إلى نتائج مهمَّة. «كانط» نفسه يقول: «العقل هو النَّقد»، ولذلك تُعَرَّفُ فلسفةُ كانط ﺑ «الفلسفة النقدية»، لأنَّ كتبه الأساسيَّة تبدأ بكلمة نقد: «نقد العقل المحض، نقد العقل العملي، نقد ملكة الحكم». في الفكر الحديث والمعاصر لا يستقل الفكرُ عن النَّقد، وإنما الفكر هو النَّقْد، يعني العملية النَّقديَّة هي ذاتها عمليةُ التَّفكير.

ربما يقال: ليس من الصحيح أن نثيرَ أسئلةً، أن نتحدث بإشكالاتٍ تُزعزع ثقةَ النَّاس وإيمانَهم بمعتقدٍ حتى لو كان خرافيًّا. لكنِّي أرى من الضروريِّ أن نثير أسئلةً حائرةً، أسئلةً جريئةً، أسئلةً صعبةً، أسئلةً كُبرى. ينبغي أن يكون تفكيرُنا تساؤليًّا على الدَّوام، لأن التفكيرَ التساؤليَّ هو الذي يمكِّننا من الوصول إلى ما هو ممنوعٌ التفكير فيه، وكل ما هو مهمَل ومنسيٌّ في التفكير. التفكير لا يكون محايدًا، فإمَّا أن يكون تفكيرًا تساؤليًّا بحرية، وهو التفكير الذي ينطلق به العقلُ بجرأة فيحطِّم كافَّة أغلاله، أو يكون مقيَّدًا مشلولًا يقودنا إلى العبوديَّة. النقد والغربلة عمليتان مهمَّتان، وهما شرطُ كلِّ تطوُّر فكريٍّ، ومرتكَزٌ لكل عملية تحديثٍ من شأنها تحقيق تنمية شاملة في أيِّ بلد من البلدان.

لا توجد خطورةٌ أو مشكلةٌ من إثارة الأسئلة، هناك فهم تبسيطيٌّ يذهب إلى أن هذا السؤال الذي يُثَار ينبغي أن يكون جوابُه جاهزًا، من أجل ألا نثيرَ حالةً من الارتيابِ والشكِّ، وكأنَّ هذا الفهمَ يفترضُ أنَّ لكلِّ سؤالٍ جوابًا، ولا بُدَّ أنْ يكون هذا الجوابُ جازمًا ونهائيًّا، بينما هناك أسئلة ظهرتْ في الحياة البشريَّة منذ فجرِ الوعي البشريِّ لكنَّها ما زالتْ تتكرَّر حتى اليَوم، وإجاباتها أيضًا يُعَاد تكوينُها، وتنبثق لها إجاباتٌ جديدة باستمرارٍ.

من هنا يمكننا تفسيرُ اتِّساع دائرةِ المذاهب والمدارس الفلسفية واللاهوتية، وتنوع الآراءِ والمقولات والاجتهادات لديها على مَرِّ التَّاريخ. فمثلًا ذكرنا موضوعَ مَعْنَنَةِ الحياةِ، وكيف أنَّ الإنسانَ مسكونٌ بمنح معنًى لوجودِه وحياتِه، هذا أحدُ الأسئلةِ الكُبْرى في الوعي البشري، أفاضت الفلسفاتُ واللاهوتُ أيضًا بتقديم أجوبةٍ متنوعة عن هذا السؤال.

وظيفةُ الأسئلة وظيفةٌ أساسيَّة في تطوُّر الوعي البشري، وعبور الكثير من الأوهام والأخطاء والخرافات. الأسئلة هي التي تسمح لنا بأن ننقد وأن نمحِّص الأفكار والمعتقدات والمقولات. وأن يَدْحَضَ العقلُ ويكذِّبَ شيئًا ممَّا كان لزمن طويل يُعَدُّ من الحقائق الأزليَّة واليقينيات الأبديَّة. طب جالينوس وفلك بطليموس وغير ذلك من علوم الأوائل ظلَّت لعشرات القرون مسلَّمات، غير أن العلم الحديث نسخها. تاريخ العلوم ينطوي على سلسلةٍ من التكذيبات. إنَّ تاريخ العلوم بمثابةِ مقبرة للنظريَّات العلميَّة. التساؤل والشكُّ يسمحان لنا باستئنافِ النَّظر في طائفةٍ من الجزميَّات، والقطعيَّات، والمسلَّمات، والبداهات. قيمةُ الفكر الحديث والمعاصر أنَّه يستأنف النظرَ بالمسلَّمات، وعلى حدِّ تعبير إدغار موران: «اللايقين يقتل المعرفة البسيطة لكنه يُحْيِي المعرفةَ المركَّبة». وقد كان للمتكلم الفخر الرازي المعروف بإمام المشكِّكين، وغيره من المجتهدين في علم الكلام والفلسفة، أثرٌ بالغ في تطوير التفكير الديني في الإسلام. وحين نعود إلى اللحظات الحاسمة في إنتاج رؤًى واجتهادات وأفكار، وابتكار آراءٍ جديدةٍ في التَّفكير الديني، نجدها تتوالد باستمرارٍ في فضاءِ التساؤلات، وتنبثق من خلال المواقف العقليَّة الارتيابيَّة.

في ديارنا، المحرَّم التفكيرُ فيه أكثر من المباح. النقد يرتكز على أن لا شيء ممنوع من النقد. ما لا يمكن نقده هو فقط الممتنع التفكير فيه. لا شيء ممَّا يخص الإنسان — أي بإمكانه منطقيًّا أن يكون موضوعًا لتفكيره به — يمتنع التفكيرُ فيه عليه، وما يطاله المنع منه يُفترض أن يكون خارجًا عن عالمنا وعقولنا كآدميين، أي أن يكون المنعُ عنه عائدًا في الحقيقة إلى كونه مستعصيًا على قدراتنا المعرفيَّة العقليَّة، وبالتالي فإنَّ هذا الوضع يقضي بأن تكون القضيةُ «الممنوع التفكير فيها» مساوقةً لكونها «فارغة المضمون» بالنسبة إلينا.

٨

الفكرُ مرتبط بالتحولات العلميَّة والاجتماعيَّة

كلُّ المفاهيم الجديدة، والأسئلة الجديدة، والأفكار الجديدة، والمقولات الجديدة مزعجة، وربما بعضُها يمثِّل مأزقًا لصاحبِه في وقتها. ستثير هذه المقولاتُ إعصارًا أحيانًا لأنَّها تعاكسُ الريحَ، ومن شأنِ هذا الإعصار أن يتركَ أثرَه، وتاريخ التفكير الدينيِّ في المجتمعات البشريَّة عمومًا تاريخ متحرك وليس ساكنًا، فقد ظلَّ يتحرك، ويتطور، وينمو، ويتخصب على امتدادِ التاريخ. صحيح أنَّه في بعض الفترات شهِد حالةَ تراجع وخمول، لكن سرعان ما تعود له الحياةُ ويتجدَّد، بعد أن يستعيدَ أدواتِه النقديَّةَ. مفهوم الاجتهاد، بحسب تعبير محمد إقبال، يمثل «مبدأ الحركة في الإسلام». عندما بدأ الاجتهادُ في الفقه، تنوَّعَتْ وتعدَّدَت المذاهبُ الفقهيَّةُ، وأصبح في كلِّ مذهبٍ من المذاهبِ أكثرُ من موقف، وأكثر من مسلكٍ اجتهاديٍّ. وهكذا، حينما بدأ الاجتهادُ في مجالِ عِلْمِ الكلام، ظهرتْ فرقُ: المعتزلةِ، والشيعةِ، والأشاعرةِ، والماتريديةِ، ولكلٍّ منها ميراثٌ واسعٌ يشتمل على مواقفَ متنوعة، وفيه أكثر من تيار، فالميراثُ الكلاميُّ للمعتزلة، ميراث في داخله أكثر من تيار، وهكذا الميراث الكلامي للشِّيعة، ميراث فيه أكثر من اجتهاد، وأيضًا ميراث الأشاعرة يضمُّ مجموعةَ مواقف.

الفكر مرتبط بالتحولات الاجتماعيَّة، ونحن لا نستطيع الوقوفَ أمام تطوُّر المجتمعات. بعبارة أخرى: إنَّ دينَ اليوم هو دينُ معارفِ وعلومِ اليوم، ودينَ الأمس هو دينُ معارفِ وعلومِ الأمس، لكلِّ عصر بديهياته ومفروضاته التي ينطلق منها، وفهم الدين غير منفصل عن فهم العالم والطبيعة. «وسائل الاتصال، تكنولوجيا المعلومات، تكنولوجيا النانو، هندسة الجينات»، والآفاق الراهنة والمستقبلية للعلوم والمعارف البشريَّة لها أثر مباشر في فهم الدين.

مجتمعنا كحالِ الكثير من المجتمعات الحيَّة الأخرى، حتى لو كانت هناك أسيِجة مغلقة متعدِّدة من حوله، إلا أنَّ تكنولوجيا المعلومات، والتطوُّر الهائل في وسائلِ الاتصال، والتكنولوجيا النانوية، والهندسة الجينية، والعولمة الثقافيَّة والإعلاميَّة والاقتصاديَّة، ستُفضِي إلى انهيارِ الكثير من أسيِجته، وينخرطُ بالتدريج في الاحتفال بأعياد التاريخ.

عادةً ما تبدو الأفكارُ والمفاهيمُ الجديدةُ مثيرةً، وربما منفِّرةً ومقلقةً، ولكن بعد ذلك ستثير نقاشًا وجدلًا وحراكًا عقليًّا، إثباتًا ونفيًا، ويئُول ذلك إلى فتح نوافذ جديدة للتساؤلات، وإلى ابتكار مفاهيم جديدة، وبلوغ وجوه جديدة للحقيقة لم تتجلَّ من قبل.

٩

تفسيرُ العالَم مقدِّمةٌ لتغييره

أميِّز بين نمطين من المثقَّف: نمط يُعَبَّر عنه بالمثقَّف الثوري، أو المثقَّف العضويِّ كما يقول لنا «غرامشي». هذا هو المثقَّف المهموم بتغيير العالم، وهو مفهومٌ لمثقَّف يتناغمُ والأيديولوجيات النضاليَّة، خاصَّةً اليسارية، التي اختزلتْ مفهومَ المثقَّف، فأصبح مبشِّرًا وداعيةً ومناضِلًا في إطار منظور أيديولوجيا محدَّدة للعالَم، لا يحيد عنها.

المثقَّف ليس شُرْطِيًّا أو قاضيًا أو مُفَتِّشَ عقائد. أنا لا أتبنَّى مفهومَ المثقَّف، الداعية، المبشر، المناضل. ما يهمُّني هو النمط الآخر، أي المثقَّف النَّقديُّ، الذي ينشغل بتفسيرِ العالَم، ويتغلَّب على سجون الأيديولوجيَّات، ويتحرَّر من رؤية العالم بمنظورٍ أحادي، ويجرؤ على الاحتجاج والإدانة والنَّقد.

ربما يقال: إنَّ المثقَّف حين ينشغل بالنقد، ويجرؤ على الاحتجاج والإدانة، فإنه يساهم في تغيير العالم. نعم سيفضي موقفُه إلى تغيير العالم، بيد أنَّ مهمتَه المحوريَّة هي التنوير. مثل هذا المثقَّف لا أسمِّيه مثقفًا عضويًّا أو ثوريًّا، وإنما هو مثقَّف نقديٌّ، مهمته الأساسيَّة ممارسةُ النقد، وتصويب عمليَّة التفكير ووضعها في سياقها العقلي الموضوعي، وإعلان التفسير والمفهوم والرأي الصحيح بوضوح.

كلَّما اتَّسعتْ مساحةُ النَّقد كلَّما تحرَّر العقلُ من مختلِف الوصايات، وإذا حرَّرنا العقلَ وفتحنا منافذَه على الاختلافات والتنوعات، حقَّقْنَا واحدةً من الوعودِ الكُبرى للوعيِ البشريِّ، واستطعْنا حينَها وضع العقلِ على سكة الإبداع والتطوُّر والابتكار. سكة خلق وإنتاج رؤًى ومفاهيم جديدة. هذا هو المثقَّف الذي سيكونُ له دور مُهِمٌّ في تقويض الأيديولوجيَّات المغلقة وتحرير العقل من سجونه، غير أنَّ حضور هذا النَّمط من المثقَّف في مجتمعنا محدود وهامشيٌّ.

ومن الطريف أنَّ مفهومَ «مثقَّف نقدي» ربما ينصرف في محيطنا الثقافيِّ، المشبع بمركزية الشعر والأدب، إلى النَّقد الأدبي، وأنا أعني بالنَّقد هنا المثقَّفَ النقديَّ، الذي مهمته نقد الواقع، والموروث، والكشف عن كافَّة التمثُّلات، والتعبيرات، والتجلِّيات الاجتماعية والاقتصادية والثقافيَّة للدين، والسياسة، والفن، والأدب، وكل ما تعيشه مجتمعاتُنا، وفضح جميع الأقنعة والحجب والممنوعات التي تطمس الحقيقةَ وتسترها وتُخفيها.

إن مفهوم المثقَّف في حضارتنا، كما في فكرنا الحالي، هو مفهوم مبتسَر وغائم. يمكننا القول: إن مثقَّفنا كان — وما زال إلى حدٍّ قريب — مثقَّفَ البُعْدِ الواحد. مفهوم المثقَّف الذي طوَّره الفكرُ الغربي، هو المثقَّف متعدِّدُ الأبْعَادِ، ومنها البُعْد السياسي، هذا البعد إن لم يكن معطَّلًا في الكثير من نواحي ثقافتنا فهو مرتبك ومشوَّش، فالرؤية السياسية والعمل السياسي وعَلاقة المثقَّف بالسلطة، جميعها مناطقُ رخوة وضبابيَّة إلى حدٍّ كبير. إن الفكر والنقد لا ينفكَّان كما قلنا، وإنَّ من أهمِّ أدواتِ الفعل السياسيِّ هي سلطة النقد وحرية التعبير.

١  En France, 4.581 communes portent le nom “saint”.
٢  إيمانويل كانط: ‏في التربية والإجابة عن سؤال ما التنوير، ص١٠٨، ٢٠٢٢م، ‏دار الرافدين، بغداد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥